وطال صمت الفتى حتى قلقت أمه، فقالت في حنان وعطف: لقد طوفت بعيدا في أوهامك يا مسلمة. - نعم. - وهل عدت؟ - نعم. - وماذا رأيت في سرحتك يا بني؟ - رأيت أباك. - جدك؟ - نعم. - وقلت له ... وقال لك ... - لم أستمع إلى قول منه أو يستمع إلى قول مني ... - تغاضبتما إذن؟ - نحن متغاضبان منذ كنا ... إنني أنا مسلمة بن عبد الملك، وهو قسطنطين وحسب! - ولكنه أبو أمك! - قد كان ذلك يوما، أما اليوم فلست منه وليس مني. - وإذن فلم يغير من رأيك شيئا أن عرفت هذا السر؟ - بل قد أجد لي عزما جديدا ... - وما ذاك؟ - أن لمسلمة حقا في عرش القياصرة، فسأحارب الروم منذ اليوم على عرش قسطنطين؛ لأستخلصه لنفسي غير غاصب ... بحق أمومتك. - الآن طابت نفسي يا مسلمة. - طابت نفسك بتقويض عرش القياصرة من آبائك وآلك؟ - ذلك شيء آخر. - فماذا تعنين إذن؟ - لقد كنت أخشى يا مسلمة - لو عرفت سر أمك - أن تطفأ في قلبك جذوة الحماسة لحرب الروم، وهي كل ما تملك يا بني من أسباب المجد حين يتفاخر أبناء عبد الملك، فالآن قد أمنت وطابت نفسي. - الحمد لله. - وسر آخر لم يزل يحيك في صدر أمك يا مسلمة ... - ماذا يا أم؟ - ولا تغضب؟ - لن أغضب لما يرضيك يا أماه ... - تنازعني نفسي إلى القسطنطينية حيث نشأت. - تريدين أن أردك إليها؟ - بل تردها إلي ... - لست أفهم! - إنني آمل أن أجد ولدي مسلمة يجلس منها على عرش القياصرة، ذلك حلمي القديم منذ كنت فتاة لم تدرك، فقد علمت يا مسلمة أن بنات الروم - كبنات العرب - لا يحلمن حلما أمجد ولا أسعد من أن تكون إحداهن أما لقيصر، وقد حسبت أني وجدت تعبير رؤياي هذه حين ولدتك لعبد الملك، أما وإخوتك - كما ترى - يتسابقون دونك إلى ولاية عرش أمية، فإني أرجو لرؤياي تعبيرا آخر روميا لا يعرف من الملوك غير قيصر. - بل عرش قيصر وعرش أمية. - صه. - ماذا؟ - أخاف عليك كيد بني مروان يا مسلمة. - ولكن مسلمة لا يخاف يا أماه.
الفصل السادس
ولي العهد
تغير كل شيء في نظر مسلمة منذ ذلك اليوم الذي سابق فيه إخوته في حلبة الخيل بين يدي أبيه فسبقوه؛ وكأنه لم يدر إلا يومئذ أنه ابن جارية ... فلتكن أمه تلك من بنات الملوك أو من بنات الملائكة، فليست في أعين الناس جميعا إلا جارية.
ولم يقع في وهم مسلمة قبل ذلك اليوم أن أباه قد يختاره لولاية عهده، ويرشحه للجلوس على عرش الخلفاء في دمشق؛ فلو أن أباه اختار غيره من إخوته قبل ذلك اليوم لولاية العهد لما ثقل عليه ذلك ولا التمس السبيل إلى معرفة أسبابه؛ أما اليوم فإن له في نفسه وفي إخوته رأيا آخر ... فقد وجد ندبة في قلبه
1
من حديث أبيه إليه بعد السباق، ومما بلغه من حديث زوجات أبيه بعضهن إلى بعض، ثم من حديثه إلى أمه، ولكن رأيه ذاك، وما ناله من المساءة في حديث أبيه وحديث زوجات أبيه، لم يكن ليغير موقفه من إخوته شيئا؛ فليكن العرش والتاج لمن شاء أبوه من إخوته أو من غير إخوته، فليس يعنيه ذلك في شيء، إنهم أحوج إلى مسلمة منه إليهم؛ إنه سيف بني عبد الملك، وحامل رايتهم في الجهاد، وصاحب رأيهم في السلام، رضوا أو سخطوا؛ فليستأثروا دونه بعرش أمية، فإن له عرشا في قلب كل عربي بين المشرق والمغرب، وإنه ليأمل فوق ذلك أن يقتعد عرش جوستنيان في القسطنطينية، ويتخذها دار هجرة، فينزل في بلد خئولته ضيفا على أبي أيوب الأنصاري ... •••
لم يعد النعمان بن عبيد الله إلى دار أهله في الجزيرة منذ خرج ليطلب ثأر أخيه عتبة في بلاد الروم؛ فقد اتخذ في اللاذقية
2
أسرة ودارا يأوي إليها كلما عاد من صائفة أو شاتية؛ وما كان ليأوي إليها إلا أياما أو أسابيع يعود بعدها إلى ما بدأ، صائفا أو شاتيا.
صفحه نامشخص