فصاح بها الجندي بصوت أجش ينهرها، فأخذها قوية يجذبها من ذراعها وهي تتكفأ وتتعثر، وثار الدم في رأس فؤاد وهو واقف في مكانه شاعرا بما يشبه أن يكون إهانة، أليست المرأة معه؟! ولكنه مع ذلك وقف جامدا!
وخرج من الباب جندي بعد آخر ثم جاء من بعدهم رجال، من بعدهم رجال في ثياب السجن حائلة اللون، وسار الجنود يحفون بهم عن يمين وشمال ومن وراء وأمام يحملون السلاح مشرعا، ورفعت مبروكة عينيها إلى الوجوه تتفرس في ملامحها وهب من كانوا تحت الشجرة وجعلوا يتصايحون بين عويل النساء وبكاء الصبية وضجيج الرجال، واقترب فؤاد من الجمع يدفعه دافع شديد إلى رؤية وجه سلومة، أكان ما يزال في هيئة البشر؟
كان - وهو يسير نحو السجناء - يدفعه ميل عجيب كمن يريد أن يطلع على وحش في قفصه من وراء قضبان الحديد، وصاحت مبروكة مولولة في صوت ممزق: ولدي!
ورفعت يدها بمنديل أسود إلى مؤخر عنقها تحركه يمنة ويسرة مع صراخها، فعض فؤاد على أضراسه جزعا وهو ينظر إلى سلومة.
كان رجلا طوالا متين البناء له جبهة مثل جبهة أخيه، وصدر عريض وعينان واسعتان يشع منهما بريق، ونظر نحو أمه بوجه متحرك ترددت عليه مسحة من رقة في لحظة قصيرة ولكنه عاد فتجهم ووقف رافعا قامته الفارعة، وهم برفع يديه كأنه يريد أن يحطم القيود التي تغلهما، ثم حول بصره إلى ناحية أخيه مسرعا وخيل إلى فؤاد أن نظرته لانت قليلا فعلت وجهه سحابة رقيقة تشبه الابتسامة ثم عبس مرة أخرى. حدث ذلك كله في لحظات لا تزيد على ثوان، ثم تحول كأنه ينزع نفسه قسرا، ومضى في خطوات سريعة واسعة حتى بلغ العربة السوداء فاندس فيها، وتمثلت لفؤاد عند ذلك صورة ذئب كاسر ينزوي في قفصه مكشرا، واجتمع في قلبه شعور مختلط مضطرب من إشفاق ورهبة.
وثارت الأم وتزايد صراخها ووثبت وثبة تخلصت بها من ذراع قوية كأنها تريد أن تلحق بولدها.
وصاحت تولول: ولدي!
فصاح بها الجنود ينهرونها وهم يغلقون باب العربة، وأدركها قوية ليحجزها، فارتمت على الأرض وجعلت تتخبط وتتدأدأ كأنها تريد أن تحطم عظامها.
ولم يدر فؤاد ماذا يصنع ولا كيف يحتال في موقفه المحرج الذي دفعه إليه الفضول والتسرع، واعتراه ذهول يمتزج به الحنق والخجل، فما زال في موضعه ساكنا حتى تحركت العربة وسارت تحمل من في جوفها، وكان لا بد له من أن يشرب الكأس حتى ثمالتها، فانتظر إلى أن استطاع قوية أن يدفع أمه ويسير بها، وقذفت الأم بالصرة التي كانت تحملها نحو باب السجن كأنها جاءت بقربان من زهر تضعه عند قبر، وساروا في الطريق صامتين والأم تكتم عويلها حتى بلغوا المحكمة فوقفوا عند بابها، ولم يستطع فؤاد أن يصبر فوق صبره فترك صاحبيه حتى يفرغا من أمرهما وذهب إلى مقهى قريب فجلس به خائرا، ولم يدر ما صنعت مبروكة المسكينة عندما سمعت الحكم على ولدها، ولكنه كان يسمع من بعيد صراخا مختلطا بين حين وحين كلما صدع القضاء بأمر من أوامره، وقضي الأمر بعد حين وعاد السجناء إلى العربة السوداء فسارت تحملهم في جوفها نحو الأفق المجهول، وخرج قوية مع أمه يسندها وهي متهالكة، فلما وقعت عين فؤاد عليه هز رأسه سائلا في صمت، فأجاب قوية بصوت مخنوق: مؤبد!
فمد يده إلى ذراع الأم صامتا يساعد ولدها على إسنادها، ثم دعا مركبة لتحملهم إلى العزبة، وقد هزه اليوم هزا عنيفا.
صفحه نامشخص