فقالت ببرود وهي تخفي ابتسامة: أصارحك بأن الكلية الجديدة قد زادت دمك ثقلا!
وذكر وهو لا يدري ما تعرض به نفيسة من ثقل دم فتاته، فرنا إليها متأملا، فوجدها جميلة فوق ما يشتهي، ولكنها لا تخلو من هذه الصفة! وما غاب عنه أنه يحب هذه الصفة كما يحب العاشق نقائض معشوقه، وعدل فجأة عن معابثتها فقال بحرارة: لم تغيبي عن نفسي لحظة واحدة طوال ذاك الفراق، وقد تعلمت جديدا، وهو أن الحب في القرب - على طموحه المعذب - جنة، أما على البعد فهو مأساة كاملة.
وخفضت عينيها دون أن تنبس، ولكنه شم في استسلامها وما اعتراها من سهوم رائحة الوجد الصامت، وامتلأت رئتاه بارتياح عميق ... وتحدث كيفما اتفق حتى بلغ الترام ميدان المحطة، فغادراه ومضيا صوب عماد الدين. وطلب إليها أن تتأبط ذراعه، ففعلت بعد تردد، ولما كانت تساير شخصا - غير أمها - لأول مرة فقد تولاها ارتباك وحياء، وشعرت بكوعه وهو يمس - عفوا أو قصدا - ثديها فسحبت ذراعها من ذراعه، وتساءل محتجا: ماذا فعلت؟! - هذا أروح لي.
فتغيظ لإفلات الفرصة وقال: سيكون من المعجزات تحويلك إلى زوجة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي امرأة محبة تعانق وتقبل ... إلخ إلخ!
وبعد حين قصير كانا يجلسان جنبا لجنب في السينما، وعاوده شعور بالزهو والخيلاء، غير أنه استأثر هذه المرة بميزتين؛ بدلته العسكرية، وحبيبته. ومر به كثيرون من زملائه الطلبة وخطفت أعينهم من فتاته نظرات متفحصة فتزايد شعوره بالسرور، ومال نحوها وهمس: ألا ترين أن جمالك يجذب الأنظار من المقاعد والألواح؟
فافتر ثغرها عن ابتسامة حيية، فانطلق مرحه وهمس مرة أخرى: قلبي يحدثني بأنني سأنال الليلة القبلة المشتهاة.
فرمته بنظرة وعيد ثم نظرت فيما أمامها، وحاول في الظلام أن يعابثها بكوعه أو بقدمه ولكنها لم تشجعه، ثم اضطرت تحت ضغطه وإلحاحه إلى أن تترك راحتها في راحته على الذراع التي تفصل بين كرسييهما، ومضى الوقت في سعادة شاملة.
65
وفي مساء الجمعة كان يقف بميدان الملكة فريدة ينتظر الأتوبيس رقم 10؛ ليحمله إلى الكلية. وكان أمضى نهارا سعيدا في أسرته، وتناول غداء لذيذا، وبدت نفيسة في مرحها المألوف ولكنها - على ذاك - قالت له على مسمع من أمها وبلهجة ساخرة: وددت لو رأيتك وأنت ذاهب مع «الهانم» إلى السينما!
وأدرك أن سره افتضح، وأن الحرب أعلنت فضحك عاليا، ونظر صوب أمه فرآها صامتة وعلى شفتيها ما يشبه الابتسامة، وشكر في نفسه بدلته العسكرية التي أنقذته من لكماتها إلى الأبد، وعادت نفيسة تقول بنفس اللهجة: ما أجملكما من زوجين! حضرتك في طول العمود والهانم طول الشبر، ودمها الثقيل يوسع لكما الطريق!
صفحه نامشخص