تدخل الموت ليختصر هذه الجهود ويربكها. في البداية جاء موت الرجل الذي صار أقرب صديق ومعاون له، وهو هفايستيون، في أواخر 324، مما أحزن الإسكندر حزنا عظيما. وسرعان ما أصابت الإسكندر نفسه حمى في ربيع 323، فمات في يونيو (الثالث عشر من الشهر هو التاريخ المقبول عموما) قبيل عيد ميلاده الثالث والثلاثين. •••
كان الإسكندر الثالث المقدوني شخصا لافتا للأنظار خلال حياته، وأسبغت عليه إنجازاته لقب الإسكندر الأكبر منذ القدم، وهو لقب مرتبط دوما باسمه. كان بطلا في أعين الكثيرين من الطامحين إلى محاكاته، بداية من خلفائه ذاتهم، إلى الإمبراطور الروماني تراجان الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، إلى نابليون بونابرت الذي كتب يقول: «غزا الإسكندر ثلاثمائة ألف فارسي بعشرين ألف مقدوني، وقد حققت نجاحا مشهودا في مساع جريئة.» ويمكن القول بأن الوصف الذي أورده المؤرخ إف إيه رايت للإسكندر هو الأروع؛ إذ بعد أن قال إن الإسكندر ويوليوس قيصر وكارل الكبير ونابليون «أعظم بكثير من المستوى العادي للقدرات البشرية، حتى إنه قلما يمكن الحكم عليهم بالمعايير العادية»، أكد رايت أن الإسكندر في عمله وفي شخصيته «يستحق المرتبة الأولى» (1934: 1).
إننا نتوق إلى ما هو أكثر من بعض التواريخ والأحداث فيما يخص شخصا كهذا. فما الذي كان يدفعه؟ وماذا كانت أهدافه الحقيقية؟ وماذا كانت خواطره وردود أفعاله ومخاوفه، هذا إن كانت انتابته مثل هذه الانفعالات التي لا تليق بالأبطال؟ هذه هي أنواع الأسئلة التي يثيرها الإسكندر، والتي لا تتسنى لنا الإجابة عنها إجابة واضحة. لكن عندما ننظر إلى عالمه، سنقترب من التوصل إلى فهم ما.
الفصل الثاني
أصله المقدوني
ثمة رأي ينسب إلى أبقراط، الطبيب الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يقول إن موضع نشأة الثقافة يحدد طبيعتها. ومن بين العدد الكبير من الكتابات المنسوبة إلى أبقراط دراسة تحمل عنوان «المدن والماء والهواء» تربط الصحة البشرية بغذاء الفرد وبيئته وطريقة حياته، ويؤكد المؤلف أن اختلاف سمات الشعوب الآسيوية والأوروبية مرتبط بالمناخ، فانعدام الأحوال المناخية الشديدة التقلب في آسيا يتمخض عن شعب لين، وأما مناخ أوروبا الأشد تطرفا وتقلبا فينتج شعبا صلبا. وقال أرسطو مثل قوله في القرن الرابع (السياسة، الكتاب السابع، 7، 1327بي20إف): الشعوب الآسيوية ذكية لكنها تفتقر إلى النشاط، أما الأوروبيون فنشيطون وإن كانوا يتسمون بقدر أقل من الذكاء الفطري. والمنازل التي بين هذين الطرفين هي الأوفر حظا؛ يرى أرسطو وأبقراط أن الإغريق يحتلون المنزلة الوسط؛ ومن ثم كانوا على درجة عالية من الذكاء والنشاط. لكن من نواح كثيرة يستحق المقدونيون - بل يستحقون أكثر من الإغريق - وصفهم بأنهم أصحاب منزلة وسط وافرة الحظ. والحقيقة أن ثمة حكاية تقول إن أبقراط شخص حالة الملك بيرديكاس الثاني المقدوني (454-413)، تدل - إن صدقت - على أن أبقراط خبر بيئة مقدونيا خبرة مباشرة. ويقينا كان أرسطو على دراية جيدة بمقدونيا والمقدونيين؛ إذ نشأ طفلا صغيرا في العاصمة بيلا، ثم اشتغل فيما بعد كمعلم للإسكندر الثالث الشاب. يسمح لنا استقصاء طبيعة مقدونيا المادية بأن ننظر كيف كان من شأن الأحوال الطبيعية هناك أن تحدد طريقة حياة سكانها؛ المقدونيين بوجه عام وأفراد الأسرة الأرغية الحاكمة والإسكندر الثالث بوجه خاص. إذن ففي صحبة أبقراط وأرسطو، يمكننا تحري الأشخاص الذين شكلتهم تلك البيئة.
مرت الأرض المعروفة باسم مقدونيا بالعديد من الهيئات على مر الزمن؛ إذ كان يتحدد مداها الإقليمي إلى حد كبير بقدرة إحدى جماعاتها البشرية الكثيرة على بسط السيطرة على الجماعات الأخرى. ومن أزمنة العصر الحجري القديم حتى وقتنا الحاضر، اجتذب موقع هذه المنطقة إليه بشرا متنوعين، سواء أكانوا مهاجرين عبره، أم مهاجرين إليه يلتمسون الاستقرار، أم تجارا، أم غزاة فاتحين. لكن الهيئة الجغرافية للمنطقة تحول دون الوحدة الواسعة النطاق، وتشجع بدلا منها حدوث وحدة إقليمية أصغر نطاقا بين سكانها؛ وما زالت هذه النزعة الإقليمية قائمة حتى في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد.
بوجه عام نقول إن مقدونيا هي المنطقة الانتقالية بين شبه الجزيرة اليونانية والقارة الأوروبية. ومقارنة بهاتين المنطقتين المجاورتين، نجد مناخها وهيئتها يشبهان القارة الشمالية لا البلدان المتوسطية؛ فالأمطار أغزر في شهور الشتاء، وأقل في الصيف، وفصول الشتاء أشد وطأة، مع جليد يغطي الجبال، وأما فصول الصيف - وخصوصا في السهول - فتشهد ارتفاعا في درجات الحرارة يتجاوز 40 درجة مئوية (104 درجات فهرنهايت). يحد مقدونيا من الشرق الخليج الثيرمي، الذي يشكل جزءا من بحر إيجة، ويوفر سهلا ساحليا كبيرا، لكن معظم المنطقة المعروفة عموما باسم مقدونيا ليس ساحليا. ومن السهل الساحلي، يمتد نهران كبيران (هالياكمون وأكسيوس وروافدهما) بمنزلة طريقين موصلين إلى المناطق الداخلية، فيمتد هالياكمون إلى الغرب، ثم ينعطف جنوبا إلى الحدود مع ألبانيا الحديثة، ويمتد أكسيوس (فاردار حديثا) شمالا إلى سكوبيه وغربا إلى الحدود الجنوبية لكوسوفو الحديثة.
يرسم النهران والساحل البحري حدودا واضحة المعالم لهذا الإقليم من منظور جغرافي، إن لم يكن سياسيا. علاوة على ذلك، فالنهران بمنزلة موانع طبيعية أمام الدخلاء المحتملين؛ فممر ريندينا مثلا على نهر أكسيوس بالقرب من مدينة أمفيبوليس القديمة؛ حيث يبدأ في النزول إلى البحر، يتسم بالضيق الشديد؛ ومن ثم يسهل الدفاع عنه. وتوجد ممرات ضيقة مماثلة شقتها الأنهار في أماكن أخرى، مما يقلل أيضا من العمل الدفاعي، لكن توجد ممرات يمكن استخدامها كنقاط دخول.
من الفوائد الإضافية للأنهار أنها أنهار دائمة، وهي في طريقها إلى البحر تملأ البحيرات، التي توفر بدورها الأسماك؛ وهي في بعض الأماكن - كما يروي هيرودوت عن بيونيا في الشمال - «وفيرة حتى إنه عندما يفتح باب الشرك وتغوص السلال في قاع البحيرة المغطى بأعشاب الأسل، يسحبها المرء مليئة بالأسماك بعد انتظار قصير» (الكتاب الخامس، 16، 4). وحتى في يومنا هذا، يحتوي نهر هالياكمون على 33 نوعا من الأسماك. وبالإضافة إلى ما تمده هذه الأنهار من كميات وفيرة من الأسماك تقتات بها الخيول ودواب الحمل الأخرى، فهي مصدر للمياه اللازمة للاستهلاك والري حتى أثناء شهور الصيف، وتتيح هذه المياه الوفيرة، مقرونة بتراكم الجليد على الجبال العالية، موسم زراعة أطول مما يمكن أن يتوقعه جنوب اليونان. ويروي هيرودوت أن مياه نهر واحد فقط في المنطقة نضبت عندما حاول الجنود الفرس ري ظمئهم (الكتاب السابع، 127). ولإدراك حجم المياه المطلوب، من المهم أن نتذكر أن هيرودوت قدر عدد الجيش الفارسي بأكثر من خمسة ملايين، وإن كنا نرى أن الأعداد الفعلية كانت نحو 250 ألف فرد لم يكن كلهم من المحاربين. علاوة على ذلك، تتمتع البلدات والمدن الواقعة على الروافد بطريق وصول إلى البحر مع تمتعها في الوقت نفسه بميزة الأمن التي تتيحها المناطق الداخلية؛ فعلى سبيل المثال: كانت مدينة بيلا - العاصمة المقدونية أثناء حكم الإسكندر - تقع على أحد أفرع نهر لودياس، الذي كان صالحا للملاحة بطول مسافته البالغة نحو عشرين ميلا إلى البحر.
صفحه نامشخص