أبي ينتمي إلى جيل ثورة 19، من أبناء الفلاحين الذين تعلموا وحصلوا على شهادات عليا، تعلم قليلا من الكلمات الفرنسية بالجهد الذاتي، منها عبارة: «أنا أحبك
Je t’aime »، يكتبها لأمي فوق قصاصة ورق أيام الخطبة، يسمي نفسه «درعمي مودرن» (درعمي تعني المتخرج في دار العلوم)، يدخل معارك ضد فساد الحكومة، كان يمكن أن يكون وزيرا للمعارف لو أنه صادق صبري أو علم أو أحمد ماهر أو النقراشي، يلتقي بهؤلاء أحيانا في الاجتماعات، يقف على المنصة ويعلن رأيه، حاول بعضهم استمالته لدخول الحزب أو تأييد أحدهم في الانتخابات مقابل التصعيد في سلم الوزارة، كان محصنا ضد الرشوة بالفطرة والطبيعة والخوف من عقاب الله، يحلم بوطن مستقل، لا يحكمه الأجانب، نظام عادل ينصف الفقراء، نوع آخر من التعليم في الأزهر والمدارس، نوع آخر من المشايخ، يردد عبارة أمه: ربنا هو العدل، عرفوه بالعقل.
فتح مدرسة نموذجية في الجيزة للأطفال، عقد اجتماعا لرجال التعليم من جيله في الجيزة ، وضعوا خطة إقامة المدرسة، وجمعوا في عام واحد من الأموال ما يكفي، أقاموا المدرسة بجهودهم الخاصة، أقاموها في تواضع وصمت.
كان أبي يكتب الشعر ولا يسعى إلى النشر، يقرؤه لنا في الفرندة، يهز رأسه مع اللحن أو القافية، يقرأ علينا أشعار المعري وأبي نواس وبشار بن برد. أبو نواس الذي عشق الخمر والفجور. الشاعر الديب، الذي قال عن نفسه:
كأني حائط كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوق طرطر
أشعر بالسعادة وأنا أستمع إلى أبي، سعادتي تتضاعف حين يأخذنا نحن الأطفال معه إلى السينما أو المسرح أو السيرك.
لم يكن في منوف إلا سينما واحدة تعرض أفلام عبد الوهاب، منها فيلم «دموع الحب»، لا أذكر منه إلا أغنية: «ياما بنيت قصر الأماني»، أو عبارة واحدة من الأغنية، هي: «يا نوال فين عيونك.»
لم يكن المسرح مثل السينما، كان يأتي في المواسم أو الأعياد، مثل السيرك، الفتاة من عمري، لاعبة السيرك، تركب فوق الأسد والنمر، تمشي على الحبال، ترقص، تغني، تقفز في الهواء مثل العصفورة، جسمها الرشيق مرن بغير عظام، تحركه كما تشاء.
صورتها محفورة في ذاكرتي، صوتها يغني، حركتها الخفيفة كالريشة، أسمعها، أراها موجودة أمامي بلحمها ودمها، أنا جالسة في السيرك، صوتها السوبرانو يتجاوز جدران الخيمة الكبيرة في الميدان، مئات العيون تتطلع إليها وهي تمشي فوق الحبل، أمسك أنفاسي والجالسون إلى جواري يمسكون أنفاسهم (بمن فيهم أبي وإخوتي)، تقفز من فوق الحبل المعلق بين السماء والأرض، يصيبني الإغماء، تنفرج شفتي عن الشهقة، صورة وجهها الجانبية نحتت من الحجر المقدس، يكسوها ضوء مسحور.
صفحه نامشخص