وكان في المدينة عالم آخر شافعي، كان إمام المسجد، وصاحب الخطبة والصلاة، وكان معروفا بالتقى والورع، يذهب الناس في إكباره وإجلاله إلى حد يشبه التقديس؛ كانوا يتبركون به، ويلتمسون عنده شفاء مرضاهم وقضاء حاجاتهم. وكأنه كان يرى في نفسه شيئا من الولاية، وظل أهل المدينة بعد موته سنين يذكرونه بالخير، ويتحدثون مقتنعين بأنه عندما أنزل في قبره قال بصوت سمعه المشيعون جميعا: اللهم اجعله منزلا مباركا، وكانوا يتحدثون بما رأوا فيما يرى النائم من حظ هذا الرجل عند الله، وما أعد له في الجنة من نعيم.
وشيخ ثالث كان في المدينة، وكان مالكي المذهب، ولم يكن ينقطع للعلم ولا يتخذه حرفة، وإنما كان يعمل في الأرض، ويتجر، ويختلف إلى المسجد فيؤدى الخمس، ويجلس إلى الناس من حين إلى حين، فيقرأ لهم الحديث، ويفقههم في الدين متواضعا غير تياه ولا فخور، ولم يكن يحفل به إلا الأقلون عددا.
هؤلاء هم العلماء، ولكن علماء آخرين كانوا منبثين
3
في هذه المدينة وقراها وريفها، ولم يكونوا أقل من هؤلاء العلماء الرسميين تأثيرا في دهماء الناس وتسلطا على عقولهم؛ منهم هذا الحاج ... الخياط الذي كان دكانه يكاد يقابل الكتاب، والذي كان الناس مجمعين على وصفه بالبخل والشح، والذي كان متصلا بشيخ من كبار أهل الطرق، والذي كان يزدري
4
العلماء جميعا؛ لأنهم يأخذون علمهم من الكتب لا عن الشيوخ، والذي كان يرى أن العلم الصحيح إنما هو العلم اللدني؛ الذي يهبط على قلبك من عند الله دون أن تحتاج إلى كتاب، بل دون أن تقرأ أو تكتب.
ومنهم هذا الشيخ ... الذي كان في أول أمره حمارا ينقل للناس بضائعهم وأمتعتهم، ثم أصبح تاجرا، واقتصرت حمره على نقل تجارته، والذي كان الناس مجمعين على أنه أكل أموال اليتامى، وأثرى
5
على حساب الضعفاء، والذي كان يكثر من ترديد هذه الآية وتفسيرها:
صفحه نامشخص