42
علم بفضيحة ياسين شخصان - غير أبيه وأم حنفي - هما ست أمينة وفهمي، سمعا صرخة أم حنفي، فشاهدا من نافذتيهما ما دار بين الشاب وبين السيد، ثم حدسا ما هنالك دون حاجة إلى كبير ذكاء، على أن السيد كاشف زوجه بزلة ابنه، وسألها مدققا عما تعلم من أخلاق «أم حنفي»، فدافعت أمينة عن خادمتها بما علمت من طبيعتها واستقامتها، وذكرت السيد بأنه لولا «صرختها» ما درى أحد بما كان. فقضى الرجل ساعة وهو يسب ويلعن، سب ياسين، وسب نفسه؛ لأنه «ما كان ينبغي أن ينجب أطفالا ليكدروا صفوه بأهوائهم الشريرة»، واستفاض به الغضب فسب البيت وأهله جميعا! ... وظلت أمينة صامتة كما واصلت صمتها فيما بعد كأنما لم تدر شيئا، كذلك تجاهل فهمي الأمر كله، تظاهر بالاستغراق في النوم حين عاد أخوه إلى الحجرة لاهثا عقب الموقعة الخاسرة، ولم يبد منه فيما بعد ما ينم عن علمه بشيء، كره أن يعلم الآخر بوقوفه على ما نزل به من ذل ومهانة إكراما لاحترام يكنه له بصفته أخاه الأكبر، احترام لم يذهبه كل ما تكشف له من استهتاره ومجونه، أو ما تقدم هو به عليه من علم وثقافة، أو ما يبدو من ياسين نفسه من عدم مبالاة بإلزام أحد من إخوته باحترامه بما يعابثهم من مزاح ودعابة، أجل لم يزل يكن له احتراما لعل حرصه على الإبقاء عليه راجع إلى ما يأخذ به نفسه من تأدب وجد ورزانة أكسبته مظهرا أكبر من سنه، بيد أن خديجة لم يفتها أن تلاحظ - غداة الواقعة - أن ياسين لم يتناول فطوره على مائدة أبيه، فسألته باستغراب عن المانع، فأجابها بأنه لم يهضم عشاء الفرح، وشعرت الفتاة - بسوء ظنها الطبيعي المرهف - بأنه ثمة علة لتخلفه غير عسر الهضم، فساءلت أمها ولكنها لم تجد جوابا شافيا، ثم رجع كمال من حجرة الطعام وهو يتساءل أيضا، لا بدافع من حب الاستطلاع أو الأسف، ولكن أملا أن يجد في الجواب ما يبشره بفترة أخرى يخلو الميدان فيها من منافس خطير كياسين، وكاد الأمر ينسى لولا أن ياسين غادر البيت مساء من غير أن يشترك في مجلس القهوة المعهود، ومع أنه اعتذر لفهمي والأم بارتباطه بميعاد إلا أن خديجة قالت بصراحة: «في الأمر شيء، لست عبيطة ... أقطع ذراعي إن لم يكن ياسين متغيرا.» وعند ذاك اضطرت الأم أن تعلن غضب السيد على ياسين لسبب لم تعلمه ... وانقضت ساعة وهم يخمنون السبب، حتى أمينة وفهمي اشتركا مع الآخرين مداراة للواقع. وظل ياسين على تجنبه لمائدة أبيه حتى دعي ذات صباح إلى مقابلته قبل الفطور. لم تفجأه الدعوة، وإن أزعجته رغم ذلك، فكم توقعها يوما بعد يوم لاستيثاقه من أن أباه لا يمكن أن يقنع من زلته بتلك الجذبة العنيفة التي كادت أن تلقيه على وجهه، وأنه لا بد عائد إليها بطريق أو بآخر، ولعله توقع أيضا معاملة لن تليق بحال بموظف مثله مما حمله حينا على التفكير في مغادرة البيت إلى حين أو إلى الأبد. أجل لا يجمل بأبيه - أبيه كما عرفه في بيت زبيدة خاصة - أن يلقى زلته بهذا العنت كله، كما لا يجمل به هو أن يعرض نفسه لمعاملة لا تليق برجولته، فالأكرم له أن يفارقه، ولكن إلى أين؟ ... ليس إلا أن يعيش عيشة مستقلة بمفرده، ولن يعجزه هذا، بيد أنه قلب الأمر على مختلف وجوهه، قدر النفقات، وتساءل عما يبقى له بعدها لملاذه، لقهوة سي علي وحانة كستاكي وزنوبة. هنالك فتر حماسه حتى انطفأ كما تنطفئ شعلة سراج تعرضت لهبة هواء عنيفة، وراح يقول لنفسه وهو شاعر بخداعه: «لو طاوعت الشيطان وهجرت البيت لأحدثت تقليدا خبيثا لا يليق بأسرتنا، مهما يقل أبي أو يفعل فهو أبي، وهيهات أن تضام حيال تأديبه.» ثم قال بصراحته التي يصطنعها إذا غلبته روح الدعابة: «شيئا من التواضع يا ياسين بك، دعنا من الكرامة وحياة أمك، أيهما أحب إليك كرامة سيادتك أو كونياك كستاكي وسرة زنوبة!» هكذا عدل عن التفكير في مغادرة البيت ولبث ينتظر الدعوة المتوقعة حتى وقعت فجمع نفسه ومضى كارها متوجسا، دخل الحجرة خافض الرأس خفيف القدم، ووقف بعيدا عن مجلس أبيه من غير أن يجرؤ على التسليم عليه وانتظر. وألقى السيد عليه نظرة طويلة ثم هز رأسه كالمتعجب وهو يقول: ما شاء الله! ... طول وعرض، شارب وقفا، إذا رآك الرائي في الطريق قال لنفسه بإعجاب نعم الرجل ونعم الابن، فليت القائل يجيء إلى البيت ليراك على حقيقتك!
ازداد الشاب ارتباكا وحياء ولكنه لم ينبس بكلمة، ومضى السيد يتفحصه بسخط، ثم قال باقتضاب وبلهجة جافة آمرة: قررت أن تتزوج!
ودهش ياسين دهشة لم يكد يصدق معها أذنيه، كان يتوقع سبا ولعنا فحسب، ولكن لم يخطر له على بال أنه سيسمع قرارا خطيرا يغير مجرى حياته كله، فما تمالك أن رفع عينيه إلى وجه أبيه حتى إذا ما التقتا بعينيه الزرقاوين الحادتين خفضهما متورد الوجه لائذا بالصمت، وفطن السيد إلى أن ابنه بوغت بهذا القرار «السعيد» بدلا من المعاملة الفظة التي كان يتوقعها، فثار حنقه على الظروف التي أملت عليه أن يلقاه بجانب دمث خليق بتكذيب ظنه بجبروته المعروف، فبث حنقه في نبرات صوته، وهو يقول عابسا: الوقت ضيق وأريد أن أسمع جوابك.
ما دام الرجل قد قرر أن يزوجه، فهو يأبى إلا أن يسمع جوابا واحدا، ولا مانع من أن يسمعه الجواب الذي يريد، لا طاعة لأمره فحسب، ولكن تلبية لرغبته هو أيضا. أجل ما كاد والده يعلنه بقراره حتى انطلق خياله يصور له «عروسا» حسناء، امرأة تكون ملك يمينه ورهن إشارته حين يشاء، فأبهج الخيال قلبه حتى أوشك أن يفضحه صوته وهو يقول: الرأي رأيك يا بابا. - تريد أن تتزوج أم لا؟ ... انطق.
فقال الشاب بحذر من يرغب الزواج وهو غير مستعد له ماليا: ما دامت هذه هي إرادتك فإني موافق على العين والرأس.
فخفف السيد من خشونة لهجته وهو يقول: سأطلب لك كريمة صديقي السيد محمد عفت تاجر الأقمشة بالحمزاوي، لقية ظفرها برقبة ثور مثلك.
فابتسم ياسين ابتسامة خفيفة وقال مداهنا: ولكني بفضلك أصير كفئا لها.
فرمقه بنظرة حادة كأنما لينفذ بها إلى أعماق مداهنته وقال: من يسمع كلامك لا يتصور فعالك يا منافق ... اغرب عن وجهي.
وهم ياسين بالتحرك ولكنه أوقفه بإشارة من يده، ثم تساءل مستدركا كأنما عرض التساؤل له اتفاقا: أظنك حوشت المهر؟
صفحه نامشخص