كانت اليونان أيضا قد بلغت مبلغا أرفع من التطور مقارنة بإمكانيات المملكة المقدونية الفتية، وكان الاهتمام بمنطقة مقدونيا من جانب العالم الإغريقي أقرب وأدوم بكثير من اهتمام الفرس بها؛ فحتى في العصر البرونزي توجد شواهد فخارية على حدوث اتصال مع العالم الميسيني بحلول القرن الرابع عشر واستمراره حتى القرن الثاني عشر؛ إذ يحاكي الإنتاج المحلي النماذج الميسينية، فضلا عن السلع المجلوبة من اليونان. ولا يبدو أن هذا الاتصال تمخض في مقدونيا عن نظام يتمحور حول القلاع شبيه بنظام اليونان، على الأقل وفقا للشواهد الحالية. ويوضح هذا من ناحية أخرى ميوعة الاتصال بين اليونان ومقدونيا. انتهى التفاعل بانهيار ممالك العصر البرونزي في معظم منطقة شرق البحر المتوسط؛ ونتيجة لذلك، لم يكن هناك إلا اتصال محدود بين اليونان ومقدونيا في أواخر الألفية الثانية والقرون الأولى من الألفية الأولى.
تغير ذلك الوضع في القرن التاسع عندما بدأ إغريق البر الرئيس يغامرون من جديد بركوب البحر. ولا نستغرب أن المحاولات الأولى جرت في المياه المحلية القريبة، كالمنطقة الساحلية شمال بحر إيجة. وفي مرحلة مبكرة من القرن التاسع، كان إغريق من جزيرة وابية يعملون على إقامة مستوطنات تجارية في منطقة مثل سيندوس، بالقرب من سالونيك الحديثة، التي تعود نشأتها إلى القرن التاسع وتمتعت بعمر مديد حتى أواخر الفترة الرومانية. ويتضح ازدهارها المبكر من ثراء قرابين الدفن هناك، التي ضمت حلى ذهبية أنيقة بحلول القرن السادس، والأموال التي سمحت بحلول القرن الرابع بشراء أضحية قوامها خمسة أفراس وكلبان في مقبرة تضم 47 مدفنا، وهو قربان يرتبط عادة بمدافن النخبة. حذا إغريق من مناطق أخرى حذوهم في إقامة مستوطنات ، وخصوصا في شبه الجزيرة ذات الألسنة الثلاثة المعروفة باسم خالكيذيكي، قبالة المنطقة الصغيرة التي تشكل قلب مملكة الشعب المقدوني. وفي أواخر القرنين السابع والسادس، تغلغلت دول إغريقية أخرى في بحر بروبونتيس وتجاوزته إلى البحر الأسود. وفي النهاية صار ساحل ذلك البحر موقعا للكثير من التجمعات الإغريقية المستقلة. كان يوجد يقينا أناس من غير الإغريق يسكنون وراء الشريط الساحلي، لكن هم أيضا تعرضوا لضغط جيرانهم الإغريق وتأثيرهم الثقافي.
بينما كانت الدول، أو الدول-المدن، الإغريقية صغيرة ومستقلة ذاتيا، كانت ثقافتها المشتركة قد تمخضت عن آلة عسكرية قوية على هيئة تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس»، الذي استخدمه معظم العالم الإغريقي منذ القرن السابع. كان أفراد المشاة الثقيلة، الذين يرتدون الخوذ ودروع الصدر والساقين ويحملون دروعا مستديرة تسمى «هوبلون» في شمائلهم، ورماحا طويلة في أيمانهم؛ يسيرون إلى ساحة القتال سيرا متناغما في صفوف وأرتال، حامين بعضهم بعضا ومتأهبين للتقدم إلى الأمام لشغل موقع جندي أصيب أو قتل في الصف الأمامي. ألحقت فعالية الفلنكس الهزيمة بجيش الفرس الجرار في ماراثون سنة 490، وأخرى في بلاتايا سنة 479، ومن بعدها ظل الفلنكس الأداة المروعة من أدوات الحرب البرية حتى القرن الثاني. كانت الحرب المتكررة بين الدول- المدن سببا رئيسا، وإن لم تكن السبب الوحيد، لاستدعاء أفراد المشاة الثقيلة من المواطنين، ولفتت المناطق المجاورة اهتمام الإغريق أكثر فأكثر خلال القرنين الخامس والرابع.
نمت القوة البحرية أيضا باطراد بداية من أواخر العصر المظلم؛ إذ كانت ضرورية للتبادل التجاري والاستعمار اللذين دفعا سويا توسيع المستوطنات الإغريقية من أواخر القرن الثامن إلى منتصف القرن السادس. ومن الثابت استخدام السفن الإغريقية لأغراض عسكرية في مرحلة مبكرة من الفترة العتيقة. ويتبين لنا أن التفوق البحري لم يتحقق فورا من واقعة دحر الأسطول الإغريقي قبالة ساحل الأناضول الجنوبي، الذي تقول الروايات أنه حدث سنة 696، لكن ما يهمنا أن المجتمع الإغريقي احتاج إلى السفر بحرا، واهتم به منذ العصر الحجري الحديث. وبحلول أوائل القرن الخامس، عندما التمس الأثينيون نصح أبولو عن أفضل وسيلة للتصدي للهجوم الفارسي ، كانت إجابة عرافة دلفي: «اعتمدوا على الجدار الخشبي.» أصاب الأثينيون في تفسير هذه الإجابة، فاستغلوا اكتشاف عرق جديد من الفضة في إنشاء أسطول يضم 200 سفينة ثلاثية المجاديف أثبت حكمة أبولو، في معركتي سلاميس وميكالي خصوصا، وفيما بعدهما أيضا.
ما إن تحقق درء التهديد الفارسي، حتى صار الأسطول بمثابة القلب من حلف يتألف في أغلبه من دول إيجية بهدف القضاء على التهديد الفارسي نهائيا. وبتحقق ذلك الهدف، صار الأسطول دعامة الإمبراطورية الأثينية القوية التي نمت انطلاقا من الحلف الذي كانت عضويته ذات يوم طوعية. وكما ناقشنا في الفصل الرابع فإن الخشب المقدوني كان ضروريا لبناء سفن ذلك الأسطول؛ مما مثل أحد الإغراءات القوية للتدخل الأثيني في الشئون المقدونية. وكانت مصالح أثينا في شمال بحر إيجة، التي ربما نشأت مبكرا في أواخر القرن السادس، عنصر جذب آخر؛ إذ ازداد اعتماد أثينا على مصادر الحبوب الخارجية، وعلى رأسها دول البحر الأسود. وفوق ذلك كانت الدولة-المدينة السريعة التوسع تحتاج إلى سفن لإيصال تلك الحبوب، لكن تفتقر إلى الخشب اللازم لبنائها، وكانت مقدونيا من أفضل مصادر الخشب. (3) الموارد المقدونية لمواجهة المنافسين
خلاصة القول أن الحدود المقدونية كانت مائعة بسبب معالم المنطقة الطبيعية وحالة شعوبها الأخرى المزاجية، وكان الحفاظ على الهوية السياسية يتطلب يقظة عسكرية مستمرة. لكن على سبيل المقارنة بقدرة الجيران العسكرية، كانت مقدون في وضع غير مؤات وينذر بالخطر. حشد فيليب كما أسلفنا جيشا ناهز 10600 جندي مشاة وخيالة سنة 359، ونظرا لما كان لتهديد الإليريين من عواقب خطيرة، فالأرجح أن فيليب جمع أكبر قوة ممكنة. وفي المقابل - كما نوهنا من قبل - حشد أحشويرش جيشا قوامه ربع مليون رجل لحملته ضد اليونان، وحتى دولة-مدينة أثينا منفردة لم يكن تعداد سكانها من الذكور البالغين (أي المشاة الثقيلة) يزيد على ما بين 45 ألف رجل و60 ألفا في منتصف القرن الخامس. وكانت مقدونيا تكاد تفتقر تماما إلى قوة بحرية للتعامل مع التحديات الآتية من البحر حتى عهد فيليب. وعلى سبيل المقارنة نجد أن أثينا وحدها ساهمت بمائتي سفينة ثلاثية المجاديف أو أكثر في القوة البحرية الإغريقية المتحدة ضد الغزو الفارسي سنة 480.
أدى هيكل المملكة المقدونية الاجتماعي المبكر إلى زيادة ضعفها ككيان قوي موحد؛ إذ ألفت غالبية السكان الحياة في قرى متناثرة، يكسبون قوتهم من امتهان الرعي والزراعة وصيد البحر والبر. كانت العائلات الأرستقراطية نظيرة الأرغيين، في المناطق الأصغر التي وحدت في النهاية تحت سيطرة حاكم أرغي، توجه حياة السكان الجماعية في مجال نفوذها، وكان عمداء هذه العائلات يحتاجون إلى ثروة وقوة عسكرية كافيين للاحتفاظ بمراكزهم والحفاظ على استقلال عوالمهم. وتتضح قدرة كثيرين منهم على الاحتفاظ بمتطلبات النفوذ هذه من تاريخ المركزية في المنطقة؛ إذ لم يكن التوحيد عملية طبيعية أو خالية من المتاعب؛ بفضل استمرار الولاءات للعائلات المهمة. وحتى عندما كانت المركزية تجري على قدم وساق، كان بوسع المناطق أن تنشق، وكان هذا يحدث فعلا؛ فأثناء حكم بيرديكاس (454-413)، كانت منطقة لنكستيس في مقدونيا العليا تتمتع بالحكم الذاتي، ولم تفلح جهود توحيدها مع مقدونيا الدنيا، وتمكن قائد الحركة الانفصالية أرهابايوس من حشد قوة مشتركة من المشاة والخيالة تطلبت هزيمتها جيشا قوامه 3 آلاف جندي مشاة إغريقي وجميع الخيالة المقدونيين و1000 رجل خالكيذيكي و«حشد عظيم من البرابرة» (ثوكيديدس، الكتاب الرابع، 124). كان فقدان الفرق الإقليمية سيلحق ضررا خطيرا بقدرة مقدونيا على الدفاع عن نفسها، والحقيقة أنه لو شكل الزعماء الإقليميون ائتلافا، لدمر على الأرجح أي مظهر من مظاهر الوحدة.
في ظل غياب وثائق مقدونية تصف طبيعة المجتمع، غالبا ما يلجأ الباحثون إلى مجتمع هوميروس للمماثلة، فنجد في الإلياذة والأوديسة رجلا واحدا يمارس سلطة أكبر من أقرانه؛ فأجاممنون هو الزعيم المعلن للمجهود الإغريقي للاستيلاء على طروادة، وأما منصب أوديسيوس الرفيع في المملكة الجزرية فسبب الوضع التعيس الذي ساء في غيابه الذي دام 20 سنة عن مملكته. لكن لم يكن أجاممنون ولا أوديسيوس يتمتعان بسلطة مطلقة ؛ إذ لا يستطيع أجاممنون منع آخيل من التخلي غاضبا عن المجهود الحربي، بينما يضطر أوديسيوس إلى قتل جميع الطامحين إلى منصبه قبل أن يتسنى له استرداده. خلاصة القول أنه يجب أن يكون الملك قادرا على تأكيد حقه في الحكم بالوسائل البدنية. وقصة الأرغيين مماثلة إلى حد مدهش؛ ففي الظروف التي سادت زمن اعتلاء فيليب العرش، كان منافسوه المطالبون بالعرش ممثلين في ثلاثة إخوة غير أشقاء، وابن شقيقه الأكبر بيرديكاس الرضيع، وأبناء فروع السلالة الأرغية الأخرى. ولم يكن بوسع أي ملك أرغي منع قائد متحالف معه نظريا من الانسحاب من هذا الحلف، شأنه في ذلك شأن أجاممنون، ونراه أزاح منافسيه بالقوة البدنية شأنه شأن أوديسيوس.
كذلك أيضا يشبه دور العنصر غير الأرستقراطي في مقدونيا دور العامة أفراد الجيش الإغريقي المعسكر بالقرب من طروادة، والذين لم يكن ينتظر منهم إلا الانصياع لزعمائهم والهتاف من حين إلى آخر بتأييدهم، على الرغم من وجودهم ضمن تجمعات مؤلفة من أفراد من عموم الجيش. والرجل العامي الوحيد الذي يجاهر برأيه في طروادة، سرعان ما يضرب عقابا له على جرأته. ومع أن رفاق الرجل المضروب يأسون لمحنته، نسمعهم يقولون جماعيا بلسان الحال: «لن يعود بعدها بتفاخره ليتشاجر مع الأمراء بكلمات فيها الشتائم البذيئة» (الإلياذة، الكتاب الثاني، السطران 276-277). وعلى غرار جمهرة الآخيين «الذين لا قيمة لهم في معركة أو مجلس» في طروادة، يؤلف المقدونيون غير الأرستقراطيين مجلسا، هو جمعية الجيش، يتمتع بحقوق معينة، كالمناداة بالقائد الملكي واتخاذ القرارات في محاكمات الخيانة. ومع تشكيك بعض الباحثين المحدثين في أهمية هذه الحقوق وفي ممارستها دوريا، فمن الجائز تماما أنها كانت تباشر في المراحل الأولى من التاريخ المقدوني على هيئة مماثلة للتجمعات العفوية الهائجة ذاتها التي تصفها ملاحم هوميروس. وعلى الرغم من وجود علاقات مع العائلات الحاكمة في مقدونيا العليا، مع هشاشتها في الغالب، لم يكن هناك ما يكفي لإقامة علاقة بين غير النخب الذين يعيشون على مسافة ما من قلب مقدونيا الدنيا؛ فاللنكستيون يثمنون، وربما يخشون، سلطة الأسرة المالكة اللنكستية أكثر مما يثمنون سلطة الأرغي الحاكم ويخشونها بكثير، ويتكرر هذا الوضع في العديد من المناطق الأخرى التي كانت ذات يوم دولا مستقلة.
لو أريد لمملكة مقدون البقاء، بل الأكثر من ذلك لو أريد لها أن تصبح لاعبا مهما في شئون منطقة البلقان وبحر إيجة، لما كان هناك بد من القضاء على مواطن الضعف هذه. كانت الحاجة الأولى حاجة إلى دفاع قوي عن أراضيها ومواردها، بمعنى إنشاء ذراع عسكري قوي مستقر. ولأن التهديدات كانت تأتي دوما من كل الاتجاهات، فلا بد من أن يكون الجيش كبيرا، وأن تكون القوة البشرية الجاهزة متاحة باستمرار في أوقات متغيرة من السنة. لم يكن قلب منطقة مقدون يكفي في موارده وقوته البشرية للتصدي لتشكيلة التهديدات ولتوفير جيش دائم. وتشير التقديرات إلى أن قوام الجيش المقدوني قبل زمن فيليب الثاني كان يتراوح بين 8 آلاف و10 آلاف رجل؛ وهكذا، فعندما هاجم التراقيون بزعامة سيتالكيس مقدونيا سنة 429، بجيش قوامه 15 ألف رجل من بينهم 5 آلاف فارس، رفض بيرديكاس الاشتباك معهم بسبب عدم تكافؤ الجيشين (ثوكيديدس، الكتاب الثاني، 98، 3 والكتاب الثاني، 100، 5). كانت الحاجة تدعو إلى إعادة ترسيخ التحالفات على الأقل مع حلقة الممالك الملاصقة لتأمين دعم العناصر الأرستقراطية وغير الأرستقراطية على السواء، فيقدم الأحرار من العامة غالبية أفراد المشاة، وتقدم العائلات الأرستقراطية الفرسان وكادر الضباط. وتتضح صعوبة هذه المهمة في مقدار الوقت المطلوب لتحقيقها؛ فشهد القرن الخامس اتخاذ بعض الخطوات، لكن ولاء العامة والطبقة الأرستقراطية لم يضمن إلا في زمن فيليب الثاني.
صفحه نامشخص