وأما قول الآخر وما جاء به من نعت للحبلى، فإن أول ما غلط به هذا الجاهل أنه وضع كلمة الانتقام في موضع كلمة الإنعام حين قال: " ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى "، وإنما تستعمل هذه اللفظة في العقوبات ونحوها كقوله: ﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾، وكقوله سبحانه: ﴿ما يفعل الله بعذابكم﴾ وكقوله: ﴿وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال﴾ وكقول القائل: فعل الله بفلان وفعل، إذا دعا عليه، وإنما وجه الكلام مما رامه من المعنى أن يقول: ألم تر إلى ربك كيف لطف بالحبلى، وكيف أنعم عليها أو نحوًا من هذا الكلام الذي يجري مجرى الامتنان والإنعام. وأما قوله: أخرج منها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى، فإنما تعاطى استراقا من قول الله تعالى: ﴿خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب﴾، وهذا في أول تارات الخلقة التي ذكرها الله سبحانه ﷿؛ ثم ذكر في آية أخرى عدد انتقالاته في الرحم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم. وإنشاء خلق بعد ذلك آخر، وهو اجتماع الصورة ونفخ الروح فيها، فدل بها على عظيم قدرته ولطيف حكمته وسعة رحمته، فتبارك الله أحسن الخالقين، وإنما تتصرف به هذه الأحوال بعد الانتقال إلى الرحم، وبين الرحم والشراسيف مسافة وحجب. قال أصحاب التشريح: الرحم موضوعة بين المثانة والمعي المستقيم، فلم يدر هذا البائس ما يقول حين جعل الولد بعد الحبل خارجًا من بين الشراسيف والحشى تمثلًا بقوله جل وعز: ﴿يخرج من بين الصلب والترائب﴾ فغلط في الوصف.
1 / 69