في الهند طير ناطق
سبحان من قد ألهمه
يقول في تسبيحه
ابن الأمه ما ألأمه
ومنذ ذلك الوقت أسرف ذلك الفتى النواسي على نفسه وعلى صاحبيه وعلى زملائه من الطلاب، فكان يتتبع سيئاتهم وأغلاطهم، ويزيد فيها ويضيف إليها، ويقول في ذلك الشعر، حتى أصبح هجاء. وكان لا يحتفظ بهجائه لنفسه ولصاحبيه، وإنما يجهر به كلما وجد إلى الجهر به سبيلا. وربما احتال حتى ينشد شعره ذاك بأرفع صوته ليسمعه من قيل فيهم من الطلاب. ثم عظم في نفسه الوهم واستأثر بها حب الشر، فكان كلما رأى أحدا ينظر إليه فيطيل النظر، أو ينظر إلى بعض أصحابه أولئك الحسان اتخذه لنفسه عدوا وهجاه. ثم بدا له أن الهجاء وحده لا يغني عنه شيئا، فعمد إلى شر منه، وجعل يكتب إلى إدارة الأزهر وإلى الشيخ الأكبر خاصة، الرسائل في كل يوم، يسعى بها عنده في هؤلاء الطلاب الذين اتخذهم لنفسه عدوا.
وضاق الشيخ الأكبر بهذه الرسائل التي جعلت تصب عليه في كل يوم كما ينصب المطر من السماء، وإذا الإدارة تعلق ذات يوم في لوحة الإعلانات تنبيها تدعو فيه الطلاب إلى أن يكفوا عن هذه الخطة التي ينكرها الخلق ويحرمها الدين، وهي السعي بالسوء في الشيوخ والطلاب عند المشيخة. وقد قرأ الفتى النواسي هذا التنبيه ذات يوم بين هذه الإعلانات الكثيرة التي كان الطلاب يعلقونها يعلنون فيها أن نعالهم قد ضاعت منهم، وأن من وجدها فليردها إلى صاحبها، وأن من سرقها فهو جدير بأن يغضب الله عليه ويقطعه من هذا المكان.
قرأ الفتى النواسي هذا التنبيه بين تلك الإعلانات، فامتلأ قلبه غبطة وابتهاجا، وزعم أنه قد فاز فوزا عظيما؛ لأنه ضايق الشيخ وأحرجه، وألح في كتابة رسائله تلك إمعانا في مضايقة الشيخ وإحراجه، ولم يكف عن ذلك إلا حين كف صاحباه عن الإلمام بالأزهر مخافة سوء العاقبة، واضطر هو إلى أن يهجر الأزهر كما هجره صاحباه.
على أن صاحبنا الفتى لم يلبث أن شغل - أو كاد يشغل - عن صاحبيه بياض النهار، فقد كان يخلص لحياته هذه الجديدة التي أخذ يحياها منذ قرأ لنفسه أول مقال نشرته له الصحف. أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد منه، فجعل يكتب في الجريدة رغبة في الكتابة أحيانا، وتقربا بها إلى مدير الجريدة أحيانا أخرى، وجعل مدير الجريدة يرضى عن فصوله، ويغريه بالكتابة، ويحثه عليها حثا، ويعلمه القصد في اللفظ والأناة في التفكير.
وما هي إلا أن جعل يقربه إليه، ويدعوه إلى زيارته حتى أصبح الفتى ملازما لمكتب المدير، يلم به في أكثر أيام الأسبوع حين يرتفع الضحى، فلا يحجب عنه، وإنما يلقاه الأستاذ المدير هاشا له، مرحبا به، آخذا في التحدث إليه والاستماع منه، فاتحا له أبوابا من التفكير، لم تكن تخطر له على بال، خائضا معه في حديث الأدب القديم، راويا له من الشعر ما كان يحفظ وما لم يكن قد سمعه من قبل، حتى استأثر بقلب الفتى وعقله وحتى أصبح للفتى أستاذان يختصهما بحبه وإعجابه، أحدهما يذكره بأئمة البصرة والكوفة وهو الشيخ سيد المرصفي، والآخر يذكره بفلاسفة اليونان الذين سمع أسماءهم في الأزهر وجعل يدرس أطرافا من فلسفتهم في الجامعة، وهو لطفي السيد.
وكان الفتى يختلف مع ذلك إلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله، فيسمع له صوتا عذبا وحديثا لينا رقيقا، ويرى من وراء هذا اللين وتلك العذوبة عنفا أي عنف إن ذكرت السياسة، أو ذكر الأزهر وشيوخه، أو ذكر بعض الكتاب الظاهرين الذين لا يكتبون في صحف الحزب الوطني. وكان يحبب العنف إلى الفتى ويرغبه فيه، ويزين في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ والنعي عليهم في غير تحفظ ولا احتياط. فهو كان يرى أنهم آفة هذا الوطن يحولون بينه وبين التقدم بما كانوا يلجون فيه من المحافظة ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديو، ومصانعتهم للإنجليز.
صفحه نامشخص