تمهيد
مقدمة
1 - حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
2 - أصله المقدوني
3 - نسبه الأرغي
4 - مجاورة اليونان
5 - البقاء بالقوة
6 - ملاقاة التهديد البعيد
7 - إعادة بناء شخص الإسكندر
المراجع
صفحه نامشخص
تمهيد
مقدمة
1 - حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
2 - أصله المقدوني
3 - نسبه الأرغي
4 - مجاورة اليونان
5 - البقاء بالقوة
6 - ملاقاة التهديد البعيد
7 - إعادة بناء شخص الإسكندر
المراجع
صفحه نامشخص
عالم الإسكندر الأكبر
عالم الإسكندر الأكبر
تأليف
كارول جي توماس
ترجمة
خالد غريب علي
تمهيد
ينجذب المعلمون والكتاب المعنيون بتاريخ منطقة البحر المتوسط القديم إلى موضوع الإسكندر الثالث المقدوني؛ إن لم يكن بإرادتهم، فبفعل اهتمامات تلاميذهم وقرائهم؛ فرغبة الناس عارمة في معرفة كل ما تسعهم معرفته عن هذا الرجل الذي غير مسار التاريخ في عمره القصير. وقد احتل الإسكندر مكانة بارزة في المقررات التي درستها، وأعترف أنني وضعت مؤلفين صغيرين يتناولان جوانب معينة من سيرته، غير أنني لا أنتمي إلى كادر المتخصصين في الإسكندر الأكبر، ولم تكن نيتي وضع مؤلف يتناول سيرته وطبيعته. أعني أن هذا لم يكن حتى مجرد خطة دفينة، حتى لعبت الصدفة السعيدة دورها.
فمنذ بضع سنين تعرفت على آل برتراند - الذي يشغل الآن منصب محرر التكليف في دار نشر بلاكويل ببلشنج - في إطار تقييم عدد من المقترحات تمهيدا لنشرها المحتمل، وكان بعضها يتناول مسائل مقدونية؛ مما أثار في النهاية سؤالا طرحه آل علي: أيمكنني التفكير في نهج جديد لوضع سيرة للإسكندر تضم إلى سلسلة سير بلاكويل؟ كان سؤاله يلتمس اقتراحات لا مؤلفين. أحد التوجهات المغرية أن تتناول سيرة الإسكندر من المنظور الفارسي، لكننا لم نمض في هذا الطريق لأن المصادر اللازمة لهذا النهج أقل حتى من المصادر الإغريقية والرومانية التي تتناول الإسكندر.
بعد استنفاد كل الاحتمالات التقليدية، ذكرت اتجاها أتبعه دوما في مجالي البحثي، وهو اليونان فيما قبل التاريخ وفي فجر التاريخ؛ إذ تستلزم طبيعة الشواهد فهم السياق الأكبر. فهل من شأن تناول العالم الذي ولد فيه الإسكندر وترعرع أن يقدم لمحة عن طبيعة هذا الشخص ذاته؟ سبق أن اتبعت هذا المسار في حلقاتي الدراسية المعنونة «فتوحات الإسكندر: لماذا؟» التي كان الطلاب يستقصون فيها مجموعة منوعة من «تفسيرات» نجاح الإسكندر، كهويته المقدونية، وطبيعة مقدونيا ذاتها، وانتمائه إلى السلالة الملكية، وبنوته لفيليب وأوليمبياس، وعلاقاته مع الشعوب المجاورة، وحالة الإمبراطورية الفارسية أثناء حياته. فطرحت على آل إمكانية أن يوظف أحد المؤلفين هذا النهج لوضع سيرة من إصدار بلاكويل.
صفحه نامشخص
بعد ذلك بنحو أسبوعين دعاني آل إلى كتابة سيرة مختصرة للإسكندر تتمحور حول موضوع مقرري الدراسي. وبالرغم مما في هذه الدعوة من إطراء، فإنني اعترضت محتجة بأنني لست «متخصصة في الإسكندر»، فرد علي آل بقوله إن تناول الموضوع دون وجود فكرة محددة عن دوافع الإسكندر وشخصيته وأمانيه وأحلامه ربما يكون نقطة إيجابية.
وهكذا أقدم هذه الدراسة مصحوبة باعتذار أسوقه إلى كل «المتخصصين في الإسكندر»، الذين لا غنى عن أبحاثهم ومنشوراتهم للتوصل إلى أي فهم للإسكندر الثالث المقدوني. تسعى الدراسة إلى النظر بعمق في ظروف عالمه، إيمانا بعدم إمكانية فهم الأفراد بمعزل عن الثقافات التي تشكل حياتهم، دون الدخول في نقد المصادر، أو محاولة حل قضايا محددة تتعلق بالحقائق أو التفسيرات.
سيرا على خطى الكتب الأخرى في هذه السلسلة، لا يحتوي هذا الكتاب على حواش سفلية، وكل الأعمال المذكورة في المتن متضمنة في ثبت المراجع. وتشير الاستشهادات من قبيل «الكتاب السابع، 56» من «تاريخ هيرودوت»، إلى مؤلفين قدامى لا يلزم ذكر طبعة معينة عند النقل عنهم؛ بما أن الاستشهاد يقدم للقراء معلومات للعثور على مصدر الاقتباسات في أي طبعة. أما الإسنادات إلى مجموعات الشواهد الأكاديمية من قبيل «النقوش الإغريقية، المجلد الثاني، الجزء الثاني» فيتم نقلها بصيغة أتم بين قوسين في قلب المتن.
كانت قراءتي الشواهد وفي نفسي هدف مختلف، واستكشافي الأرض التي ولد فيها الإسكندر من سلسلة جبال بيندوس في الغرب إلى الخليج الثيرمي وما وراءه شرقا؛ مغامرة مثيرة؛ إذ تمخضت تنقلاتي بإرشاد من الخبيرين ثيو أنتيكاس ولورا وين أنتيكاس عن أفكار جديدة أساسية عن مقدونيا، وكيف كانت أرضها هدفا للفتوحات ونقطة انطلاق للفتوحات في آن واحد، ففتحت معرفتهما بالمنطقة وبالباحثين الذين يعكفون على تعزيز الشواهد التاريخية على ماضي مقدونيا أبوابا كثيرة، فكرية ومادية على السواء. ويعود الفضل في أكثر الأشكال التوضيحية إلى صداقاتهما مع سكان أرض الإسكندر الحاليين، وذلك على نحو ما ستكشفه مصادر هذه الأشكال.
ساهم أشخاص كثر بمساعدات لا غنى عنها في هذا العمل، فقرأ ثيو أنتيكاس مخطوطة الكتاب ثلاث مرات، مقدما اقتراحات وتصحيحات مشكورة؛ وقام زوجي وزميلي ريتشارد ريجبي جونسون بدور المصور الفوتوغرافي أثناء مغامرتنا المقدونية؛ وأدى لانس جينوت، طالب الدكتوراه بجامعة برنستون حاليا، مهمة إنشاء الخرائط؛ وأجرى ريان بوهلر، طالب الدكتوراه في التاريخ القديم، تعديلات على هذه الخرائط وأعد الكثير من الأشكال؛ وتبرع زميلي وصديقي دانيال وا بخبرته ووقته الثمينين لتحرير غالبية هذه الأشكال؛ وأتاحت منحة قدمها لي صندوق العوائد للبحوث التابع لجامعة واشنطن إعفائي من مهام التدريس لمدة ثلاثة أشهر قضيتها في استقصاء أرض مقدونيا، وتخصيص الوقت اللازم للبحث والكتابة. ومن جديد أعرب لشريكي في تأليف كتابين آخرين عن شكري على إعداد الفهرس، وهو عمل يستمتع به ويتقنه بحق. وأشكر آل برتراند وآخرين في بلاكويل ببلشنج لتعاونهم وتسامحهم طوال العملية برمتها.
مقدمة
يوجد موضوعان استحوذا على اهتمام غير عادي منذ القدم وحتى يومنا هذا في عالم اليونان القديمة، وهما هوميروس والإسكندر الثالث المقدوني، ويجدر بنا أن نذكر وجه الصلة بينهما؛ إذ زعم الإسكندر أنه ينحدر من نسل آخيل، ويقال إنه كان ينام وفي متناول يده نسخة من الإلياذة (ومعها سيفه بالطبع). هذان الموضوعان مترابطان من وجه آخر يساعد على تفسير جاذبيتهما على مر العصور؛ إذ يطرح كلاهما تساؤلات جادة يبدو كثير منها بلا جواب نظرا لطبيعة الشواهد التي وصلتنا. وربما تستحيل معرفة هوية هوميروس أو الإسكندر الحقيقية؛ إذ رأى بعضهم أن هوميروس لقب لا اسم شخص حقيقي، بمعنى أن هوميروس هو المغني الملحمي الأول الخيالي الذي تصوروه على رأس فرق الغناء الملحمي الإغريقية؛ ومن ثم كان هناك أكثر من هوميروس واحد جمعت حكاياتهم في النهاية كقصيدة طويلة واحدة، لكن كثيرين غير مقتنعين بهذا الطرح ، وهكذا يستمر الجدال. وتعزى الصعوبة في اكتشاف طبيعة الإسكندر إلى طبيعة ما وصلنا من شواهد تسبغ عليه شخصيات مختلفة متعددة؛ فمع أن حقيقة وجود فرد يعرف باسم الإسكندر الثالث المقدوني ليست محل شك، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة أكثر من إسكندر واحد؛ ومن ثم فالجدل الأكاديمي المحيط بهوميروس والإسكندر له جذور عميقة وأثار نقاشا محتدما.
موضوع هذه الدراسة هو الإسكندر، فلا نأتي على ذكر هوميروس إلا هامشيا؛ وبهذا نكون اجتنبنا الوقوع في الأحبولة المعروفة باسم «المسألة الهوميرية»؛ ف «مسألة الإسكندر» عويصة بما يكفي، وهي ليست مجرد شاغل أكاديمي؛ فبفضل قوة شخصية الإسكندر يجري تقديمها لجماهير شعبية فيما لا يحصى من الكتب والمقالات والقصص المصورة والوثائقيات والأفلام الطويلة، التي كلف إنتاج أحدثها، وعنوانه «الإسكندر» وأخرجه أوليفر ستون، مئات الملايين من الدولارات، وستنتج أفلام أخرى يقينا في محاولة لاكتشاف الإسكندر الحقيقي. ونتيجة لذلك، توجد بالفعل صور مختلفة كثيرة جدا لهذا الملك المقدوني، وتواصل هذه الصور الازدياد.
يصعب استيعاب هذا الموقف في البداية؛ بما أننا نعرف أسماء 20 من معاصريه نشروا كتابات عنه، لكن جزءا كبيرا من المشكلة منبعه أن هذه الكتابات ذاتها لم يكتب لها البقاء؛ فلم يكتب البقاء إلا لجزء من عمل معاصر واحد تضمنه عمل نشر فيما بعد، ونعني التقرير الرسمي الذي أعده قائد أسطول الإسكندر الذي أبحر عائدا من الهند إلى الخليج الفارسي، والذي كتب له البقاء ضمن سرد أوفى لحياة الإسكندر وضعه آريانوس في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد. أما سائر الأعمال الكبرى التي كتب لها البقاء فتعود إلى القرن الأول قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد؛ ومن ثم فقد وضعت بعد موت الإسكندر بثلاثة قرون أو أكثر. توجد أيضا مواد مقتبسة من أعمال أخرى - لم تصلنا - ضمنت أعمالا متأخرة؛ إذ كتب بطليموس، أحد ضباط الإسكندر وأصدقائه، قبل موته سنة 283 قبل الميلاد، تأريخا لقائده اعتبر من بين مصدرين أساسيين، مشهورين بموثوقيتهما، اعتمد عليهما آريانوس في مؤلفه. ما يدعو للأسف أن الجودة الظاهرية لكثير من الأعمال الأصلية الأخرى لم تكن عالية بالقدر نفسه، وهو ما يفسر عدم الحفاظ عليها؛ فعن أحد واضعي هذه الأعمال قال الخطيب ورجل الدولة الروماني شيشرون: «كان موضوعه سيئا، شأنه شأن أسلوبه في الحديث.» ونذكر مثلا أنه في معرض تفسير احتراق معبد أرتميس يوم ميلاد الإسكندر، ذكر كاتب العمل الذي احتقره شيشرون قراءه بأن أرتميس كانت بعيدة عن معبدها تساعد في وضع هذا الوليد غير العادي.
مثلما كشف ليونيل بيرسون في دراسته هذه «التأريخات الضائعة»، تخلط الروايات التي كتب لها البقاء ملخصات التأريخات السابقة بكتابات متأخرة؛ ومن ثم يشدد بيرسون على ضرورة فصل الإضافات الجديدة عن الكتابات القديمة للوقوف على هوية المؤلف المسئول عن أجزاء معينة من القصة. ولا يصدر أي حكم بالإجماع على عملية فرز الكتابات ونسبتها. وهكذا نجد باحثا حديثا - وهو دبليو دبليو تارن - يصف بطليموس بأنه «موثوق فيه» كمصدر، بينما نجد آخر لا يتفق مع هذا التوصيف، مؤكدا أن مصدر هذه المعلومة أحد التأريخات «غير الموثوق فيها». وسيؤثر هذا التباين على الصورة التي تبرز لنا؛ لأن معقولية أي إعادة بناء للشخصية تعتمد دون شك على موثوقية الشواهد.
صفحه نامشخص
لا يقتصر الجدل على البيانات الواقعية بشأن الموضوع الرئيس، والحقيقة أنه يمكن تجميع تسلسل زمني لا اختلاف عليه عموما للتواريخ والأحداث الأساسية في حياة الإسكندر القصيرة؛ غير أن إنجازاته كانت من العظمة بحيث تجعلنا نريد التعرف على دوافعه وأهدافه ومشاعره، بمعنى أننا باختصار نريد التعرف على الكينونة الداخلية والشخصية اللتين وجهتا حياة الملايين في اتجاهات جديدة بعد إنهاء حياة ملايين غيرهم. وفي هذه الناحية تحديدا تخذلنا المصادر. وصف أحد كبار الباحثين المحدثين الإسكندر بأنه حالم يرجو إقامة أخوية بين البشرية، ووصفه بلوتارخس - الذي عاش في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني بعد الميلاد - بأنه أعظم الفلاسفة. وسيقت حجج قوية دعما لتوصيف مناقض لهذا تماما؛ إذ يرى البعض أن الإسكندر برع في سفك دماء الملايين من البشر، أما صورته الذائعة الصيت كقائد فذ فتلطخها صورة أخرى له كسكير. ويعتقد أنه كان يرى نفسه بطلا هوميريا، أو ربما ابن الإله زيوس، أو من الجائز أنه كان مدفوعا بمكائد أمه أو بنرجسيته. ويرى بعضهم أن الصداقة كانت السبيل إلى نجاحه، بينما يعتقد آخرون أنه كان ببساطة يستغل الناس ويتخلى عنهم تبعا لنزواته المشوبة بالغضب، وذهب بعضهم إلى أن الإسكندر أدرك حكمة اعتناق عادات الفرس ما إن ألحق هزيمة بقواتهم، بينما تقول الحجج المعارضة إنه كان يرى نفسه بحق كملك شرقي. انطلق الإسكندر: (1) لمواصلة خطط أبيه. (2) أو للانتقام للإغريق من الفرس. (3) أو لأنه كان مدفوعا بحماس المستكشفين. هذا مجرد عدد ضئيل من التقييمات، لكنها تبرهن على صحة اعتراف برادفورد ويلز (الذي جاء في مراجعته كتاب «الإسكندر الأكبر: الحصافة والقوة» لمؤلفه فريتس شاخرماير، المنشورة في «أمريكان جورنال أوف أركيولوجي» 55 (1951) 433-436): «من الأمانة أن نعترف بأننا في النهاية نقدم الإسكندر بالصورة التي نريدها أو نراها معقولة.»
يبدو لي أنه يوجد متسع لنهج آخر في تناول هذا الشاب الإشكالي، الذي وصفه ويل كابي في كتابه «اضمحلال وسقوط الجميع تقريبا» وصفا موجزا وبدقة بالغة فقال: «لا أستطيع في الحقيقة أن أقول بالضبط ماذا كان هذا الشاب المزعج يظن نفسه فاعلا، ولماذا. ولست على يقين من أنه كان يستطيع تفسير هذه النقطة تفسيرا معقولا. كان من عادته تقطيب حاجبيه، ولا غرو» (الصفحة 48).
وأعترف - شأني شأن كابي، لكن على النقيض ممن وجدوا مفتاحا سريا إلى كينونته الداخلية - بأنني لا أستطيع قول ماذا كان الإسكندر يظن نفسه فاعلا. لكن توجد سبل لفهم الشخص الذي صار إليه الإسكندر، والأسلوب الذي تعامل به مع ظروفه؛ إذ توجد معلومات لا بأس بها معروفة عن عالمه؛ فالقرن الرابع قبل الميلاد موثق جيدا في الروايات التاريخية المكتوبة وفيما وصلنا من شواهد آثارية؛ وهذا مرجعه نوعا ما إلى أن الأحداث المضطربة التي شهدتها فترة حياة الإسكندر أثارت التعليقات، ونوعا ما إلى أن الحضارتين الإغريقية والفارسية قد صارتا آنئذ على مستوى عال من معرفة القراءة والكتابة بالمقارنة بالفترات السابقة. ومع أن هذا النوع من الشواهد موجود، فإنه محدود. من حسن الحظ، توجد أبواب أخرى تقود إلى الماضي؛ ذلك أن الناس يولدون في بيئات اجتماعية ومادية معينة، وينشئون كأطفال في مجتمعهم ويتعلمون قيمه وتقاليده، ومع بلوغهم النضج يمضون لمواكبة عالمهم وتعلم الاستراتيجيات التي يغلب نجاحها في ضوء أعراف تلك الجماعة وبيئتها الاجتماعية والمادية. لا شك أن البشر لديهم موروث بيولوجي جيني يحدد قدرا معينا من سماتهم الفردية البدنية والعقلية، أو يفسر افتقارهم إليها؛ ومن ثم توجد فرصة للقصدية الفردية، لكن حتى تلك القصدية تتأثر - دون أن تتحدد بالضرورة - بفعل قوى خارجة عن الفرد. وتقدم الشواهد المادية التي وصلت إلينا معلومات عن هذه البيئات؛ وفي حالة مقدونيا، يشهد السجل الآثاري والمعرفة بالطبيعة المادية للمملكة أثناء فترة حياة الإسكندر تناميا مستمرا، وأكثر ما كان ذلك في فترة الثلاثين سنة الماضية أو نحوها.
إيمانا بصحة هذه الرؤية بشأن التفاعل بين الفرد وعالمه، فإن استقصاء دور القوى التكوينية الفاعلة في القرون التي تطورت فيها مقدونيا إلى المملكة التي عرفها الإسكندر وحكمها؛ سيقربنا إلى الإسكندر ذاته. ربما لن نتمكن أبدا من الولوج إلى دواخل عقله، لكننا سنفهم العوامل التي أدت إلى سيرته المتألقة. وسيتناول هذا الكتاب، بعد تقديم نبذة مختصرة عن التسلسل الزمني الأساسي لحياته، ست قوى رئيسة شكلت تلك الحياة.
سنبدأ بمقدونيا التي ولد الإسكندر فيها وترعرع؛ حيث حددت الأوضاع المادية للمنطقة طبيعة الحياة الممكنة داخلها. كان ذلك البلد، وفقا لرؤية القدماء بشأن الفروق بين المناطق، بلدا «صعبا» لا «سهلا»، وهكذا فالأرجح أن يكون سكانه أقوياء لا ضعفاء. وعندما نأخذ الموارد الطبيعية بعين الاعتبار، يتسنى لنا توسيع فهم دور مقدونيا إزاء الآخرين. فهل كانت هناك موارد طبيعية اجتذبت الآخرين إلى المنطقة؟ ولو كان الأمر كذلك، فما العلاقات التي تطورت بين المقدونيين وغيرهم؟ وهل أتاحت تلك الموارد ميزة داخلية للأطراف الفاعلة المستقبلية في منطقتي بحر إيجة وشرق البحر المتوسط الأوسع، سواء في دور شركاء تجاريين أم كفاتحين؟
سكان مقدونيا هم الجانب الثاني من جوانب دلالة مقدونيا في حياة الإسكندر. فمن المقدونيون القدماء؟ ومن أي صنف كان الجيران الذين وجدهم المقدونيون على حدودهم؟ وكيف ارتبط مختلف تلك الجماعات البشرية بعضها ببعض؟ بمعنى هل تمخض الجوار عن استعارات ثقافية، أم عداوة متواصلة، أم انصهار جماعات كانت ذات يوم مستقلة؟ معروف أن أبا الإسكندر أنشأ مملكة موحدة امتدت من البحر الأدرياتي مرورا بشمال بحر إيجة وحتى الأراضي الواقعة على ساحل البحر الأسود الشمالي وعلى نهر الدانوب. والطريقة التي ضمت بها هذه الأراضي إلى المملكة عامل آخر له دور في العالم الذي ولد فيه الإسكندر ونشأ حتى صار رجلا. وتكشف عملية التوحيد التي اتبعها فيليب عن «الأدوات» التي يحتاج إليها الموحد المستقبلي الذي صار إليه الإسكندر لدى «وراثته» الملك، وتكشف التوترات التي تمخضت عنها. إذن فطبيعة الحياة في مقدونيا منتصف القرن الرابع تقرر معلمين أساسيين في قصة أي فرد عاش في مملكة مقدون (مقدونيا القديمة) في ذلك الوقت، وتحديدا البيئة المادية والبشر الذين شكلوا حياة تناسب موقعهم.
سنلتفت بعد ذلك إلى نسبه، الذي سيعيد تركيز الاهتمام من مقدونيا ككل إلى مقدونيين أفراد؛ ففيليب الثاني - أبو الإسكندر - كان متألقا في إنجازاته؛ فما الميراث (البدني والمزاجي وعلى وجه الخصوص الإنجازات) الذي تركه لابنه؟ وماذا عن أمه أوليمبياس ونسبها وشخصيتها؟ وهل يبرز دورها كابنة الأسرة المالكة في مملكة إبيروس وفيما بعد كزوجة للملك المقدوني بقوة في تكوين الإسكندر؟ بالإضافة إلى أبويه، سيكون من المفيد أن نلقي نظرة أوسع على نسبه؛ لأن الإسكندر كان أحد أبناء السلالة المالكة، بمعنى أنه كان أرغيا. فما الذي كان متوقعا من ابن ملك حاكم؟ وكيف درب كوريث محتمل للملك؟ وهل نشأت مشكلات عن انتمائه إلى السلالة الأرغية؟ ولو كان الأمر كذلك، فما مدى خطورة تلك المشكلات؟
ترتبط قصة مقدون القديمة ارتباطا لا ينفصم بقصة اليونان، وكان ذلك في البداية من خلال القرب الجغرافي الذي أدى إلى استعارات ثقافية من أنواع كثيرة. وطبيعة تلك الرابطة هي العنصر الثالث الأساسي في عالم الإسكندر. يكتمل وصف التفاعل من فترة الحروب الفارسية في أوائل القرن الخامس، أثناء حكم فيليب الذي ضم الدول الإغريقية تحت الهيمنة المقدونية عسكريا وسياسيا على السواء؛ فهل يمكن تفسير هذا النجاح انطلاقا من عوامل تضاف إلى القوة العسكرية المقدونية؟ لا ننس أن الإغريق والمقدونيين استشعروا من قبل آثار المحاولات الفارسية للتوسع في غرب بحر إيجة في أواخر القرن السادس وأوائل القرن الخامس، وربما كان الإحساس بوجود عدو مشترك رابطة أخرى محورية؛ مما جعل من «انتقام» الإغريق من الفرس مجهودا مشتركا لذلك الاتحاد الرسمي. وكان للتفاعل بين اليونان ومقدون دلالته أيضا من الناحية الثقافية، وكان مصدر أحد جوانب هذا التأثير الثقافي على الإسكندر معلمه الفيلسوف أرسطو المولود في مدينة أسطاغيرا الإغريقية في شمال بحر إيجة؛ فهل سيعطينا فهم احتكاك الإسكندر بهذا الفيلسوف الموسوعي الإغريقي لمحة عن طبيعة الإسكندر نفسه؟
تلعب ضرورة وجود القوة العسكرية دورا بارزا في العلاقات مع الآخرين، لكنها تستحق أيضا استقصاء مستقلا في الفصل الخامس، وخصوصا لأن سلامة تراب المملكة كانت تقتضي قوة عسكرية فعالة دائمة التأهب. فما ركائز المملكة فيما يخص هيكل مقدونيا الاجتماعي وتنظيم جيشها ومتطلبات نجاحها العسكري؟ وكيف لعب الملك المقدوني دورا في هيكل مملكته العسكري؟
رأت مقدون واليونان رأي العين قوة الإمبراطورية الفارسية التي كان ملكها أحشويرش من القوة بمكان - كما روى هيرودوت - حتى إن شخصا عاديا عجب لأمره بقوله: «لماذا اتخذت يا زيوس هيئة رجل فارسي واسم أحشويرش بدلا من زيوس لكي تدمر اليونان، ومن خلفك كل هؤلاء الرجال؟ كان بإمكانك فعل هذا دون كل هذه الجهود» (الكتاب السابع، 56). فلماذا يتوقع ملك مقدوني بأي حال أن يهزم مثل هذا الحاكم القوي الذي يتربع على عرش أكبر إمبراطورية قامت في تاريخ الشرق الأدنى القديم حتى ذلك الزمان؟ يجب أن تشمل الإجابة عن هذا السؤال معرفة بالهيكل الإقليمي والإداري لتلك الإمبراطورية، وحالة ذلك الهيكل في منتصف القرن الرابع؛ فإلى أي مدى كان الملوك المقدونيون يعرفون طبيعة بلاد فارس معرفة جيدة؟ وهل وجدت بين المملكتين أوجه تماثل معينة من شأنها تيسير فهم إحداهما الأخرى؟ وبما أن الإسكندر نجح في إلحاق هزيمة بالفرس، صارت قوة التقاليد الفارسية وتأثيرها على الإسكندر عاملا آخر في عالمه.
صفحه نامشخص
يمكننا تكوين صورة أوضح للإسكندر الثالث المقدوني، المعروف منذ القدم باسم الإسكندر الأكبر، على أساس التوصل إلى فهم للظروف والقوى والأعراف السائدة في منطقة بحر إيجة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. وسيتألف الفصل الأخير من «صورة» لذلك الشخص؛ إذ نبين كيف أن مقدونيا ونسبه الأرغي وتفاعله مع اليونان والزخم العسكري للمملكة الأصلية والعلاقات مع الإمبراطورية الفارسية قد شكلوا الرجل ومسيرته على السواء. قد يقول قائل إن انحرافه عن تلك التأثيرات هو بالضبط ما جعله «الأكبر»، لكن سيتضح أنه لم يكن بوسعه أن يتخلى عن إرثه قصدا أو دون قصد. وفي الوقت نفسه، فإنه لم يكن طرفا سلبيا في عالمه؛ إذ استخدم منصبه الموروث في ظروف لم يشهدها أرغي سابق. ومع ذلك، فمن دون الأدوات والمنصب اللذين حصل عليهما الشاب لدى المناداة به خليفة للملك فيليب الثاني، ما كان ليفوز بلقبه هذا.
الفصل الأول
حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
على الرغم من أن طبيعة الشواهد المتعلقة بالإسكندر الثالث المقدوني يصعب معها - إن لم يكن يستحيل - اكتشاف كينونته الداخلية، فثمة ما يكفي من أوجه الاتفاق بين المصادر القديمة لرسم سيرة حياته بدرجة معقولة من اليقين فيما يخص الأحداث الكبرى وتواريخها.
تختلف المصادر الأساسية المعنية بالإسكندر من نواح مهمة عديدة، فهي تغطي الفترة من حياة الإسكندر إلى القرن الثاني الميلادي، ويضمر مؤلفوها أغراضا متباينة من وراء كتابتها، ومعظمها ناقص، وبعضها لا يوجد إلا على هيئة شذرات متناثرة في مصادر أخرى، والشهادة التي تقدمها غالبا ما تختلف مع المصادر الأخرى. أهم أسباب هذا الخلاف المستمر هو طبيعة المصادر التي وصلت إلى أيدينا؛ إذ إن أقدم الروايات التاريخية الموثوق فيها ضاعت، أو في أحسن الأحوال لم تحفظ إلا على هيئة شذرات متناثرة، وأما التي كتب لها البقاء فهي كتابات متأخرة، وغالبا ما يتضارب بعضها مع بعض، وتنطوي على أهدافها الخاصة.
لكن هناك فعلا بعض المصادر، ومن خلال العمل الصبور الدءوب الذي بذله الباحثون تسنى لهم تحديد المواد الأسبق التي اعتمد عليها المؤلفون المتأخرون. وتتيح «شجرة النسب» هذه بدورها للقراء استبانة موثوقية العديد من الروايات التاريخية أو عدم موثوقيتها؛ فأتم الروايات التاريخية مثلا اعتمدت على اثنين من صحابة الإسكندر، بينما يوجد مؤلف آخر متهم بتأليف رواية خيالية. وأظهرت مقارنة الروايات التاريخية أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها؛ ومن ثم قدمت شيئا أشبه بموقف مشترك تجاه جوانب معينة من سيرة الإسكندر.
تتراوح أهم المصادر الموجودة من حيث تاريخها بين أواخر القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، وأبكرها هو التقرير الرسمي الذي أعده نيارخوس عن الرحلة البحرية من مصب نهر السند إلى الخليج الفارسي. وفد نيارخوس، الكريتي المولد، على مدينة أمفيبوليس في مقدونيا أثناء حكم فيليب الثاني، ويوجد رأي معقول يقول إنه كان واحدا من المستشارين الأكبر سنا للإسكندر الشاب، وقد أسندت إليه مناصب مهمة أثناء حكم الإسكندر، منها على سبيل المثال مرزبان ليقيا وبامفيليا، لكن المنصب الذي سجل وقائعه هو أميرال المهمة الاستطلاعية البحرية من جنوب الهند إلى رأس الخليج الفارسي، وكتب لهذا الوصف البقاء لأنه كان الأساس الذي قام عليه فيما بعد تقرير آريانوس المتأخر المعروف باسم «إنديكا».
سرد تاريخ العالم الذي وضعه ديودورس الصقلي بعنوان «مكتبة التاريخ»، والواقع في 40 كتابا؛ أحداثا يعود زمانها إلى منشأ العالم ويمتد إلى فترة حياته هو شخصيا، وتحديدا سنة 60 قبل الميلاد. ولم يكتب البقاء إلا لخمسة عشر كتابا منها، لكن من حسن حظ الباحثين المعنيين بمقدونيا أن من بينها الكتابين 16 و17 اللذين يتناولان فيليب والإسكندر.
يرقى مؤلف كورتيوس روفوس عن الإسكندر إلى القرن الأول أو مطلع القرن الثاني بعد الميلاد. ضاع الكتابان الأولان من كتبه الأصلية العشرة، وتوجد ثغرات في الأجزاء المحفوظة، التي تتناول الأحداث حتى تاريخ توزيع الإسكندر مناصب الولاة سنة 324 قبل الميلاد. وعلى الرغم من دعوة بعض الباحثين إلى إعادة تقييم دقيقة لهذا المصدر، يوجد تقييم عام لجدارته أورده معجم أكسفورد الكلاسيكي (الإصدار الثاني، الصفحة 416): «لا يوجد إلا قليل من الاتساق ... ومقتضيات البلاغة هي التي تقرر اختيار المادة المصدرية . ومن ثم، يتنقل المؤلف تنقلا عشوائيا من مصدر إلى مصدر، وأحيانا يمزج هذه المصادر في خليط عديم المعنى، وكثيرا ما اتهم بتعمده كتابة الخيال.»
يكاد يتزامن مع كورتيوس روفوس، مستريوس بلوتارخس، ابن مدينة خيرونية بمقاطعة بويطية في وسط اليونان - التي ألحق فيها فيليب وجنوده المقدونيون الهزيمة بالجيش الإغريقي سنة 338 قبل الميلاد - وعاش في الفترة ما بين عامي 50 و120 تقريبا بعد الميلاد. كان بلوتارخس مؤلفا غزير الإنتاج؛ إذ تعدد قائمة وضعت في فترة لاحقة 227 مؤلفا من وضعه، من أشهرها «السير المقارنة لعظماء اليونان والرومان» الذي اشتمل على سير 23 من العظماء اليونانيين، ومثلهم من العظماء الرومانيين، مع مقارنة كل واحد منهم بنظيره، ومن بينها سيرة الإسكندر الأكبر وسيرة قرينه يوليوس قيصر. ألف بلوتارخس أيضا، ربما في مرحلة مبكرة من مشواره التأليفي، مقالا بعنوان «عن حظ الإسكندر» ضمنه كتابه «الأخلاق». وصف دبليو دبليو تارن، وهو من الباحثين البارزين المتخصصين في الإسكندر في منتصف القرن العشرين، الفرق في العملين قائلا: «وضع بلوتارخس الجزء الأول من «عن حظ الإسكندر» في شبابه وبكل حماس الشاب المنكب على تصحيح ما اعتبره خطأ كبيرا، لكن بحلول الوقت الذي وضع فيه بلوتارخس المسن، أثناء اشتغاله بوظيفته السهلة المريحة في دلفي، كتاب «حياة الإسكندر»، كانت جذوة الحماس قد فترت، وكان الرجل متأثرا بفعل قراءاته الوفيرة» (1948: 296إف).
صفحه نامشخص
ينسب ماركوس جونيانيوس جوستينوس - أو جوستين - على وجوه مختلفة إلى القرن الثاني أو الثالث أو الرابع الميلادي، وجاءت مساهمته في دراسة الإسكندر على هيئة ملخص للدراسة الطويلة التي وضعها مؤلف سبقه، وهو بومبيوس تروجوس، بعنوان «التواريخ الفيليبية» في 44 كتابا. وعن هذا العمل قال تارن: «لكن الإسكندر كما يصوره تروجوس - أو لعل الأحرى أن نقول: كما يصوره جوستين - شديد السوء، عدا في نقطة واحدة، لدرجة أن الأمر لا يكاد يستحق استقصاء المصادر بالكلية» (1948: 122).
على النقيض من ذلك، فإن الدراسة التي وضعها آريانوس - أو لوكيوس فلافيوس آريانوس - في القرن الثاني كتب لها البقاء كاملة أو تكاد، وتعتبر بوجه عام التأريخ الأكثر موثوقية من بين ما وصل إلى أيدينا من تأريخات. وتعزى هذه الموثوقية إلى اثنين من مصادر آريانوس؛ إذ اعتمد آريانوس أولا على السجل الذي أعده أرسطوبولوس، الذي صاحب الإسكندر في حملته كخبير فني؛ ومن ثم نجد تفاصيل كثيرة تعكس اهتماماته غير العسكرية كبناء السفن والجسور. وأما المصدر الثاني فهو الذي وضعه صديق الإسكندر وخليفته بطليموس، الذي شارك أيضا في تلك الحملة. من المعقول أن نعتقد أن بطليموس وضع مؤلفه في أواخر حياته (مات سنة 283 قبل الميلاد) بعد تعزيز سيطرته على مملكته المصرية. ما يتساوى في أهميته في الحكم على جدارة «أنباسة الإسكندر» لآريانوس كشفه عن نيته السير في كتابته التاريخية على خطى ثلاثي المؤرخين الإغريق الكلاسيكيين: هيرودوت وثوكيديدس وزينوفون.
وصلت إلى أيدينا بقايا مصادر كثيرة وجدت ذات يوم وتناولت الإسكندر؛ فكانت الحملة تضم مؤرخا رسميا هو كاليسثينيس، تلميذ أرسطو وأحد أقربائه؛ وعندما فقد كاليسثينيس حظوته لدى الإسكندر، انتهى أيضا دوره كمؤرخ. معروف أن حاجب الإسكندر كاريس الميتيليني كتب «قصصا» عن الإسكندر في 10 كتب، كما فعل آخرون من ضمنهم أونيسيكريتوس، الفيلسوف الذي شارك في الرحلة البحرية مع نيارخوس. استحوذ فيليب والإسكندر على اهتمام كبير. وينسب إلى مؤرخ مقدوني يسمى مارسيا البيلي كتابة تاريخ لمقدونيا في 10 كتب، بالإضافة إلى رسالة بعنوان «عن تعليم الإسكندر». ويستمر النقاش حول وجود عدد من التأريخات الأخرى، التي تتراوح بين وصف للمرتزقة الإغريق الذين يخدمون مع ملك الفرس، و«وصية» تخص الإسكندر، وشذرات من «يوميات» (روزنامة) للحملة ذاتها. ما يفاقم هذه المشكلة وجود حوالي 80 نسخة مختلفة من «رومانسية الإسكندر» بأربع وعشرين لغة، وهي عبارة عن مجموعة أساطير تقدم الإسكندر باعتباره الجد الأعلى الذي تحدرت منه العائلة المالكة الملايوية، وكقاتل تنانين، وكرجل يكلم الأشجار، وكمؤمن برب اليهود والنصارى، وفي هيئات أخرى كثيرة. الحقيقة أنه يوجد أكثر من إسكندر واحد. ويقدم ريتشارد ستونمان عددا من هذه الأساطير، وجمع الباحث الألماني فيليكس ياكوبي شذرات الأعمال الضائعة. ويتمخض التوفيق بين هذه الشواهد المتباينة عن السرد التقريبي التالي.
ولد الإسكندر في صيف عام 356ق.م لفيليب الثاني، ملك المقدونيين آنذاك ، وأوليمبياس، التي تزوجها فيليب قبل ذلك بسنة على الأرجح. كان محل ميلاده مدينة بيلا، التي صارت المركز الرئيس في مقدونيا في أوائل القرن الرابع وباتت آنذاك بمنزلة القلب السياسي للمملكة. قام على تعليم الإسكندر العديد من المعلمين؛ إذ كان ليونيداس - أحد أقرباء أوليمبياس - وإغريقي يسمى ليسيماخوس قوتين مهمتين في سنواته الأولى، وعندما استهل الإسكندر العقد الثاني من عمره، استعين بالفيلسوف الإغريقي أرسطو لتعزيز نضجه الفكري ومعه العديد من رفاقه وأصدقائه. عاش التلاميذ ومعلمهم منفصلين عن بيلا في موضع يعرف باسم نمفايون، أو مكان حوريات الماء. وتوجد خيوط تلقي بعض الضوء على الموضوعات التعليمية التي تناولها أرسطو، وسنتناول ما نرجحه منها في الفصل الرابع. جاءت المعرفة الضرورية الأخرى، بطريق مباشر أو غير مباشر، من أبوي الإسكندر، وهذا موضوع الفصل الثالث. يتجلى لنا أن التدريب البدني كان يشكل جزءا كبيرا من تلك المعرفة من واقع قدرة الإسكندر على ترويض جواد بري لم يقدر حتى الرجال المتمرسون الأسن منه على امتطاء صهوته. صار هذا الجواد، المسمى بوسيفالوس، جواد مروضه الأثير، فسافر معه إلى نهر السند ومات هناك. وتضمنت صور التدريب الأخرى جميع المهارات التي كان يحتاج إليها ابن الملك فيليب وخليفته المحتمل. وتتضح الشواهد الدالة على نجابته كتلميذ في حكم الأب فيليب على الإسكندر، وهو في السنة السادسة عشرة من عمره، بأنه كفء لحكم مقدون في غيابه (340)، وبعد ذلك بعامين بأنه مؤهل لقيادة ميسرة الجيش المقدوني في خيرونية، التي ألحق فيها الجيش المقدوني، بقيادة فيليب والإسكندر المشتركة، هزيمة بالإغريق (338). شاب السنة التالية خلاف خطير بين الأب وابنه بسبب زواج فيليب من زوجته السابعة كليوباترا، وكان من خطورة هذا الخلاف أن رحل الإسكندر وأمه عن بيلا قاصدين مملكتها الأصلية إبيروس؛ ثم عقدت مصالحة سنة 336 عادا على إثرها إلى مقدونيا، وفي تلك السنة اغتيل فيليب الثاني.
وهكذا كانت سنة 336 مستهل حكم الإسكندر. طالب خلفاء محتملون آخرون من أبناء الأسرة الأرغية أيضا بأحقيتهم في الحكم، ومنهم ابن آخر لفيليب الثاني، وابن شقيق فيليب، الذي لم يكن يقدر - بينما كان طفلا سنة 359 - على مواجهة الاضطراب الذي تمخض عنه موت أبيه. على النقيض من ذلك، ففي سنة 336 كان الإسكندر قد برهن بالفعل على قدرته برهانا كافيا لكي تنادي به جمعية الجيش ملكا، ولكي يضمن دعم ضباط والده وأصدقائه، وكلاهما حيوي للوصول إلى الملك. استهلت فترة حكمه التي دامت 13 سنة بانتفاضات في شمال مقدونيا وفي اليونان، حيث حنت كلتا المنطقتين إلى استقلالها السابق. وفي سنة 335 كان الجيش يشن حملة بقيادة الإسكندر فيما يعرف اليوم باسم ألبانيا، عندما استدعي للتعامل مع ثورة قامت في وسط اليونان، وتحديدا في طيبة. وعندما تم الاستيلاء على طيبة ونهبها، خضعت بقية اليونان مجددا للهيمنة المقدونية التي سبق أن بسطها فيليب. تحقق آنذاك الهدف من وراء «الحلف الكورنثي» الذي أقامه فيليب بعد انتصاره في خيرونية؛ إذ كان أعضاء الحلف قد وافقوا على تحالف هجومي ودفاعي بقيادة الملك المقدوني بهدف محدد، هو شن حملة ضد بلاد فارس. والحقيقة أن فيليب أرسل قبل موته قوة متقدمة إلى آسيا الصغرى، وبعد أن استتبت الأوضاع للإسكندر في اليونان وعلى حدوده الشمالية، صار بإمكانه الالتفات إلى الحملة الكبرى التي أشعل فتيلها أبوه، ونعني العملية ضد الفرس.
شكل 1-1: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس الإسكندر الثالث. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كانت معظم التحضيرات الأساسية للحملة جاهزة؛ وهكذا، بعد أن عين الإسكندر أنتيباتروس، أحد كبار ضباط والده، وصيا على العرش، قاد جيشه المؤلف من نحو 30 ألفا من المشاة و5 آلاف من الخيالة عبر الدردنيل في ربيع سنة 334. لم تكن وجهته الأولى ساحة قتال لتحدي السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى، بل ساحة القتال الأسطورية طروادة. وعلى الرغم من أن هذا الاختيار مدهش في أعين دارسي الإسكندر في العصر الحديث، فإنه كان قرارا طبيعيا من رجل من نسل آخيل مقدم على الانتقام من محاولة الفرس السيطرة على مقدونيا واليونان. غير أن المقدونيين تحدوا في الخطوة التالية السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى في معركة دارت عند نهر جرانيكوس، ولم يكن الجيش الفارسي بقيادة ملك فارس بل بقيادة مرازبة الأناضول. وما من شك بخصوص المحصلة، التي كانت انتصارا مقدونيا كبيرا فتح الباب إلى الأناضول؛ فاستسلمت سارديس، أقصى عاصمة فارسية في الغرب، وعمل الإسكندر على إحلال السلام في المنطقة طوال ما تبقى من تلك السنة وغالبية السنة التالية. وفي خريف سنة 333 مضى قدما تاركا ضابطا آخر من كبار ضباط فيليب، وهو أنتيغونوس، ليقود العملية الجارية لتعزيز السيطرة المقدونية على الأناضول.
التقى الجيشان من جديد في موقعة إيسوس في شمال سوريا، وكان الجيش الفارسي - الذي يقدر قوامه بستمائة ألف رجل - في هذه المواجهة بقيادة ملكهم داريوس الثالث؛ ومع أن هذا القوام مشكوك فيه بشدة، فإن الفرس كانوا يفوقون المقدونيين عددا، لكن تبين أن كثرة عدد الفرس «عديمة الفائدة لضيق المكان» (آريانوس، الكتاب الثاني، 8، 11). بعد الانتصار المقدوني في الميدان، تمكن داريوس من الفرار، لكن من اصطحبهم معه من أفراد أسرته وقعوا في الأسر، ولتأمين إطلاق سراحهم عرض التنازل عن الأراضي الفارسية الواقعة غرب نهر الفرات، فرد الإسكندر على ذلك بطريقتين؛ إذ رفض العرض، وراح يفتح منطقة سوريا وفلسطين. استسلمت مدن كثيرة للمقدونيين، وبعضها تم الاستيلاء عليه دون صعوبة كبيرة، لكنهم اضطروا إلى ضرب حصار دام سبعة أشهر للاستيلاء على مدينة صور الحصينة، التي كانت موقعا حيويا للسيطرة على القوة البحرية. وبعد أن تمكن الإسكندر وجيشه من فتح صور في النهاية، واصلوا مسيرتهم جنوبا إلى غزة، آخر مدن جنوب فينيقيا، وكانت محاطة بأسوار حصينة شأنها شأن صور، ويتطلب الاستيلاء عليها إقامة استحكام مضاد بارتفاع 250 قدما (75 مترا) وآلات حصار وحفر أنفاق تحت سورها.
في أعقاب الاستيلاء على المدينة وقتل سكانها أو استرقاقهم، واصل المقدونيون مسيرتهم نحو أقصى أقاليم الإمبراطورية الفارسية غربا وهو مصر، فوصلوها في أواخر خريف سنة 332. لم يتطلب تغيير تبعية مصر أي قتال. ظل الإسكندر على مدى أشهر مشغولا بالمسائل الإدارية، فوضع الخطط لإقامة عاصمة جديدة هي الإسكندرية، وفي جولة أخرى مفاجئة، سار نحو 370 ميلا (600 كيلومتر) عبر الصحراء الغربية لاستشارة عرافة آمون الشهيرة. على خلاف محصلة المعارك، يتركز قدر كبير من النقاش على سبب هذه الرحلة الطويلة الشاقة، وكذلك على السؤال الذي يطرحه الإسكندر والإجابة التي تقدمها العرافة؛ فهل علم فعلا أن أباه الحقيقي ليس فيليب بل آمون-زيوس؟ وسنعود إلى هذه المسألة وأفعال أخرى مماثلة في الفصل الختامي.
شهد ربيع سنة 331 عودة الإسكندر إلى سوريا مستأنفا التعامل مع مسائل إدارة مملكته المتسعة، قبل مواصلته طريقه نحو بلاد ما بين النهرين، وبعد عبوره نهري دجلة والفرات دون مقاومة، أراح جنوده استعدادا للمعركة المقبلة التي كان الفرس يتأهبون لها. كانت تلك المعركة، التي دارت رحاها خريفا عند جاوجاميلا في شمال بلاد ما بين النهرين، مجهودا هائلا من جانب الفرس؛ إذ ربما كانوا يفوقون المقدونيين عددا بما يصل إلى ستة أمثالهم، لكن لم تستطع الأعداد ولا العجلات الحربية ذات المناجل، التي نشرت لبث الفوضى بين الجنود المقدونيين، تحقيق النصر في المعركة. وعلى الرغم من فرار الملك داريوس من جديد، ضمن النصر المقدوني الكنوز الفارسية الموجودة في المدينة القريبة من ساحة المعركة، وفتح طريقا عبر بلاد ما بين النهرين، ثم آخر إلى العاصمتين الفارسيتين شرق دجلة. استسلمت بابل وحذت شوشان حذوها. وبعد إجراء تعيينات رسمية وإحداث بعض من إعادة التنظيم في صفوف الجيش، سار الإسكندر صوب الجنوب الشرقي نحو العاصمتين الفارسيتين تخت جمشيد وباسارجاد. كان يقوم على حماية الأولى مرزبان وتحت يده قوة قوامها 40 ألفا من المشاة (آريانوس، الكتاب الثالث، 18، 2)، متخذين مواقع استراتيجية لوقف الزحف المقدوني، وتطلب الاستيلاء عليها الالتفاف حول مواقع العدو بالسير عبر تضاريس وعرة. أما باسارجاد فلم تتطلب مجهودا مماثلا. تمخض الاستيلاء على المدينتين عن ثروة طائلة على هيئة كنوز، لكنه تمخض أيضا عن الوصول إلى مركز السلطة الفارسية، فصار بإمكان الإسكندر إعلان انتزاعه عرش الأسرة المالكة الأخمينية. وفي تخت جمشيد، أعفى الفرقة الإغريقية من المزيد من المشاركة في مهمة الحلف الكورنثي، ثم أحرق المدينة؛ وهذا فعل آخر يتطلب دراية بعقل الإسكندر وعواطفه، وبما أننا لا نعرف كينونته الداخلية، يظل سبب تدمير المدينة محل جدل شديد.
صفحه نامشخص
ثم راح الإسكندر يطارد داريوس، سائرا شمالا صوب ميديا. وبينما كان يؤكد السيطرة المقدونية على ميديا، وصلت إليه أنباء مرور داريوس عبر بوابات قزوين في طريقه إلى الأقاليم الشرقية بالإمبراطورية الفارسية. وعندما وصل المقدونيون إلى جنوب منطقة قزوين، اكتشفوا مقتل الملك السابق داريوس على أيدي رفاق سفره. واصل الإسكندر طريقه شرقا في صيف سنة 330 سعيا وراء المطالبين الجدد بالملك، ولفتح ما تبقى من أرض الإمبراطورية على ما يبدو.
تبين أن الهدف الأول أصعب من الثاني؛ فبينما شق الجيش المقدوني طريقه عبر المرزبات الشرقية في عامي 330 و329، عرض كثير من المرازبة استسلامهم بينما واصل آخرون القتال. ولم يتحقق إعدام بيسوس، وهو أول من أعلن خليفة لداريوس على عرش البلاد، إلا سنة 328؛ فواصل الوريث المعلن الثاني، وهو سبيتامينيس، حشد القوات ومحاربة المقدونيين لمدة نصف سنة أخرى أو نحو ذلك. وواصل الإسكندر وقواته تهدئة الأوضاع واستتبابها في سوقديانا وباخترا لسنة أخرى، وتحديدا حتى صيف سنة 327.
هذه السنوات الثلاث جديرة بالملاحظة لأسباب هي أكثر من مجرد توسيع السيطرة المقدونية والقضاء على المطالبين بعرش فارس بخلاف الإسكندر نفسه. وأخيرا اتخذ قرار الزواج، فوقع اختياره على رخسانة ابنة وخش آراد، أحد أعيان سوقديانا، لتكون زوجته الأولى. كانت رخسانة - بجانب زوجة وخش آراد وابنتين أخريين له - قد وقعت في الأسر في حصار ناجح، ومع أن قرار الزواج بها كان من ثمرته كسب دعم أبيها، يقال أيضا إنها كانت ثاني أجمل امرأة في آسيا كلها، ولم تفقها جمالا إلا زوجة داريوس الثالث، وإن الإسكندر وقع في غرامها من أول نظرة.
ثمة نتيجة أخرى أقل سرورا بكثير لكن تتساوى في الأهمية، وهي أن المقدونيين بدءوا يعبرون عن عدائهم لملكهم، على المستوى الفردي وربما في صورة مؤامرات على حد سواء؛ فتورط بارمنيون، أحد كبار ضباط الإسكندر والشخص الذي اختاره فيليب لقيادة القوة المتقدمة التي زحفت إلى آسيا الصغرى سنة 337، في مؤامرة شهيرة حاكها ابنه فيلوتاس، وهو الآخر شخصية مهمة في حاشية الإسكندر. ولدى علم الإسكندر بالمؤامرة المحاكة ضده، أمر باستدعاء فيلوتاس أمام جمعية الجيش، فدافع فيلوتاس عن نفسه في مواجهة اتهامه بالتورط، لكن ثبت أنه مذنب لعدم مبادرته إلى إبلاغ الإسكندر بالمؤامرة على الرغم من الاتصال اليومي بينهما. قتل فيلوتاس والمتآمرون الآخرون برماح رماها مقدونيون، وابتعث آخر من أصحاب الإسكندر بأوامر إلى القادة الذين تركوا في ميديا بقتل بارمنيون أبي فيلوتاس على أساس أنه كان ضالعا في المؤامرة، ولو لم يكن ضالعا فيها فعلى أساس أنه كان عنصر استقطاب محتمل للغضب ضد الملك لما يتمتع به هو وأسرته من احترام كبير لدى الجنود المقدونيين والمرتزقة.
وفي السنة التالية، قتل كلايتوس الأسود - الذي تذكر المصادر التي وصلت إلينا أنه أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس - أثناء ندوة شهدت إسرافا في الشراب؛ فبينما كان أصحاب الإسكندر يتملقونه، ذكر كلايتوس الصحبة بأهمية العون الذي قدمه المقدونيون الآخرون، فنشبت مجادلة صاخبة انتهت بتناول الإسكندر رمحا أو حربة من أحد الحراس، وقتله الرجل الذي حماه أثناء معركة جرانيكوس. شهدت السنة ذاتها مؤامرة أخرى مزعومة، وأثارها هذه المرة عدد من غلمان الإسكندر الصغار، وضلع فيها مؤرخ الحملة الرسمي كاليسثينيس، وكان قد فقد حظوته لدى الإسكندر لسببين: أولهما اقتراحه ضرورة التخفيف من التسبيح بحمد الملك، وثانيهما رفضه السجود للإسكندر الذي استحدثه على الطريقة الفارسية. أسفرت المؤامرة المزعومة عن موت كاليسثينيس رجما أو شنقا أو بسبب إنهاكه نتيجة جرجرته في أغلاله بصحبة الجيش الزاحف.
بعد أن حل الإسكندر - على المدى القصير على الأقل - القضايا المقدونية الداخلية وحقق السيطرة الاسمية على معظم المنطقة الشرقية من الإمبراطورية الفارسية، استعد لمواصلة الزحف شرقا في الهند. أقيمت مستوطنات جديدة بكثرة في المرزبات الشرقية للإمبراطورية الفارسية التي كان معظمها قد أخضع آنذاك، وأقيم العديد من المدن الجديدة التي حملت اسم الإسكندرية (في فرادا، وهيرات، وقندهار، وغزني، وميرف، وترمذ، وعلى جبال هندوكوش وعلى نهر سيحون)، وأعيد تأسيس مدينة باخترا باسم الإسكندرية. بالإضافة إلى ذلك، أنشئت حاميات في خوجند وفي المنطقة الواقعة بين خوجند والحد الشمالي للحملة عند نهر سيحون.
وفي ظل وجود خط للمواصلات، شقت قوة قوامها نحو 35 ألف رجل طريقها عبر جبال هندوكوش إلى وادي نهر السند في صيف 327. ثم فتحت الهزيمة التي وقعت بجيش الملك الهندي بوروس سنة 326 عند نهر هايداسبيس طريقا إلى شبه القارة الشاسعة؛ فسار الجيش المقدوني شرقا حتى بلغ نهر بياس (أقصى نقطة شرقا في شبكة الأنهار الكبيرة)، وعندئذ ظهر على السطح رد فعل مقدوني آخر؛ إذ رفض رجال الإسكندر مواصلة الزحف (تقدر عملية حسابية أجراها الكونت يورك فون فارتنبورغ أن المقدونيين كانوا قد قطعوا 12 ألف ميل أو أكثر من 19 ألف كيلومتر في ثماني سنوات ونصف سنة)، فاضطر إلى موافقتهم والعودة إلى الغرب. عادت القوة أدراجها غربا إلى نهر هايداسبيس الذي كان يجري بناء أسطول فيه، ثم شقت طريقها جنوبا برا وبحرا حتى وصلت إلى دلتا نهر السند في صيف 325. وضع الإسكندر الأسس لإدارة الأقاليم المستولى عليها حديثا، ثم نظم عملية العودة، فواصل جزء من القوة سيره بحرا بهدف استكشاف الطريق من مصب نهر السند إلى مصبي نهري دجلة والفرات في الخليج الفارسي، على أن يواصل جزء من القوة البرية مسيره متخذا طريقا شمال صحراء جيدروسيا، وأما الإسكندر فسار على رأس بقية الجيش عبر الصحراء ذاتها مباشرة. شهدت المجموعات الثلاث صعوبات بالغة، لكن من كتبت لهم النجاة من الجيشين التأموا مجددا غرب الصحراء الكبرى، والتقى الأسطول الإسكندر داخل مضيق هرمز بالضبط، فواصل الأسطول إبحاره شمالا، وأما الجيش فسار نحو باسارجاد التي بلغها مطلع 324. وفي ربيع ذلك العام، توجه الإسكندر إلى العاصمة الفارسية شوشان، وفي الربيع التالي إلى بابل.
كان الإسكندر، خلال آخر سنة ونصف سنة من حياته، أكثر انشغالا بنتائج حملته الناجحة منه بتجريد حملات أخرى، وإن كانت ثمة مصادر تروي أنه كان يخطط لحملات جديدة كالإبحار حول شبه الجزيرة العربية. أسس الإسكندر أيضا المزيد من المستوطنات. كان شاغله الأكبر محاربيه القدامى والرجال الذين أسند إليهم مهمة العمل على استتباب الأوضاع والحكم، وكان بعضهم غير كفء للمهمة أو غير مخلص للملك أو الاثنين معا. وأثناء الإقامة في شوشان، توجت العلاقات الغرامية التي جمعت كثيرين من جنوده بنساء آسيويات (يذكر آريانوس أنهم كانوا أكثر من 10 آلاف) بالزواج، وكان الإسكندر نفسه يقدم هدايا الزفاف. وقدم أيضا شكلا آخر من الهدايا بسداده ديون الجيش التي بلغ مجموعها 20 ألف وزنة. تزوج الإسكندر أيضا وأصحابه المقربون بنات عائلات فارسية كبيرة؛ إذ تزوج الإسكندر نفسه ابنة داريوس الكبرى، والابنة الصغرى لنبيل فارسي من فرع آخر من فروع الأسرة المالكة الفارسية. ويذكر آريانوس زيجات هفايستيون وكراتيروس وبيرديكاس وبطليموس ويومينس ونيارخوس وسلوقس، ويفيد بعقد نحو 80 زيجة مماثلة بين أصحاب آخرين وبنات نبلاء الفرس والميديين.
لكن شوشان شهدت التئاما آخر بوصول 30 ألف شاب آسيوي بعد تدريبهم على الطريقة المقدونية؛ إذ أسفرت تداعيات هذا الوصول عن مزيد من التمرد في صفوف جيشه المقدوني، عندما أعلن الإسكندر أنه بصدد تسريح عدد كبير من محاربيه القدامى وإعادتهم إلى مقدونيا. استقبل كثيرون من المقرر تسريحهم هذا الإعلان بغضب ساخر، مطالبين إياه بتسريح جميع المقدونيين ومواصلة الحرب بمساعدة أبيه «الحقيقي» الإله آمون. ولم يكونوا أيضا راضين كل الرضا عن صحبه الآسيويين الجدد. كان أول رد للإسكندر أن أمر باعتقال رءوس التحريض وقتلهم، ثم ألقى خطابا غاضبا وبخ فيه البقية، واختتمه بكلمة «انصرفوا!» وذهب عنهم. أبدى قدامى المحاربين ندمهم واسترحموا مليكهم، فصولحوا بمأدبة ضخمة، وبعدها كان نحو 10 آلاف محارب قديم متأهبين للعودة إلى مملكة مقدونيا تحت قيادة أحد كبار قواد الإسكندر، وهو كراتيروس.
كان تدبير إدارة الإمبراطورية التي ظفر بها الإسكندر حاجة أخرى ملحة؛ إذ كان كثيرون ممن تركهم وراءه في مواقع السلطة يعتقدون على ما يبدو أنه لن ينجو من حملته الشرقية، فحوسب عدد منهم وعوقبوا واستبدلوا. لم يكن الأفراد وحدهم بحاجة إلى ترتيب، بل كانت أقاليم بأكملها خارج نطاق الإمبراطورية الفارسية السابقة تحتاج إلى ترتيب أوضاعها، وخصوصا اليونان؛ ففي أواخر ثلاثينيات القرن الرابع، جمع الملك الإسبرطي أجيس بين هدف استعادة قوة إسبرطة وهدف ثان هو القضاء على السيطرة المقدونية على اليونان، ولتحقيق هاتين الغايتين، نجح في حشد جيش من المشاة قوامه 20 ألف رجل، بالإضافة إلى 10 سفن وأموال من بلاد فارس. وكان في أثينا جندي محترف يشغل منصب القائد العسكري منهمكا في حشد ائتلاف ضد المقدونيين سنة 324. وعلى مبعدة أكبر من ذلك، يروى أن وفودا من شعوب منطقة البحر المتوسط والشعوب الأوروبية جدت في التماس هذا الفاتح الشاب المذهل.
صفحه نامشخص
تدخل الموت ليختصر هذه الجهود ويربكها. في البداية جاء موت الرجل الذي صار أقرب صديق ومعاون له، وهو هفايستيون، في أواخر 324، مما أحزن الإسكندر حزنا عظيما. وسرعان ما أصابت الإسكندر نفسه حمى في ربيع 323، فمات في يونيو (الثالث عشر من الشهر هو التاريخ المقبول عموما) قبيل عيد ميلاده الثالث والثلاثين. •••
كان الإسكندر الثالث المقدوني شخصا لافتا للأنظار خلال حياته، وأسبغت عليه إنجازاته لقب الإسكندر الأكبر منذ القدم، وهو لقب مرتبط دوما باسمه. كان بطلا في أعين الكثيرين من الطامحين إلى محاكاته، بداية من خلفائه ذاتهم، إلى الإمبراطور الروماني تراجان الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، إلى نابليون بونابرت الذي كتب يقول: «غزا الإسكندر ثلاثمائة ألف فارسي بعشرين ألف مقدوني، وقد حققت نجاحا مشهودا في مساع جريئة.» ويمكن القول بأن الوصف الذي أورده المؤرخ إف إيه رايت للإسكندر هو الأروع؛ إذ بعد أن قال إن الإسكندر ويوليوس قيصر وكارل الكبير ونابليون «أعظم بكثير من المستوى العادي للقدرات البشرية، حتى إنه قلما يمكن الحكم عليهم بالمعايير العادية»، أكد رايت أن الإسكندر في عمله وفي شخصيته «يستحق المرتبة الأولى» (1934: 1).
إننا نتوق إلى ما هو أكثر من بعض التواريخ والأحداث فيما يخص شخصا كهذا. فما الذي كان يدفعه؟ وماذا كانت أهدافه الحقيقية؟ وماذا كانت خواطره وردود أفعاله ومخاوفه، هذا إن كانت انتابته مثل هذه الانفعالات التي لا تليق بالأبطال؟ هذه هي أنواع الأسئلة التي يثيرها الإسكندر، والتي لا تتسنى لنا الإجابة عنها إجابة واضحة. لكن عندما ننظر إلى عالمه، سنقترب من التوصل إلى فهم ما.
الفصل الثاني
أصله المقدوني
ثمة رأي ينسب إلى أبقراط، الطبيب الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يقول إن موضع نشأة الثقافة يحدد طبيعتها. ومن بين العدد الكبير من الكتابات المنسوبة إلى أبقراط دراسة تحمل عنوان «المدن والماء والهواء» تربط الصحة البشرية بغذاء الفرد وبيئته وطريقة حياته، ويؤكد المؤلف أن اختلاف سمات الشعوب الآسيوية والأوروبية مرتبط بالمناخ، فانعدام الأحوال المناخية الشديدة التقلب في آسيا يتمخض عن شعب لين، وأما مناخ أوروبا الأشد تطرفا وتقلبا فينتج شعبا صلبا. وقال أرسطو مثل قوله في القرن الرابع (السياسة، الكتاب السابع، 7، 1327بي20إف): الشعوب الآسيوية ذكية لكنها تفتقر إلى النشاط، أما الأوروبيون فنشيطون وإن كانوا يتسمون بقدر أقل من الذكاء الفطري. والمنازل التي بين هذين الطرفين هي الأوفر حظا؛ يرى أرسطو وأبقراط أن الإغريق يحتلون المنزلة الوسط؛ ومن ثم كانوا على درجة عالية من الذكاء والنشاط. لكن من نواح كثيرة يستحق المقدونيون - بل يستحقون أكثر من الإغريق - وصفهم بأنهم أصحاب منزلة وسط وافرة الحظ. والحقيقة أن ثمة حكاية تقول إن أبقراط شخص حالة الملك بيرديكاس الثاني المقدوني (454-413)، تدل - إن صدقت - على أن أبقراط خبر بيئة مقدونيا خبرة مباشرة. ويقينا كان أرسطو على دراية جيدة بمقدونيا والمقدونيين؛ إذ نشأ طفلا صغيرا في العاصمة بيلا، ثم اشتغل فيما بعد كمعلم للإسكندر الثالث الشاب. يسمح لنا استقصاء طبيعة مقدونيا المادية بأن ننظر كيف كان من شأن الأحوال الطبيعية هناك أن تحدد طريقة حياة سكانها؛ المقدونيين بوجه عام وأفراد الأسرة الأرغية الحاكمة والإسكندر الثالث بوجه خاص. إذن ففي صحبة أبقراط وأرسطو، يمكننا تحري الأشخاص الذين شكلتهم تلك البيئة.
مرت الأرض المعروفة باسم مقدونيا بالعديد من الهيئات على مر الزمن؛ إذ كان يتحدد مداها الإقليمي إلى حد كبير بقدرة إحدى جماعاتها البشرية الكثيرة على بسط السيطرة على الجماعات الأخرى. ومن أزمنة العصر الحجري القديم حتى وقتنا الحاضر، اجتذب موقع هذه المنطقة إليه بشرا متنوعين، سواء أكانوا مهاجرين عبره، أم مهاجرين إليه يلتمسون الاستقرار، أم تجارا، أم غزاة فاتحين. لكن الهيئة الجغرافية للمنطقة تحول دون الوحدة الواسعة النطاق، وتشجع بدلا منها حدوث وحدة إقليمية أصغر نطاقا بين سكانها؛ وما زالت هذه النزعة الإقليمية قائمة حتى في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد.
بوجه عام نقول إن مقدونيا هي المنطقة الانتقالية بين شبه الجزيرة اليونانية والقارة الأوروبية. ومقارنة بهاتين المنطقتين المجاورتين، نجد مناخها وهيئتها يشبهان القارة الشمالية لا البلدان المتوسطية؛ فالأمطار أغزر في شهور الشتاء، وأقل في الصيف، وفصول الشتاء أشد وطأة، مع جليد يغطي الجبال، وأما فصول الصيف - وخصوصا في السهول - فتشهد ارتفاعا في درجات الحرارة يتجاوز 40 درجة مئوية (104 درجات فهرنهايت). يحد مقدونيا من الشرق الخليج الثيرمي، الذي يشكل جزءا من بحر إيجة، ويوفر سهلا ساحليا كبيرا، لكن معظم المنطقة المعروفة عموما باسم مقدونيا ليس ساحليا. ومن السهل الساحلي، يمتد نهران كبيران (هالياكمون وأكسيوس وروافدهما) بمنزلة طريقين موصلين إلى المناطق الداخلية، فيمتد هالياكمون إلى الغرب، ثم ينعطف جنوبا إلى الحدود مع ألبانيا الحديثة، ويمتد أكسيوس (فاردار حديثا) شمالا إلى سكوبيه وغربا إلى الحدود الجنوبية لكوسوفو الحديثة.
يرسم النهران والساحل البحري حدودا واضحة المعالم لهذا الإقليم من منظور جغرافي، إن لم يكن سياسيا. علاوة على ذلك، فالنهران بمنزلة موانع طبيعية أمام الدخلاء المحتملين؛ فممر ريندينا مثلا على نهر أكسيوس بالقرب من مدينة أمفيبوليس القديمة؛ حيث يبدأ في النزول إلى البحر، يتسم بالضيق الشديد؛ ومن ثم يسهل الدفاع عنه. وتوجد ممرات ضيقة مماثلة شقتها الأنهار في أماكن أخرى، مما يقلل أيضا من العمل الدفاعي، لكن توجد ممرات يمكن استخدامها كنقاط دخول.
من الفوائد الإضافية للأنهار أنها أنهار دائمة، وهي في طريقها إلى البحر تملأ البحيرات، التي توفر بدورها الأسماك؛ وهي في بعض الأماكن - كما يروي هيرودوت عن بيونيا في الشمال - «وفيرة حتى إنه عندما يفتح باب الشرك وتغوص السلال في قاع البحيرة المغطى بأعشاب الأسل، يسحبها المرء مليئة بالأسماك بعد انتظار قصير» (الكتاب الخامس، 16، 4). وحتى في يومنا هذا، يحتوي نهر هالياكمون على 33 نوعا من الأسماك. وبالإضافة إلى ما تمده هذه الأنهار من كميات وفيرة من الأسماك تقتات بها الخيول ودواب الحمل الأخرى، فهي مصدر للمياه اللازمة للاستهلاك والري حتى أثناء شهور الصيف، وتتيح هذه المياه الوفيرة، مقرونة بتراكم الجليد على الجبال العالية، موسم زراعة أطول مما يمكن أن يتوقعه جنوب اليونان. ويروي هيرودوت أن مياه نهر واحد فقط في المنطقة نضبت عندما حاول الجنود الفرس ري ظمئهم (الكتاب السابع، 127). ولإدراك حجم المياه المطلوب، من المهم أن نتذكر أن هيرودوت قدر عدد الجيش الفارسي بأكثر من خمسة ملايين، وإن كنا نرى أن الأعداد الفعلية كانت نحو 250 ألف فرد لم يكن كلهم من المحاربين. علاوة على ذلك، تتمتع البلدات والمدن الواقعة على الروافد بطريق وصول إلى البحر مع تمتعها في الوقت نفسه بميزة الأمن التي تتيحها المناطق الداخلية؛ فعلى سبيل المثال: كانت مدينة بيلا - العاصمة المقدونية أثناء حكم الإسكندر - تقع على أحد أفرع نهر لودياس، الذي كان صالحا للملاحة بطول مسافته البالغة نحو عشرين ميلا إلى البحر.
صفحه نامشخص
الجبال هي ثاني الملامح المميزة لمقدونيا؛ فغالبية الأرض التي تتكون منها المملكة التي أنشأها فيليب الثاني يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، ويشمل هذا المنطقة المنخفضة الواقعة شرق نهر إكيودوروس (جاليكو حديثا). وكان مدى الأرض الواقعة أقصى الغرب التي ضمت في النهاية إلى مملكة مقدونيا، تحدده سلسلة جبال بيندوس الطويلة المارة عبر منطقة البلقان وصولا إلى خليج كورنثة. كثير من القمم الجبلية الفردية في مقدونيا شاهق الارتفاع، فينافس بعضها جبل الأوليمب البالغ 9461 قدما (2917 مترا) لكن لا يفوقه؛ إذ تصل إحدى قمم سلسلة جبال برنوس (كايماكتسالان) إلى 8203 أقدام (2524 مترا)، بينما تصل إحدى قمم سلسلة جبال بابونا إلى 8255 قدما (2540 مترا). ومع أن الفروج الطبيعية في الجبال بمنزلة بوابات إلى السهول المنخفضة، فإنها توفر أيضا وسيلة دفاع طبيعية قوية؛ لأن بعض هذه الفروج - كما سبق أن نوهنا - شديد الضيق على نحو تسهل معه السيطرة عليها. وفي أجزاء من المنطقة، تعمل السلاسل الجبلية كساتر؛ إذ توفر جبال مقدونيا الدنيا غرب أكسيوس «درعا متصلا» كما وصفها نيكولاس هاموند (1972: 162).
شكل 2-1: الضفة العليا من نهر هالياكمون. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون .
كانت الغابات هبة الجبال، وفي الزمن القديم كانت مقدونيا تحتوي على الكثير من غابات الأشجار الدائمة الخضرة والنفضية على السواء، ويقدر أن نحو خمس المنطقة تكسوه الغابات حتى في وقتنا هذا. تسود نظم جبال الألب الإيكولوجية بالقرب من القمم الجبلية، وكانت أشجار الصنوبر تنمو فوق المنحدرات، أما أسفل منها فكانت تسود فيه أشجار البلوط والشوح والأرز. لم يكن الخشب الذي توفره الغابات ثمينا للاستخدامات المنزلية فحسب، بل كان أيضا مرغوبا من جانب دول اليونان الفقيرة بالخشب. واستخدمت الأنهار لتعويم أشجار الخشب المقطوعة إلى السهول، وفي النهاية كان الساحل يسهل نقلها إلى قلب المملكة، الذي كان يشهد معظم نشاط التبادل التجاري مع الآخرين.
شكل 2-2: مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
توفر الأشجار أيضا الغذاء والمأوى للحيوانات، ولم تكن الأشجار المقدونية استثناء من هذا في الزمن القديم؛ إذ كانت تسكن الغابات طائفة واسعة من الحيوانات البرية. ويوجد في الآونة الأخيرة حوالي 32 جنسا من الثدييات و108 أجناس من الطيور تسكن الحديقة الوطنية فوق جبل الأوليمب، وتوجد تشكيلة كبيرة من بينها مشهود لها بالقدم أيضا، كان بعضها - من قبيل الأيل واليحمور - لا يشكل خطورة كبيرة على البشر، لكن كانت هناك حيوانات أخرى مخيفة بحق، كالخنازير البرية والدببة البنية والذئاب والأوشاق والفهود والنمور والأسود، وكلها كانت تسكن الغابات الجبلية. ويروي هيرودوت واقعة غريبة تعرض لها الفرس وهم في طريقهم إلى مقدونيا سنة 480 قبل الميلاد؛ حيث كانت الأسد «تترك عرنها وتنزل دوما أثناء الليل ... تقتل الإبل دون غيرها، فلا تهاجم أي حيوان آخر أو إنسان» (الكتاب السابع، 123، 3).
شكل 2-3: ما زالت الأيائل تستوطن مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
استفادت الحيوانات المستأنسة أيضا من السلاسل الجبلية، التي كانت توفر مراعي صيفية من الطراز الأول لقطعان الضأن والمعز. كان معظم سكان مقدونيا العليا - بمعنى المناطق الشمالية والغربية من البلاد - يشتغلون بالرعي منذ أزمنة ما قبل التاريخ وحتى القرن الرابع، وعندما وقف الإسكندر خطيبا في محاربيه القدامى الغاضبين بعد العودة إلى بلاد ما بين النهرين، وبخهم لنكرانهم نعمة التغيرات الهائلة التي أحدثها أبوه في حياة كثير من المقدونيين. لقد ورثهم رعاة رحلا أغلبهم لا تكسو أجسامهم إلا جلود الحيوانات، يرعون بضع شياه على الجبال، وبعد أن أنزلهم فيليب من الجبال إلى السهول، أبدلهم أردية كاسية بجلودهم وجعلهم خصوما أندادا لجيرانهم البرابرة (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2). وعلى الرغم من احتمال مبالغة الإسكندر في وصف الحالة السابقة، تعضد الشواهد الآثارية الحقيقة الأساسية لصفة حياة الكثيرين من ساكني الجبال، لا في الأزمنة القديمة فحسب، بل في الأزمنة الحديثة أيضا نوعا ما. وعندما نتذكر أن الغالبية العظمى من مقدونيا، وخصوصا المناطق العليا أو الغربية، يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، يزداد إدراكنا دور الجبال في الحياة المقدونية.
كانت الثروة المعدنية أيضا موجودة بوفرة، والمنطقة في الأزمنة الحديثة مصدر للذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس وركاز الحديد وكربونات المغنسيوم والزنك والأسبستوس والكروم والبيريت والموليبدنوم الذي يستخدم في صنع سبائك الفولاذ. ومن غير المؤكد أنه كان يجري استخراج كل هذه المعادن في الأزمنة القديمة، لكن كلا من الذهب والفضة كان ينتج بنشاط في عهدي فيليب والإسكندر، وأيضا على أيدي خلفائهما. وتدل كمية ونوعية المشغولات التي كشفت عنها أعمال التنقيب والتي صنعت من معادن أقل قيمة؛ على أن سكان مقدونيا كانوا يعرفون هذه الموارد وطوروا مهارات لاستغلالها. ومن الجائز تماما أن المعادن كانت عاملا في الاتصال بين الميسينيين في يونان العصر البرونزي والشعوب المقدونية. علاوة على ذلك، تظهر الكشوفات الحديثة في مدينة بدنا أن المستوطنين الإغريق اكتشفوا هذه الموارد المعدنية في أواخر العصرين المظلم والعتيق. ومن مكونات الجبال الأخرى التي كانت لها قيمة كبيرة في الإنشاء الرخام الفاخر والحجر الجيري اللذان كانا يستخدمان في إقامة التحصينات والطرق والأبنية.
يتناثر بين السلاسل الجبلية الكثير من السهول الواسعة التي حبيت بنعمة الأنهار والأمطار مع التربة الخصيبة، وعندما يتجه المسافر غربا من بحر إيجة، يصادف طبقات من الوديان التي تدعم - على الرغم من تفاوت أنواعها النباتية - الرعي وتربية المواشي أسهل مما تدعمه السهول الجبلية الواقعة في جنوب اليونان. وتبين أن مقدونيا شديدة الانفتاح على جهود المزارعين المستقبليين في زمن مبكر يعود إلى تاريخ نشأة الزراعة. والحقيقة أنه توجد مواقع في مقدونيا وفي جزيرة كريت من بين أولى مناطق القرى المستقرة في غرب بحر إيجة، وقد وثقت زراعة نوعين من القمح فضلا عن الشعير والعدس والحمص والدخن منذ العصر الحجري الحديث. ويقينا كانت الأعناب منذ زمن فيليب والإسكندر، إن لم يكن قبلهما، أيضا عنصرا مهما من عناصر الزراعة المقدونية. وتمكنت بعض أشجار الزيتون، إن لم يكن الكثير منها، من البقاء في المناطق الأقرب إلى الساحل من ذلك الإقليم. وتوجد في الأزمنة الحديثة أحواض معينة يمكنها زراعة ثلاثة محاصيل سنويا. تضمنت سبل عيش الفلاحين المقدونيين في السهول، ومن يعيشون في الأعالي، تربية الحيوانات كالمعز والضأن والخنازير والأبقار والخيول، وتوفر السهول الساحلية مراعي ممتازة للأبقار والخيول ومراعي شتوية للمعز والضأن. وتمكنت الخيول التي تركها الجيش الألماني في الأيام الأخيرة من احتلاله اليونان، من البقاء دون رعاية بشرية حتى يومنا هذا على ضفاف نهري أكسيوس وهالياكمون.
شكل 2-4: النظر غربا عبر جبال بيندوس. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
صفحه نامشخص
هذه السهول الفسيحة منفصلة أحدها عن الآخر بمعالم المنطقة الطبيعية الأخرى، وتمخض صعود سطح الأرض وهبوطه في الفترات السحيقة عن تغيرات في المناسيب داخل المناطق، وأيضا فيما بينها. وكل واحد من هذه السهول مقسم إلى أجزاء بفعل ما يجري فيه من أنهار أو روافدها؛ إذ يشتمل السهل الأوسط، الذي يلتف حول الخليج الثيرمي، على ثلاثة أجزاء من هذا القبيل، وكذلك الحال مع المناطق الواقعة في مقدونيا العليا. ويمكن لكل منطقة من هذه تحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل مزيج من الأحواض والبحيرات والغابات والأنهار والجبال؛ لكن على الرغم من الفواصل الطبيعية، نجد المناطق الأصغر مترابطة من حيث اتصالها بالطرق الرئيسة التي تمتد من البحر إلى وسط البلقان وإلى البحر الأدرياتي. وإليكم الوصف الذي ذكره هاموند لإحدى الطرق المؤدية من إبيروس إلى مقدونيا:
لا يشكل الطريق من إبيروس إلى كاستوريا، ثم شمالا إلى أوخريد، أو شرقا إلى مقدونيا؛ صعوبات خطيرة ، وذلك بمجرد عبور نهر أوس عند ميسويفيرا، فيمضي المرء صاعدا إلى ليسكوفيك، ثم يلتف حول أنف الجبل وعبر الوديان ليدخل منطقة إرسيكا الخصبة على صغرها، ومنها يعبر جبل لوفكا عن طريق ممر تشاره، وينزل إلى سهل كستوريا [في منتصف الطريق تقريبا بين البحر الأدرياتي والخليج الثيرمي ببحر إيجة]. (1972: 102)
ما يبرهن أيضا على إمكانية الربط طريق فيا إجناسيا الروماني، الذي شق قرب نهاية القرن الثاني على امتداد مسار تجاري كان مصدرا رئيسا للترحل في الأزمنة السابقة، وهو اليوم الأساس الذي يقوم عليه إنشاء طريق سريع حديث.
شكل 2-5: ساحل بدنا المطل على الخليج الثيرمي. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
وهكذا يمكن وصف المنطقة المعروفة باسم مقدونيا بأسرها كمنطقة وسط؛ فهي تقع عند تقاطع الطرق الواصلة بين المناطق الواقعة في الشمال والجنوب من ناحية، وإلى الغرب والشرق من ناحية أخرى. دخل البشر الأوائل اليونان قادمين من أوروبا ومن الأناضول، والواضح أن مسار هجرة السلالة الأوروبية كان بالبر من خلال البلقان إلى مقدونيا ثم جنوبا. وعلى الرغم من أن معظم الهجرة الوافدة من الأناضول حدث عن طريق البحر، يبدو أن المستوطنات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث في مقدونيا وتيساليا نشأت بالحركة التدريجية رحيلا عن الأناضول وعبر شمال بحر إيجة. كانت تجارة الإغريق الميسينيين في العصر البرونزي ومنتجاتهم تتجه شمالا إلى مقدونيا، وسارت على خطاها الجهود الاستيطانية من جانب إغريق البر الرئيس في القرنين التاسع والعاشر. ظلت غزوات الشعوب العدوانية غرب جبال بيندوس، التي كانت شائعة في أزمنة ما قبل التاريخ، على كثرتها في عصر فيليب والإسكندر.
شكل 2-6: عرش زيوس على قمة جبل الأوليمب. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
أوحى موقع مقدونيا المغري للأجنبيين عنه بالتعاون لما قد ينتج عنه من قوة، وعندما وحدت المناطق المجزأة تحسن الموقف الجماعي من حيث القدرة على صد الغزوات. وأفادت المداومة على حراسة طرق الدخول القليلة المفتوحة عن طريق البر وعلى امتداد الخط الساحلي للخليج الثيرمي؛ في الدفاع عن أمن المناطق المجزأة طبيعيا، وأفادت كذلك في تحسين فعالية الطرق المتشعبة إلى الخارج في جميع الاتجاهات.
خلاصة القول أن مقدونيا أتاحت لسكانها تشكيلة من الموارد:
تربة خصبة للزراعة ومراع ممتازة للحيوانات المستأنسة، وهما ركيزتا الاقتصاد القديم.
ثروة وفيرة من الحيوانات البرية والأسماك.
صفحه نامشخص
موارد خشبية ومعدنية ممتازة للاستخدام الداخلي وللتجارة الخارجية.
درجة معقولة من الأمن بفضل شكل الجبال والأنهار.
إمكانية الوصول إلى البحر مقرونة بمنطقة داخلية شاسعة.
موقع جمع بين الخصائص المتوسطية والأحوال المناخية والطبوغرافية الأوروبية.
منطقة كانت على الأرجح مغرية للآخرين؛ ومن ثم ففي توحدها فائدة.
ولو قبلنا ما قال به أبقراط وأرسطو عن دور البيئة في طبيعة سكانها، لجاز لنا أن نذهب إلى أن طبيعة مقدونيا نمت سمات معينة في أهلها. إنها يقينا ليست بالبيئة «السهلة»؛ إذ لا بد أن يكون المقدونيون أهل جلد وشدة لكي يستفيدوا من موارد الجبال؛ فيصطادوا الأيائل والأسد، ويستخرجوا المعادن الخام، ويرتحلوا بالقطعان من المراعي الصيفية إلى المراعي الشتوية، ويحرسوا الممرات الجبلية الضيقة من الغزاة. وبما أن مقدونيا كانت محاطة بالغزاة المحتملين، كان الحفاظ على استقلالها سيفشل من دون تنسيق فعال للأمن. وكان لا بد لأي قائد مستقبلي لهذا الشعب أن يكون مدربا على إدارة إقليم ينطوي على إمكانيات عظيمة وأخطار دائمة في الوقت نفسه. (1) السكان
أكدنا على الانقسامات الطبيعية داخل الإقليم الذي وسع أثناء حكم الإسكندر الأول في القرن الخامس، بل ووسع أكثر أثناء حكم فيليب الثاني، وأفضت هذه الانقسامات إلى فروق بين التجمعات السكانية. تعود التجمعات السكانية المتنقلة إلى العصر البرونزي كما يتبين من الثقافة المادية، كطبيعة المواقع، وتقاليد دفن الموتى، وطرق صناعة الفخار. وأثناء العصر البرونزي سادت الشعوب الهندية-الأوروبية في الغرب والشمال الغربي، ويمكن أن تعزى التأثيرات الخارجية إلى التراقيين في الشرق، والميسينيين في الجنوب، وشعب يعرف باسم البريجيين (أو الفريجيين) تنم أساليبه في صنع الخزف عن أصل أوروبي أوسط. وتشير الشواهد إلى استمرار الشعوب الأولى، على الرغم من هجرة جماعات جديدة صغيرة نسبيا في أعدادها الكلية إلى المنطقة. تمخضت الغزوات عن تحركات سكانية، لكنها لم تغير هيكل الحياة الأساسي الذي تطور من العصر الحجري الحديث؛ ومن ثم كانت مقدونيا العليا والدنيا تتمتع بإرث هندي-أوروبي في أزمنة ما قبل التاريخ وفي عصر فيليب والإسكندر. وجدت هذه الرابطة المشتركة ذاتها بين شعوب مقدونيا الأساسية ومعظم جيرانها؛ إذ كان التراقيون والبيونيون والإبيروسيون، بل الإليريون أيضا، من أصل هندي-أوروبي.
ومع ذلك توجد فروق كبيرة بين مختلف الشعوب الهندية-الأوروبية؛ فعلى الرغم من انتمائها إلى لغة أساسية مشتركة، تفرعت هذه اللغة التي كانت ذات يوم واحدة لتصبح شجرة متعددة الفروع على مدى ألف سنة من التطورات بين الأفراد الناطقين باللغة الهندية-الأوروبية. إن فروع هذه اللغة الاثنا عشر الرئيسة هي: الأناضولية، والبلطيقية، والجرمانية، واليونانية، واللاتينية (أو الرومانسية والإيطاليقية)، والإليرية (أو الألبانية)، والهندية، والإيرانية، والسلتية، والسلافية، والتراقية، والطخارية. وانبثقت من كل واحد من هذه الفروع فروع أصغر على هيئة فروق في اللهجة. ومن حيث اللغات المستخدمة حاليا، يصل عدد الفروع إلى 77 فرعا، ويوجد حوالي 36 شكلا من أشكال اللغة الهندية-الأوروبية لم يعد مستخدما استخداما عاما. وكما يكشف مدى هذه الفئات، ربما يكون تنوع أشكال اللغة الهندية-الأوروبية غير واضح أو حتى غير مفهوم للناطقين بالأشكال الأخرى لهذه اللغة الأم. علاوة على ذلك، تنتج البيئات المختلفة أساليب حياة مختلفة تتمخض بدورها عن مفردات جديدة لا توجد بالضرورة بين الشعوب الهندية-الأوروبية الأخرى.
خلاصة القول أن توحيد الشعوب الهندية-الأوروبية العديدة في منطقة جنوب البلقان، على نحو يعززه إحساس بالإرث واللغة المشتركين؛ كان مستبعدا؛ لأن التنوع اللغوي كان جاريا منذ ما يتراوح بين ثمانية وتسعة آلاف سنة بحلول القرن الخامس قبل الميلاد. والحقيقة أنه لم تكن الشعوب كلها على الأرجح ناطقة بالهندية-الأوروبية؛ إذ إن هويات بعض التجمعات القبلية على امتداد جانبي جبال بيندوس ليست مؤكدة. كتب تشارلز إدسون، الباحث المتخصص في التاريخ المقدوني، في ملخصه المتزن المعنون «مقدونيا المبكرة»، عن «مجموعات من القبائل البربرية» في الأجزاء الشرقية والوسطى مما سيصبح مملكة مقدونيا الموحدة تحت قيادة فيليب الثاني. ربما كانت العناصر الثقافية المشتركة عاملا يسر التعاون، لكن ربما كان الأهم من ذلك حتى هو التهديدات المشتركة.
كذلك لن يفيد الأصل المشترك في ربط المقدونيين بجيرانهم الهنود- الأوروبيين الموجودين جنوبا على الخليج الثيرمي، وتحديدا الفرع الإغريقي من الأصل الهندي- الأوروبي. والحقيقة أن الآراء التي وصلت إلينا وقال بها بعض إغريق القرن الرابع قبل الميلاد، تكشف عن ضعف الآصرة المشتركة بين الإغريق والمقدونيين؛ فوفقا للخطيب الأثيني ديموستيني، لم يكن فيليب إغريقيا ولا حتى تربطه صلة قرابة بالإغريق، بل كان رجلا من أسوأ البرابرة، ينتمي إلى مكان يستحيل حتى شراء عبد صالح منه (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، 4).
صفحه نامشخص
لم تكن مسألة الإثنية مسألة جدلية في الأزمنة القديمة فحسب، بل ظلت هكذا إلى اليوم، وليس بين الباحثين فحسب، بل في أعين بعض اليونانيين المحدثين. ترجع معظم الصعوبة في معرفة طبيعة العلاقة إلى غياب أنواع معينة ضرورية من الشواهد؛ فعلى سبيل المثال: اللغة مفتاح أساسي من مفاتيح الهوية (معرفة هل كانت لغة شعب ما - سامية أو هندية-أوروبية أو آسيوية - مؤشرا مهما على الإثنية)، لكن هذه الشواهد تكاد تنعدم فيما يخص التاريخ المقدوني المبكر. وعندما تبدأ النقوش في الظهور في السجل الأثري، نجد روابط تجمع سكان مقدونيا باليونان، وتتجلى في كتابة النقوش بالألفبائية الإغريقية. غير أن استخدام الحروف الإغريقية ربما لم يكن أكثر من طريقة ملائمة لهذه النقوش المعينة، أو ربما استخدمت هذه الحروف، كما في حالة النقوش الألفبائية الإغريقية في تراقيا، لأنه لم يكن هناك بعد نظام كتابة أصلي. وهناك احتمال آخر، وهو أن اللغة الإغريقية كانت آخذة في التحول إلى نظام الكتابة السائد أو المشترك في مناطق تتجاوز حدود المناطق الإغريقية الأولية قبل مجيء الفترة الهلنستية. بل إن المعلومات عن لغة المقدونيين المنطوقة أشح؛ حيث وجد «لوح لعنة» وحيد في بيلا ربما يكون مكتوبا بلهجة «مقدونية» من لهجات اللغة الإغريقية. الاستنتاج الوحيد اليقيني هو أن المقدونية المنطوقة تختلف أحيانا عن الإغريقية.
من ناحية أخرى، تدعم أسماء الأعلام المقدونية التي توجد في القصائد الهوميرية الرابط بين المقدونية والإغريقية، ومن بينها اسم السلالة الملكية «الأرغية». وتشير مصادر متأخرة إلى أن فيليب والإسكندر، بل ملوك أرغيون أبكر منهما أيضا، كانوا يتحدثون بسهولة مع كل من المقدونيين والإغريق. بالطبع يمكن تعلم لغات أخرى، لكن كما سنرى، تشي تأريخات السلالة الأرغية الواردة في المصادر الإغريقية بأصلها الإغريقي.
يروي هيرودوت حكاية ثلاثة إخوة مضوا في طريقهم - بعد طردهم من أرجوس في بيلوبونيز - إلى مقدونيا حيث صار أصغرهم، وهو بيرديكاس الأول، في النهاية وفيما يشبه المعجزة، زعيما لجماعة من المقدونيين تعرف باسم الأرغيين، وهم السلالة المالكة (الكتاب الثامن، 136-139). ربما تكون هناك حقيقة في نمط التنقل (بل في الواقع التنقلات) من اليونان إلى مقدونيا؛ إذ في زمن متأخر، وتحديدا في القرن الخامس، اتخذ مواطنون من مدينة مسينيا الإغريقية، التي كانت ذات يوم متألقة، من مقدونيا موطنا جديدا لهم عندما دمرت أرضهم على يد مدينة أرجوس؛ وعندما استولى الأثينيون على مدينة هيستيايا في جزيرة وابية وطردوا سكانها، أعيد توطين اللاجئين في مقدونيا أثناء حكم بيرديكاس الثاني. وعلى نحو ما أسلفنا، فإن موقع مقدونيا ملائم تماما للانتقال إلى المنطقة، وكان المقدونيون يعتبرون أنفسهم مهاجرين. الشيء غير المؤكد هو المكان الذي جاء منه الأرغيون، وقبول حقيقة الارتحال إلى مقدونيا الدنيا لا يقدم تفسيرا نهائيا للهوية المقدونية.
الخريطة 1: أقاليم مقدونيا ومعالمها الطبيعية ومواقعها.
المنتجات المادية خيط آخر يقودنا إلى هوية أي شعب بعينه؛ إذ يمكن أن تكشف الأساليب المعينة في صناعة الفخار والعمارة والنحت والقطع النقدية والمشغولات المعنية الأخرى عن تراث ثقافي مشترك. مما يؤسف له أن إقليمية مقدونيا تمخضت عن مزيج من الأساليب التي تأثرت غالبا بمختلف الجيران، كالإغريق في الجنوب، والتراقيين في الشرق، ومختلف الشعوب البلقانية في الشمال والغرب. ولم يتمخض التحليل الأنثروبولوجي للبقايا البشرية عن إجابة قاطعة عن هذا السؤال بعد، وإن كان تحليل الحمض النووي يبشر بتقديم أدلة أتم في المستقبل.
ريثما تتوافر أدلة جديدة، يبدو من الأوفق أن نستخدم المصطلح الذي استخدمه هيرودوت لتصنيف سكان مملكة مقدون، وهو المكدونيون (الكتاب الأول، 56، 3)، وأن نصنفهم أيضا كهنود -أوروبيين. ومن الجائز تماما أن المهاجرين الذين وفدوا على مقدونيا الدنيا كانت تجمعهم صلة قرابة. وقاد الانتقال إلى المناطق الشرقية بعض المكدونيين، بقيادة عشيرة تسمى الأرغية، إلى السهل الساحلي على الشاطئ الغربي للخليج الثيرمي، ويوما بعد يوم بسط الوافدون الجدد سيطرتهم على المنطقة الممتدة شمال جبل الأوليمب إلى رأس الخليج؛ أما الجماعات الأخرى فظلت تسكن العديد من المناطق الأخرى الأبعد من ذلك شمالا وغربا، التي كانت منفصلة بعضها عن بعض كما رأينا بفعل المعالم الطبيعية التي تميز جنوب إقليم البلقان. لكن استنباط شواهد من طبيعة لغات هذه الجماعات يظل أمرا صعبا.
تزداد مسألة اللغة والإثنية تعقيدا بما أن الشواهد على الإثنية المقدونية تأتي في المقام الأول من مصادر إغريقية، ولم تكن هناك رؤية إغريقية موحدة. الأكثر من ذلك أن تصور الإثنية المقدونية تغير على مر الزمان؛ إذ تغير الأساس السابق لتعريف الهوية الإغريقية على أساس الإثنية والانتساب إلى جد مشترك مفسحا المجال أمام المعايير الثقافية. علاوة على ذلك، كان حكم أي كاتب على انتماء المقدونيين إلى أصل إغريقي يعتمد على المعايير التي ينتقيها هذا الكاتب بعينه. وفي ضوء الشواهد الإشكالية في كل فئة من فئات الأدلة، لا نستغرب أن للنقاش حول «المسألة المقدونية» تاريخا طويلا ولم يوجد له حل.
وإذ نضع هذا التضارب في اعتبارنا، من المهم أن نقدر كلا من القربى والاختلافات مع الإغريق في فهم الإسكندر وعالمه. لقد تغلغلت التأثيرات الثقافية الإغريقية بدرجة متزايدة في التقاليد المقدونية حتى من قبل أن يضم فيليب اليونان إلى ملكه؛ ومن ناحية أخرى، فإن «آخرية» مقدونيا في نظر الإيجي الإغريقي تلعب دورا كبيرا في مسيرتي فيليب وابنه، وسوف نستجلي مسألة الروابط المقدونية باليونان على نحو أكثر استفاضة في الفصل الرابع. (2) إنشاء مملكة من مجموعة من القبائل
يوحي استخدام كلمة «مقدونيا» الأحادية بوجود كيان موحد، وهذا استنتاج غير دقيق فيما يخص جزءا كبيرا من تاريخ هذه المنطقة القديم، إن لم يكن معظمه؛ فلم تتسع السيطرة اتساعا كبيرا فيما وراء السهل الأوسط المطل على الخليج الثيرمي ببحر إيجة إلا في عهد فيليب الثاني، وسرعان ما تقوضت تلك الوحدة في إطار التنافس على السيطرة بعد موت الإسكندر. وعلى الرغم من نجاح الملوك السابقين على فيليب في إضافة أراض إلى الشمال من المستوطنة الأولى الصغيرة التي استوطنها المكدونيون في بيريا، فقد شهد استحواذهم على السلطة تحديا مستمرا وشديدا من كل الاتجاهات.
ويخص أقدم تأريخ موثوق فيه وصل إلى أيدينا حكم الملك أمينتاس الأول (540-498 قبل الميلاد)، الذي أقر له بالملك حتى الملوك الفرس فأقاموا علاقات دبلوماسية معه. لكن العلاقة لم تكن علاقة بين ندين متساويين، والواقع أنه يجوز تماما وصف مملكة مقدون بأنها كانت خاضعة للسلطة الفارسية أثناء تلك الفترة، حتى ولو لم تخضع رسميا تحت سيطرتها كولاية فارسية (مرزبة) أو إقليم. بعد ذلك بسنوات استغل أحشويرش مقدونيا كنقطة انطلاق لانقضاضته على الدول الإغريقية في 480-479. وعلى نحو ينطوي على شيء من التناقض، ربما يكون إعلاء مكانة التحالف الفارسي هو الذي سمح لأمينتاس بأن يضوي إيليميا وأوريستيس ولينكيستيس وبيلاجونيا تحت لواء تحالف اسمي مع مقدونيا. وأما ابنه وخليفته الإسكندر الأول، الذي يصفه هيرودوت بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والقوة، فاستطاع ضم إقليم إضافي جهة الغرب تلقاء جبال بيندوس ويمتد شمالا بمحاذاة نهر أكسيوس، عند رأس الخليج الثيرمي، أثناء حكمه الممتد من 498 إلى 454. يصف ثوكيديدس، في معرض وصفه الحرب البيلوبونيزية في الثلث الأخير من القرن الخامس، اللنكستيين والإيليميين وغيرهما من الإثنيات في عمق الإقليم كرعايا للمقدونيين وحلفاء لهم (الكتاب الثاني، 99، 2). تعزى أيضا إلى الإسكندر الأول بعض الابتكارات المهمة في تكتيكات المشاة وعلاقة جنود المشاة بالملك المقدوني. كان الإسكندر قد شهد نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة القوات الفارسية، وكانت مقدون يقينا في حاجة إلى قوة عسكرية قوية لبناء التحالف ثم الحفاظ عليه، ولدرء الجيران الآخرين العدوانيين، وللتصدي للأطماع الإغريقية المتزايدة، وخصوصا أطماع أثينا، في شمال المنطقة الإيجية أثناء عهد الإسكندر الأول وما بعده.
صفحه نامشخص
لدى موت الإسكندر الأول، تنازع على خلافته أبناؤه الكثيرون، وهذه واقعة متكررة في مقدون في القرنين الخامس والرابع، بل أثناء الفترة الهلنستية أيضا بعد موت الإسكندر الأكبر. نجح بيرديكاس الثاني في وراثة العرش، لكن هذا لم يحدث إلا بعد القضاء على اثنين من إخوته، وربما أبناء أحدهما، وامتد حكمه إلى 414 / 413، وتجسدت أثناء هذا الحكم كل التهديدات المحتملة السالفة الذكر. والحقيقة أن بيرديكاس عانى من أطماع أكبر حتى مما عرفها أبوه من جانب الجهات الخارجية في الإقليم المقدوني والموارد المقدونية، وهو ما يعزى إلى حد كبير إلى الوضع في اليونان؛ حيث تصادفت بداية حكمه مع تحويل التحالف الطوعي بين الدول الإغريقية بزعامة أثينا إلى حلف إجباري. أسفر هذا التحويل بدوره عن انقسام متزايد بين الدول الإغريقية، أدى إلى 27 سنة من الحرب الأهلية (431-404) بين أثينا وحلفائها/رعاياها من ناحية، وإسبرطة كزعيم للحلف البيلوبونيزي من ناحية أخرى.
كان موقع مقدونيا الاستراتيجي ومواردها من الخشب اللازم لبناء السفن والأسلحة حيويين لكلا طرفي الصراع الإغريقي. أسس الأثينيون حضورا دائما في أمفيبوليس على أسافل نهر سترايمون سنة 437. واستجاب الإسبرطيون لطلبات المساعدة من بيرديكاس الثاني في نضاله ضد الغزوات التراقية في إقليم أكسيوس. وانتهزت مملكة لنكستيس الكونفيدرالية الفرصة لكي تنفصل عن الائتلاف المقدوني الهش وتصبح أقوى دولة قبلية في المنطقة أثناء النصف الثاني من القرن الخامس. وأثبت اللنكستيون، في عهد ملكهم أرهابايوس، أنهم جيش قوي في مواجهة جيش موحد يتألف من المقدونيين بزعامة بيرديكاس والقائد الإسبرطي براسيداس على رأس قوة قوامها 3 آلاف من المشاة الثقيلة وألف من الفرسان، بالإضافة إلى قوة من الجنود الخالكيذيكيين. وعلى الرغم من هذه المشكلات العويصة، ظل قلب المملكة المقدونية دون مساس.
استفاد ابن بيرديكاس وخليفته أرخيلاوس (414-400 / 399) من التطورات الحادثة في اليونان، التي حولت اهتمام الدول المنافسة إلى أجزاء أخرى من المنطقتين المتوسطية والإيجية، وينسب إليه الفضل في تقوية قلب المملكة بإنشاء حصون حدودية لحماية سلامة أراضيها، وطرق تربط أجزاءها بعضها ببعض. ربما كان أرخيلاوس أيضا مسئولا عن إنشاء مدينة على أبواب نهر أكسيوس، وعن إنشاء برج مراقبة داخل سور دائري ضخم فوق تل شديد الانحدار على الضفة المقابلة. كما أن له مساهمة أخرى كبيرة هي نشر الثقافة الهيلينية في العاصمة المقدونية؛ فمثلما كان الإسكندر الأول يستضيف الشاعرين الغنائيين الإغريقيين بندار وباكيليديس، وكان بيرديكاس الثاني يتلقى زيارات من أبقراط والشاعر ميلانيبيديس، كان أيضا من بين مشاهير الزوار في زمن أرخيلاوس الشاعران الأثينيان يوربيديس وأجاثون، والرسام زيوكس، والموسيقار والشاعر الغنائي تيموثيوس، ودعي سقراط إلى زيارة بيلا لكنه رفض على أساس أنه لا يستطيع رد واجب الضيافة. كان هذا الحاكم الأرغي أول مقدوني يفوز بإكليل في سباقات الكدريجة (عربة تجرها أربعة خيول) في أوليمبيا سنة 408 قبل الميلاد. وسع أرخيلاوس أيضا المستوطنة الموجودة في بيلا، التي صارت العاصمة أثناء حكم فيليب الثاني إن لم يكن قبل ذلك. جاءت نهاية أرخيلاوس ومساعيه على يد نبيل مقدوني حانق قتله، تاركا وريثا طفلا. وفي العقود الأربعة التي تلت ذلك، تمكنت المملكة بمشقة من النجاة من التحديات الداخلية والخارجية التي واجهت حكامها السبعة أو الثمانية خلال تلك الفترة.
في أقل من عقد من الزمن، تنقل العرش بين أبناء ثلاثة أفرع من السلالة الأرغية؛ ففي البداية، اعترف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس ملكا على البلاد، مع تولي أيروبوس - ربما كان عمه - منصب الوصي على العرش؛ ثم صار أيروبوس نفسه ملكا لمدة أربع سنوات بعد أن تخلص من ابن أخيه. وبموته، حكم البلاد أمينتاس الثاني الذي ينتمي إلى فرع الإسكندر الأول لفترة وجيزة إلى أن قتل على يد درداس الإيليمي في مقدونيا العليا، فخلفه على العرش بوسانياس، أحد أبناء أيروبوس، لبضعة أشهر إلى أن أزيح بتهمة الخيانة. لا تهم الأسماء بقدر ما يهم التعاقب على الحكم وما صاحبه من تآمر وقتل؛ فكون الشخص أكبر أبناء الملك الأرغي الحاكم لم يكن ضمانة لوراثته أباه وراثة سلمية، وإن نجح الشخص في اعتلاء العرش والمناداة به ملكا، فليس في هذا ضمانة لبقائه على العرش طويلا أو بلا منازع.
كان أحد أبناء فرع أمينتاس - يمتد نسبه إلى الإسكندر الأول - قد تمكن من النجاة من الصراع على السلطة، وصار ملكا للبلاد متخذا لقب أمينتاس الثالث سنة 393. وعلى الرغم من استمرار عهده حتى 370 / 369، شابته القلاقل الداخلية والخارجية. دفع اجتياح إليري لمقدون سنة 388 / 387 أمينتاس إلى التخلي عن العرش، فتولى الحكم في هذه الأثناء ولفترة وجيزة شخص يسمى أرغايوس، وربما كان أحد أبناء الملك أرخيلاوس. وبمساعدة الإغريق التيساليين في حملة دامت ثلاثة أشهر، استعاد أمينتاس الملك في 387 / 386. وبالإضافة إلى الغزاة الإليريين، واجه اجتياحا على أيدي الإغريق من مدينة أولينثوس في شبه جزيرة خالكيذيكي في 383 / 382، وهي الحملة التي أسفرت عن الاستيلاء على بيلا؛ فاتجه أمينتاس إلى إسبرطة لإقامة تحالف وطلبا للعون في الصراع بين مقدون وأولينثوس، الذي لم يحل حتى حكم فيليب الثاني.
ينسب الفضل إلى أمينتاس مرتين: أولاهما لقدرته على البقاء في السلطة في مثل هذه الظروف، والأخرى لذريته؛ إذ أنجب الإسكندر الثاني الذي خلفه لمدة سنتين (369-368)، وبيرديكاس الثالث الذي صمد لنحو سبع سنوات (368-359)، وفيليب الثاني الذي أسس مملكة مقدونيا الضخمة خلال حكمه الذي دام 23 سنة (359-336). واجه الإسكندر الثاني حربا أهلية في الديار، وجر إلى الأحداث الإغريقية المستمرة في تيساليا المجاورة، ومات قتيلا، فخلفه أخوه الذي يصغره بيرديكاس الثالث، مع وجود وصي على العرش مارس السلطة لعدة سنوات. بالإضافة إلى التهديدات الداخلية لسلطة بيرديكاس، كانت أهم التهديدات الخارجية التي تطلبت قيادته الأنشطة الأثينية في شمال منطقة بحر إيجة، وغزوات الإليريين الذين كانوا يزحفون بنجاح من منطقة البحر الأدرياتي. ثم هلك ومعه نحو 4 آلاف مقدوني في ميدان المعركة في 360 / 359 في إطار تصديه لتهديد الإليريين.
نظرا للتاريخ الحافل بالمنافسة على السلطة السالف الذكر، ربما كانت هوية الشخص الذي سيختار خليفة غير يقينية. كان لبيرديكاس ابن صغير ربما أعلن ملكا، وكان له أيضا أخ وهو فيليب الثاني، وكان من بين المنافسين الآخرين بوسانياس وأرغايوس من فروع أرغية أخرى، وكلاهما سبق أن ولي الملك فترة وجيزة في تسعينيات ذلك القرن وأوائل ثمانينياته على الترتيب. بعد التعامل مع بوسانياس وأرغايوس، ربما وقع الاختيار على فيليب كوصي على عرش ابن أخيه القاصر، أو ربما أعلن ملكا في حد ذاته. ثمة نقاش حافل يحيط بهذه المسألة، لكن ما يهمنا هو المحصلة؛ حيث صار فيليب الثاني الزعيم التالي للدولة المقدونية الهشة. وإليكم الكلمات القوية التي كتبها تشارلز إدسون:
كانت لحظة الكارثة واليأس تلك هي التي شكلت من الشعب المقدوني أمة. صار بمقدور جميع عناصر المجتمع آنذاك أن تدرك أن مجرد البقاء يتوقف على الطاعة الإرادية للسلطة الملكية ... يظل صعود مقدونيا الفائق السرعة إلى مرتبة قوة عظيمة في ظل سماحة حكم أخي بيرديكاس الأصغر، فيليب الثاني الشهير؛ مثالا حيا على الاستجابة الشجاعة والناجحة للضغوط الخارجية التي يبدو أنها لا تقهر. (1970: 43)
لم يستطع فيليب أن يظل سمحا باستمرار في محاولة استعادة سلامة أراضي المنطقة الشاسعة، التي كتب عنها ثوكيديدس يقول: «الكل بأكمله يسمى مقدونيا» (الكتاب الثاني: 99، 6). كان جزء كبير من ذلك الكل في مقدونيا العليا قد انفصل عن التحالف الذي أقامه الإسكندر الأول أو الذي طالب آخرون، كالإليريين والتراقيين والإغريق، بأحقيتهم فيه. واجه فيليب أيضا منافسة على السلطة من خمسة مطالبين بها، وكانت مهمته الأولى لكي يقود جيشا هي اكتساب الشرعية، ومعنى هذا باختصار التعامل مع المنافسين وترسيخ حقه في القيادة؛ فأبرم في تلك الأثناء معاهدات بدلا من خوض حروب مع الملك الإليري والشعب الأثيني، وبحلول عام 358، كان فيليب قد استبدل بالعمل العسكري الدبلوماسية في تعاملاته مع القوى الخارجية؛ إذ أدت حملة ناجحة في إليريا، أعقبها زواج بابنة الملك الإليري المهزوم، إلى تخفيف وطأة ذلك التهديد، على الأقل مؤقتا، واستهل اجتياح تيساليا وزواجه بامرأة من عائلة تيسالية نبيلة ولوج مقدونيا إلى الشئون الإغريقية. وفي السنة التالية تمخض تحالف - عززه من جديد الزواج بابنة الملك - عن روابط مقدونية قوية مع إبيروس. وأقرب من ذلك إلى قلب مقدونيا، أنه أعيد توحيد مقدونيا العليا مع المملكة سنة 358، وبدأ فيليب يستخدم القوة في محاولة لعرقلة الوجود الإغريقي، وخصوصا الأثيني، في الأرض الواقعة شمال غرب بحر إيجة. وفي عام 357، هاجم مستوطنة أمفيبوليس الأثينية المجاورة لنهر سترايمون واستولى عليها، تلك المستوطنة التي ظلت شوكة في الجنب المقدوني الشرقي لمدة 80 سنة.
اتبع فيليب طوال حكمه خطة تحالف مماثلة يتممها الزواج والدبلوماسية والحملات. كانت القوة العسكرية عنصرا أساسيا في أي أمل في النجاح؛ ومن ثم، على الرغم من تعذر تحديد التواريخ الدقيقة للتطورات، فالأرجح أن إعادة بناء وإصلاح الجيش الذي دمر سنة 359 كانت من أولويات فيليب العاجلة. كان قد حظي برؤية الإصلاح الكبير الذي أدخلته مدينة طيبة اليونانية على تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس» رأي العين، بينما كان رهينة في طيبة (367-364) في مستهل شبابه (بين 15 و18 سنة من عمره). وتتجلى أهمية هذه المعرفة في نجاحها في مساعدة طيبة على إنشاء إمبراطورية خاصة بها بعد هزيمة الجيش الإسبرطي سنة 371، وكان حتى ذلك الحين صاحب اليد العليا. ونناقش التغيرات التي طرأت على الجيش المقدوني مناقشة أتم في وصف ميراث الإسكندر من فيليب في الفصلين الثالث والخامس، بينما سنكتفي هنا ببيان ملامحه الرئيسة، كإنشاء قوات مشاة أخف حركة ومسلحة برماح أطول، والتوسع في الخيالة، وإنشاء سرايا خاصة من المشاة الخفيفة والخيالة الخفيفة، وتطوير آلات للحصار. ومع اتساع رقعة المملكة، سواء أكان ذلك من خلال الفتوحات أم التحالفات، توافر المزيد من الجنود. وبالاستخدام الكفء للموارد، تسنى لهم الوجود دائما في الميدان، سواء في حملات أم لأغراض التدريب.
صفحه نامشخص
خدم فيليب قضيته لكنه استفاد أيضا من أفعال أعدائه ومواقفهم، وكان العون الذي قدمه له أعداؤه هو التفرق؛ فباستثناء التحالفات التي كانت تنطلق من مقدونيا بمعدل متزايد، لم يكن يوجد إلا قليل من الوحدة بين مختلف شعوب البلقان أو التراقيين أو الإغريق، الذين كانت الحرب فيما بينهم ضد بعضهم بعضا حقيقة من حقائق الحياة. أدرك فيليب الصراعات الداخلية واستغلها لمصلحته في توسيع نطاق نفوذه بدرجة أكبر جنوبا في اليونان، وشرقا ضد الدول الإغريقية في شبه جزيرة خالكيذيكي، ثم داخل تراقيا وصولا إلى البحر الأسود، وغربا إلى شاطئ البحر الأدرياتي، وشمالا في بلاد البلقان.
ظلت تيساليا والدول الخالكيذيكية تشغل باله خلال عقد الخمسينيات. وبحلول سنة 352، كانت الحملات التي جردت في تيساليا قد حققت نجاحا كافيا، وإن لم يكن نصرا كاملا، لدرجة توليه منصب «تاجوس» التيسالي، بمعنى قائد القوات العسكرية التابعة لمناطق تيساليا الأربع جميعها. أدى استيلاء فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة 348، وما تلا ذلك من تدمير لتلك المدينة، ربما بالإضافة إلى 30 مستوطنة أخرى؛ إلى ضم خالكيذيكي فعليا إلى المحيط المقدوني. وبما أن الإغريق الجنوبيين، وخصوصا الأثينيين، كانوا ناشطين في شمال بحر إيجة؛ آذن عمل فيليب فعليا بمواجهة مستمرة مع المدن الإغريقية الكبرى. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الإغريق الأقصاء يقدرون قوة الجيش المقدوني، الذي كان يمكن استخدامه لخدمة قضية أحد الطرفين في الحروب التي لا تنتهي بين الدول-المدن الإغريقية أينما وجدت.
شهد النصف الأخير من القرن الرابع استمرارا للحرب الأهلية المدمرة بين أثينا وإسبرطة وحلفائهما من 431 إلى 404. وفي عدد لا نهائي من محاولات التسيد من جانب الدول الكبيرة والصغيرة على السواء، انتقل المشاركون من مراكز السلطة إلى وضع الرعايا المهزومين. وفي تلك الأثناء صار الأعداء السابقون حلفاء، وخرج الحلفاء السابقون إلى الميادين بعضهم في مواجهة بعض. وبينما كان الإغريق يحارب بعضهم بعضا، كان انتباههم أول الأمر مصروفا عن مقدونيا، وفيما بعد اتجهوا إلى فيليب وجيشه كأداتين في إطار جهودهم، فاستغل فيليب هذا الموقف ببراعة، وعندما دعي إلى تسوية الحرب المستعرة بين فوكيس والدول الأخرى في وسط اليونان، لبى الدعوة؛ فهزمت فوكيس سنة 346 واكتسب فيليب منصبا رسميا آخر، وهو عضوية المجلس الحامي لحرم دلفي.
لم يكن بوسع فيليب تجاهل الأعداء التقليديين الآخرين، فسارت الجيوش المقدونية ضد الإليريين في الشمال، وزحفت إلى إبيروس في الغرب وعبر تراقيا ثم سكيثيا في الشرق. أبرمت اتفاقيات جديدة، كالتحالف الذي أقيم مع ملك جيتاي، الذي كان يسكن المنطقة الواقعة بين تراقيا والدانوب، وأنشئت مستعمرات جديدة. وأما مع جنوب اليونان، فلم تكن العلاقات عسكرية، على الأقل مؤقتا. أرسل فيليب السفراء واستقبلهم، وخصوصا إلى أثينا ومنها، وساند العناصر الموالية للمقدونيين في مختلف أصقاع اليونان، فدعيت دولتا ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، على سبيل المثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.
على الرغم من هذه الدبلوماسية، كان الخوف من نوايا فيليب في ازدياد، ومن جديد كان هذا سائدا بالأخص في أثينا، التي كانت مصالحها في البحر الأسود معرضة للهجمات المقدونية. لكن المواجهة ستجر أرجل دول أكثر من مقدون وأثينا، ولن يكون مكانها في بحر بروبونتيس. بدلا من ذلك، عندما اشتعل فتيل الحرب في وسط اليونان مجددا في مطلع ثلاثينيات القرن الرابع، قاد فيليب المقدونيين عائدا بهم إلى اليونان كملك مقدوني ومسئول إغريقي في آن واحد. تمخض القلق المتنامي إزاء نوايا فيليب النهائية عن قيام تحالف بقيادة أثينا وطيبة، مع مشاركة حلفاء طيبة البيوتيين وفرق عسكرية من الدول الآخية، وفي موقع خيرونية في بيوتيا التقى ما بين 30 و35 ألف جندي إغريقي عددا مقاربا من المقدونيين بقيادة فيليب على رأس الجناح الأيمن، وابنه الإسكندر - الذي كان يقود الخيالة - على رأس الجناح الأيسر. كان النصر المقدوني حاسما، وفر الناجون من الإغريقيين إلى ديارهم على أمل الانتقام.
بدلا من الانتقام، سويت شئون الدول الإغريقية بتأسيس الحلف الكورنثي لأغراض هجومية ودفاعية، وانضم إليه الجميع باستثناء حليف بارز هو إسبرطة. ولغياب إسبرطة عن الحلف دلالته؛ إذ إن وجود الدولة - التي كانت ذات يوم الأعلى كعبا من حيث المشاة الثقيلة بين كل دول اليونان - لم يعد ضروريا لتسيير أمور مملكة صارت رقعتها بحلول سنة 336 تمتد من إليريا في الشمال الغربي إلى ساحل البحر الأسود الغربي في الجنوب الشرقي، ومن جنوب البلقان في الشمال إلى البر الرئيس الإغريقي في الجنوب. وتقدر الرقعة الجغرافية للملكة بمساحة 16680 ميلا مربعا (43210 كيلومترات مربعة)، كان أكثر من 12000 ميل مربع (31500 كيلومتر مربع) منها مملوكا فعليا، و4500 ميل مربع (11710 كيلومترات مربعة) منها تحت السيطرة المباشرة. في نهاية الحرب البيلوبونيزية كانت المساحة قد صارت 8400 ميل مربع (21750 كيلومترا مربعا)، بينما كانت أثناء حكم الإسكندر الأول 6600 ميل مربع (17200 كيلومتر مربع). كان أعضاء الحلف ينتمون إليه بالفتح، وبالتحالف الذي يعززه الزواج بالملك المقدوني، وبالاجتماع على أهداف مشتركة يجري التخطيط لها في اجتماعات مجلس المندوبين الموفدين من لدن جميع الأعضاء. في قلب كل حلقة كان هناك فيليب الثاني، الذي كان يتشعب بطرق مختلفة وفي اتجاهات متنوعة انطلاقا من عاصمته في بيلا. •••
لم يكد النظام الجديد يبدأ حتى اغتيل فيليب سنة 336. وما يبرهن على صحة تخطيط فيليب أن ابنه وخليفته الإسكندر الثالث استطاع إعادة تأكيد ترتيبات أبيه أثناء السنتين الأوليين من ملكه. قامت ثورتان؛ إحداهما في إليريا، قاد إليها الإسكندر جيشه المقدوني سنة 335، والأخرى في اليونان حيث تمحورت حول طيبة. فتعامل الملك الجديد مع كلتيهما بسرعة وفعالية، فدمرت طيبة. كانت مملكة مقدونيا تحت السيطرة، وكانت الأوضاع على حدودها الشمالية قد استتبت عندما استهل حملته ضد الفرس سنة 334.
غير أنه من المهم أن نتذكر أن التوحيد كان حديث عهد، وأن التوترات لم تتواصل فحسب بل اشتدت في خضم إنشاء المملكة المترامية الأطراف، التي اتسعت في عهد فيليب اتساعا كبيرا في رقعتها الجغرافية وتعداد سكانها، حتى صارت آنذاك تضم فئات كثيرة من البشر وحدتها الفتوحات أو التحالفات بعد أن كانت كيانات منفصلة تفرق بينها معالم الأرض الطبيعية والثقافة على حد سواء. كان معظم هذه الفئات، إن لم يكن كلها، يحن إلى استقلاله، وستظل الحركات الانفصالية التي كانت مشكلة تواجه الحكام الأرغيين الأوائل تقض مضجع الإسكندر. علاوة على ذلك، كانت أنماط الحياة لا تزال متباينة في عموم المملكة؛ إذ كان الرعي المترحل هو النشاط السائد في بعض المناطق، وكانت الزراعة المستقرة تشغل اهتمام معظم الناس في بعضها الآخر. وقد لاقى الرعاة والمزارعون على امتداد معظم التاريخ صعوبة في استيعاب أحدهما الآخر. كانت الاختلافات الإقليمية تتمخض عن توتر آخر؛ إذ تعرضت مواقع معينة لتشكيلة من الشعوب الأخرى، فساد التأثير البلقاني والصراع المحتمل في مقدونيا العليا، وأما على امتداد الخليج الثيرمي فتعرض المقدونيون للتأثير والاجتياح الإغريقي والتراقي.
كان معظم الملوك الأرغيين قد سعوا دأبا إلى إدماج عناصر من الثقافة الإغريقية؛ إذ برهن الإسكندر الأول في القرن الخامس على حقه في المشاركة في الألعاب الأوليمبية، وجلب أرخيلاوس بضائع ورجالا إغريقا إلى عاصمته في آيجي وأقام دورة ألعاب في ديون، واعتمد فيليب الثاني على الابتكارات الإغريقية كالإصلاح العسكري الطيبي، وكذلك على البضائع وعلى الأشخاص مثل أرسطو. عزز فيليب أيضا روابطه باليونان بإحراز ثلاثة انتصارات في الألعاب الأوليمبية في السنوات 356 و352 و348. كان هذا الاقتراض الثقافي عمليا من منظور معين، لكنه كان سببا للصدام من وجهة نظر أخرى. والراجح أن كثيرين من رعايا أرخيلاوس وفيليب لم يكونوا راضين بالكلية عن «أغرقة» الثقافة المقدونية. ومع قيادة الإسكندر جيشه وزحفه شرقا أكثر فأكثر، واجه ما يعرف شيوعا باسم ردود الأفعال المقدونية ضد ممارساته غير المقدونية المكتسبة حديثا.
كان توسيع المملكة قد تطلب قدرا أكبر من المركزية، وكانت هناك مراكز تأسست من قبل (في آيجي وبيلا)، لكن تعين اتخاذ المزيد من الخطوات مع ضم أقاليم جديدة إلى المملكة؛ فوسعت المراكز القائمة، وأقيمت حصون ومستعمرات كلما اتسعت حدود المملكة، وتعين شق طرق لربط المناطق. كان لزاما أيضا وجود قوة عسكرية كبيرة مرنة، ومع امتداد جهود فيليب إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود، تعين إقامة قوة بحرية. كانت كل هذه التطورات تحتاج إلى موارد، وكانت هذه الموارد موجودة يقينا، لكن تعين آنذاك قيام سلطة مركزية على أمر إنتاجها بكميات كافية واستغلالها، وتطلبت تلك المركزية بدورها توسيع الأجهزة الإدارية فيما وراء هيكل السلطة المقدونية الأصلي البسيط نوعا ما. حتى الإنشاء الفعلي لهذه الأجهزة كان من الجائز تماما أن يثير نفور العناصر المحافظة من السكان، وخصوصا العائلات النخبوية الأخرى.
صفحه نامشخص
وأخيرا كانت هناك توترات مستمرة في قلب الدولة، وتحديدا داخل السلالة الأرغية الحاكمة. كان عدد من الفروع الجانبية قد تفرع من الأسرة بحلول القرن الرابع، وعلى الرغم من أن الملك كان ينتقل من الأب إلى الابن، كان من الجائز أن ينتقل - كما في حالة وفاة أرخيلاوس التي أسلفنا بيانها - من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر أو إلى أحد فروع العائلة الجانبية؛ فأبو فيليب نفسه، وهو أمينتاس الثالث، كان ينتمي إلى فرع جانبي من فروع السلالة. كانت الأحقية بالملك تتعرض للطعن دوما لدى موت الملك الحالي.
خلاصة القول أنه مع التوسع الذي كان مثار الإعجاب وأواصر المركزية داخل المملكة، ظلت المملكة هشة وعرضة دائما للتهديدات الآتية من وراء حدودها. (3) طبيعة الحياة في مقدونيا القرن الرابع قبل الميلاد
عندما عنف الإسكندر رجاله على نكرانهم الجميل سنة 324، كان يصف التغير الهائل في طبيعة الحياة في مقدونيا على عهد أبيه.
تولى فيليب أمركم وكنتم رحلا لا تملكون موارد، وكان معظمكم يرتدي الجلود، ويرعى قليلا من الغنم على جانب الجبل ولا يحسن القتال لحماية نفسه في مواجهة الإليريين والتريباليين والتراقيين على حدودنا، فأبدلكم بجلود الحيوانات أردية كاسية، وأنزلكم من الجبال إلى السهول، وجعل منكم محاربين أولي بأس في مواجهة الجيران البرابرة، حتى يمكنكم الاعتماد على أنفسكم بدلا من الأمن الذي يوفره إقليمكم. جعل منكم سكان مدن، وسن قوانين وأعرافا نافعة. وعلى البرابرة الذين كانوا يحكمونكم وينهبونكم ذات يوم جعلكم سادة لا عبيدا لهم ولا رعايا. (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2-3)
لو قبلنا بصحة هذا التوبيخ، يكون فيليب هو الذي حول المقدونيين من الهيئة البربرية إلى الهيئة المتمدنة. وتستدعي الشواهد، على الرغم من ضآلتها، بعض التعديل لفجائية عملية التمدين؛ إذ يمكن تتبع تاريخ عملية مستمرة قوامها التحول إلى الاستقرار وسكنى الحضر في تيساليا ومقدونيا وإبيروس إلى نهاية العصر البرونزي وحتى القرن الرابع قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن جهود فيليب حفزت هذه العملية بشدة، كانت حياة القرية قد اتسعت قبل ذلك في أجزاء من مقدونيا، وخصوصا المناطق الواقعة في مقدونيا الدنيا المتأثرة بالمستعمرات الإغريقية التي أنشئت قبل ذلك في العصر الحديدي، وبدأت تتكاثر عددا في القرن الثامن وما تلاه. كانت القرى صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان على حد سواء في معظم مناطق مقدونيا، وكانت المواقع التي تزيد على نحو 7,5 إلى 10 آكر (3-4 هكتارات) نادرة في غربي مقدونيا. على النقيض من ذلك، كانت بيلا أكبر مستوطنة، وبمساحة 74 آكر (27 هكتارا) مع أكروبول على مساحة 4,5 آكر (1,8 هكتار).
تباينت أيضا الوظائف والأشغال بين المناطق؛ إذ كانت الزراعة بالإضافة إلى تربية المواشي وسيلة كسب الرزق للكثيرين في المناطق ذات السهول الخصيبة، أما المناطق الواقعة في النجود والمرتفعات فكان يكثر فيها الرعي المترحل كسبيل للعيش، وهذا هو صنف العيش الذي يذكره آريانوس من خلال خطاب الإسكندر في رجاله. كانت موارد تلك النجود ذاتها تشجع على القنص وصيد الأسماك، ومع ازدياد الطلب على الخشب المقدوني، احتاج حصاد منتجات الغابة إلى أيد عاملة من السكان. اشتغل آخرون باستخراج الموارد المعدنية؛ إذ يسجل هيرودوت أنشطة تعدين من زمن الإسكندر الأول، منوها إلى منجم كان ينتج كل يوم وزنة من الفضة لذلك الملك (الكتاب الخامس، 17). كانت الحرب - وهي كما رأينا حاجة مستمرة - مهنة أخرى اعتيادية يمتهنها الذكور البالغون، وتبين الحسابات المستندة إلى عدد المقدونيين الأحرار معين الرجال الذي كان يمكن تعبئته:
قبل حكم فيليب:
80 ألفا-100 ألف
أثناء حكم فيليب:
160 ألفا-200 ألف
صفحه نامشخص
أثناء حكم الإسكندر:
240 ألفا-300 ألف
يقدر عدد السكان في زمن فيليب بسبعمائة ألف نسمة، مقارنة بمائتين وخمسين ألف نسمة قبل ذلك بما يزيد عن قرن بقليل.
استخدم بعض أثينيي القرن الرابع ألفاظا قاسية لوصف المقدونيين. وسبق أن ذكرنا رأي الخطيب الأثيني ديموستيني، الذي قال إن فيليب بربري من مكان مهين (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، 4)؛ أما التقييمات الحديثة فهي أرفق بوجه عام. ولعل خطبة ديموستيني، التي وظفت لتحريض الأثينيين ضد فيليب، كانت تضمر تقييما شخصيا؛ لأن فيليب - بحسب وصف أحد معاصريه - كان «أعظم الرجال موهبة» (إيسخينيس، «عن السفارة» 2، 41). كان سيحتاج إلى مواهب خاصة ليتعامل مع مقدونيا، التي كانت تتسم بسمات المجتمع الحدودي الخشن المشاكس. وتتحدث المصادر المكتوبة عن ممارسة الثأر، وضرورة أن يقتل الرجل عدوا قبل أن يتسنى له استبدال جلد حيوان بالرسن الذين يرتديه، وأن يقتل خنزيرا بريا برمح دون استخدام شبكة قبل أن يتسنى له الجلوس في الندوات (كان كلاهما على الأرجح من طقوس البلوغ والمنزلة الاجتماعية)، والولع بصيد الحيوانات البرية، والرقصات التي تحاكي سرقة المواشي، وتمثيل معركة صورية في حفل افتتاح موسم الحملات العسكرية، وحفلات الشراب التي كان يمكن فيها أن تتسبب الخمر الصرفة في موت شاربها. ألف الشاعر يوربيديس مسرحيته «الباخوسيات» أثناء إقامته في العاصمة المقدونية؛ ومن ثم يعتقد أنه استلهم جو هذه التراجيديا من طبيعة الحياة المقدونية . ربما يكفي أن نتذكر أن الجوقة مؤلفة من نساء هائجات من عبدة باخوس/ديونيسيوس، وإحداهن أم الملك، الذي لم يكن من عبدة ذلك الإله. تمزق النساء الملك الشباب إربا إربا ظنا منهن أنهن اصطدن حيوانا فارا يقدمنه قربانا للإله.
شكل 2-7: الرعي حرفة باقية، وخصوصا في النجود، كما هو الحال قرب جريفينا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
يجب أن نتذكر أن معظم شواهدنا مستمدة من روايات تاريخية غير مقدونية، فلا يوجد إلا القليل من الشواهد المقدونية المكتوبة، ويقينا لا يوجد عمل كتب له البقاء من وضع مؤرخين أو شعراء تراجيديين مقدونيين معاصرين لفيليب والإسكندر، لكن الشواهد المادية تشير فعلا إلى إرث فني راق. كان اكتشاف مدافن فيرجينا/آيجي الملكية، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع، دليلا مذهلا على هذا الرقي. يشتمل أحد هذه المدافن، وربما يخص فيليب نفسه، على غرفتين، تضم كبراهما أواني وأسلحة برونزية (من ضمنها درع برونزية تحمل تصميمات زخرفية مذهبة، مع شرائط من الذهب مثبتة رأسيا) مكدسة في أحد الأركان، مع مشغولات فضية تقبع في ركن آخر. وعثر في الغرفة الرئيسة على خمسة رءوس صغيرة منحوتة من العاج ومصورة تصويرا واقعيا، والأرجح أنها تعود لفيليب وأبويه وزوجته أوليمبياس وابنهما الإسكندر. أما التابوت الذي وضع فيه رفات المتوفى المحروق، فصنع من ذهب زنة أكثر من 24 رطلا. ويقبع بالقرب من الرأس تاج جميل مشغول من الذهب.
شكل 2-8: الثروة المعدنية: إكليل لبلاب ذهبي من مدفن أحد الذكور في مقبرة سيفاستي، تل باباس، إقليم بييريا، حوالي 350 قبل الميلاد. يوجد الآن في متحف الآثار في سالونيك. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
تشير الشواهد المادية، عند النظر إليها فيما يتصل بجهود الملك فيليب الثاني، إلى سمة أخرى «خفية» من سمات المجتمع المقدوني؛ فأي ملك، مهما كان ناجحا، يحتاج إلى ما هو أكثر من مجلس يتألف من عمداء العائلات الكبرى، وجمعية جيش تتألف من الجنود المقدونيين كافة، لكي يسيطر على مملكة كبيرة . وقد اكتسب الموظفون الإداريون والأجهزة الإدارية أهمية متزايدة مع اتساع رقعة المملكة وازدياد تعقيدها وقوتها في مواجهة الدول الأخرى المجاورة. قال البعض إن وظائف البلاط المقدوني الداخلية في الأزمنة الأولى تحولت إلى مناصب إدارية؛ ووفقا لهذا التفسير على سبيل المثال، ولي «الدايتس»، الذي كان ذات يوم مشرفا على طعام الملك، مسئوليات مالية إدارية.
عندما صارت المناطق التي كانت مستقلة سابقا أقاليم إدارية، احتاجت إلى إشراف، وفي بعض الأحيان إلى جمع الضرائب. كان يتعين الإشراف على موارد المملكة الطبيعية الأساسية تحت سيطرة مركزية، وكان التعامل مع الرسل وإرسال الرسل في المقابل يحتاجان إلى تنسيق. وكان يتعين إحلال الاستقرار في المناطق الحدودية، وصياغة المعاهدات، وإرسال الكشافة لاستجلاء الموقف في الأركان القاصية التي تحظى باهتمام فيليب. وما يدعو للأسف أنه لا يوجد لدينا دستور للمقدونيين، مقارنة بالدستور الذي وضعه أرسطو للأثينيين، ليكشف عن طبيعة الآليات التي برزت إلى الوجود لإدارة هذه المسئوليات. غير أن نجاح فيليب لم يكن ليتصور من دون نظام إداري كفء، وتدل إنجازات الملوك السابقين كالإسكندر الأول وأرخيلاوس على أن جذور ذلك النظام غرست قبل حكم فيليب بقرن على الأقل؛ ومن ثم فمن المنطقي أن نتصور أن المملكة المترامية أنتجت تنظيما ذا طابع رسمي أكبر، على الأقل في قلب هذه المملكة. (4) الإسكندر في سياق مقدونيا والمقدونيين
هدفنا فهم طبيعة الإسكندر الأكبر. فكيف تلقي معرفتنا بالأرض التي شهدت مولده وشبابه، وبالناس الذين ولي حكمهم سنة 336، وبالطريقة الحياتية المستقرة؛ الضوء على هذا الهدف؟
صفحه نامشخص
لعل الشيء الأكثر وضوحا هو الموارد الطبيعية التي كانت تحتوي عليها مقدونيا؛ أي معادنها وأخشابها وأمطارها وأنهارها وسهولها الخصيبة وأسماكها وطيورها وحيواناتها البرية. ذهب جاريد دايموند إلى أن سكان المناطق التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية يملكون ميزة كبيرة في إنشاء ثقافات ناجحة. لكن الهيمنة على هذه الموارد في مقدونيا لم تتأت دون مجهود جاد، وكما رأينا فإن طبيعة المنطقة المادية تمخضت عن أناس أشداء. كان استغلال الموارد الطبيعية والسكان، وإنشاء دولة مستقلة ثم صيانتها، يعني الهيمنة على الأراضي الجبلية والمياه الوفيرة الجارية في الأنهار الطويلة، وكل من هذه الجبال والأنهار كان يقسم المنطقة إلى قطع أصغر. كانت القدرة على تحويل هذه الملامح إلى مزايا ضرورية لبزوغ دولة فعالة، وسيعرف القائد الناجح أهمية هذه القدرة، ليس فيما يتعلق بالقوة الاقتصادية فحسب، بل أيضا فيما يتعلق بتحسين مهارة جيشه العسكرية. وسنمحص قيمة هذه القدرة في الفصل الأخير.
دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر عند أنهار؛ فكانت المواجهة الأولى عند نهر جرانيكوس، الذي عبره المقدونيون ثم ارتقوا الضفة المقابلة للاشتباك مع العدو. وفي المواجهة الثانية، وتحديدا في إيسوس، قاد الإسكندر قواته عبر نهر بيناروس للاشتباك مع الجيش الفارسي. وأوقع الهزيمة بالزعيم الهندي بوروس وجنوده على ضفاف نهر هايداسبيس (نهر جيلوم حاليا) المترع بمياه الأمطار الموسمية. وبعد ذلك النصر، شق المقدونيون طريقهم جنوبا على ضفاف نهر السند ثم استكشفوا مصبيه والخط الساحلي في قوارب أمر الإسكندر ببنائها لهذا الغرض. كانت المعرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجا ثانويا ثمينا من نواتج إرث الإسكندر المقدوني.
علمته مقدونيا أيضا أحسن تعليم كيف يتعامل مع الجبال، وهو ما كان ضروريا للحملة التي شنها في آسيا الوسطى؛ فبتعليمات من الإسكندر، استولى المقدونيون على قلاع يفترض أنها حصينة كسوقديانا في باخترا (آريانوس، الكتاب الرابع، 18، 5-19، 4) وصخرة أرونوس، وهي موقع اشتهر بصد محاولات هرقل (آريانوس، الكتاب الرابع، 30، 1-4).
كان الزعماء المقدونيون يثمنون قيمة من استطاعوا إنجاز هذه المآثر، وهم قلب قواتهم المسلحة. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدربون لصد الإليريين والتراقيين والإغريق والغارات الأخرى - المأمول التغلب عليهم - مفتاح سلامة أراضي المملكة. نشئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروف صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والملك الحكيم يقدر قيمة هؤلاء الجنود.
سيكون حريا به أيضا أن يقدر موقع مقدونيا الوسط؛ أي قربها من الآخرين ومواطن جذبها إياهم . كانت العزلة مستحيلة؛ ومن ثم فاكتساب دراية بالأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. وعلى نحو ما أسلفنا البيان، شاهد الإسكندر توسع رقعة مقدونيا وتفاعلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخس حديثا دار بين الإسكندر الصبي ورسل الملك الفارسي أثناء غياب الملك فيليب (الإسكندر، الكتاب الخامس، 1-3)، وعنيت أسئلته بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحولت إلى خلية للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وهكذا امتد عالمه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.
لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص يجب عليه التعامل مع ثقافات أخرى. ومن ناحية أخرى، المبالغة في البعد عن «طريقة الحياة المقدونية» كانت تنطوي على خطورة محتملة، ولتنظر إلى مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ فوفقا لرواية آريانوس، اغتم كلايتوس لتبني الإسكندر طرقا أجنبية، وفي مرحلة معينة عندما كان الثناء يكال للملك، أبدى رفضه ذلك الثناء، إيمانا منه بأن «أفعال الإسكندر لم تكن عظيمة ومعجزة إلى الدرجة التي كان يصفها بها البعض، وأنها لم ينجزها رجل واحد بمفرده، بل كانت في أغلبها أعمال المقدونيين» (الكتاب الرابع، 8، 4-5). بل أبدى بلوتارخس أيضا صراحة أكبر حين روى عن كلايتوس قوله بخطأ السخرية من المقدونيين في حضور البرابرة والأعداء؛ لأن المقدونيين يظلون رجالا أرقى بكثير من الأعداء الأجانب على الرغم من تفوق هؤلاء الأعداء على بعض المقدونيين (الإسكندر، 50). وقتل كلايتوس بسبب هذه الاتهامات على يد الإسكندر نفسه.
كان استخدام الموارد الطبيعية التي حبيت بها المنطقة يتطلب معرفة معينة وحكمة في تخصيصها، مثلما كان يتطلب التفاعل بين المقدونيين وغيرهم نوعا آخر من التوازن الدقيق من جانب الملك المقدوني.
الفصل الثالث
نسبه الأرغي
كان ملك مقدونيا مستقرا في أفراد سلالة واحدة وهي الأرغيون. وينتسب الإسكندر إلى ملوك أرغيين يمكن تتبع نسبهم بشيء من الدقة إلى أواخر القرن السادس. كان أبوه فيليب أرغيا، وانتمت أمه أوليمبياس إلى هذه السلالة بالزواج؛ ومن ثم كانت الصلة بالميلاد عاملا جوهريا في تحديد كل من يتولى عرش البلاد. كان منصب الملك ، بمجرد أن يضمن، يجلب مزايا غير متاحة للآخرين، لكنه كان يتمخض أيضا عن تهديدات خطيرة تحيق بالاحتفاظ بالسلطة. وإذ نستهل بتاريخ العشيرة الأرغية وطبيعتها، سنلتفت إلى الطريقة التي استعمل بها فيليب الثاني السلطة الملكية ودلالة إنجازاته لابنه وخليفته، ثم إلى الشق الآخر من نسبه؛ إذ بحلول زمن أمينتاس الثالث أبي فيليب، لم يكن دور الملكة الأم بالشيء الهين، ولم تكن أوليمبياس استثناء من هذا. (1) السلالة الأرغية
صفحه نامشخص
ينتمي الإسكندر، من ناحية أبيه، إلى السلالة الأرغية، وهي العشيرة الحاكمة للمكدونيين. ومع أن أمه أوليمبياس كانت إبيروسية، فلم يكن النسب من جهة الأم على ما يبدو عاملا يفقد ابن الملك أهليته كوريث محتمل لأبيه؛ إذ كانت أم فيليب نفسه تنتمي إلى أصول إليرية ولنكستية، ونودي بكل من أبنائها الثلاثة ملكا.
كان لدى هيرودوت سبب وجيه، في وصفه الحروب الفارسية، لإيراد إشارات إلى مقدون وملكيها: أمينتاس الأول الذي حكم حتى 497/498، وابنه الإسكندر الأول الذي خلفه في الملك وتمتع بفترة حكم طويلة حتى حوالي سنة 454. وإذ يصف هيرودوت مهمة الإسكندر، وهي إقناع الأثينيين بالانضمام إليه في قضيته الفارسية، يسرد أصل السلالة الأرغية ومنزلة الإسكندر منها.
كان الإسكندر الأول ابن أمينتاس الأول ابن ألكيتاس، وكان أبو ألكيتاس يسمى أيروبوس، وكان أبو أيروبوس يسمى فيليبوس، وكان أبو فيليبوس يسمى أرغايوس، وكان أبو أرغايوس يسمى بيرديكاس، وهو أول من ولي الملك. (الكتاب الثامن، 139)
ولاقتفاء أثر هذه السلالة، يمضي أبو التاريخ قائلا إن بيرديكاس الأول:
ولي أمر المقدونيين على هذا النحو: فر ثلاثة من الأشقاء، وهم جفانيس وأيروبوس وبيرديكاس أبناء تيمينوس، من أرجوس [في اليونان] إلى إليريا، ومن هناك عبروا إلى مقدونيا العليا واستقروا في مدينة ليبايا. عملوا هناك في خدمة الملك مقابل أجر؛ فكان أحدهم يعتني بالخيول، وآخر بالثيران، وأصغرهم وهو بيرديكاس ببقية القطيع ... كانت زوجة الملك تطهو لهم الطعام، وعند الخبز، كان الخبز المخصص للصبي بيرديكاس يختمر حتى يصير مثلي حجمه الطبيعي. ولما رأت هذا يتكرر دائما، أخبرت زوجها بالأمر، فخطر ببال الملك فور سماعه القصة أن هذا أمارة شيء مهم، فاستدعى الخدم وأمرهم بالرحيل عن بلده، فطلبوا منه - محقين - أن يعطيهم أجرهم ليرحلوا. وبينما كان الملك يستمع إلى مطالبتهم بأجرهم، كانت أشعة الشمس تتخلل مدخنة المنزل، فقال باستهتار مشيرا إلى الشمس: «أعطيكم هذه أجرا لكم.» فوقف الأخوان الكبيران جفانيس وأيروبوس مبهوتين لدى سماعهما هذا، وأما الصبي، الذي صادف أن كان ممسكا بسكين، فقال: «أيها الملك، إننا نقبل ما تعطينا إياه.» ورسم خطا على الأرض بسكينه، وبعد أن اغترف في حجره ثلاث غرفات من أشعة الشمس، رحل هو والآخران. (الكتاب الثامن، 138، 1-5)
استيقن الملك وجود شيء غريب في هذا كله، فأرسل رجالا على ظهور الجياد لوقف الإخوة، وكان في الطريق نهر تمكن الإخوة من عبوره، لكن مياهه ارتفعت بعدئذ بشدة على نحو حال دون قدرة مطارديهم على التقدم. وفي النهاية وصل الشباب إلى جزء آخر من مقدونيا يسمى حدائق ميداس، كانت وروده البرية التي تخرج زهورا بها 60 بتلة تبعث بأذكى عبير في الدنيا.
تحمل هذه الحكاية كثيرا من أمارات الحكايات الفولكلورية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن وجهة النظر المقدونية بوجود صلة قرابة قديمة باليونان. وربما توحي أيضا ببعض الشكوك المحيطة بأصول السلالة الأرغية نظرا لوجود روايات بديلة تتحدث عن الجد الأول لهذه السلالة؛ إذ توجد رواية أخرى تقول إن مؤسس الأسرة كارانوس، الذي يوصف أحيانا بأنه شقيق طاغية أرغوس في القرن السابع؛ غير أن كلمة كارانوس الإغريقية تحمل معنى «حاكم» عموما. وأما نسب المكدونيين كما يورده هيسيودوس فيجعل من مكدون الجد الأول للسلالة. كان مكدون ابن زيوس وحفيد ديوكاليون - من جهة أمه ثيا - ومن ثم هو ابن عم دوروس وأيولوس وكوتوس الذين كانوا الجدود الأوائل للدوريين والأيوليين والأيونيين (قصيدتا «قائمة النساء» و«إيواي»، شذرة 3). ربما تعكس كلتا الروايتين محاولات للربط بين المقدونيين والإغريق، ويتفق الكثيرون مع وجهة نظر يوجين بورزا أن هذه الروايات التي تتحدث عن أصل الأرغيين في أرجوس برزت في القرن الخامس، وتمحورت حول الإسكندر الأول الذي كان يلقب بمحب الإغريق.
على الرغم من أن أصل أسرة مقدون المالكة يظل غير مؤكد، لا يمكن إنكار أهمية الانتماء إليه في الحكم المقدوني؛ إذ كان لزاما أن يكون المرء من أبناء هذه السلالة لكي يطمح إلى ولاية الملك. وفي الوقت نفسه تمخضت الظروف المرتبطة بحجم السلالة المتزايد عن فروع جانبية وتوترات بين هذه الفروع، وكثيرا ما تمخضت عن صعوبات بالغة في وجه أرغيين بعينهم.
شكل 3-1: النسب الأرغي. أسماء الحكام مكتوبة بخط سميك.
ثمة ميزة تتجلى فورا للعيان، وهي أن انتماء المرء إلى هذه السلالة كان يمنحه فرصة لتولي الملك، وهو ما كان عاملا بالغ الأهمية. المعتاد أن ابن الملك يخلف أباه على نحو ما يتبين من رواية هيرودوت عن العلاقة بين الملوك الستة الأوائل، غير أن هذا لم يكن هو الحال دائما؛ إذ إنه لدى موت أمينتاس الثالث، آل الملك إلى ابنه الإسكندر الثاني، لكن من خلف الإسكندر كان أخاه. توجد ممارسة أخرى معتادة هي أيلولة الملك إلى أول مولود ذكر يولد للملك الحالي، لكن من جديد كانت هناك استثناءات، وخصوصا عند حدوث شجارات بين أبناء الملك المتوفى. علاوة على ذلك، فإن طبيعة ما لدينا من شواهد حول شئون مقدون الداخلية تحول دون التيقن من تواريخ الميلاد، فمن الجائز على سبيل المثال أن الإسكندر الثالث كان الابن الثاني لفيليب.
صفحه نامشخص
زاد تكاثر فروع الأسرة الحاكمة الخلافة تعقيدا على تعقيدها؛ ففي الصراع الذي أعقب موت بيرديكاس الثاني، والذي أسلفنا وصفه في الفصل الثاني، ولي الملك لفترات وجيزة أبناء ثلاثة أفرع أرغية. وفيما بعد لدى موت فيليب الثاني، كان من الجائز أن يعود الملك إلى ذرية أخيه بيرديكاس الذي سبقه على العرش؛ إذ كان لبيرديكاس ابن هو أمينتاس، وتخطي لصغر سنه لمصلحة عمه فيليب، وبحلول سنة 336 كان أمينتاس هذا رجلا يحق له المطالبة بالملك. وفيما بعد لدى موت الإسكندر الثالث سنة 323، وقع اختيار جمعية الجيش على ابن فيليب، وهو فيليب أريدايوس، وأما قواد الإسكندر فوقع اختيارهم على طفل الإسكندر، وكان لا يزال جنينا في بطن أمه، شريطة أن يكون ذكرا . وهكذا، فعلى الرغم مما يبدو من انحصار الاختيار في أبناء السلالة الأرغية لعدة قرون قبل زمن الإسكندر، كان المرشحون الأرغيون لوراثة العرش كثيرين. (1-1) طبيعة الحكم الأرغي
كانت هذه الآصرة بين الملك الأرغي وجمعية الجيش ضرورية لوراثة العرش ومن بعدها حكم المملكة. ولم يصف هيرودوت الإسكندر ك «بازيليوس» (بمعنى حاكم) المقدونيين فحسب، بل أيضا ك «استراتيجوس» (بمعنى قائد) جيش المملكة (الكتاب التاسع، 44). ولا يسعنا تمييز الفرق بين معنيي الكلمتين في أذهان المقدونيين، بل من غير المؤكد أن المقدونيين أنفسهم كانوا يلقبون زعيمهم «بازيليوس»؛ لأن المسكوكات النقدية التي ضربها فيليب الثاني لا تحمل هذا اللقب، ولا نجد إلا قرب نهاية حكم الإسكندر الثالث مسكوكة نقدية منقوشة تجمع بين كلمتي ألكساندرو وبازيليوس. ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن الواجبات والامتيازات المرتبطة بالقيادة كانت جزءا لا يتجزأ من ولاية حكم المقدونيين.
كان مجمل صلاحيات الملوك المقدونيين وامتيازاتهم من نواح كثيرة مماثلا لصلاحيات أبطال هوميروس وامتيازاتهم؛ إذ اكتسب كل من أبطال الملاحم والحكام المقدونيين السلطة واحتفظوا بها بفضل مقدرتهم الشخصية، لا بصفتهم شاغلين لمنصب رسمي. كان الملوك المقدونيون دائما ناجحين بصورة أو بأخرى وفقا لقدراتهم الفردية، وبفضل التهديد المستمر بالغزو من الشعوب المجاورة، كانت القيادة العسكرية المجربة متطلبا جوهريا على الدوام. ومثلما رأينا، فإن تاريخ مقدون قبل حكم الإسكندر وبعده على السواء يبرهن تماما على الأخطار المتأصلة في موقع المملكة «الوسيط» بين أوروبا القارية وشبه الجزيرة اليونانية؛ ما كان يجتذب دوما دخلاء من كل حدب وصوب.
تجسدت هذه الحاجة إلى قوة عسكرية للحفاظ على المملكة في المؤسسات المقدونية؛ فبمجيء عهد فيليب الثاني، وربما في وقت مبكر من ذلك في عهد الإسكندر الأول، كان كل الرجال الأحرار القادرين على حمل السلاح ذوي أهمية بالغة في الحفاظ على كل من الدولة وسلطة أي حاكم بعينه بالتبعية. كانت تسمية الملك حقا مكفولا لجمعية الجيش ومسئولية منوطة بها، وبما أن الرجل المختار سيقود الجيش إلى النصر أو الهزيمة، فلا بد من أن يحوز بوضوح خصال القيادة في الميدان؛ لأن المتوقع من الملك أن يقود رجاله لا بمعرفته باللوجستيات والاستراتيجيات فحسب، بل أيضا ببراعته الشخصية في المعركة، فيقاتل في الطليعة مثلما فعل آخيل وديوميديس وكل قادة الفرق الآخرين في طروادة.
ما زاد الحاجة إلى القوة العسكرية طبيعة الشئون السياسية الداخلية في المملكة؛ إذ وجدت عائلات نبيلة أخرى حتى في مقدونيا الدنيا قبل توسع المملكة إلى مقدونيا العليا، لكن هذا التوسع أضاف إلى الدولة عددا من السلالات «الملكية» التي كان لكل منها في مملكتها ما للأرغيين في مقدون. كانت الدبلوماسية في التعامل مع هذه العائلات مهمة، لكن الجنود المقدونيين تحت قيادة ملكهم كانوا الأساس الذي تنبني عليه الدبلوماسية الناجحة. تمتعت نخب المملكة الموسعة بمنزلة صحابة الملك أو «هيتايروي»، وبمرور الزمن اكتسبت أواصر الولاء قوة تجاوزت حدود تهديد الانتقام البدني إذا ما قطعت هذه الأواصر. وسنبحث هذه التطورات بحثا أتم في الفصل الخامس.
جاء أحد سبل إقامة روابط أقوى مع اتساع رقعة المملكة؛ مما أتاح فرصة إقامة آصرة اقتصادية بين الملك والصحابة الجدد. وقيل إن الأرض التي اكتسبت بالفتح صارت بيد الملك يمنح من يشاء حق استخدامها مقابل التزامات معينة تؤدى إليه. ومع توسيع الملوك المقدونيين من أمثال فيليب نطاق ملكهم، زادوا مقدار الأراضي المتاحة لتخصيصها لأغراض كثيرة من ضمنها إقامة مستوطنات مقدونية جديدة. ربما كان من بين شاغلي الأراضي المضمومة إلى المملكة حديثا محاربون صحابة استقطبوا من أصقاع أخرى من محيط بحر إيجة؛ إذ استقر نيارخوس الكريتي في مستعمرة أثينا السابقة أمفيبوليس أثناء حكم فيليب. كان نيارخوس واحدا من صحابة (هيتايروي) فيليب ومن بعده الإسكندر؛ إذ شغل منصب مستشار كبير لهذا الأخير. وكان الأخوان إريجيوس ولاوميدون ينتميان إلى ميتيلين في جزيرة ليسبوس الإغريقية، واستقرا هما أيضا في أمفيبوليس وصارا من صحابة فيليب ثم الإسكندر.
من ضمن وسائل توثيق الأواصر مع العائلات النبيلة الأخرى ابتكار ينسب إلى فيليب الأول، وهو سياسة إرسال أبناء العائلات المهمة بمقدونيا العليا إلى بيلا لتلقي التدريب كحاشية (حراس شخصيين ثم ضباط مستقبليين) للملك ورفاق لأبنائه. كان هذا الترتيب يحقق غايات عدة، فيوفر العناصر اللازمة للإدارة المدنية والعسكرية الفعالة في الحاضر وفي المستقبل القريب على السواء، ويضع بين أيدي الملك الأرغي رهائن لضمان حسن سلوك آبائهم. كان من بين أبناء كبار النبلاء من أجزاء المملكة الأخرى كراتيروس وبيرديكاس وفيلوتاس، الذين سيكونون ضباطا مهمين في جيش الإسكندر. ونشأ أيضا هفايستيون، الشهير بأنه أقرب المقربين إلى الإسكندر، في هذه المنظومة في بيلا.
كان يقام منتدى لتبادل وجهات النظر بين عمداء العائلات النخبوية، ويبدو أنه كان بعدا آخر من أبعاد الآصرة بين الملوك الأرغيين ومن يدانونهم في المنزلة. وتذكر المصادر التي تتحدث عن حكم الإسكندر اجتماعاته المنتظمة مع كبار معاونيه. وعندما أحيط الإسكندر علما بتحركات داريوس وجيشه قبل معركة إيسوس على سبيل المثال، جمع أصحابه لينبئهم بالأمر، فشجعوه على المضي قدما، وبعدها فض الاجتماع (وكان يسمى «سيلوجوس» بمعنى النادي) (آريانوس، الكتاب الثاني، 6، 1). وفي وقت لاحق عندما ضرب المقدونيون الحصار حول صور، جاء رسل من لدن داريوس عارضين 10 آلاف وزنة والتخلي عن الأرض الممتدة من نهر الفرات إلى ساحل البحر الهيليني، فدعا الإسكندر ناديه لمناقشة العرض (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 1-2). وكما هو متوقع، كانت المرونة سمة عضوية هذه الاجتماعات وحضورها؛ إذ كان الضباط يبتعثون لتنفيذ مسئوليات بعيدا عن فسطاط الملك أو كان الموت يغيبهم نهائيا. والراجح أن فيليب وظف ناديا مماثلا للنقاش بين كبار أصحابه، لكن يبدو مستبعدا وجود هيئة ثابتة تشكل مجلسا رسميا في مقدون قبل الفترة الهلنستية. بدلا من ذلك وعلى الطراز الهوميري، كان الملك يستشير، كما يهوى، من حضر من أصحابه من ذوي الحظوة.
شكل 3-2: هرقل، جد الأرغيين الأول، يظهر في المنتصف ترافقه أثينا (في المقدمة) وهرمس (في المؤخرة) لتعريفه بالأوليمب. حقوق الطبع محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
شكل 3-3: آخيل جد الإسكندر الأعلى لأمه يسوق فرسيه إلى «ديفروس» (عربة يجرها الخيل). المصدر: آي كاكريديس، «الميثولوجيا الإغريقية»، إكدوتيكه أثينون للنشر.
صفحه نامشخص