لطف الشمائل ورقة الذوق، وبهاء الفطنة، ونفاذ العقل، وسعة العرفان، وحسن التدبير، والحذق في العمل مع المحافظة على النظام فيه، ونظافة الباطن والظاهر، وحنو القلب، وصدق اللسان، وطهارة الذمة، وعظم الأمانة، والإخلاص في الولاء، ونحو ذلك من الفضائل المعنوية التي ترجح عند العقلاء على جميع المحاسن الجسدانية.
15
هذا هو مثله النسائي الأعلى، وبهذا المثل القاطن جوارحه يسير في سبيل الحياة مراقبا المرأة المصرية في خبرته القانونية، وفي العائلة والاجتماع والأمة جميعا. فماذا يجد؟ يجد ما يدفعه إلى كتابة كل ما كتب في سبيل إصلاحها، يجد ما يجعله يقول في التمهيد لكتاب «تحرير المرأة»:
أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت علي بالتجربة وأخذت بمجامع خواطري. ولا أريد أن أذكر شيئا منها؛ لعلمي أنها ما تركت ذهنا حتى طافت به ولا خاطرا حتى وردت عليه. فإن مثار هذه الحوادث جميعها شيء واحد، هو المرض الملم بجميع العائلات، لا فرق بين فقيرها وغنيها ولا بين وضيعها ورفيعها.
ويرى يوما فتاة صغيرة يعجبه منها الذكاء والجمال، فيشير على والدها بتعليمها، ويجيب هذا بأنها تتعلم إدارة المنزل، وهذا يكفي. فيشفق قاسم على هذا الصلف والجهل وينطلق مفسرا.
يعني هذا الأب العنيد بإدارة المنزل أن بنته تعرف شيئا من صناعة الخياطة وتجهيز الطعام واستعمال المكوى وما أشبه ذلك من المعارف التي لا أنكر أنها مفيدة بل لازمة لكل امرأة. ولكني أقول ولا أخشى نكيرا أنه مخطئ في توهمه أن المرأة التي لا يكون لها من البضاعة إلا هذه المعارف يوجد عندها من الكفاءة ما يؤهلها إلى إدارة منزلها؛ ففي رأيي أن المرأة لا يمكن أن تدبر منزلها إلا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقلية والأدبية. «والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فنا واسعا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة. فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصروف بقدر ما يمكن من التدبير حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة. وعليها مراقبة الخدم بحيث لا يفلتون لحظة من مراقبتها، وبغير هذا يستحيل أن يؤدوا خدمتهم كما ينبغي. وعليها أن تجعل بيتها محبوبا إلى زوجها فيجد فيه راحته ومسرته إذا أوى إليه، فتحلو له الإقامة فيه ويلذ له المطعم والمشرب والمنام، فلا يطلب المفر منه ليمضي أوقاته عند الجيران أو في المحلات العمومية. وعليها - وهو أول الواجبات وأهمها - تربية الأولاد جسما وعقلا وأدبا» ... «ومن المعلوم أن الطفل لا يعيش من طفولته إلى سن التمييز إلا بين النساء» ... «والأم الجاهلة ليس في استطاعتها أن تصبغ نفس ولدها بصبغة الصفات الجميلة؛ لأنها لا تعرفها» ... «قد صار من المقرر عندنا أن الأمهات لا يفلحن في تربية الأولاد حتى صار من المثل في الحطة ورداءة السيرة أن يقال فلان تربية امرأة.»
16
بل هو يذهب إلى أبعد من أن يحصر وظيفة الزوجة في إدارة المنزل وتربية الأطفال، هو يريد زوجة تقاسمه أفراحه وآلامه وكلامه وسكوته. يريد منها أختا لروحه فيشكو ويقول:
إن الرجل أحيانا (ولست أدري هل كل رجل كذلك) يفهم بكلمة ويود لو يفهم بالإشارة. يسكت في أوقات ويتكلم في أخرى ويضحك في غيرها. «له أفكار يحبها ومذهب يشغله وجمعية يخدمها ووطن يعزه. له لذائذ وآلام معنوية؛ فيبكي مع الفقير ويحزن مع المظلوم ويفرح بالخير للناس. وفي كل فكرة تتولد في ذهنه وإحساس يؤثر على أعصابه يود أن يجد بجانبه إنسانا آخر فيشرح له ما يشعر به ويتسامر معه» ... «فإذا كانت امرأته جاهلة كتم أفراحه وأحزانه عنها، ولا يلبث أن يرى نفسه في عالم وامرأته في عالم آخر. ومن ثم تبتدئ عيشة لا أظن أن الجحيم أشد نكالا منها. عيشة يرى كل منهما فيها أن صاحبه هو العدو الذي يحول بينه وبين السعادة» ... «والزوجة المصرية - مهما كانت - لا تعرف من زوجها سوى أنه طويل أو قصير، أبيض أو أسود. أما قيمة زوجها العقلية والأدبية وسيرته وطهارة ذمته ورقة إحساسه ومعارفه وأعماله ومقاصده في الوجود وكل ما تصاغ منه شخصية الرجل منا ويصير به إلى أن يكون محترما محبوبا ممدوحا في أمته، فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه. وإن وصل فلا يؤثر على منزلته في نفسها. وعلى هذا أول من يجهل الرجل زوجته. فكيف يظن أنها تحبه؟!» ... «أبغض الرجال عندها من يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه. كلما رأته جالسا منحني الظهر مشغولا بمطالعة كتاب غضبت منه ولعنت الكتب والعلوم التي تسلب منها هذه الساعات وتختلس الحقوق التي اكتسبتها على زوجها. ومن هذا يتولد على الدوام نزاع لا ينتهي إلا بنزاع جديد ولا يدري الزوج المسكين ماذا يصنع إذا أراد الجمع بين هذين العدوين: الزوجة والعلم» ... «ومن البديهي أن الرجل الذي يكون هذا حاله ينتهي بفقد كل استعداد للعمل؛ لأن الرجل يطلب راحته وهي في يد امرأته ولكنها تبخل بها عليه.»
17
صفحه نامشخص