ثم سكت لحظة كأنه كان يفكر في شيء، وأحس الفتى - وإن لم ير - أن صديقه كان ينظر إليه نظرة فاحصة ... ثم انقطع الصمت، وقال الصديق: ألم يعلن علوي باشا أنه قد أجازك بعشرين جنيها؟
قال الفتى: بلى.
قال الصديق: فهلم معي، فليس لك بد من ثوب تلقى فيه الأمير.
قال الفتى: وأي ثوب؟
قال الصديق: اصحبني، ولا عليك.
ثم مضى معه إلى حيث اشترى له معطفا من هذه المعاطف التي كان الأزهريون يسمونها الكاكولا، ولم يكد الفتى يدخل فيها ويجمع طرفيها على صدره بأزراره تلك حتى أحس كأن شخصه قد تغير، وكأنه قد خرج من طور من أطوار حياته، ودخل في طور جديد.
ولم يرد الفتى أن يبرح القاهرة دون أن يلقى أستاذه لطفي السيد، فسعى إليه حين ارتفع الضحى من الغد، وتلقاه الأستاذ حفيا به، فضمه إليه وقبله، وقال: امض مصاحبا، واذكر أنك في أول الطريق.
ورأى الفتى نفسه في قطار الإسكندرية، وفي الدرجة الأولى التي لم يعرفها قبل ذلك اليوم. ورأى نفسه بين صديقه ذاك وبين شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي، وهم يأخذون في أطراف من الحديث، والباشا يقص عليهما فنونا من حياته حين كان طالبا يختلف إلى دروس العلوم السياسية في باريس أو في لوزان. والفتى يسمع ويرى نفسه مختلفا بعد وقت يقصر أو يطول إلى دروسه في السوربون، وتعرض له في باريس خطوب لا تشبه الخطوب التي عرضت له حين كان يختلف إلى دروسه في الأزهر أو في الجامعة.
فإذا بلغ القطار مدينة الإسكندرية ذهب الفتى وصاحباه، إلى القصر في عربة فخمة كانت تنتظر الباشا في المحطة، والفتى ينكر نفسه، وينكر هذا الترف الذي لا عهد له به، وهو في الوقت نفسه حائر ذاهل يفكر فيما سيسمع من الأمير وفيما سيقول له.
وقد أدخل على الأمير، فإذا هو يلقى رجلا كغيره من الرجال الممتازين الذين كان يلقاهم في الجامعة من أعضاء مجلسها، وإذا هذا الرجل يلقاه في سماحة سمحة بريئة من التكلف، وإذا هو يأخذ بيده فيجلسه على أريكة ويجلس عليها إلى جانبه، مهنئا له بفوزه، متمنيا له الخير والنجح فيما يستقبل من الأيام، سائلا إياه بعد ذلك عما يريد أن يصنع بعد أن ظفر بدرجته تلك.
صفحه نامشخص