وقمت إلى المكتب وبحثت طويلا حتى عثرت على الأوراق مهوشة غير مرتبة، وما كادت تراها وتدرك أن هناك حقيقة خطابا حتى هبت واقفة وقالت بفرح طفولي: دعني أقرأه، دعني أقرأه.
فرح لم أكن أشهده في عينيها حين تلقاني أو تتحدث إلي، فرح غريب، وكأنه فرح للقاء حبيب وليس لقراءة خطاب، ومع هذا أصررت على أن أقرأه أنا لها؛ فقد كان مكتوبا بطريقة لا يمكن لأحد أن يحل ألغازها سواي.
ووافقت سانتي على مضض وكأنما حرمت من متعة خفية خاصة وجلست على الكرسي أمامي، وأشعلت سيجارة أخرى قدمتها لها حرصا مني على أن يكون مزاجها وهي تستمع في حالة اعتدال تام.
ومضيت أقرأ، ولم أكد أنتهي من الفقرة الأولى حتى كنت قد بدأت أصغي رغما عني لصوت غريب محايد يصدر من نفسي، ويدلي بوجهة نظر في المشهد لم تخطر لي على بال؛ فأنا شاب في الخامسة والعشرين من عمره، مطلع ومجرب وتحمل من المسئوليات ما يعجز عنه أحيانا رجال أكبر منه سنا وتجربة واطلاعا. شاب يحب هذه المرأة الصغيرة المتزوجة، والاثنان يجمعهما معترك ثوري واحد، وبينهما كل ما يستطيع الإنسان أن يتصوره من حرج وارتباك، وقد جاءت بعد حادثة فشل ضخمة، ومعنى مجيئها أنها لا تخاف من أن تخوض التجربة مرة أخرى، لا تخاف حتى لو نجحت ونالها ذلك الشاب، ومع هذا فكل ما يستطيعه شاب كهذا هو أن يجلسها أمامه ويقرأ لها خطابا كتبه في الليلة الماضية!
كان من المحتمل أن تكون هذه أيضا وجهة نظر أي مشاهد يدخل علينا فجأة ويرانا ونحن على هذا الوضع، وجهة النظر التي كنت كلما فكرت فيها أزداد ارتباكا فوق ارتباكي، وكيف لا أرتبك وأنا أومن بأن ما أفعله شيء وأن ما يجب علي عمله شيء آخر؟
وكيف لا أتعثر وأسخط على نفسي وأنا أرى أن الطريقة التي أتبعها هي آخر طريقة تصلح أن يتبعها محب، ومع هذا فلا أستطيع سلوك غيرها أو الخروج عنها؟
ولكني بتوالي سطور الخطاب وصفحاته بدأ الصوت في داخلي يخفت، وبدأت أنسى ويقل ارتباكي وأحيا شيئا فشيئا فيما كتبته وما كنت أقرؤه. كان الخطاب طويلا أكثر من عشرين صفحة، ومكتوبا بخط محموم رديء، وكنت لا أملك نفسي في أجزاء منه فأكاد أقشعر، أجزاء كانت تنفذ مباشرة إلى إحساسي حتى بغير أن أعي معانيها وعيا كاملا، أجزاء أحس أنها ليست كتابة ولا مجرد خواطر سجلتها، ولكنها قطع صغيرة حية استخرجتها بطريقة ما من أغوار جسدي، قطع حية تتشابك أمامي وتنبض وأحس فيها دفء الحياة، وأكاد أرى فيها صراخي وعذابي وتمزقي وقد تحول إلى أنين طويل حتى لا يموت. كنت كمن يتفرج على نفس أخرى غير نفسه، نفس أخرى تحب بقوة وقسوة وظمأ وحشي، وتحاول أن تجد قطرة حب تمتصها فلا تجد، فتئن وتعوي وتتلوى. كنت وكأني قد أصبحت شخصين: شخصا يعذب وشخصا يتفرج ويستغرب، والأعجب من هذا أن كليهما يحب سانتي، وأني بكليهما أحاول أن أظفر بها.
ونص الخطاب غير مهم؛ فوأنا أكتبه وأنا أقرؤه وأنا أرقب سانتي وهي تسمعني، لم يكن يدور في ذهني غير شيء واحد فقط، هو أن أحاول أن أعرف إن كانت قد أحبتني هي الأخرى مثلما أحببتها أو لا. كان كل همي وهم خططي، وحتى الهدف الحقيقي من وراء محاولاتي أن أنالها، لم يكن الهدف أن أجعلها تحبني ولكن أن أعرف إن كانت قد أحبتني فعلا. لم يكن مهما عندي حتى لو تأكدت أنها حتما ستحبني غدا مثلا، كل همي كان أن أعرف إن كانت قد أحبتني في نفس الوقت الذي كنت أحبها فيه أم لا.
توقفت هنيهة عن القراءة، ثم بلعت الغصة التي تكونت في حلقي ومضيت أقرأ، ومن تلك اللحظة بدأت أقرأ بنصف انتباه؛ فنصف انتباهي الآخر كان مركزا تركيزا غير ملحوظ على ملامحها، فإذا كنت في المشهد السابق لم أجد لديها علامة واحدة من علامات إرادتها لي، فقد بقي سؤال: لماذا تواظب على مجيئها إذن؟ ولماذا جاءت في هذا اليوم بالذات؟ وكان هناك جوابان لهذا السؤال: إما أنها جاءت لتتفرج على إنسان يحبها وتحس بأنها مرتبطة به بشكل ما لأنه يحبها، وإما أنها جاءت بدافع من نفسها وعواطفها. مضيت أراقب ملامحها لأعرف إن كانت تتفرج أم هي تحيا المشهد ومنفعلة به وبكلمات الخطاب.
أما الانفعال فقد كان هناك حقيقة انفعال، أما سبب الانفعال فتلك هي المشكلة. ترى أهو انفعال متفرجة أو انفعال محبة؟ إن المتفرج أيضا ينفعل وخاصة إذا كان يتفرج على من يحبه، بل أحيانا يتطلب الموقف من المتفرج أن يمثل دور الحبيب ليرضي هذا الذي يعذب نفسه في حبه.
صفحه نامشخص