هذه العبارة، «أم محمد» ترددها كل يوم، كلمة «مايستحوش» تعني البنات بدون حياء أو خجل، البنات في زمن «أم محمد» كان عندهن حياء، تطرق الواحدة برأسها حين تمشي، لا يمكن أن ترفع عينها في عين رجل، لا يمكن أن يخرج منها صوت أو تضحك بصوت مسموع مثل هؤلاء الفاجرات. - في أيامنا كانت البنات مؤدبة يا أم محمد. - أيوة يا ست زينب هانم، كانت البنت قطة مغمضة، لكن النهاردة في الزمن الأغبر ده البنت من دول ماتستحيش، عينها مفتوحة، يندب فيها رصاصة يا ست زينب هانم.
هكذا يدور الحوار بين أمي وأم محمد، حين تأتي لزيارتنا، تنضم إليهما طنط نعمات (إذا جاءتنا في زيارة)، أو ستي الحاجة أو واحدة أخرى من الخالات أو العمات الزائرات. يجلسن في الصالة الواسعة على الكنب البلدي، يشربن القهوة أو المغات، تقرأ «أم محمد» لهن الفنجان، يلعبن الكوتشينة «بصرة» أو «كونكان»، تقرأ لهن طنط هانم البخت في ورق الكوتشينة، يطرقعن باللبان الدكر أو النتاية. تطرقع ضحكة طنط نعمات وهي تصيح: انا باحب الدكر أكثر من النتاية، ترتفع الضحكات النسوية الناعمة الممطوطة أو المكتومة كالشهقات، تخفي عمتي رقية نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء وتقول: يسلم بقك يا نعمات هانم، تمط طنط فهيمة شفتيها في امتعاض: النتاية طعمها أحسن إذا كانت من الوراور، تضحك ستي الحاجة حتى تدمع عيناها تقول: الوراور مافيش زيهم، تنهض أم محمد وتعد «الحمام» أو «البخور» أو «الحلاوة». تدندن أمي بأغنية سيد درويش: «فيك عشرة كوتشينة في البلكونة»، وأغنية «يا حاير يا داير يا جوز الضراير.» - البيضة تقول للسمرة. - مين زيك عندي يا جارية. - والسمرة تقول للبيضة. - الجير كتير على الحيطاني. - واللفت بأرخص الأتماني. - وجوزي ما يحب إلا أني. - وأكثر لياليكي برة.
صوت أمي وهي تغني يترامى لي من الصالة وأنا في غرفتي الصغيرة، من وراء باب الحمام المغلق أسمع صوت صرخات طنط نعمات أو طنط هانم أو فهيمة، أدرك أن أم محمد تنزع الشعر من أجسادهن «بالحلاوة»؛ عجينة من السكر والليمون تطهى على النار حتى تصبح مطاطة، تنزع بها النساء الشعر من فوق أجسادهن، الذراعين، الساقين، تحت الإبط، أسفل البطن وبين الفخذين.
الواحدة منهن تخرج من الحمام مثل الأرنب المسلوخ، وجهها أحمر بلون الدم، ذراعاها وساقاها وعيناها، حاجباها منتوفان، وجفونها حمراء متورمة.
ترمقني الواحدة منهن بعين غاضبة، كأنما كشفت عن عورتها أو عن منبع ذلها وهوانها، تمتد يد الواحدة منهن فتلزمني في كتفي بإصبع حاد مثل الإبرة، تقرصني من خدي أو أذني أو ثديي، قرصة مؤلمة تشبه قرصة العقرب، لم أكن أعرف لماذا يفعلن ذلك، هل كانت مداعبات أم عقوبات؟ أصابع قوية مدببة متصلبة محرومة من شيء ما، تعوض عن حرماتها بأن تغرز نفسها في لحم الأطفال.
أكثرهن غضبا مني كانت طنط نعمات وعمتي رقية، امرأتان تنتميان إلى طبقتين مختلفتين، من عمر واحد تقريبا، بدون زوج «مطلقتان»، من البعد متشابهتان، عند الاقتراب يظهر بينهما التناقض؛ اليدان الكبيرتان المشققتان لإحداهما تعلوهما آثار مقبض الفأس، اليدان البيضاوان الأخريان ناعمتان من البطالة واللاعمل. الاثنتان تؤمنان بالله والرسول، تخافان من نار جهنم، تخضعان لقانون الزواج والطلاق، تقرءان الغيب في الفنجان والودع، تحضران الزار وجلسات تحضير الأرواح، تعلقان حول عنقيهما «حجابا» يبطل مفعول الحسد والسحر، ماتت الاثنتان في صمت دون أن يدري أحد، مهجورتين بلا بيت ولا أطفال.
من مكاني في «دير هام» على بعد السنين وآلاف الأميال، أراهما تسيران عبر فرجة في السحب، المرأتان الفانيتان، تحملان فوق ظهريهما صليبيها وتسيران، تلقيان بأنفسهما في النار، طاعة لله وتكفيرا عن الذنب منذ أمهما حواء.
لم أنجذب إلى حياة النسوة هؤلاء، لم أتخيل نفسي واحدة منهن، أفتح الكوتشينة لأعرف مستقبلي، أو أنزع الشعر من فوق جسدي بالحلاوة وأبكي من الألم.
حياة النساء كانت تبدو مليئة بالألم، تفوح منها رائحة البصل والثوم، أو الشبة والبخور، أو العطور الممزوجة بالعرق أو الكسل والخمول.
لم أتخيل نفسي مثل طنط نعمات أو أمي، كنت أتخيل نفسي مثل أبي، ورثت عنه حلم طفولته، أسمعه يناديني: نوال، عاوزة تشوفي السيرك؟ - أيوة يا بابا!
صفحه نامشخص