آگوستین: مقدمهای بسیار کوتاه
أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
De ordine ). وفي المحاورة الأخيرة من تلك المحاورات، أدرج أوغسطينوس دفاعا عن دراسة الفنون الحرة كإعداد للعقل لتلقي الحقائق الأكثر سموا، واقترح أنها ينبغي أن ترتب على سلم تصاعدي، على أن تأتي الهندسة والموسيقى تحديدا لتكشف عن النظام الحسابي الكامن وراء الكون. واستعار أوغسطينوس صورة من أفلوطين، واستخدم صورة الرصيف المصنوع من الفسيفساء الذي لا ترى جماله العين المنكبة على قطعة صغيرة واحدة، بل العين التي تحاول فحسب أن تنظر للصورة ككل. وفي فقرة تتوافق بشدة مع الأفلاطونية الجديدة، أعلن أوغسطينوس بأنه «كي نرى الواحد، يجب أن ننسحب من التعددية؛ ولا أعني وحسب تعددية البشر، بل وتعددية الإدراكات الحسية. ونلتمسه وكأنه مركز دائرة تمسك ما حولها بقوة وتحافظ على تجانسه» (حول الحكم).
وفي كاسيكاسيوم، كتب أيضا «مناجاة النفس» (استحدث أوغسطينوس هذه التسمية)، وهي عبارة عن محاورة سلم أوغسطينوس - بحثا عن اليقين خاصة فيما يتعلق بخلود الروح - نفسه فيها إلى إملاءات العقل. ولقد أدت تحفة أدبية ذات طابع أفلاطوني حديث تحديدا من الجدل به إلى تأكيد أن الحقيقة الحسابية صحيحة بشكل سرمدي، وأن العقل الذي يعرف هذه الحقيقة أيضا يشارك في هذا السمو للتسلسل الزمكاني، وهو الرأي المشار إليه على استحياء في أعمال أفلاطون (مينو)، وطوره إلى حد كبير أفلوطين. وفي مزيج خصب من العبارات المستعارة من شيشرون، تمزج «مناجاة النفس» ما بين لغة الإنجيل وخليط قوي من الوجودية الأفلاطونية الحديثة. ثمة إشارة مؤكدة بالاسم لكل من أفلاطون وأفلوطين، ووجود الأفكار المستخلصة من فرفوريوس محتمل جدا. يقول أوغسطينوس هنا إنه ما من سبيل وحيد لينال المرء رؤية الرب؛ ولكن على الأقل يتعين على المرء أن يفر من كل شيء مادي، وينحي بحثه عن الإشباع؛ سواء إشباع الحب الجنسي «حتى الذي يكنه المرء لزوجة متعلمة ومتواضعة»، أو إشباع المال أو السمعة والشهرة، كما يتعين عليه تدريب ذهنه على الوقائع غير المرئية بواسطة عملية شبيهة بالتجريد الهندسي؛ بحيث لا يفكر المرء في المربعات ذات الأحجام المختلفة، بل في المبادئ التي بموجبها تمتاز المربعات بشكلها المربع. وبعدئذ، يجوز أن يبدأ المرء في فهم السمو الغامض للرب الذي تجد فيه الروح الخالدة المطهرة غايتها الحقيقية. والطريق إلى التطهير الداخلي يكون بالإيمان. إن الاقتراح الأخير هو الوحيد الذي ربما كان سيثير حيرة فرفوريوس.
تمزج محاورات كاسيكاسيوم ما بين الثقة بأن ثمة نظاما قدريا وانعداما للثقة بالنفس حيال قدرة الإنسان على فهم ذاك النظام في كل الحالات. وينظر إلى الثقة بالقدر بأكثر من كونها لغزا فكريا: «ستمنح الرؤية لكل من يعيش عيشة كريمة ويحسن الدعاء ويكد في دراسته» (حول الحكم). ولكن، من المقترح أنه في خضم كل هذه التنوعات وتوترات التجربة، يمكن أن يكون هناك انسجام مطلق، وجمال يكمن في النقائض والتباينات كما في صورة مرسومة تحوي من الألوان الفاتح والداكن؛ وعليه، فمن المحتمل أيضا أن تكمن وحدة الحقيقة فيما وراء الموضوعات المتعددة للمعرفة البشرية بمناهجها المختلفة للبحث والاستقصاء.
في ظل تخصيص هذه المكانة العظيمة لدراسة الفنون الحرة، كان من الطبيعي لأوغسطينوس، في الأيام الأولى التالية لتعميده، أن يشرع في وضع سلسلة من الكتيبات المتعلقة بالموضوعات الأساسية للمنهج التعليمي القديم. من بين هذه الكتيبات، لم تصمد دون مساس إلا كتبه عن المنطق والموسيقى. وعثر على كتابه عن قواعد اللغة، وعرضت نسخة منه على عائلة كاسيودوروس في القرن السادس الميلادي، واعتبر ذا فائدة عظيمة لدرجة أن نسخته التي في مكتبته سرقت. وتنقل لنا مخطوطات العصور الوسطى كتابين في قواعد اللغة باسم أوغسطينوس، ومن المحتمل جدا أن أحدهما (ويعرف باسم
Ars breviata ) هو النص «المفقود». والنتيجة واضحة؛ وهي أن الهداية إلى المسيحية والتعميد لم يتمكنا من سحق النزعة التربوية والإنسانية لدى أوغسطينوس. وألقت به التأثيرات الأفلاطونية الحديثة على الطريق إلى النظر إلى الفنون الحرة (ولا سيما الجدلية والهندسة والموسيقى) كتدريب ذهني محبذ بشدة في الفكر التجريدي المؤهل للاستكشافات الميتافيزيقية الأسمى.
في نهاية حياته، كتب أوغسطينوس نقدا أملاه عليه ضميره لعمله الخاص طوال حياته، وأسماه «المراجعات» أو «إعادات نظر» (استدراكات، ولا يجوز ترجمتها «تراجعات»؛ وذلك لأن الكتاب يكاد يكون في أغلبه دفاعا عن أفكاره بقدر ما هو تراجع عن أفعاله الطائشة). في هذا الكتاب، شعر أوغسطينوس أنه مال في شبابه إلى المغالاة في قيمة مثل هذه الدراسات الحرة وأهميتها: «كثير من رجال الدين لم يدرسوا هذه الفنون قط، وكثير ممن درسوها ليسوا برجال دين» (المراجعات
Retractationes ).
تجلى الاهتمام التعليمي لدى أوغسطينوس تجليا مختلفا في فترة نضجه، ولا سيما في واحد من كتبه الأكثر أثرا، وأول الكتب التي طبعت في القرن الخامس عشر. كان هذا الكتاب بعنوان «حول الثقافة المسيحية»، وراجع أوغسطينوس الكتاب وأضاف إليه قرب نهاية حياته. ولقد حفظت مخطوطة النسخة الأولى التي كتبها أوغسطينوس في حياته، وهي موجودة الآن في مدينة سانت بطرسبرج. ويتناول هذا العمل التمحيص في المهارات الضرورية لتفسير الإنجيل تفسيرا صحيحا وبشكل مقنع. واستغل أوغسطينوس «كتاب القوانين» لعالم اللاهوت المنشق تكنيوس ليصوغ شرائع التأويل التي ستتفادى الذاتية، مثلا في تحديد ما هو حرفي وما هو مجازي، وفي حالة المجازي، تحديد المعنى المستتر. لقد أفصح الإنجيل حقا عن حكمة الرب؛ لكن العلوم البشرية كانت غير ذات صلة تماما باكتشاف تلك الحكمة وبيانها؛ فمفسرو الإنجيل الواثقون بوحيهم الداخلي الخاص ارتكبوا أخطاء كثيرة وفادحة. ويسجل أوغسطينوس بشيء من الدهشة أن ثمة مسيحيين معاصرين في أفريقيا لم يقرءوا شيئا بخلاف الإنجيل، ولا يتحاورون غالبا إلا بترجمات غريبة للإنجيل اللاتيني القديم، وذلك استباقا لإنجليزية جمعية الأصدقاء الدينية. كان على يقين من ضرورة إجراء دراسات أكثر توسعا؛ فالعالم بالإنجيل بحاجة إلى معرفة شيء من التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق والبلاغة (كيفية الكتابة والتحدث بوضوح وبشكل ملائم). وقد تكون هناك أماكن تساعد فيها معرفة طفيفة بالتكنولوجيا المفسر. ولا شك أن معرفة بسيطة باللغة اليونانية كانت ذات قيمة قصوى في التحقق من الترجمات والقراءات المختلفة.
لم يدرس أوغسطينوس العبرية قط، رغم أنه كان يفهم الكلمات القرطاجية التي يتحدثها الفلاحون، وكان يعرف تمام المعرفة أنها لغة سامية من أصل واحد هي والعبرية. ووفر عليه وجوب تعلم العبرية نوعا ما إتقان معاصره الأرفع مكانة وصديقه بالمراسلة جيروم لها، وكذلك لأنه كان على يقين من أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي أنجزها سبعون حبرا (السبعونية) لم تكن أقل إلهاما من النسخة العبرية نفسها. ولقد أزعجه الإنجيل اللاتيني الجديد لجيروم (النسخة اللاتينية للإنجيل) كلما وجد كلمات مألوفة منذ زمن طويل مبدلة بلا داع. فهذا أمر يستاء له العلماني الذي دائما ما يكون عدائيا تجاه التغييرات الطقسية.
لقد عكس العمل المتعلق بالثقافة المسيحية التوقير الخاص الذي كان أوغسطينوس يكنه للإنجيل. فقد أنكر صراحة أن الكتاب المقدس يمثل الوسيط الوحيد للوحي الإلهي (العظات)؛ لكنه مثل مبدأ السلطة الذي بدا مركزيا للإيمان المسيحي بطريقة إلهية معينة للخلاص للبشرية الجاهلة الضالة. لقد اعتمدت سلطة الإنجيل والكنيسة على الدعم المتبادل، واستخدامه في الكنائس حدد قيود الشريعة. ولقد رسخت نصوص الإنجيل الطبيعة المقدسة التكوين للكنيسة.
صفحه نامشخص