والثالث: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية.
وقرأ سعد هذا الحديث فوجد على الفتى؛ لأنه لم يذكره بين هؤلاء العظماء.
وتوالت خطوب السياسة بعد ذلك، وكان صاحبنا أطول الكتاب لسانا وأجرأهم قلما في مهاجمة سعد ونقد سياسته قبل أن يلي الحكم وبعد أن وليه، وبعد أن اضطر إلى اعتزاله. وأصاب الفتى من هذه الخصومة مكروه أي مكروه، ولكنه لقي سعدا بعد ذلك للمرة الثالثة والأخيرة في دار شوقي، رحمه الله.
كان شوقي يستقبل الشاعر الهندي العظيم تاجور، وقد دعا لهذا الاستقبال من شاء الله أن يدعوهم من أصحاب الثقافة ورجال السياسة والحكم، وكان صاحبنا أحد المدعوين. وإنه لبين جماعة من أصحابه وإذا سعد بقيا، فيخف الناس جميعا للقائه ويهم صاحبنا أن يتأخر ولكن أصحابه يدفعونه دفعا، وكان أشدهم في ذلك الشيخ عبد العزيز البشري رحمه الله، ويجد الفتى نفسه يصافح سعدا ويسمع سعدا يلقاه لقاء حسنا، ثم يعود الناس إلى أماكنهم ويقيم سعد ساعة أو بعض ساعة ثم ينصرف إلى مجلس النواب، وكان له رئيسا.
وقد كاد الفتى يلقى سعدا مرة أخرى لو أريد الفتى على أن يلقى سعدا مرة أخرى، ولكنه امتنع وألح في الامتناع فلم يتم هذا اللقاء. كان ذلك حين أراد بعض النواب الوفديين أن يثير قصة الشعر الجاهلي مرة أخرى في المجلس، فرده سعد عن ذلك قائلا: لقد انتهى هذا الموضوع فلا معنى للعودة إليه.
قرأ صاحبنا ذلك في الصحف فلم يكد يحفل به أو يلقي إليه بالا، ولكن الأستاذ أحمد لطفي السيد كان مدير الجامعة ورفيقا بصاحبنا. فألح عليه في أن يمر بدار سعد ويترك بطاقته، وعسى أن يلقاه فيشكر له كلمته الطيبة في مجلس النواب، ولكن صاحبنا أبى وأصر على الإباء، وقال: إن سعدا لم يزد على أن أدى واجبه وكف سفيها أحمق من نوابه عن سفهه وحمقه.
واشتد الجدال في ذلك بين الأستاذ وتلميذه ولكنهما لم يصلا إلى شيء، فاحتكما في المساء إلى عبد العزيز فهمي رحمه الله، ولم يلبث هذا أن قضى لصاحبنا في غير مشقة ولا جدال. وما أسرع ما استحال الأمر كله إلى دعابة بين الأستاذين الكبيرين حول ما كان يملأ قلب عبد العزيز فهمي وعقله ويجري على لسانه من سخط على سعد، وإنكار لكل ما كان يصدر عنه من قول أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر عن سعد.
وكذلك كانت صلة صاحبنا بسعد يسيرة كل اليسر في ظاهرها، عسيرة أشد العسر في حقائقها ودخائلها، جرت على الفتى شرا كثيرا، وأتاحت له مع ذلك خيرا كثيرا، وتقلبت به بين ضروب من الرضا والسخط، وفنون من الأمل واليأس، وألوان من الشدة واللين، ولكن حديث هذا كله لم يأت إبانه بعد.
فلنعد إلى صاحبنا في باريس لنراه مقبلا على حياته، غارقا في مشكلتها، مثقلا بأعبائها، يعد رسالته، ويختلف إلى دروسه، ويلقى أستاذه، ويحتمل ضروبا من الجهد في إجراء حياة أسرته على ما ينبغي أن تجري عليه من السعة اليسيرة التي تقيم الأود ولا تعرض للبأس أو الشقاء.
وأقبل الصيف وقد قدم صاحبنا رسالته إلى السوربون فرضيت عنها. ولكنه لم يرسلها إلى الجامعة، ولم تسأله الجامعة عنها، وإنما أقبل على امتحانه فنجح فيه نجاحا حسنا، وظفر بالدبلوم، وأتم بذلك أداء واجبه الذي كلفته الجامعة أن يؤديه، وآن له أن يعود إلى مصر.
صفحه نامشخص