فهزت رأسها في ابتسامة حزينة وقالت: إذن فليس الموعد الذي يمنعك!
فقال بتسليم: كلا الأمرين معا! .. لا تؤاخذي أمي على عقليتها القديمة.
فخرجت عن ضبط عواطفها لأول مرة قائلة: فكيف تسمح لنفيسة بالخروج كل يوم؟!
ولم تعجبه لهجتها، وساءها ما تضمنته فقال بلهجة لم تخل من حدة: لولا العمل لما غادرت نفيسة البيت أبدا!
وبادرته قائلة بلين وإشفاق وأسف: لم أقصد سوءا بأحد؛ أردت أن أقول إن الخروج لا يعيب إنسانا.
وساد الصمت قليلا ثم سمعا وقع أقدام الأم وهي راجعة، فتساءلت بهية في لهفة وإشفاق: حسنين أنت غاضب؟
ولم يستطع أن يجيبها بسبب ظهور الأم، فابتسم لها ابتسامة رقيقة أثابت إليها طمأنينتها ... ومكث معهما ساعة، ثم ودعهما وانصرف.
67
لم يكن ثمة موعد كما زعم، وقد ذهب إلى السينما بمفرده، ودخلها بعد بدء العرض بدقائق، فأرشد إلى كرسيه في الظلام. وجعل يشاهد الجريدة بنصف انتباه والنصف الآخر هائم في البيت الذي غادره معتذرا بأكذوبة. وذكر كيف ضغطت على يده بحنو وهي تودعه، ضغطة لذيذة أرعشت قلبه، وغفرت لها ما تقدم وما تأخر من إساءة! «أمنيتي الآن أدنى إلى التحقيق، لو مارست ضبط النفس بدل التهالك والتوسل لفزت بما أشتهي من زمن. لو عبست في وجهها مرتين لما أصرت على قول «لا». ما أحمقني! لن أقنع بقبلة. لأضمها إلى صدري حتى يطقطق عظمها تحت ذراعي، بعيدا عن أعين النقاد التي لا تعجبها إلا الملاحة والرشاقة والموضة. ولكن هل أصر على إخفائها عن الأعين حتى بعد أن أتزوج منها؟ لماذا لا أستهين بالناس وألسنتهم؟ يا له من شر لا قبل لي بالتعامي عنه! هكذا أنا.» وارتاح من أفكاره بتركيز وعيه على الشاشة، فرأى هتلر وهو يستقبل سفراء الدول بمناسبة عيد ميلاده، ثم شاهد فصلا من الصور المتحركة وأضيئت الأنوار. ودار برأسه فيما حوله متفرسا في الوجوه، فاستوقف نظره امرأة هائلة مفرطة في السمنة لحد مزر، تجلس لصق زوجها وتنازعه الحديث، ولم يسعه إلا الإعجاب بشجاعة الرجل الذي يستصحب هذه المرأة دون مبالاة بأحد. ولاحت منه التفاتة إلى يساره فرأى في الكرسي الذي يليه فتاة حسناء مرتدية جاكتة رمادية وتاييرا، وخيل إليه لحظة أنه لا يرى هذا الوجه لأول مرة. وراح ينقب في طوايا ذاكرته، وفي أثناء ذلك انتقل بصره إلى امرأة تليها، ثم إلى رجل ما إن رآه حتى دق قلبه بعنف ونهض قائما، ومد له يده بأدب وهو يقول: مساء الخير يا سعادة البك.
فالتفت الرجل صوبه - كان أحمد بك يسري - وابتسم إليه مسلما، ثم قدمه إلى زوجه وكريمته، وعقب على التعرف به قائلا: «ابن المرحوم كامل أفندي علي.» فسلم عليهما في غاية من الأدب، وعاد إلى جلسته ومس يد الفتاة يسري في جسده، وسأله البك عن حاله في الكلية فأجابه شاكرا ثم فرغ كل لحاله، ونظر إلى أمامه وهو يشعر بارتياح لأنه جاز فترة التعارف وهو ثابت متمالك لأعصابه، مع أنه كان يقدم إلى عضوين في هيئة الجنس اللطيف العالية لأول مرة في حياته. ومر عند ذاك نادل يحمل ألوانا من الشيكولاتة والمشروبات، فود لو كان يملك من النقود ما يسعفه بتقديم بعض منها إلى الأسرة، ولكن لم يكن في جيبه إلا قروش، فحنق على إفلات هذه الفرصة منه، وحقد على فقره كما لم يحقد عليه من قبل! ثم أطفئت الأنوار وعادت الحياة إلى الشاشة، ولكنه لم يندمج فيها، ووجد من وعيه وخياله إباء وجموحا، تأكد لديه الآن أنه لم يكن يرى هذا الوجه البديع لأول مرة، وذكر الساق العارية التي كشفت عنها حركة الدراجة بحديقة الفيلا؛ ترى أي أثر قد تركه في نفسها؟ وأي أثر أخلفه قول أحمد بك من أنه «ابن المرحوم كامل أفندي علي»؟ كان والده موظفا صغيرا، وفضلا عن هذا فلا شك أن المرأتين تعلمان بما بذل البك لأسرته من شفاعة؛ تارة ليوظف حسين، وتارة ليلحقه بالكلية الحربية، وهيهات أن يغيب عنهما حقيقة مستواه الاجتماعي! ولعل الفتاة لم تر فيه إلا صنيعة لمعروف والدها، ولعلها قالت لنفسها إنه لولا يد أبيها ما ارتدى - هو - بدلته ذات الشريط الأحمر! كل هذا محتمل، بل هو مؤكد، وقد التهب جبينه خجلا وسخطا «لقد رأيت ساقك على الدراجة، عاجية جذابة، ولكنها ليست بمعجزة. لا توجد معجزات في هذه الدنيا؛ ألست تنامين كأي فتاة، وتغيبين عن الوجود كأي امرأة، وتحبلين كما تحبل الخادمة التي طردناها لفقرنا، وتعوين حين المخاض كأية كلبة!» وحك أنفه بسبابته فجأة فتنسم شذا لطيفا مما علق براحته عند السلام، فيه إثارة للأعصاب ونفاذ إلى القلب كأنه السحر، فأسكره عرفه وبث في نفسه رضا وسلاما، مسحا عن صدره أدران الحنق والألم. ولحظ طيفها اللطيف فحدس أنها شابكة ذراعيها على صدرها، وتمنى لو تريح ساعدها على يد المقعد فتمس ساعده عفوا، ثم تخيل صورة وجهها الذي ألقى عليه نظرة خاطفة وهو يسلم عليها، بطوله الممتلئ، وعينيها السوداوين اللتين تنمان عن حيوية وخفة، وهاله شعرها الأسود العميق السواد، وبشرتها النقية التي تزين وجنتها اليسرى شامة، ثم راح يستحضر صورة بهية، ويعرض الصورتين جنبا إلى جنب حيال مخيلته حتى اقتنع بأن هذه الفتاة ليست أجمل من فتاته، ولكنه شعر في الوقت نفسه بأن بهية جمال جامد، وهذه جمال متحرك، كأنما يبث في النفس حرارة ويشيع في الخيال حياة. وليس هذا فحسب؛ فإنها تمثلت لعينيه الطموحتين كرمز حي للدنيا الراقية التي يتطلع إليها بشغف جنوني. لم تكن فتاة بقدر ما كانت طبقة وحياة. وبرغم نشوته الراهنة لم يخدع عن حقيقة شعوره، ولم يتوهم أنها تغلغلت في قلبه حيث استكنت بهية؛ فهذه على سلبيتها المطلقة تقبض على جذور غرائزه وأعصابه، ولكن الأخرى تخاطب مباشرة طموحه الذي لا يقف عند حد، ولعله عرف على ضوء عينيها جانبا من نفسه كان غامضا، وهو أنه يؤثر في أعماقه الطموح على السعادة والسلامة! ثم هبطت عليه نوبة فتور مفاجئ فقال لنفسه: «إني أحلم أحلاما سخيفة! ولكن ألا يحق لي أن أروح عن صدري بالأحلام؟ أليست الأحلام نفسها حلما؟ بلى، إنها حلم، ولا يكدر صفوها إلا شعورنا الوهمي بأنها حقيقة!» وانقضى زمن لا يدريه قبل أن يتمكن من تركيز انتباهه في الشاشة، ولكنه كان قد استنفد حيوية كبيرة فبدا المنظر متعبا مملا، وتصبر عليه في جهد حتى انتهى وأضيئت الأنوار. والتقت الأعين فحنى رأسه تحية ثم انخرط في تيار الخارجين. انفلت من الزحام فتمشى في الطرق ساعة ثم استقل الترام إلى شبرا، وأقبل على حيه فبدت له عطفة نصر الله أشد كآبة من عهدها، وزكمت أنفه رائحتها التي يختلط بها التراب بالدخان بمواد شحمية كثيرة، فقطعها برما خابي العينين.
صفحه نامشخص