وكان بغضه لسعد زغلول رحمه الله معروفا يتحدث به الناس، هجاه بمقالاته المشهورة التي جعل عنوانها: «ظلموك يا سعد»، وهجاه هجاء منكرا في بعض الشعر الذي لم ينشره؛ لأنه كان أعنف من أن ينشر.
وقد أنشدني قصيدة قالها في السجن، وقد بلغه أن سعدا قد يعود إلى الوزارة أو يصبح رئيسا لمجلس الوزراء، لم أحفظ منها إلا مطلعها وهو بشع كما ترى:
إن صح ما أنهى الرواة لمسمعي
فلسوف تصبح تحت حكم الأقرع
وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله يقع نصيب غير قليل من ثقل تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى، فشغل به الأدباء والمثقفين حينا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له، وكان موضوعها نقد «نظرات» المنفلوطي رحمه الله، وكان عنوانها: «نظرات في النظرات».
قرأ الفتى الفصول الأولى من نظرات المنفلوطي راضيا عنها، معجبا بها، ثم لم يلبث أن سئمها وانصرف عنها. ولكنه لم يكد يراها مجموعة في كتاب حتى ضاق بها أشد الضيق، وكتب يعيبها ويغض منها. وفرح الشيخ عبد العزيز جاويش بما كتب الفتى أشد الفرح، واستزاده من الكتابة، وحرضه عليها وألح في التحريض، حتى ألقى في روعه ألا يدع فصلا من فصول المنفلوطي إلا اختصه بفصل من النقد. وكان الفتى قديم المذهب في الأدب لا ينظر منه إلا إلى اللفظ، ولا يحفل من اللفظ إلا بمكانه من معجمات اللغة، فكان عيب المنفلوطي عنده أنه يخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها، ويصطنع ألفاظا لم تثبت في «لسان العرب» ولا في «القاموس المحيط».
وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة. ولم ينس الفتى مقالا دفعه ذات مساء إلى الشيخ عبد العزيز جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طرب له وأبى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضر مجلسه ذاك، وابتهج الفتى حين سمع الثناء، وأحس بالإعجاب، واستيقن أنه أصبح كاتبا ممتازا، ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه، وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم، وكان أول المقال: «عم صباحا أو مساء، واشرب هواء أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء.»
كان بعض تبعة هذا السخف يقع على الشيخ عبد العزيز جاويش، ولكن للشيخ عبد العزيز جاويش فضلا على الفتى أي فضل، فهو الذي ألقى في روع الفتى فكرة السفر إلى أوروبا حين قال له ذات يوم: «لا بد من أن نصنع شيئا لإرسالك إلى فرنسا عامين أو ثلاثة أعوام.» لم يكد الفتى يسمع هذه الألفاظ حتى استقر في نفسه أن ليس له بد من عبور البحر على أي نحو من الأنحاء، وقد لاحظ الفتى فيما بعد أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدث إليه فيها كل من كان يلقاه، إلا رجلا واحدا لم يشر إليها قط على كثرة ما كان يلقى الفتى، وعلى كثرة ما كان يتحدث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد.
فهم الفتى - ولكن متأخرا - أن لطفي السيد لم يرض قط عن هذه الفصول، ولو قد رضي عنها، وعن بعضها، لتحدث إليه فيها، وهو الذي كان كثيرا ما يشجع الفتى فيتنبأ له مرة بأنه سيكون موضعه من مصر موضع فولتير من فرنسا، ويقول له مرة أخرى: أنت أبو العلائنا، يتعمد إثبات الألف واللام على رغم الإضافة في اسم أبي العلاء، ثم يضحك ويغرق في الضحك حين يرى تنكر الفتى للجمع بين الإضافة وأداة التعريف.
أصبح الفتى كاتبا بفضل هذين الرجلين: لطفي السيد وعبد العزيز جاويش، وأصبح كاتبا لشيء آخر: وهو أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حبا للكتابة ورغبة فيها، لم يكسب بها درهما ولا مليما.
صفحه نامشخص