لم يحر جوابا وعلاه الارتباك، فاغتاظ السيد وتساءل مستنكرا: ولكنك عشت رغم توظفك في كفالتي كما كنت تعيش وأنت تلميذ، فماذا صنعت بمرتبك؟
فلم يزد على أن حرك شفتيه دون أن ينبس، فحرك الأب رأسه ممتعضا، وذكر قوله له منذ عام ونصف، وهو يوصيه لمناسبة توظفه: «لو طالبتك الآن بأن تتعهد بنفقات نفسك بوصفك رجلا مسئولا ما خرقت المألوف بين الآباء والأبناء، ولكني لن أطالبك بمليم واحد كي أهيئ لك فرصة لاقتصاد مقدار من المال تجده بين يديك إذا دعت الحاجة إليه.» ودل ذلك التصرف من جانبه على ثقته بابنه، والحق أنه لم يتصور أن يجنح أحد من أبنائه - بعدما نال من تأديبه وتهذيبه الصارمين - إلى هوى من الأهواء الجامحة التي تبدد المال، لم يتصور أن ينقلب ابنه «الصغير» سكيرا ماجنا؛ فالخمر والنساء التي يراها في حياته هو لونا من اللهو لا يمس رجولة ولا يؤذي إنما تنقلب إذا «لوثت» أحدا من أبنائه جريمة لا تغتفر؛ ولذلك فإن زلة الشاب التي كشفها في فناء البيت طمأنته بقدر ما أغضبته؛ لأن أم حنفي في نظره لا يمكن أن تغري شابا إن لم يكن تحمل ما فاق طاقته من الاستقامة والعفة ... أجل لم يشك في براءة ابنه، بيد أنه ذكر ما لاحظه كثيرا من ولعه بالأناقة، وتخيره النفيس من البدل والقمصان وأربطة الرقبة، وكيف لم يرتح إلى ذلك وحذره الإسراف ولكن تحذيرا هينا، إما لأنه لم ير في الأناقة جريمة، وإما لأن تشبه ابنه به وتكراره لصورة من صور سلوكه - الذي لا يرى بأسا في أن يكرره أبناؤه - حركا في صدره العطف والتسامح، ولكن كيف كانت نتيجة ذلك التسامح؟ هي ما وضح له الآن من تبذيره نقوده في التافه من الكماليات. ونفخ الرجل مغيظا محنقا، وقال له محتدا: اغرب عن وجهي ...
غادر ياسين الحجرة مغضوبا عليه بسبب تبذيره لا بسبب زلته كما توقع وهو ذاهب إلى الحجرة، تبذيره الذي لم يكربه من قبل فسلم إليه نفسه بلا تفكير ولا تدبر، ينفق ما في جيبه حتى يفرغ غارقا في ساعته، متعاميا عما يسمونه «المستقبل» كأنه شيء لا وجود له، ومع أنه غادر الحجرة مرتبكا وجلا لنهرة أبيه، إلا أنه لم يخل من ارتياح عميق؛ إذ أدرك أن تلك النهرة لا تعني طرده فحسب، ولكن أيضا أن السيد سيتكفل بنفقات زواجه، ومضى كالطفل الذي يضيق أبوه بإلحاحه في طلب قرش، فينقده إياه ويدفعه خارجا ، فينسى شدة الدفعة في فرحة الظفر. ولبث الأب ساخطا وراح يردد: «يا له من حيوان، جسم طويل عريض ولكن بلا مخ!» أغضبه إسرافه كأنه لا يتخذ هو من الإسراف شعارا في الحياة - ولكنه لا يرى بأسا في إسرافه كسائر أهوائه - ما دام لا يفقره وينسيه واجباته أو يدهور شخصيته، ولكن كيف يضمن أن يصمد أمامه ياسين؟ ... فلم يكن يحرم عليه ما يحل لنفسه من استبداد وأنانية فحسب، ولكن شفقا عليه وإن دل شفقه هذا على ثقة بالنفس وعدم ثقة بالآخر لا يخلوان من غرور. وزايله الغضب كعادته بنفس السرعة التي ركبه بها، فصفت نفسه وانبسطت أساريره، وأخذت الأمور تتبدى له بوجه جديد لطيف مسماح ... «تريد أن تتشبه بأبيك يا تور ... إذن لا تأخذ جانبا وتهمل الجوانب الأخرى، كن أحمد عبد الجواد كله إن استطعت أو فالزم حدودك، أحسبتني حقا سخطت على تبذيرك لأني كنت أرجو أن أزوجك بنقودك؟! خسئت ... إنما رجوت أن أجدك مقتصدا كي أزوجك بنقودي على وفرة النقود لديك، هذا هو الرجاء الذي خيبت. وهل حسبتني لم أفكر في اختيار زوجة لك إلا بعد ضبطك متلبسا بالزنا، وأي زنا ... زنا حقير كحقارة ذوقك وذوق أمك؟! كلا يا بغل، إني أفكر في سعادتك منذ توظفت، كيف لا وأنت أول من جعلني أبا ... وأنت شريكي في العذاب الذي أصلتنا إياه أمك اللعينة؟! ... ثم أليس من حقي أن أفرح بك خصوصا وأنه علي أن أنتظر طويلا حتى أفرح بالثور الآخر أخيك أسير العشق، ويا ترى من يعيش؟!» في اللحظة التالية استرجع ذكرى ذات سبب وثيق بموقفه الراهن ذكر كيف قص على السيد محمد عفت «جريمة» ياسين، وما كان من زجره وجذبه تلك الجذبة التي كادت تلقيه على وجهه، وهو بصدد طلب يد كريمته للشاب - الواقع أن الموافقة على ذلك تمت بين الرجلين من قبل مفاتحة ياسين - وكيف قال له الرجل: «ألا ترى أنه يجمل بك أن تغير من معاملتك لابنك كلما قارب سن الرشد، خاصة إذا توظف وصار رجلا مسئولا (ثم ضاحكا) الظاهر أنك من الآباء الذين لا يرتدعون حتى يجهر أبناؤهم بالثورة عليهم.» وكيف أجابه بثقة قائلا: «هيهات أن تتعرض الرابطة بيني وبين أبنائي لتغير الزمن.» صدرت عنه الإجابة الأخيرة بمباهاة وثقة لا حد لها، على أنه اعترض له بعد ذلك أن معاملته تتغير في الواقع بتغير الأحوال، وإن عمل من جانبه على ألا يفطن أحد إلى نية التغيير الباطنة، ثم قال: «الحق أني لا أقبل أن أمد يدي الآن على ياسين ولا حتى على فهمي، والحق أني جذبت ياسين تلك الجذبة تحت تأثير غضب ثائر، ومن غير أن أقدر المدى الذي ذهبت إليه.» ثم استطرد قائلا وهو يكر إلى فترة من الماضي البعيد: «كان أبي رحمة الله عليه يلتزم في تربيتي شدة تهون إلى جانبها شدتي مع أبنائي، ولكنه سرعان ما غير من معاملته لي منذ أن دعاني إلى معاونته في الدكان، ثم استحالت معاملته صداقة أبوية منذ تزوجت أم ياسين، وقد بلغ بي الاعتزاز بالنفس أن عارضت في زواجه الأخير لكبره من ناحية، وحداثة سن العروس من ناحية أخرى، فلم يزد على أن قال لي: أتعارضني يا ثور ... وما دخلك في هذا الشأن؟ إني أقدر منك على إرضاء أية امرأة.» فما تمالكت أن ضحكت وطيبت خاطره معتذرا.» ذكر هذا كله فورد على ذهنه المثل القاتل «إذا كبر ابنك آخه» فشعر - ربما لأول مرة في حياته - بتعقد مهمة الأبوة كما لم يشعر به من قبل. في نفس الأسبوع أذاعت الأم خطبة ياسين في مجلس القهوة، كان فهمي قد علم بها عن طريق ياسين نفسه، أما خديجة فما تمالكت أن ربطت بين الخطبة وبين ما عرف من قبل عن غضب الأب على ياسين ظنا منها أن الغضب إنما وقع نتيجة لرغبة ياسين في الزواج قياسا على ما كان بين الأب وفهمي للسبب نفسه، فصرحت برأيها كالمتسائلة، فقال ياسين ضاحكا وهو يخطف من الأم نظرة لا تخلو من حياء وارتباك: الحق أن ثمة علاقة قوية بين الغضب وبين الخطبة.
فقالت خديجة متظاهرة بالاستنكار على سبيل السخرية والمزاح: بابا معذور في غضبه؛ لأن حضرتك لا يمكن أن تشرفه أمام صديق كبير مثل السيد محمد عفت.
فجاراها ياسين في سخريتها قائلا: وسوف يزداد موقف أبي حرجا إذا ما علم السيد الكبير المذكور بأن للعريس أختا مثل حضرتك!
عند ذاك تساءل كمال: هل سيتركنا ياسين كما تركتنا أبلة عائشة؟
فقالت له أمه باسمة: كلا، ولكن ستنضم إلى بيتنا أخت جديدة هي العروس.
ارتاح كمال إلى هذه الإجابة التي لم يكن يتوقعها، ارتاح إلى بقاء «راويته» الذي يمتعه بحكاياته ونوادره ومؤانسته، ولكنه عاد يتساءل لماذا لم تبق عائشة أيضا؟ فأجابته أمه بأن العادة قضت بأن العروس تنتقل إلى بيت العريس وليس العكس، لم يدر من سن هذه العادة، وكم تمنى لو كان العكس هو المتبع، ولو يضحي بياسين ولطائفه. بيد أنه لم يستطع أن يجهر برغبته فأفصح عنها بنظرة ناطقة رنا بها إلى أمه. فهمي وحده الذي أثار الخبر أشجانه، لا لأنه لم يشارك ياسين فرحته، ولكن لأن سيرة الزواج غدا شأنها أن توقظ عاطفته وتستثير حزنه كما تستثير سيرة النصر حزن أم فقدت ابنها في موقعة ظافرة.
43
تحرك الحنطور مقلا الأم وخديجة وكمال في طريقه إلى السكرية. أيكون زواج عائشة إيذانا بعهد جديد من الحرية؟ أيقدر لهم أخيرا أن يطلعوا على نور الدنيا من حين لآخر، وأن يتنفسوا هواءها الطليق؟! بيد أن أمينة لم تستسلم للتفاؤل أو تسبق الحوادث، فالذي حرم عليها زيارة أمها فيما ندر قادر على أن يحرم عليها زيارة ابنتها كذلك. ولم تنس أنه مضت أيام كثيرة على زواج الفتاة زارها خلالها الأب وياسين وفهمي وحتى أم حنفي دون أن يؤذن لها هي بزيارتها أو تواتيها شجاعتها على الاستئذان للزيارة، تحرزت من تذكيره بأن لها ابنة في السكرية يجب أن تراها، ولازمت الصمت وإن لم تبرح صورة الصغيرة مخيلتها، على أنه لما ضاق صدرها بآلام التصبر استجمعت إرادتها وسألته: إن شاء الله يكون سيدي عازما على زيارة عائشة قريبا لنطمئن عليها ؟
صفحه نامشخص