وكان مفروضا أن يسعدني هذا الاستنتاج وأكتفي به، وأجلس هادئا مطمئنا وأترك الحديث يقود نفسه بلا خطة أو تعمد؛ فأروع النتائج تأتي أحيانا لمن لا ينتظرها، ولكني لم أهدأ وأسعد إلا للحظة قصيرة جدا، القلق الناري المدمر الذي كان يجتاحني كلما رأيتها أو حتى فكرت فيها، ذلك القلق كيف كان باستطاعتي أن أهرب منه؟
قلت لنفسي: ها هي ذي قد جاءت بأقدامها كما يقولون، لم تغضب ولم تستنكر، بل وأكثر من هذا جاءت متسائلة محبة للاستطلاع، أعتبر إذن أن ما حدث بالأمس كان تجربة فاشلة، وأبدأ معها الآن فورا تجربة ناجحة.
وكان ممكنا أن ينتفض عقلي علي ويثور، ويتصور ما يحلو لي من أوهام وأوضاع، أما أن أنفذ هذا فشيء مستحيل تماما. سانتي كانت أمامي، على بعد خطوة واحدة مني، أستطيع أن أشل مقاومتها كلها بأصبعين اثنتين من أصابعي وأنالها عنوة، ثم أنفض يدي منها كما أريد، ولكنني لم أكن أستطيع، أبدا لم أكن أستطيع، كنت متأكدا أنها لو غضبت حتى من فعلتي فستصفح عني بعد هذا وتغفر لي، بل من الممكن أن تذكرني بها بعدئذ وتضحك وأضحك معها. كنت متأكدا ألا بروتوكولات في الحب، فإذا ما وجدت في مكان واحد مع شخص تحبه، وتعتقد أنه يحبك، فأسلم تصرف هو أي تصرف طالما أن الحب دافعه.
كنت مؤمنا بهذا ومتأكدا منه، ولكن ما فائدة الإيمان به والقيود التي تغلني في مكاني وتربطني إلى مقعدي أقوى ألف مرة من كل الحقائق التي أومن بها وأعرفها؟ ما فائدة إيماني وأنا كلما أدركت أن نوالها أمر سهل لا يكلفني إلا فك قيودي أحسست بالقيود تتضاعف وتضيق، وكلما وجدت سانتي قريبة مني راضية ومستعدة لأن ترضى أحسست بها تبعد عني وتبعد حتى لتصبح أبعد من أن أنالها ببصري أو حتى بخيالي.
ظلت سانتي تجذب أنفاسا من سيجارتها حتى تكونت لها بقية طويلة متماسكة من الدخان المحترق، وقمت من مكاني وقدمت لها الطفاية. وبينما هي تدق على السيجارة بأصبعها السبابة وعيناها تنظران إلى السيجارة من خلف جفون تكاد تكون مغلقة، عاودني مرة أخرى ذلك الخاطر، لقد جاءت يدفعها حب الاستطلاع لمعرفة أثر ما حدث بالأمس، والموقف بيننا قد سكن وهمد، ولا بد من عمل أقوم أنا به لأبدد ذلك الجو. وأكثر ما كان يضايقني هو هذا الإحساس الملح بضرورة أن أقوم بعمل، كلما وجدت معها في مكان يبدأ القلق ينهش صدري وأحس أنني أنا الذي يجب عليه أن يتحدث، وأنا الذي يجب عليه أن يقطع الصمت إذا حل الصمت، وأنا الذي يبدد الوجوم إذا حل وجوم، وعلي في هذه المرة أيضا أن أرد على حب استطلاعها، علي أن أفسر موقفي وأوضحه، إنها تنتظر مني وتتوقع، فكيف أخيب أملها في؟
وتلاقت نظراتنا لقاء سريعا خاطفا، وابتسمت هي ابتسامة سريعة هي الأخرى خاطفة، وما لبثت أن خفضت عينيها وركزتهما على السيجارة التي بين أصابعها، وفجأة عادت تنظر إلي وتبتسم. حين التقت نظراتنا للمرة الثانية قالت وكأنما تذكرت شيئا: أراك لم تكتب لي خطابا آخر.
وانتهزت الفرصة وقلت لها في مكر: ومن أين لك أن تعرفي ؟ ربما أكون قد كتبت.
قلتها على سبيل المزاح، ولكني تذكرت أني حقيقة قد سجلت خواطري عما دار بالأمس على شكل خطاب موجه مني إليها، وفعلت هذا وأنا لا أحس أني أسجل شيئا أو أوجه لها خطابا، وكأنما فعلته في غيبة وعيي، ثم نسيته.
ويبدو أن تذكري لهذا الأمر جعل بريقا ما يشع من ملامحي؛ فقد وجدتها تعود تقول: صحيح، ألم تكتب خطابا؟
وسرني شغفها هذا، وقلت: لست أذكر تماما، ولكن ... هيه، دعينا نرى.
صفحه نامشخص