ودمر مدنا وقرى، ومحا أسرا كاملة. وكان «سيدنا» قد أكثر من الحجب وكتابة المخلفات، وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا
14
في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة. وكانت أم الصبي في هلع مستمر، وكانت تسأل نفسها ألف مرة في كل يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها! وكان لها ابن في الثامنة عشرة جميل المنظر رائع الطلعة، نجيب ذكي القلب، وكان أنجب الأسرة وأذكاها وأرقها قلبا، وأصفاها طبعا، وأبرها بأمه، وأرأفها بأبيه، وأرفقها بصغار إخوته وأخواته، وكان مبتهجا دائما، وكان قد ظفر بشهادة «البكالوريا» وانتسب إلى مدرسة الطب، وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة، فلما كان هذا الوباء، اتصل بطبيب المدينة وأخذ يرافقه، ويقول: إنه يتمرن على صناعته، حتى كان يوم 21 أغسطس.
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسما، فلاطف أمه وداعبها وهدأ من روعها، وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، وقد أخذت وطأة الوباء تخف. ولكنه مع ذلك شكا من بعض الغثيان،
15
وخرج إلى أبيه فجلس إليه وحدثه كعادته، ثم ذهب إلى أصحابه فرافقهم إلى حيث كان يذهب معهم في كل يوم عند شاطئ الإبراهيمية. فلما كان أول الليل عاد وقضى ساعة في ضحك وعبث مع إخوته، وفي هذه الليلة زعم لأهل البيت جميعا أن في أكل الثوم وقاية من الكوليرا، وأكل الثوم وأخذ كبار إخوته وصغارهم بالأكل منه، وحاول أن يقنع أبويه بذلك فلم يوفق.
وكانت الدار هادئة مغرقة في النوم كبارها وصغارها وحيوانها عندما انتصف الليل، ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ، فهب
16
لها القوم جميعا. فأما الشيخ وزوجته فكانا في هذا الدهليز المنبسط الذي تظله السماء يدعوان ابنهما باسمه. وأما الشبان من أهل الدار فكانوا يثبون من فراشهم مسرعين إلى حيث الصوت. وأما الصبيان فكانوا يجلسون يحكون أعينهم بأيديهم يحاولون أن يتبينوا في شيء من الهلع من أين يأتي الصوت وماذا كانت الحركة الغريبة؟!
وكان مصدر هذا كله صوت هذا الفتى وهو يعالج القيء. وكان الفتى قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقيء مجتهدا ألا يوقظ أحدا، حتى إذا بلغت العلة منه أقصاها لم يملك نفسه ولم يستطع أن يقيء في لطف، فسمع أبواه هذه الحشرجة ففزعا لها، وفزع معهما أهل الدار جميعا.
صفحه نامشخص