11
وكما أن الطبيب منه ودود كذلك القاضي مفكر. هذا يصغي إلى أقوال الشهود ويجمع حيثيات حكمه في حين أن ذاك يغوص في نفس المتهم ويقلب صفحات حياته حتى يصل إلى كلمة الاستهلال، حتى يصل إلى أمه، نعم أمه؛ كيف كانت؟ وكيف ربت هذا المسكين؟ وعلى أي وجه تربت هي قبل أن تلتقي بالذي صار فيما بعد أبا له؟ ويتسلسل بحثه إلى نساء أخريات، وإلى جميع النساء، فيرى حالتهن كما هي، ويعذر الذي يناقضه في الرأي لأنه لم ير ما رأى هو. فلا يجد ذاك صعوبة في أن يحكم على المرأة بالانزواء في المنزل. وإنما:
يجد الصعوبة رجل اعتاد أن يحلل النظريات ويختبرها بقياسها إلى الواقع، فإنه إذا أراد مثلا أن يحصل لنفسه رأيا فيما هي حقوق النساء التي نحن بصددها يجب عليه أولا أن يسوق نظره إلى الوقائع التي تمر أمامه. أعني أن يطبق نظريته على الواقع ويتصورها في ذهنه منفذة ومعمولا بها في قرية، ثم في مدينة، ثم في إقليم، وتتمثل أمامه النساء في جميع أعمارهن وأحوالهن وطبقاتهن فيراهن بنات ومتزوجات ومطلقات وأرامل. ويراهن في البيت وفي المدرسة وفي الغيط وفي الدكان وفي الأماكن الصناعية. ويقف على سلوكهن مع أزواجهن وأولادهن والأجانب. ثم يعرف البلاد التي للنساء فيها شأن غير ما لنسائنا في بلادهن، وكيف أنهن يستعملن حقوقهن، والنتائج التي ترتبت على هذا الاستعمال. ويقف على حالة المرأة في الأزمان الخالية والتقلبات التي طرأت عليها. «فإذا توفر ذلك كله لم يتيسر له أن يحكم في المسألة حكما قاطعا. لأنه يعلم أن رأيه قائم على مقدمات ظنية فلا تكون نتائجها إلا تقريبية؛ لذلك تراه دائما على طريق البحث. لا يركن إلى ما وصل إليه جهده إلا ليضعه قاعدة لعمل مؤقت. ولا يأنف من تعديل رأيه بحسب ما يقتضيه الحال ويظهره العمل.»
12
لا يستطيع المرء أن يكون «قاضيا» عادلا أكثر مما يظهره قاسم أمين في هذه الفقرة. وإنك لتجد هذه النزاهة والأمانة والإنصاف في كل ما كتب؛ لذلك هو يخفي العواطف وينساها ما استطاع؛ لأنها - كما يقولون - تحول بين الفكر والعدل. ويظل متكلما بعقله، مناديا بالهدوء والرزانة والسير على القواعد العلمية والانتفاع بالمشاهدات الاجتماعية، ووجوب ضبط الانفعالات على الدوام. وعلى رغم ذلك فإن نفسه لا يفتر أبدا حتى إذا وصل إلى فكرة لمست من قلبه مكانا حساسا أرسل كلمات تشبه في مؤاساتها لمسة التدليل والتحبب على جبهة رضيع عزيز:
أليس من الغريب ألا يوجد رجل بيننا يثق بامرأة أبدا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟! أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟! أيليق ألا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نسيء الظن بهن إلى هذا الحد؟!
13
وفي وسط كل هذه الأبحاث الجدية، الخالي معظمها من التأثر والشعور، يشعر القارئ بأن قلب الرجل ليس بعيدا، أن قاسما أحب المرأة حبا جما. وقد خط لها رسما يشرفها في هذه الألفاظ الوجيزة: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.»
14
امرأة يجد فيها:
صفحه نامشخص