2
أقل منزلة عند عبد الملك من بنات عبس، وتيم، ويزيد بن معاوية!
ثم جمعت أطراف ثوبها، ونهضت معجلة إلى مقصورتها، لم تحي أحدا أو تستمع إلى تحيته، ونهض صواحبها كذلك فتفرقن في حجراتهن! •••
ودخل مسلمة على أمه «ورد»؛ ليشهد في عينيها دموعا حائرة، فلا تكاد تراه مقبلا حتى ترسل دموعها وتطرق في انكسار ... - ماذا بك يا أماه؟ - لا شيء يا مسلمة. - ولكنك تبكين يا أماه! - لا تصدق كل ما ترى عيناك يا مسلمة. - هل نالك أحد بمساءة؟ - ومن ذا ينالني بالمساءة وأنا أم مسلمة، وحظية عبد الملك أمير المؤمنين وسيد بني مروان! - لعل أمير المؤمنين نفسه ... - وكيف يسوءني أمير المؤمنين، وأنا ولدت له مسلمة؟ - فلما إذن تبكين يا أماه؟ - من أجلك يا مسلمة. - من أجلي؟ - نعم، فلو لم ألدك، لكنت اليوم ولي عهد أمير المؤمنين.
3 - لو لم تلديني يا أماه لم يلدني غيرك، وما تطيب نفسي بغيرك أما ولو كانت ... - صه! حسبك ما أوغرت من صدورهن عليك. - وماذا يوغر صدورهن على مسلمة، وإنه ليحمل العبء كله عن أبنائهن، فهو المدعو لكل كريهة، وعليه أعباؤها دون غيره من أبناء عبد الملك، فما تزال تتقاذفه الفلوات وأمواج البحر من مفازة مهلكة إلى ثغر مخوف؛ ليمكن لعرش يتنازعه من لم يسل سيفا من غمده للدفاع أو يحمل راية! - من أجل ذلك بكيت لك يا مسلمة. - ولكني سعيد يا أماه بما أبذل، ولست أطمع - ولا أريد - أن أحمل أوزارها
4
فليحملوا منها ما قدروا عليه، وليدعوا لي سيفي وفرسي ورايتي أجاهد في سبيل الله. - تخادعني يا مسلمة! - لا والله يا أم، وإني ليسعدني أنك ولدتيني، أكثر مما يسعدني أن أبي هو أمير المؤمنين عبد الملك. - صدق حدسك
5
يا مسلمة ... - ماذا؟ - لا شيء. - بل قلت شيئا! - دع هذه يا مسلمة ولا تلحف. - تريدين أن تطوي عني سرا ... - نعم. - أي سر؟ - السر لا يسأل عنه يا مسلمة. - هو إذن سر يشين. - أخطأت وأسأت يا مسلمة؟ - وهل يكتم المرء من سره إلا ما يشين؟ - نعم، وما يضر. - يضرني أو يضرك يا أم؟ - يضرني ويضرك يا مسلمة. - لم أفهم بعد! - خير لك ألا تفهم. - ولكن سرا تطوينه عني وفيه مضرة ... يثقل على ضميري ويبلبل خاطري. - ليتني لم أبدأ حديثا معك يا مسلمة. - ولكنك بدأت. - ولكني بدأت. - ووقفت عند كلمة السر، فطويتيها عني وتركتني في بلبلة! - اسمع يا مسلمة. - هيه! - أنت يا بني صاحب اللواء في هذه الدولة، ما تزال تقود الجند لحرب الروم، فتثخن فيهم قتلا وتجريحا وأسرا، حتى أرهقت الروم من أمرهم عسرا، فهل تجد يا بني راحة نفس فيما تفعل من ذلك؟ - نعم يا أم. - فكيف تصنع يا بني إذا عرفت أن في هؤلاء الروم خئولتك؟ - قد عرفت ذلك منذ بعيد ... أفهذا هو السر الذي تطوينه عني؟ - نعم يا مسلمة. - ليس ذاك ... - تريد أن أزيدك يا مسلمة؟ - نعم. - فاعلم - وعليك وحدك تبعة هذا العلم - أنك تركب من الأمر عظيما في حرب الروم. - ماذا تعنين؟ - أنت تطلب رأس جدك! - جدي؟ - نعم، أبي ... - وما تزالين تذكرين أباك يا أم؟ ... - نعم، كأنه بعيني منذ ساعات. - واسمه؟ - قسطنطين ... - كل رومي قسطنطين! - ليس مثل أبي قسطنطين أحد من الروم. - أهو قيصر؟ - كأن قد بلغ هذه المنزلة. - ولم يبلغ بعد؟ - لست أدري! فقد انقطع ما بيني وبين بني أبي، منذ صرت إلى عبد الملك. - وكان أبوك يومئذ ... - بطريقا يؤهله نسبه وجاهه إلى العرش! •••
أطبق الفتى شفتيه، وحدق فيما أمامه، وأمال رأسه إلى جانب، وسبح في أوهامه، وجلست أمه بإزائه صامتة، ترمقه بعينين فيهما حب وإشفاق ووجل.
صفحه نامشخص