ليجدون فيه ضروبا من القش وألوانا من الحصى وفنونا من الحشرات.
وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه.
كذلك كان يعيش أبوك جادا مبتسما للحياة والدروس، محروما لا يكاد يشعر بالحرمان، حتى إذا انقضت السنة وعاد إلى أبويه، وأقبلا عليه يسألانه كيف يأكل؟ وكيف يعيش؟ أخذ ينظم لهما الأكاذيب كما تعود أن ينظم لك القصص، فيحدثهما بحياة كلها رغد ونعيم، وما كان يدفعه إلى هذا الكذب حب الكذب؛ إنما كان يرفق بهذين الشيخين ويكره أن ينبئهما بما هو فيه من حرمان. وكان يرفق بأخيه الأزهري، ويكره أن يعلم أبواه أنه يستأثر دونه بقليل من اللبن، كذلك كانت حياة أبيك في الثالثة عشرة من عمره.
فإن سألتني كيف انتهى إلى حيث هو الآن؟ وكيف أصبح شكله مقبولا لا تقتحمه العين ولا تزدريه؟ وكيف استطاع أن يهيئ لك ولأخيك ما أنتما فيه من حياة راضية؟ وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضا عنه وإكرام له وتشجيع؟ إن سألت كيف انتقل من تلك الحال إلى هذه الحال، فلست أستطيع أن أجيبك! وإنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب، فسليه ينبئك.
أتعرفينه؟ انظري إليه! هو هذا الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وابتهاج، ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار؟!
لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا.
ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك، فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدين؛ وما أنتما ببالغين من ذلك بعض ما تريدان.
الجزء الثاني
الفصل الأول
أقام في القاهرة أسبوعين أو أكثر من أسبوعين، لا يعرف من أمره إلا أنه ترك الريف وانتقل إلى العاصمة؛ ليطيل فيها المقام طالبا للعلم مختلفا إلى مجالس الدرس في الأزهر، وإلا أنه يقضي يومه في أحد هذه الأطوار الثلاثة التي يتخيلها ولا يحققها.
صفحه نامشخص