يمكننا تكوين صورة أوضح للإسكندر الثالث المقدوني، المعروف منذ القدم باسم الإسكندر الأكبر، على أساس التوصل إلى فهم للظروف والقوى والأعراف السائدة في منطقة بحر إيجة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. وسيتألف الفصل الأخير من «صورة» لذلك الشخص؛ إذ نبين كيف أن مقدونيا ونسبه الأرغي وتفاعله مع اليونان والزخم العسكري للمملكة الأصلية والعلاقات مع الإمبراطورية الفارسية قد شكلوا الرجل ومسيرته على السواء. قد يقول قائل إن انحرافه عن تلك التأثيرات هو بالضبط ما جعله «الأكبر»، لكن سيتضح أنه لم يكن بوسعه أن يتخلى عن إرثه قصدا أو دون قصد. وفي الوقت نفسه، فإنه لم يكن طرفا سلبيا في عالمه؛ إذ استخدم منصبه الموروث في ظروف لم يشهدها أرغي سابق. ومع ذلك، فمن دون الأدوات والمنصب اللذين حصل عليهما الشاب لدى المناداة به خليفة للملك فيليب الثاني، ما كان ليفوز بلقبه هذا.
الفصل الأول
حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر
على الرغم من أن طبيعة الشواهد المتعلقة بالإسكندر الثالث المقدوني يصعب معها - إن لم يكن يستحيل - اكتشاف كينونته الداخلية، فثمة ما يكفي من أوجه الاتفاق بين المصادر القديمة لرسم سيرة حياته بدرجة معقولة من اليقين فيما يخص الأحداث الكبرى وتواريخها.
تختلف المصادر الأساسية المعنية بالإسكندر من نواح مهمة عديدة، فهي تغطي الفترة من حياة الإسكندر إلى القرن الثاني الميلادي، ويضمر مؤلفوها أغراضا متباينة من وراء كتابتها، ومعظمها ناقص، وبعضها لا يوجد إلا على هيئة شذرات متناثرة في مصادر أخرى، والشهادة التي تقدمها غالبا ما تختلف مع المصادر الأخرى. أهم أسباب هذا الخلاف المستمر هو طبيعة المصادر التي وصلت إلى أيدينا؛ إذ إن أقدم الروايات التاريخية الموثوق فيها ضاعت، أو في أحسن الأحوال لم تحفظ إلا على هيئة شذرات متناثرة، وأما التي كتب لها البقاء فهي كتابات متأخرة، وغالبا ما يتضارب بعضها مع بعض، وتنطوي على أهدافها الخاصة.
لكن هناك فعلا بعض المصادر، ومن خلال العمل الصبور الدءوب الذي بذله الباحثون تسنى لهم تحديد المواد الأسبق التي اعتمد عليها المؤلفون المتأخرون. وتتيح «شجرة النسب» هذه بدورها للقراء استبانة موثوقية العديد من الروايات التاريخية أو عدم موثوقيتها؛ فأتم الروايات التاريخية مثلا اعتمدت على اثنين من صحابة الإسكندر، بينما يوجد مؤلف آخر متهم بتأليف رواية خيالية. وأظهرت مقارنة الروايات التاريخية أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها؛ ومن ثم قدمت شيئا أشبه بموقف مشترك تجاه جوانب معينة من سيرة الإسكندر.
تتراوح أهم المصادر الموجودة من حيث تاريخها بين أواخر القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، وأبكرها هو التقرير الرسمي الذي أعده نيارخوس عن الرحلة البحرية من مصب نهر السند إلى الخليج الفارسي. وفد نيارخوس، الكريتي المولد، على مدينة أمفيبوليس في مقدونيا أثناء حكم فيليب الثاني، ويوجد رأي معقول يقول إنه كان واحدا من المستشارين الأكبر سنا للإسكندر الشاب، وقد أسندت إليه مناصب مهمة أثناء حكم الإسكندر، منها على سبيل المثال مرزبان ليقيا وبامفيليا، لكن المنصب الذي سجل وقائعه هو أميرال المهمة الاستطلاعية البحرية من جنوب الهند إلى رأس الخليج الفارسي، وكتب لهذا الوصف البقاء لأنه كان الأساس الذي قام عليه فيما بعد تقرير آريانوس المتأخر المعروف باسم «إنديكا».
سرد تاريخ العالم الذي وضعه ديودورس الصقلي بعنوان «مكتبة التاريخ»، والواقع في 40 كتابا؛ أحداثا يعود زمانها إلى منشأ العالم ويمتد إلى فترة حياته هو شخصيا، وتحديدا سنة 60 قبل الميلاد. ولم يكتب البقاء إلا لخمسة عشر كتابا منها، لكن من حسن حظ الباحثين المعنيين بمقدونيا أن من بينها الكتابين 16 و17 اللذين يتناولان فيليب والإسكندر.
يرقى مؤلف كورتيوس روفوس عن الإسكندر إلى القرن الأول أو مطلع القرن الثاني بعد الميلاد. ضاع الكتابان الأولان من كتبه الأصلية العشرة، وتوجد ثغرات في الأجزاء المحفوظة، التي تتناول الأحداث حتى تاريخ توزيع الإسكندر مناصب الولاة سنة 324 قبل الميلاد. وعلى الرغم من دعوة بعض الباحثين إلى إعادة تقييم دقيقة لهذا المصدر، يوجد تقييم عام لجدارته أورده معجم أكسفورد الكلاسيكي (الإصدار الثاني، الصفحة 416): «لا يوجد إلا قليل من الاتساق ... ومقتضيات البلاغة هي التي تقرر اختيار المادة المصدرية . ومن ثم، يتنقل المؤلف تنقلا عشوائيا من مصدر إلى مصدر، وأحيانا يمزج هذه المصادر في خليط عديم المعنى، وكثيرا ما اتهم بتعمده كتابة الخيال.»
يكاد يتزامن مع كورتيوس روفوس، مستريوس بلوتارخس، ابن مدينة خيرونية بمقاطعة بويطية في وسط اليونان - التي ألحق فيها فيليب وجنوده المقدونيون الهزيمة بالجيش الإغريقي سنة 338 قبل الميلاد - وعاش في الفترة ما بين عامي 50 و120 تقريبا بعد الميلاد. كان بلوتارخس مؤلفا غزير الإنتاج؛ إذ تعدد قائمة وضعت في فترة لاحقة 227 مؤلفا من وضعه، من أشهرها «السير المقارنة لعظماء اليونان والرومان» الذي اشتمل على سير 23 من العظماء اليونانيين، ومثلهم من العظماء الرومانيين، مع مقارنة كل واحد منهم بنظيره، ومن بينها سيرة الإسكندر الأكبر وسيرة قرينه يوليوس قيصر. ألف بلوتارخس أيضا، ربما في مرحلة مبكرة من مشواره التأليفي، مقالا بعنوان «عن حظ الإسكندر» ضمنه كتابه «الأخلاق». وصف دبليو دبليو تارن، وهو من الباحثين البارزين المتخصصين في الإسكندر في منتصف القرن العشرين، الفرق في العملين قائلا: «وضع بلوتارخس الجزء الأول من «عن حظ الإسكندر» في شبابه وبكل حماس الشاب المنكب على تصحيح ما اعتبره خطأ كبيرا، لكن بحلول الوقت الذي وضع فيه بلوتارخس المسن، أثناء اشتغاله بوظيفته السهلة المريحة في دلفي، كتاب «حياة الإسكندر»، كانت جذوة الحماس قد فترت، وكان الرجل متأثرا بفعل قراءاته الوفيرة» (1948: 296إف).
صفحه نامشخص