فكان هذا أذانا للدنيا بدينها الجديد.
الفصل السادس عشر
دار طويف
عاد ورقة إلى بيت فتنة بعد ارفضاض المسلمين من المسجد؛ ليأخذ جواده ويسير إلى هدى، ولكن فتنة لم تمكنه من ذلك؛ لأن الحر كان شديدا جدا، فالشمس تلفح الوجوه وتشويها ، وسموم شهر تموز على حالها كأنها نفثات الجحيم، وأقسمت عليه إلا أن يقضي ساعات الهجير عندها؛ ليتبلغ، ثم رحل على بركة الله إلى هدى في العصر.
أجاب ورقة دعوة فتنة، ودخل الدار، وفتنة تتقدمه فرحة به وصلفة أن يدخل دارها مسلم، وهي تقول: الحمد لله الذي طهر بيتي وطهرني، وجعل من فضله علي أن يدخل المسلمون بيتي، ويجعلني فيمن يشفع لهم النبي الأمين. قال ورقة: دعاء كريم يا فتنة، أرجو أن يتقبله الله منك، ولكني أخشى ألا يتقبله يا أختاه حتى تنزلي هذا عن مكانه: وأشار إلى نصب أغبر مشوه موضوع على ناصية الباب، كالتاج من الرءوس. فلما تبينت قصده قالت: صدقت يا ورقة، لا أدخلك غرفتي حتى أنزعه بيدي. انتظر قليلا، والله ما كان له عندي من قبل كرامة حتى يكون له اليوم، بل لعله كان أدعى إلى الشر منه إلى الخير. كم كنت أقسم به للناس فيما لم يكن من نيتي الوفاء به أو قصد الصدق فيه. فضحك ورقة لهذا الاعتراف، وأخذ يتأمل صنع النصب فلم يجده إلا قطعة من طين مجفف ومجصص، ذا رأس خليط فوق كتفين ويدين، لا تناسب بينها، ولا معنى لها. فابتسم وقال: مسكين هذا الإنسان: إنه يجب الله ويريد أن يلقاه، ويدفعه فرط الحب إلى تقريبه، ويرضيه لخالق الزهرة، والعين والإنسان والحيوان مثل هذه الصورة! إنه والله لكنود. قالت: لم يعد للكنود ولا لله من صورة عندنا إلا في جمال الحق، ثم أهوت على الصنم بهرواة أتت بها فتكسر وهوى، وقالت لورقة: ادخل. أمتقبل ربي الآن دعائي؟ قال: أجل فيما أعتقد، وقبله كذلك، ولكني شئت أن ألفتك إلى ما لم يخطر ببالك وجوده. قالت: شكرا لك. ادخل حتى أعود إليك.
وجد ورقة في الغرفة حصيرا من سعف النخل مفروشا بها، وبعض حشايا من جلد موضوعة إلى أحد أركانها، والغرفة على فرط الحر في الخارج رطبة طيبة، فانتعشت نفسه، وإذ جلس واتكأ أخذ يعرض حوادث يوميه، فإذا هي جسام جسام؛ ذكر لمياء وحبه إياها وعزمه على أن يقف به عند حد الأخوة الخالصة، وذكر الناعي في الصباح وهول ما نعى، وسيده وما لقي وألقى في قلبه من الحزن عليه، ثم ذكر حراء وسيدته خديجة وما كان له مع زيد من حديث انتهى بإسلامه؛ إذ كان بينه وبين الحق خطوة لم تستبن له حتى كشف له عنها زيد بن حارثة بما عرفه من رسول الله، ثم ما كان من إسلام حمزة وعمر، وخروجه في المسلمين أول يوم أعلن فيه الإسلام في مكة، ثم عاد فذكر لمياء وما تلقى الآن لفراقه، وما يجد لها من الشوق في قلبه، فاستوى قلقا، وحدثته النفس أن ينهض من فوره إلى هدى ليلقاها، ويتبرد بمرآها، وكاد يهم بذلك معتذرا بما يحضره لولا أن دخلت عليه فتنة وفي يمناها جرة ماء صغيرة، وفي يسراها جفنة فيها لبن، وخرقة من ثوب علقتها بخنصرها، وفوق رأسها أقراص رقيقة من الخبز؛ فتلقاها ورقة بالشكر، وعاونها على تخلية يديها منها.
فرشت فتنة الثوب سفرة وضعت عليها الطعام، وتناول ورقة جرة الماء فغسل أصابعه وجففها في الخرقة وفعلت فتنة مثله، وقالت: بسم الله. فانصرفا إلى الطعام وهي مغتبطة به سعيدة بأن تضيفه، وتذاكرا فيما كان من حوادث اليوم، وما جرى من عمرو المخزومي إذ لقي رسول الله، وما فعلت هي به، وسألته عما جرى بعدئذ فخبرها بما كان فانتعشت وسرت، وانتقل الحديث إلى شئونه الخاصة فأخبرها بأمره، وأنه بمثابة تلميذ للحارث بن كلدة، وأن الحارث يعيش بين أهله في هدى فرارا من حر مكة؛ إذ كانت زوجته رومية من أهل الإسكندرية، ولها ابنة جميلة ترعاه وتخصه بمحبتها. قالت: وهذا ما كان يدعوك أن تستهدف لنيران الهجير. قال: قد يكون ذلك حقا، ولكني غبت عنهم كثيرا وهم يأتنسون في وحدتهم بي، وأستاذي ابن كلدة رجل كثير المطالب وليس من يقضيها له سواي. قالت: لا تجمع على نفسك نارين: شوقك والهجير، وإذا رشدت فلا ترحل إلا في العشي. فضحك ورقة وقال : وإذا جاء العشي قلت الليل آذن فانهض في السحر. قالت: هو ما يجب وربي، ولكنك لا ترضى أن تبيت عندي. قال: لم يعد علي أن أبيت عندك جناح بعد إذ طهرك الله، ولكن لي بيتا، ولي أما في مكة كما تعلمين، ولن يقول الناس إلا سوءا. على أني عزمت على المسير في العصر. قالت: كذلك، لقد أطعمت جوادك وسقيته منذ ساعة، وأراه أصبح صديقا لعنزتي، فقد تركتهما الآن يتداعبان. فضحك ورقة لمزاحها وشكرها، ودعا الله أن يهيئ له رد مكارمها. وفيما هما كذلك سمعا الباب يقرع فتأذت لذلك وأجفلت؛ لأنها كانت تتوقع شرا من أبي الحكم المخزومي جزاء ما لقي منها، وحدثت ورقة في ذلك. قال: لا بأس عليك، ولكن خير لك ألا تفتحي ولا تردي. قالت: كذلك، واستمر القارع يقرع فلما تعب ناداها باسمها، فعرفته، إذ كان عبيد سيدها ابن جدعان، وأخبرت بذلك ورقة همسا. قال: لا تفتحي ولا تتكلمي ... فكرر العبد نداءه وقرعه، وإذ يئس قال: محال أن تكون في البيت ولو نائمة، ماذا علي لو عدت إليه أخبره بذلك؟ وانصرف فعلا.
أفرخ بال فتنة لانصرافه، ولكنها كانت تعرف ما وراء ذلك، كانت تعلم أن سيدها سيعذبها أسوأ العذاب؛ لجريمتها إذ أسلمت، وهو لا يريد أن يخرج عن القوم لا بنفسه ولا بأحد من أتباعه، ولجرئتها إذ سبت وشتمت كبير بني مخزوم وخمشته، وكانت قد علمت ما أصاب ياسرا وأباه وأمه؛ إذ شدوا وثاقهم ورموهم في الرمضاء حتى مات الوالد دنقا، وماتت أمه بطعنة في أحشائها من أبي الحكم المخزومي نفسه، وذكرت ذلك لورقة قائلة: سأستمرئ هذا العذب في سبيل الله. قال: هذا إذا لم يكن لك منه مهرب ولا مفر. قالت: وهل من ابن جدعان مهرب أو مفر والناس في مكة عبيده سادتهم وسراتهم! فصمت ورقة مفكرا، وخطر له أن يأخذها معه إلى سيده الحارث بن كلدة ليشفع لها، وقدر أنه لن يخيب رجاءه في هذا. فقال لها: نعم إن هناك مهربا وحمى في هدى، في كنف الحارث بن كلدة، وتذهبين معي. فاعتدلت المرأة في جلستها وأبرقت عيناها وصاحت من فرحها، ثم سجدت لله شكرا، وبكت بكاء مرا، وورقة يهدئها قائلا: إنك إن استمررت في هذا جمعت عليك أعدائك فلم تستطيعي الهرب. قالت: صدقت. هلم. قال: هلم. ثم ذهبت فجمعت حاجتها حين ذهب ورقة؛ ليحضر جواده، والتقت به عنذ المذود. فقال لها: وهذه العنزة. قالت: سأتركها في الطريق ترعى ما تجد على عادتها، فإذا دخل الليل عادت في العائدات مع معيز جاراتي. قال: إن لم يكن في ذلك بأس فيها. قالت: لا بأس في ذلك. ليست هذه أول مرة تضل فأجدها عندهن. اخرج بجوادك وانتظرني عند ثنية ذي المجاز،
1
وخذ هذا الجوالق معك على الجواد، ثم ناولته إياه فرحله عليه، وقالت: اخرج من باب الدار سأقفله من ورائك، أما أنا فسأعتلي جدار جارتي لأخرج من بيتها، ولن تشعر بي؛ لأنها بعيدة عنه. قال: افعلي ما بدا لك، ولكن القيني عند الثنية.
صفحه نامشخص