وربما عدل الصبي عن الخروج من داره وخلا إلى رفيق من رفاقه في الكتاب، قد أقبل عليه ومعه هذا الكتاب أو ذاك من كتب الوعظ، وهذه القصة أو تلك من قصص المغازي، فجعل يقرأ له حتى يدعوه غروب الشمس إلى العشاء. هنالك لم يكن الصبي يشعر بالوحدة، ولم يكن يضطر إلى السكون، ولم يكن يجد ألم الجوع، ولم يكن يجد ألم الحرمان، ولم يكن يتحرق إلى كوب من أكواب الشاي.
كانت كل هذه الحسرات تضطرب في نفس الصبي أشد الاضطراب وهو ساكن أشد السكون. وربما صرفه عنها لحظة صوت المؤذن حين كان يدعو إلى صلاة العصر في جامع بيبرس، ولكنه كان صوتا منكرا أشد النكر، فكان يذكر الصبي بصوت المؤذن في بلده، ولم يكن خيرا من هذا الصوت ولكنه كثيرا ما أتاح للصبي ألوانا من اللهو واللعب، فكم صعد المنارة مع المؤذن، وكم أذن مكانه وكم شاركه في هذا الدعاء الذي يدعى به بعد الأذان! ولكنه هنا في هذه الغرفة لا يستحب هذا الصوت، ولا يستطيع أن يشارك في الأذان، ولا يعرف حتى من أين يأتي هذا الصوت، وهو لم يدخل قط مسجد بيبرس، وهو لا يعرف الطريق إلى مئذنته، وهو لم يبل درج هذه المئذنة، ولم يعرف أتستقيم للمصعد فيها وتتسع له أم تلتوي به وتضيق عليه كشأن مئذنته في الريف.
لا يعرف شيئا من ذلك ولا سبيل إلى أن يعرف منه شيئا، إنما هو السكون، والسكون المتصل الطويل، يا للألم! إن العلم ليكلف طلابه أهوالا ثقالا.
وكان هذا السكون يطول على الصبي فيجهده، وربما أخذته إغفاءة وهو جالس في مكانه، وربما اشتدت عليه هذه الإغفاءة فاضطرته إلى أن يستلقى ويسلم نفسه للنوم، وكان يسمع من أمه أن نوم العصر بغيض مؤذ للأجسام والنفوس، ولكن كيف السبيل إلى أن يرد عن نفسه هذا النوم البغيض! ولكنه يهب فزعا مذعورا؛ فقد سمع صوتا يدعوه بهذه الكلمة التي رنت في آذانه أعواما وأعواما: «مولانا أنائم أنت؟» يهب فزعا مذعورا لأن أخاه أقبل ينظر إليه ويسأله عن شأنه ويحمل إليه عشاءه. وكان عشاؤه لذيذا حقا؛ فقد كان يتألف من رغيف وقطعة من الجبن الذي يسمى الجبن الرومي، أو قطعة من الحلاوة الطحينية، كان هذا عشاءه في أثناء الأسبوع، فكان أخوه يضع ذلك أمامه ويودعه منصرفا عنه ليذهب إلى الأزهر فيحضر درس الأستاذ الإمام.
وكان الصبي يقبل على طعامه راغبا عنه حينا وراغبا فيه حينا آخر، ولكنه كان يستنفده على كل حال. كان يبيح لنفسه الإقلال من الطعام إذا أكل مع أخيه، ولم يكن أخوه يكلمه في ذلك أو يسأله عنه. فأما إذا خلا إلى طعامه فقد كان يأتي عليه كله حتى ولو رغب عنه أو ضاق به؛ مخافة أن يبقى منه شيئا، ويعود أخوه ويرى ذلك فيظن به المرض أو يظن به الحزن، وكان أبغض شيء إليه أن يثير في نفس أخيه هما أو قلقا.
كان إذن يقبل على طعامه، حتى إذا فرغ منه عاد إلى سكونه وجموده في ركنه الذي اضطر إليه، وقد أخذ النهار يتصرم وأخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وأخذ يتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزين، ثم يدعو مؤذن المغرب إلى الصلاة، فيعرف الصبي أن الليل قد أقبل، ويقدر في نفسه أن الظلمة قد أخذت تكتنفه، ويقدر في نفسه أن لو كان معه في الغرفة بعض المبصرين لأضيء المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة، ولكنه وحيد لا حاجة له إلى المصباح فيما يظن المبصرون، وإن كان ليراهم مخطئين في هذا الظن؛ فقد كان ذلك الوقت يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور، وكان يجد في المصباح إذا أضئ جليسا له ومؤنسا، وكان يجد في الظلمة وحشة لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب. والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتا يبلغ أذنيه، صوتا متصلا يشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ، وكان هذا الصوت يبلغ أذنيه فيؤذيهما، ويبلغ قلبه فيملؤه روعا، وإذا هو مضطر إلى أن يغير جلسته فيجلس القرفصاء، ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفي رأسه بين يديه، ويسلم نفسه لهذا الصوت الذي يأخذه من كل مكان. ومع أن سكون العصر كان كثيرا ما يضطره إلى النوم فقد كان سكون العشية يضطره إلى اليقظة التي لا تشبهها يقظة.
وكان ينتهي إلى أن يألف صوت الظلمة ويطمئن إليه. ولكن في الغرفة أصواتا أخرى كانت تفزعه وتروعه، أصوات مختلفة؛ فقد كانت هذه الغرفة من غرفات الأوقاف، ومعنى ذلك أنها كانت قديمة، قد طال عليها العهد، وبعد بها الأمد، وكثرت في جدرانها الشقوق، وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان، وكانت هذه الحشرات وهذه الصغار من الحيوان كأنما وكلت بالصبي إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده في ذلك الركن من أركان الغرفة؛ فهي تبعث من الأصوات الضئيلة، وتأتي من الحركات الخفيفة السريعة حينا والبطيئة حينا آخر ما يملأ قلب الصبي هلعا ورعبا، فإذا أقبل أخوه وحده أو مع أصحابه فأضيء المصباح انقطعت هذه الأصوات والحركات كأنها لم تكن، وكان الصبي من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى غير هذا لا يجرؤ على أن يذكر من أمر هذه الأصوات والحركات شيئا، وأيسر ما كان يخاف إن تحدث ببعض ذلك أن يسفه رأيه وأن تظن بعقله وبشجاعته الظنون، فكان يؤثر العافية ويكظم خوفه من الحشرات وصغار الحيوان.
وهذا المؤذن يدعو إلى صلاة العشاء، فيثير في نفس الصبي أملا قصيرا يتبعه يأس طويل؛ فقد انتهى درس الأستاذ الإمام، وسيقبل أخو الصبي بعد قليل فيضئ المصباح ويضع محفظته في مكانها، ويأخذ ما يحتاج إليه من كتاب أو أداة أو طعام، ويشيع في الغرفة في أثناء ذلك شيئا من الأنس، ويطرد من الغرفة في أثناء ذلك تلك الوحدة المنكرة، ولكنه سيلقي إلى الصبي تلك الوسادة التي سيضع عليها رأسه، وذلك اللحاف الذي سيلتف فيه لينام، وسيشهد التفافه في لحافه ووضع رأسه على وسادته، ثم يطفئ المصباح وينصرف، ويغلق الباب من ورائه ويدير فيه المفتاح، ويمضي وهو يظن أنه أسلم الصبي إلى النوم، وإن كان لم يسلمه إلا إلى أرق متصل مخيف.
وسيعود بعد ساعتين أو بعد ساعات، وقد طعم وشرب الشاي، وناظر أصحابه وأعد معهم ما شاء الله أن يعد من درس للغد، فيدير المفتاح ثم يضئ المصباح، وهو يظن أن الصبي مغرق في نوم هادئ لذيذ، وما ذاق الصبي في حقيقة الأمر نوما، وإنما انتظر جزعا فزعا عودة أخيه.
فإذا استلقى أخوه على فراشه بعد أن أطفأ مصباحه وأخذ تنفسه المضطرب أو المنتظم يدل على أنه نام، فقد أخذ الصبي يحس الأمن والدعة، ويدير في نفسه خواطر الآمن الوادع وتفكير الهادئ المطمئن.
صفحه نامشخص