من أمثلة ذلك ما رواه الكلبي حيث قال: «لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها أن ابعث إلي رجلا من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري! وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاما لم يسمع قط مثله! فقال العلج: حدثني، هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا، إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك، وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو، قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج، ففطن عمرو لما أراده ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد! فقال: صدقت، وبعث إلى البواب أن خل سبيله، فخرج عمرو ودخل عليه العلج قال له: أنت هو؟ قال: نعم، على ما كان من غدرك ...» ا.ه.
وهذه القصة التي أشرنا إليها غير مرة لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها، ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لا بد أن تكون قريبة منها؛ لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها، فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه، ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظرة العصبية الجنسية، على ما بينهم من الفارق في العقيدة، فلم يعتذروا كذبا حين زعموا بعد هزيمة الروم أنهم أكرهوا على القتال في صفوفهم وهم يودون لهم الهزيمة، ويتمنون الظفر لإخوانهم في الأصل واللغة، ومن تلك الأشياء أن عمرا كان معروفا بين أهل غسان، فلا يبعد أن يصدق ما خطر لنا عن رسالته إلى أنحاء دمشق من قبل الخليفة الصديق، وأنها كانت رسالة إلى عرب القبائل الشامية لتحريضها واستطلاع أحوالها قبل الشروع في قتال الروم ...
وجماع تلك الأخبار التي لا خلاف في لبابها - وإن وقع الخلاف على قشورها - أن عمرا كان بطل الغزوة الشامية في ميدان فلسطين، وأنه ربما كان بطل الغزوة من طلائعها الأولى، يوم كانت بعد في طور التأهب والاستطلاع.
وليس رأي الخليفة الجديد في عمرو بمجهول، فربما كانت ثقته باقتداره واستعداده لعظيمات الأمور أكبر من ثقة أبي بكر الذي تابع في استعماله سنة النبي - عليه السلام - فعمر بن الخطاب هو الذي قال فيه: «لا ينبغي أن يمشي أبو عبد الله على الأرض إلا أميرا.» وهو الذي كان يقول كلما رأى رجلا يلجلج في كلامه: «خالق هذا وخالق عمرو واحد.» وهو الذي تبين صواب هذه الثقة في غزوات فلسطين نفسها، فجعل يقول لإخوانه: «رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب.» يعني أريطيون الذي كانت تصحفه قلة النقط والشكل في الحروف العربية يومئذ إلى أرطبون.
وما زالت ثقة الفاروق بكفاءة عمرو ودرايته تعظم وتتمكن كلما صحبه التوفيق في فتح مدينة بعد مدينة، والغلبة على جيش بعد جيش، حتى فرغ من السواحل والمشارف، واتجه بعزمه كله إلى حصار «إيلياء» أو بيت المقدس حاضرة البلاد.
وقد شدد الحصار عليها حتى يئس أريطيون من مقاومتها وفر منها إلى الديار المصرية، وقيل: إن بطريقها لم يؤجل تسليمها للقائد العربي إلا لأنه أراد أن يكون التسليم بمحضر من الخليفة ، فكتب عمرو يستدعيه ويعلمه برغبة البطريق، وتم الصلح في السنة الخامسة عشرة للهجرة بحضور الفاروق.
وما هو إلا أن سكنت الشام إلى الحكم العربي، وخف الطاعون الذي فشا في أرجائها بين السنة السابعة عشرة والثامنة عشرة للهجرة، حتى تطلعت نفس عمرو إلى فتح أكبر وأخطر، ونازعته إلى منزلة أشبه به وأجدر: إلى فتح الديار المصرية التي يعلم المسلمون من القرآن الكريم أنها كرسي فرعون ذي الأوتاد، ويعلمون من أخبار أيامهم أنها درة التاج في دولة هرقل، وأن الروم لا يدعونها ولو غلبوا عليها؛ لأنهم عادوا إليها فانتزعوها من الفرس بعد مقامهم بها اثنتي عشرة سنة، وفاقا لوعد القرآن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون.
وهنا تشترك المصادفة والتقدير اشتراكهما في كل عمل جسام من أعمال التاريخ القديم والحديث!
ترى كيف كان يخطر هذا الخاطر على بال الفاروق لو لم يفاتحه فيه عمرو بن العاص؟
وترى كيف كان يخطر هذا الخاطر على بال عمرو بن العاص لو لم يكن فاتح فلسطين على طريق مصر، وكان فاتح دمشق أو فاتح السواد؟
صفحه نامشخص