1 - تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
2 - الفنون التحررية
3 - حرية الاختيار
4 - مجتمع فلسفي
5 - المشوار المهني
6 - الاعترافات
7 - الوحدة والانقسام
8 - الخلق والثالوث
9 - مدينة الله
10 - الطبيعة والنعمة الإلهية
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
2 - الفنون التحررية
3 - حرية الاختيار
4 - مجتمع فلسفي
5 - المشوار المهني
6 - الاعترافات
7 - الوحدة والانقسام
8 - الخلق والثالوث
9 - مدينة الله
10 - الطبيعة والنعمة الإلهية
قراءات إضافية
مصادر الصور
أوغسطينوس
أوغسطينوس
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
هنري تشادويك
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
هذا الكتاب يستعين بمادة مأخوذة من محاضرات لاركين ستيوارت، تورونتو 1990، ومحاضرات ساروم، أكسفورد 1992-1993.
الفصل الأول
تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تعرض أيضا سيرة ذاتية له. فنظرا لأنه كتب أشهر السير الذاتية القديمة وأكثرها وقعا وأثرا، جذب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتماما شديدا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضا تعد مصدرا أساسيا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانب من شخصيته، لكنه يعنى بتشكل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطور وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ب «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل
Epistulae ). وكانت التحولات التي شهدها وثيقة الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محورية للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ب «حياته وأيامه».
شكل 1-1: أقدم صورة للقديس أوغسطينوس. تصوير جصي، القرن السادس.
ولد أوريليوس أوغسطينوس عام 354 ميلاديا وتوفي عام 430. وقد عاش كل حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عاما الأخيرة من عمره أسقفا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تعرف آنذاك باسم هيبو، وتمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حكرا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصل هو تلك الثقافة من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقى منها ما وضعه أي مؤلف قديم، أمسى يمارس أثرا واسعا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءا من إرث الرجل: (1)
كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبناة تلك الجامعات ضاربين بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحكم» (1155) ليقدم مرجعا أساسيا لعلم اللاهوت، استقى نسبة كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيان استشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألف المرجع الأساسي للقانون الكنسي. (2)
لم تتملص طموحات الصوفيين الغربيين قط من أثره؛ وذلك إلى حد كبير نظرا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنا، بضرورة الحال، بشيء من إنكار الذات وألم تحول الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية. (3)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدر أكثر من النعمة الإلهية. وردت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والتجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس. (4)
شهد القرن الثامن عشر انقساما شديدا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يرق لهم أوغسطينوس كثيرا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويري الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوهها الشر المتطرف المتفشي. (5)
في ردة فعل ضد حركة التنوير، ساوت الحركة الرومانسية ما بين صلب العقيدة والمشاعر بدلا من نتائج الجدالات الفكرية. لم يكن أوغسطينوس مطلقا معاديا للفكر، لكنه لم يظن أن الفكر له الكلمة العليا، كما أنه كان رائدا لتقدير إيجابي جدا للمشاعر البشرية. فنحن ندين له باستعمالنا لكلمة «قلب» بهذا المعنى. (6)
كان أوغسطينوس أكثر الأفلاطونيين المسيحيين حدة، وبذل جهدا جهيدا من أجل إرساء أسس التآلف ما بين المسيحية والتوحيد الكلاسيكي النابع من أفلاطون وأرسطو. لقد ترك أفلوطين في القرن الثالث بعد الميلاد أثرا عظيما فيه بفضل تنظيمه للتقليد الأفلاطوني، لكن أوغسطينوس أمسى أيضا واحدا من أكثر النقاد جميعا بصيرة لهذا التقليد الفلسفي الذي دان له هو نفسه بالكثير. (7)
رأى أوغسطينوس بشكل أوضح بكثير من سابقيه (وقبل من جاءوا بعده بوقت طويل جدا) أن القضايا ذات الأهمية القصوى تثيرها مشكلة العلاقة ما بين الكلمات والواقع الذي يحاولون توصيفه. كان أوغسطينوس رائدا في الدراسة النقدية للتواصل غير اللفظي.
وعاش كل من أنسلم وتوما الأكويني وبترارك (الذين لا تخلو جيوبهم مطلقا من نسخة من كتاب «الاعترافات
Confessiones »)، ولوثر وبيلارمين وباسكال وكيركجور في جلباب أوغسطينوس الفضفاض. كانت كتاباته من بين الكتب المفضلة للفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، وكان أبغض الناس لنيتشه. وتنبأ تحليله النفساني بأجزاء من أعمال فرويد؛ فهو أول من استكشف وجود «اللاوعي».
وكان أوغسطينوس «أول رجل حديث»؛ بمعنى أن القارئ يشعر معه أن الكاتب يخاطبه على مستوى من العمق النفساني غير مسبوق، ويجد أمامه نظاما متناسقا من الفكر، أجزاء كبيرة منه ما برحت تجذب بقوة الاهتمام والاحترام. ولقد أثر في الطريقة التي تفكر بها الغرب بالتبعية في طبيعة الإنسان وما نعنيه بكلمة «الرب». ورغم أن أوغسطينوس كتابع من أتباع أفلاطون لم يكن معنيا بقدر كبير بالبيئة المادية الطبيعية، وألف مؤلفاته وهو يخشى أن تجرى الأبحاث العلمية دون احترام للاعتبارات الأخلاقية، فإن فرضية العالم الحديث بأن النظام الرياضي والعقلانية هما السمتان الرفيعتان في العالم لم يكن لها من نصير بليغ في الماضي أفضل منه. ولذا، فقد أسهم إسهاما كبيرا في التوجه نحو النظام المخلوق الذي جعل نشأة العلم الحديث ممكنا. ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة أوغسطينوس بإنصاف إذا عومل بخلاف ما كان عليه في حقيقة الأمر؛ أعني رجلا من العالم القديم تشكلت عقليته وثقافته بالكامل بفعل آداب وفلسفة اليونان وروما، ووضعه اعتناقه المسيحية بدرجة ما في صراع مع الماضي الكلاسيكي. وفيما يتعلق بهذا الماضي، وقف أوغسطينوس موقف الناقد والناقل لعالم العصور الوسطى والعالم الحديث.
وكما افترض اليونانيون، بشيء من المنطق، أن أحدا لم ينافس هوميروس في كتابة الشعر، أو كتب التاريخ بطريقة تضارع هيرودوت وثوسيديديس، أو فلسفة لم تكن محض سلسلة من الحواشي لكتابات أفلاطون وأرسطو والرواقيين وإبيقور؛ نسب الرومانيون مكانة النموذج الكلاسيكي لساداتهم السابقين؛ شيشرون للنثر والخطابة، وفيرجيل وهوراس للشعر. على أيام أوغسطينوس، كان هناك رجال متعلمون يحفظون خطب كاملة لشيشرون وكافة أعمال فيرجيل عن ظهر قلب. ونظرا لأن اختراع الطباعة جعل الكتب أقل تكلفة نسبيا من المخطوطات، فقد بدت قدرات الاستظهار تلك غير ذات جدوى، وتكاد تكون مستحيلة بالنسبة إلينا في عصرنا هذا، ولكن في العالم القديم وفي العصور الوسطى استند الكثير من التعليم المدرسي إلى التعليم بالاستظهار في سن يمكن التأثير فيها بسهولة. انطبع نثر شيشرون وشعر فيرجيل بشدة على عقل أوغسطينوس لدرجة أنه لم يستطع أن يكتب عدة صفحات دون أن يسترجع أعمالهما أو يلمح إليها لفظا. وفي شبابه، قرأ أيضا بإعجاب شديد تاريخ الجمهورية الرومانية المظلم لسالوست والأعمال الكوميدية لتيرانس. وكانت هذه الأعمال أيضا جزءا من الهواء الأدبي الذي تنسم نسائمه بطبيعة الحال. وفي أعماله النثرية كان كثيرا ما يورد عبارات هنا وهناك بتصرف مستقاة من الأدب اللاتيني الكلاسيكي. ولم يتم العثور على تلك الإشارات الضمنية إلا مؤخرا نسبيا، ومن المؤكد أن هناك المزيد منها بانتظار إماطة اللثام عنه.
لم يكن أوغسطينوس متفردا في عصره من حيث امتلاكه لهذه الثقافة الأدبية العالية؛ فخلفيته الثقافية كانت خلفية أفريقية رومانية، وتحديدا ثقافة الأقاليم المستعمرة الثرية التي طالما تمتعت بالسلام والرخاء وقطنها أناس مثقفون جدا زينوا فيلاتهم بالفسيفساء والتماثيل البديعة، كتلك التي يستطيع المرء أن يراها في متحف باردو بتونس. منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، بعد وفاة أوغسطينوس بأكثر من 200 عام، انتمى الجانبان الشمالي والجنوبي للبحر المتوسط إلى عوالم ثقافية - إن لم تكن تجارية - منفصلة، وتكلم أهلهما لغات مختلفة، فيما خلا فترة الهيمنة الفرنسية القصيرة نسبيا خلال العصور الحديثة. في عصر أوغسطينوس، انتمى الشمال والجنوب إلى عالم واحد، وتكلما وكتبا بلاتينية فصيحة تحدث بها الأفارقة بلكنة إقليمية مميزة. وأمد شمال أفريقيا إيطاليا بالجزء الأغلب من غلالها. وكانت الرحلة الصيفية من قرطاج أو هيبو إلى بوتسوولي أو أوستيا جولة بحرية قصيرة يقوم بها عدد من السفن كل أسبوع، وكان الاتصال بإيطاليا متواترا وسهلا يسيرا. وكانت ثروات أفريقيا الرومانية غالبا تتجاوز ثروات إيطاليا حتى بين العائلات الميسورة الحال، وكان لدى الأقاليم الأفريقية إحساس قوي باستقلالها وبرغبتها في صنع قراراتها بنفسها.
أفرزت أفريقيا الرومانية كتابا مميزين: ففي القرن الأول، كتب مانيليوس دليلا نثريا عن علم الفلك؛ وفي القرن الثاني صعد نجم فرونتو معلم الإمبراطور ماركوس أوريليوس؛ وأبوليوس ابن مدينة مداوروش الكاتب الأكثر بيعا، لا لكتابه «الحمار الذهبي» (التحولات) وحسب بخليطه المميز من السحر والدين والجنس، ولكن أيضا لكتيباته المسهبة المؤثرة حول الفلسفة الأفلاطونية؛ وأولوس جيليوس مؤلف «ليالي أتيكا»، وهو دليل مختصر نوعا ما لتبادل أطراف الحديث بفعالية أثناء حفلات العشاء. وعاصر أوغسطينوس الكاتب اللاتيني ماكروبيوس، الذي أمست تعليقاته على «حلم سيبيو» (الكتاب السادس من «الجمهورية») مصدرا رئيسا للمعلومات المتعلقة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة للغرب في العصور الوسطى. وعاصر أوغسطينوس أيضا مارتيانوس كابيلا الوثني باختياره الذي ألف، ربما بعد وفاة أوغسطينوس، كتاب «الزواج بين فقه اللغة وعطارد (رسول الآلهة)» ليعلم قراءه عناصر الفنون الحرة السبعة، وليبين كيف لدراستها أن ترتقي بالإنسان إلى الفردوس.
وخلال القرن الثاني، أقامت إرسالية مسيحية نشطة في شمال أفريقيا عددا كبيرا من الأبرشيات التي ترجم الإنجيل الإغريقي إلى اللاتينية من أجلها. كان من بين المهتدين شخصيات رائعة مثل ترتليان الذي لمع نجمه في نهاية القرن الثاني، وهو مؤلف مفردات اللاهوت الغربي وأستاذ في الجدل الساخر الموجه ضد النقاد الوثنيين أو المهرطقين الخطرين. وهناك قبريانوس أسقف قرطاج الذي انتخب فور تعميده بفترة وجيزة، واستشهد بعدها بعشر سنوات عام 258 مصرا على التمسك بالطهارة الطقسية للكنيسة الكاثوليكية والسلطة القضائية للكهنوت الرسولي. وفي عصر قسطنطين العظيم في بداية القرن الرابع، كتب أفريقيان مسيحيان دفاعات عن عقيدتهما ضد النقاد الفلسفيين؛ ودان أرنوبيوس ولاكتانتيوس نوعا ما بالفضل إلى المؤلفين اليونانيين المسيحيين السابقين لهما.
كانت التركيبة السكانية لأفريقيا الرومانية مختلطة جدا؛ ففي المزارع، كان الفلاحون مزيجا من البربر والفينيقيين الذين يتكلمون البونيقية. وفي موانئ مثل قرطاج وهيبو، كان كثير من التجار يتكلمون اليونانية وتربطهم علاقات وثيقة بصقلية وجنوب إيطاليا، وهي المناطق التي كان في تلك الحقبة (ومن بعدها لفترة طويلة) يتحدث أهلها اليونانية على نطاق واسع. لكن اللاتينية كانت لغة المتعلمين والجيش والإدارة، وكانت ثقافة أوغسطينوس المنزلية والمدرسية لاتينية كليا، ولو أن أمه مونيكا كانت تحمل اسما بربريا.
كانت مدينة قرطاج الرومانية القديمة مدينة تجارية بارزة، ولم يكن سكانها يميلون وحسب إلى المصارعات بين الحيوانات والمصارعين من البشر في المسرح المدرج، بل نزعوا كذلك إلى الأنشطة الأقل دموية كالمسابقات الشعرية والمسرحيات الراقية بالمسارح. وكانت المدينة تتمتع بقضاة وأطباء ومعلمين للأدب بارعين عرفوا باسم «الرياضيين». لم يولد أوغسطينوس ولم يترعرع في هذا العالم المدني، بل كان فتى من فتيان الريف الإقليمي حيث ولد في بلدة جبلية داخلية تعرف باسم «طاغست» بإقليم نوميديا التي تعتبر مفترق طرق، وسوقا تعرف الآن في شرق الجزائر باسم سوق أهراس. وهنالك كان والده باتريك يمتلك فدادين قليلة من الأرض وأمة أو أمتين، لكنه لم يكن ثريا على الإطلاق. توفي باتريك عندما بلغ أوغسطينوس مراهقته. وكان لأوغسطينوس شقيق وشقيقة، لكن ليس هناك دليل إن كان هو الابن الأكبر أم الثاني أم الثالث. التعليم بالمدرسة المحلية بطاغست، كما في كل البلدات الصغيرة المثيلة، كان يوكل لمعلم واحد فقط. ووجد أوغسطينوس المعلم أكثر فعالية بعصاه فيما يتعلق بإلهام تلاميذه الاهتمام بدراساتهم. وسرعان ما انتقل إلى معلم آخر بمنطقة مداوروش الدانية. وبعد وفاة باتريك، انتقل أوغسطينوس إلى قرطاج بتمويل من جاره الثري رومانيانوس.
لاحقا، نظر أوغسطينوس إلى الأيام التي أمضاها بالمدرسة باعتبارها تجربة بائسة، ولا قيمة لها إلا كتدريب على صراعات ومظالم وخيبات أمل حياة الرشد. ولما كان صبيا شديد الحساسية واسع الاطلاع، أحس أوغسطينوس بأنه ثقف نفسه بنفسه باطلاعه على أعمال المؤلفين العظماء. فالعقوبات التي تحملها الأطفال، مهما كانوا يستحقونها، لم تنفع إلا الذين كانوا نزاعين أساسا للانتفاع بها، وخلقت ممن سواهم جيلا ساخطا وأكثر معاداة للمجتمع من قبل. لم يكتب قط أوغسطينوس بإعجاب أو امتنان عن أي من معلميه.
بدأ أوغسطينوس، بينما كان صبيا بالمدرسة، يتعلم اليونانية. ورغم أنه كره عناء الدراسة واللغة، فإنه سرعان ما استطاع استخدام كتاب مكتوب باليونانية كلما استدعت الحاجة ذلك، وعندما نضج أمسى على درجة من الكفاءة تسمح له بترجمة نصوص فلسفية موغلة في فنياتها. لكنه لم يحلم قط بأن يتقن أعمال هوميروس والأدب اليوناني كما فعل عدد من الأرستقراطيين الرومانيين المتأخرين. وصرح بشعور لم يكن غريبا على الغرب اللاتيني العتيق؛ ألا وهو أن الغرب حري به الآن أن يتمتع بكبرياء فكرية. لقد كان بحاجة لأن يقف على قدميه ولا يكتفي وحسب بالتكيف مع الأعمال اليونانية النادرة لخطباء لاتينيين ثانويين. لم يكن الناس يعرفون آنذاك أو يريدون الإقرار بأن بطلهم فيرجل يدين بالكثير لهوميروس. لكنهم كانوا رغم ذلك على دراية بأن الإغريق كانوا، وما برحوا، أساتذة الفلسفة الكبار؛ فقد ألف شيشرون وسينيكا حوارات و«رسائل» بما يلائم النقاشات الفلسفية اليونانية لتعليم الرومانيين. وكانت الحوارات الفلسفية لشيشرون منجما لمعلومات منظمة بشكل واضح عن النقاشات الدائرة بين المدارس المختلفة، وفي عشرينياته تمكن أوغسطينوس من الإحاطة بمحتواها إحاطة تامة.
رغم أنه لم يكن جاهلا باليونانية، كان أوغسطينوس دوما أكثر أريحية مع النسخة اللاتينية إن وجدت. وكان على دراية بمقولات أرسطو التي كانت متاحة له باللاتينية، وأبحاث قوانين الاستنباط السليم. وكانت المشكلة المعقدة - «العوارض المستقبلية» - الوارد نقاشها في الفصل التاسع الشهير من أطروحة أرسطو عن «التفسير» مألوفة له أيضا. واتفاقا مع الأفلاطونيين الجدد المعاصرين له، استخدم أوغسطينوس اللغة التي تكتنف الشكوك المتعلقة بالمستقبل، والتي كانت أكثر حتمية مما راق لأتباع أرسطو؛ حيث أراد أن يقول إن الأحداث التي تكون بالنسبة إلينا «عارضة» (أي إنها لم تكن لتحدث إلا إذا حدث أمر فترتبت عليه) ليست مشكوكا فيها بالنسبة إلى الرب (ردا على فاوست). وبتعبير آخر، رغم أن عقولنا التي نملكها محدودة جدا فلا يتسنى لها رؤيته، فإن المستقبل يستحيل تغييره شأنه شأن الماضي. كان أوغسطينوس مهتما تحديدا بالمنطق الرواقي والتأكيدات الأخلاقية. وكان مفتونا بمسألة إلى أي مدى تستطيع اللغة توصيل المعنى المتعلق بالواقع. وكان قادرا على إجراء تحليل دقيق للمشكلات الواردة في المحاجة الأبيقورية المنسوبة إلى مذهب المتعة والقائلة بأننا نعني بال «الخطأ» و«الصواب» في حقيقة الأمر «الممتع» و«المثير للاستياء».
ومن المفارقة أن المفكر الإغريقي الذي تشربت أفكار أوغسطينوس بأفكاره أكثر من غيره بكثير كان أفلاطون، الذي لم يكن متاحا من أعماله باللاتينية سوى النذر اليسير جدا. ولقد ترجم شيشرون قرابة نصف محاورة «طيماوس»، وألف كالسيديوس في القرن الرابع تعليقا مدروسا كان من الممكن أن يعرفه أوغسطينوس (لكنه لم يحط به علما على الأرجح). ولم يكن من الصعب بالنسبة إليه أن يجد نسخا يونانية من الحوارات الأفلاطونية، سواء في قرطاج أو في روما، حيث تلقى العلم لفترة من الوقت؛ فقد كان بعض مواطني المدينتين يتحدثون اللغة اليونانية. لكن يبدو أنه لم يبادر بدراسة النص الأصلي دراسة مباشرة.
تمثلت الفلسفة الأفلاطونية التي فتنت عقله في نهاية المطاف (عندما بلغ الحادية والثلاثين من عمره) في الأفلاطونية «الحديثة»، التي نطلق عليها حاليا الأفلاطونية الجديدة التي درسها قبله بقرن أفلوطين (205-270) لفئة محددة وحسب، وقدمها بهمة ونشاط إلى العامة تلميذه الدءوب ومحرر أعماله ومؤلف سيرته الذاتية فرفوريوس الصوري (حوالي 232-305). ورغم أن أفلوطين ألقى تعاليمه في روما، بينما عاش فرفوريوس جزءا من حياته في صقلية، فإن الاثنين ألفا باليونانية حصريا. ورغم تجريد الأفكار وتعقيدها، كان لأفلوطين وفرفوريوس أثر هائل في الغرب اللاتيني والشرق الإغريقي على حد سواء. أعلن أوغسطينوس في أوج حماسه الأول للأفلاطونية أنه وجد في أفلوطين «أفلاطون يبعث إلى الحياة مجددا» (ردا على الأكاديميين
Contra Academicos )، وهي العبارة التي تعكس بدقة الأعمال التي كلف أفلوطين بها نفسه؛ حيث اعتبر أفلاطون أكثر من مجرد رجل ذي ملكات فكرية مستقلة، بل كان بالنسبة إليه مرجعا.
وباستيعابها المذاهب الأساسية للأخلاق الرواقية، وقسما كبيرا من المنطق الأرسطي أيضا على يد فرفوريوس، أمست الأفلاطونية الجديدة مهيمنة بالكامل على كل المواقف الفلسفية الأخرى في أواخر العصور القديمة. ترجم أعمال أفلوطين وفرفوريوس إلى اللاتينية ماريوس فيكتورينوس الأفريقي الذي درس البلاغة والفلسفة في روما، وأدهش خلال الفترة التي لمع فيها نجمه - تقريبا قرب الفترة التي ولد فيها أوغسطينوس - الطبقة الأرستقراطية الوثنية إلى حد كبير عن طريق تعميده. وترجم فيكتورينوس أيضا بعض الأعمال التي تتناول المنطق لأرسطو وفرفوريوس، ولا سيما «مقدمة» منطق أرسطو التي ألفها فرفوريوس بجلاء ودقة بالغين، حتى إن الكتاب أمسى دليلا قياسيا لألفية كاملة.
شيشرون
نبع أقوى أثر مبدئي على الإطلاق استرشد به أوغسطينوس في شبابه فيما يختص بالمسائل الفلسفية من حوارات شيشرون. ومن بين الأعمال الكثيرة التي أحاط بها أوغسطينوس علما لشيشرون، ثمة محاورة واحدة تسمى «هورتنسيوس»، تبرر ضرورة التفكير الفلسفي لإصدار أي حكم نقدي حتى بالنسبة إلى أي إنسان منشغل بالحياة العامة والسياسية، كان لها أثر تشجيعي غير مسبوق على أوغسطينوس. وفي أعماله الأخيرة، لم يزل أوغسطينوس يقتبس عبارات من هذا الكتاب الذي طالعه أول مرة بينما كان طالبا في التاسعة عشرة من عمره في قرطاج. وقد أسدى شيشرون نصيحة للعالم الروماني تفيد بدراسة الفلسفة التي وضعها أرسطو نفسه دون من هم أدنى منه. وكان نموذج شيشرون يتمثل في الكفاية الذاتية الشخصية ووعي بأن السعادة، التي يسعى إليها الجميع، لا وجود لها في حياة موغلة في المتعة الذاتية التي تدمر احترام الذات والصداقات الحقة تماما. وإذ تدبر مفارقة أن جميع الناس يسعون وراء السعادة بينما الغالبية العظمى منهم بائسون كل البؤس، خلص شيشرون إلى استنتاج محمل بالمعاني مفاده أن بؤس الإنسان ربما كان ضربا من الحكم الإلهي، وحياتنا الآن قد تكون كذلك تكفيرا عن آثام ارتكبناها في شكل سابق من أشكال التجسد. وتضمنت أيضا محاورة «هورتنسيوس» تحذيرا من أن السعي وراء المتع الحسية، ممثلة في المأكل والمشرب والجنس، مشتت للعقل في بحثه عن الأشياء الأكثر سموا.
لم يكن أوغسطينوس قط مسرفا لا في المأكل ولا في المشرب، لكن رغبته الجنسية كانت جامحة؛ ففي السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمره بينما كان في قرطاج، ضاجع صديقة له من طبقة اجتماعية متدنية، وهي العلاقة المنتظمة التي وضعت نهاية لمغامرات فترة المراهقة. وعلى مدار نحو ثلاثين عاما، عاش أوغسطينوس معها مخلصا لها بالكامل. وسرعان ما أسفرت علاقتهما عن صبي لم يكونا يرغبان فيه في البداية، لكن أحباه بعد ذلك، أطلقا عليه اسم «أديوداتوس» أو «هبة الله»، وهو الاسم الموازي لثيودور أو جوناثان. صار الصبي بارعا جدا، لكنه توفي في السابعة عشرة من عمره.
كان الأثر الفوري لقراءة محاورة «هورتنسيوس» على أوغسطينوس أن فكر جديا في قضايا أخلاقية ودينية. كان أبوه وثنيا، ولم يعمد إلا وهو على فراش الموت وحسب. كما كان نزقا، وليس مخلصا على الدوام لزوجته. ولا يشي أوغسطينوس بأي علامة على شعوره بالتعلق بأبيه. أما أمه من ناحية أخرى، فقد كانت تقية ومتبحرة في العقيدة المسيحية وممارسة طقوسها، كانت حريصة على الصلاة يوميا في كنيستها المحلية، وكانت تسترشد عادة بالأحلام والرؤى التي تراودها. وجعلت أمه منه متنصرا في طفولته. وكمراهق شكاك، درج بين الحين والآخر على حضور قداس الكنيسة مع أمه، لكنه وجد نفسه منشغلا أساسا بلفت انتباه الفتيات الجالسات على الجانب الآخر من الكاتدرائية. وفي قرطاج عندما بلغ التاسعة عشرة من العمر، اكتشف أوغسطينوس أن جدية الأسئلة التي طرحها شيشرون، ولا سيما فيما يختص بالبحث عن السعادة، حثته على مطالعة إنجيل لاتيني. ونفره غموض محتواه والأسلوب البربري للنسخة البدائية التي أنتجها مبشرون أنصاف متعلمين في القرن الثاني الميلادي. لم يكن الإنجيل اللاتيني القديم (الذي كانت عملية إعادة ترميمه على يد علماء حداثيين عملية حرجة جدا) ليبهر رجلا عقله معبأ بأسلوب شيشرون الأنيق المنمق وأسلوب فيرجل التعبيري المميز، ويستمتع بالمسرحيات الراقية بالمسارح. نأى أوغسطينوس بنفسه بازدراء عما بدت أسطورة ساذجة عن آدم وحواء، والأخلاق المريبة للبطاركة الإسرائيليين. إن التنافر ما بين سلاسل نسب المسيح في إنجيل متى وإنجيل لوقا كان بمنزلة الضربة القاضية الأخيرة التي دمرت آمال عودته إلى الكنيسة مع أمه (العظات
Sermones ).
لذا، التمس أوغسطينوس العون في مكان آخر؛ فقد افتتن بعلم الفلك الذي بدا أنه يمده بدليل للحياة دون أن يظهر بشكل مبالغ فيه كالعقيدة، ومن بعد علم الفلك انجذب إلى الثيوصوفية التي كان يدرسها ماني من قرن مضى (سنة 216-277 ميلاديا).
ماني
عبرت عقيدة ماني أو المانوية بشكل شعري عن النفور من العالم المادي، وأمست الأساس المنطقي لأخلاق موغلة في التقشف. واعتبر أتباع المانوية «النصف الأدنى من الجسد» عملا مثيرا للاشمئزاز من أعمال الشيطان الذي هو أمير الظلام. وكان الجنس والظلام مرتبطين بعلاقة وثيقة في عقلية ماني؛ وكان الظلام بالنسبة إليه هو جوهر الشر نفسه. وقد يخيل إلى المرء أن مثل هذا الدين لم يكن ليستقطب شابا يافعا كان الجنس بالنسبة إليه محوريا (اللهم إلا إذا كان المرء يستطيع أن ينسب كل نزواته الدنيئة لقوى الظلام ويتبرأ من المسئولية الشخصية). ورغم ذلك، تألف المجتمع المانوي من طبقتين أو مستويين للإخلاص. ولم يكن التبتل المطلق مطلوبا إلا من أصحاب المستوى الأعلى وحسب الذي يعرف باسم «الصفوة». أما المستمعون الذين انضم إليهم أوغسطينوس، فقد أجيز لهم ممارسة العلاقات الجنسية في فترات «آمنة» من الشهر، وأنيط بهم اتخاذ خطوات محددة لتفادي إنجاب الأطفال. ولكن إذا ولد طفل ما، فلم يكن ذلك داعيا لإقصاء الوالد من المجتمع المانوي؛ ولذا، سمح للمستمعين العيش مع أزواج لهم أو، كما في حالة أوغسطينوس، مع محظيات، لكن لم يكن هناك باعث لهم للتفكير في الجنسانية بأي شكل إيجابي؛ فهي صنيعة الشيطان.
أنكر ماني أي سلطة للعهد القديم بفرضيته المسبقة المتعلقة بخيرية النظام المادي للأشياء وبصانعه، وحذف جميع النصوص الموجودة في العهد الجديد التي افترضت إما نظام المادة وخيريتها وإما وحي وسلطة نصوص العهد القديم باعتبارها زيادات مقحمة. وبخلاف ذلك، فقد رأى أن عهده الجديد المنقى كتاب سليم. ولقد أقر بسخاء بكل الأنظمة العقائدية، ونبذ المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية لكونها حصرية بشكل مبالغ فيه وسلبية تجاه غيرها من الأساطير والأشكال العقائدية للعبادة. ومع ذلك، فقد أراد أن يعتبره الآخرون مسيحيا، حتى وهو يشدد على أن وحيه أسس ل «ديانة مميزة». كان «مهرطقا»، بمعنى كونه إنسانا يود أن يبقى ضمن المجتمع في الوقت الذي يعيد فيه تفسير وثائقه ومعتقداته الأساسية بطرق لا يقبلها النظام السائد، ويصر عليها عندما يطلب إليه أن يصحح نفسه. ولقد وظف بعض الأفكار والمفردات الإنجيلية، وأجاز دورا فدائيا للمسيح، فهو وحده استوعب المسيح كرمز لمحنة البشرية كلها لا كشخصية تاريخية تمشي على الأرض وتعرضت للصلب. فالمنقذ شبه المقدس لم يكن في واقع الأمر ليولد أو ليقتل فعليا (وهو الرأي الذي يبشر بالمذهب الإسلامي)؛ وحادثة الصلب لم تكن ضربا من الواقع بل رمزا للمعاناة التي تعتبر حالة البشر أجمعين.
لقد فسر ماني كل شيء اقتبسه من المسيحية في إطار ازدواجي ووجودي؛ ويتجلى ذلك في الأسطورة المعقدة والمفصلة جدا التي وضع مذهبه في قالبها. كانت المسألة المحورية بالنسبة إليه أصل الشر؛ ففسر الشر على اعتبار أن منبعه صراع كوني بدائي ما برح مستمرا بين النور والظلام؛ حيث أشار هذان الاصطلاحان إلى الواقع الرمزي والمادي. ولقوى الخير والشر في العالم نقاط ضعف وقوة بحيث لا يستطيع أن يتغلب أحدهما على الآخر. وكنتيجة للضرر الذي تلحقه قوى الظلام بعالم النور، أمست شذرات صغيرة من الإله - أو الروح - متناثرة في العالم كله في كل الكائنات الحية، بما في ذلك الحيوانات والنباتات. اعتبر أن البطيخ والخيار يحويان مكونا كبيرا من الألوهية؛ ولذا كانت لهما مكانة بارزة لدى الصفوة المانوية، وكانت قوانين الطعام بالنسبة إلى طبقة الصفوة مدروسة ومفصلة، وكان الخمر محظورا تماما. طاب لمعلمي المانوية ومبشريها استقطاب أعضاء الكنيسة، ويمكن استشفاف تسلل الأفكار المانوية إذ تقبل المسيحيون المضيف في القربان المقدس دون كأس القربان نفسه . يمكن إبهار أعضاء الكنيسة بورق البرشمان الأنيق والخطوط البديعة للكتب المانوية المقدسة والقداسة الخاصة لموسيقاها.
ورغم أن ماني كرس مكانة خاصة في أسطورته للمسيح، فإن المكانة التدريسية العليا المعصومة لمجتمعه لم تختص بالمسيح ولا بالكتب اليهودية القديمة بل بماني نفسه، رسول الرب، والمعزي الذي تنبأ به المسيح وأخبر أنه سيأتي من بعده ليظهر الحقائق التي لم يكن التابعون اليهود المخلصون جدا متأهبين لها. ولم يكن لدى ماني أي مكان قط للخصوصية التي ورثتها الكنيسة من القالب اليهودي. وبحبكة غريبة، طرح ماني أسطورته الخصبة والإيروتيكية نوعا ما، زاعما أنها رواية عقلانية ومتماسكة للحقيقة المنزلة، في تعارض قوي مع العقيدة البسيطة للمسيحيين الأرثوذكسيين الذين يؤمنون بالسلطة وحسب. لقد كرست الدعاية المانوية جل اهتمامها للهجوم على الأخلاق الواردة في العهد القديم ودقته التاريخية، وتلك الأجزاء من العهد الجديد التي بدت يهودية أكثر من اللازم للذوق المانوي. وفوق كل شيء، زعم المانويون أنهم يملكون الإجابة الوحيدة المرضية لإشكالية الشر: فهو بالنسبة إليهم قوة لا سبيل لاستئصالها راسخة في بنية العالم المادي. وما من أحد يمكن أن يزعم بشكل منطقي بأن الخالق المطلق لهذا العالم المضطرب يمكن أن يكون على كل شيء قدير وفي الوقت نفسه خيرا جدا. وإذا شئنا للحجة أن تكون متماسكة، فلا بد من التضحية إما بالقدرة المطلقة وإما بالخيرية المطلقة. ولقد سلم معلمو المانوية بأن كل الناس يعلمون دون المزيد من الإسهاب أو البحث والتمحيص المقصود من كلمة «شر».
خلال عشر سنوات كاملة تولى فيها أوغسطينوس مناصب تدريسية أولا في قرطاج ثم في روما، ظل مرتبطا بالمانويين. ولما كان ناقدا شرسا للأرثوذكسية الكاثوليكية وواعيا بتفوقه الفكري على أعضاء الكنيسة التي ازدرى أساقفتها لضحالة تعليمهم وقصور بحثهم النقدي، فقد تمكن من هداية كثير من الأصدقاء إلى المعتقدات المانوية. ولكن خلال العشرينيات من عمره، لم يكن يدرس الأدب اللاتيني وفنون البلاغة وحسب، بل كان يتدبر أيضا القضايا الفلسفية والمعضلات المنطقية التي أفضت إليها بطبيعة الحال دراسات البلاغة. وطفقت الشكوك المتزايدة تثقل كاهله وتحيط به. أكان ماني على صواب عندما أكد أن قوة النور الخيرية واهنة وعقيمة في صراعها مع الظلام؟ وكيف للمرء أن يعبد كما ينبغي إلها في قمة العجز والذل؟ علاوة على ذلك، فقد منحت الأسطورة المانوية دورا كبيرا للنورين العظيمين والخيرين للشمس والقمر، وتبنت موقفا حاسما من تفسير ظاهرة الكسوف الشمسي؛ ألا وهو أن الشمس والقمر يستخدمان أثناء تلك الظاهرة ستائر خاصة لحجب المشهد المفجع للمعارك الكونية. وانزعج أوغسطينوس إذ اكتشف أن الرواية المانوية كانت متعارضة مع أقوال أبرز علماء الفلك. يجوز أن يزيل المرء الإطار الأسطوري الذي يحيط بالمسيحية الأرثوذكسية، ويتبقى له مع ذلك شيء عظيم الأهمية، لكن أوغسطينوس شعر أن هذا لا ينطبق على المانوية التي كانت الأسطورة فيها هي الجوهر والأساس. وبلغت خيبة أمل أوغسطينوس في الطائفة المانوية ذروتها عندما عرض شكوكه على معلم ذي مكانة مرموقة بين أتباع المانوية يدعى فاوست؛ فقد اكتشف أن قدرة فاوست على البيان أكبر من قدرته على المحاجة الفكرية. عوضا عن ذلك، اتضح أن الحياة الأخلاقية لطبقة الصفوة التي زعم منسوبوها لأنفسهم الكمال المعصوم ليست عذرية كما كان يفترض.
بدأ أوغسطينوس يبحث عن بدائل للمانوية. وكان قد بدأ يبدي اهتماما بالمزج ما بين المعتقدات المانوية عن التوازن ما بين الخير والشر والأفكار الفيثاغورسية الجديدة المتعلقة بالنسبة باعتبارها عنصرا من عناصر جمال الكل، و«الجوهر الفرد» الخير (الواحد واحد وحده وسيظل هكذا أبد الآبدين) في مقابل الشر ذي التعددية اللامتناهية. في منتصف العشرينيات من عمره، كتب أوغسطينوس كذلك كتابا حول هذا الموضوع احتقره لاحقا عندما خطر على ذهنه باعتباره عملا منقوصا ذا محتوى عصي على الاستيعاب والفهم (الاعترافات). وتدريجيا، أغرقته الشكوك في تعليق الحكم. وأمسى مهتما جدا بنظرية المعرفة: كيف لنا أن نعرف أي شيء؟ وكيف يمكننا التأكد بما لا يدع مجالا للشك؟ وكيف يمكن أن نتواصل بعضنا مع البعض إذا كانت الكلمات يحتمل أن تكون مضللة أو تفهم بمعنى يختلف تماما عما يعنيه المتكلم؟ هل اللغة التي نتحاور بها يوميا، والتي كثيرا جدا ما تتحدى قواعد المنطق، مصدر للنور أم الضلال؟
في هذه الحالة الذهنية المترددة، انكب أوغسطينوس بنهم على مطالعة كتب لفلاسفة متشككين وحاسمين عقائديا حيال عدم موثوقية وعدم حسم كل الأفكار المكتسبة والإدراك الحسي وقدرة الكلمات على أن تطلع المرء على أي شيء مهم لا يعرفه بالفعل.
هكذا كانت الأفكار التي تدور في عقله عندما وصل إلى ميلانو عام 384 ميلاديا ليتسلم منصبه الجديد أستاذا جديدا للبلاغة بالمدينة، لكن الأمل كان يحدوه بأن يرقى في المناصب. كانت ميلانو مقرا إمبرياليا. وإذا استطاع، رغم ابتسامات الإيطاليين من مخارج أحرفه اللينة الأفريقية الطابع، أن يتحدث ببلاغة شديدة بحيث يلفت الانتباه في البلاط، وإذا تسنى له أن يكسب دعم المسئولين أصحاب السطوة والنفوذ، فربما يجوز أن يطمح في الترقي إلى منصب حاكم إقليم (الاعترافات). باعتراف الجميع، كانت هناك معوقات أمام طموح أوغسطينوس؛ فقد كان قرويا من الطبقة الوسطى لا تشفع له ولا تدعمه ثروة شخصية. علاوة على ذلك، فما برحت «زوجته العرفية» وفتاته القرطاجية ووالدة أديوداتوس تعيش معه. وما لن يثير التساؤلات إذ يصدر عن أستاذ في البلاغة بالمدينة قد لا يكون مقبولا بمقر الحاكم. ولقد رأت أمه مونيكا، الأرملة التي لحقت به مخلصة إلى ميلانو، أن شريكة ابنها الجاهلة وخليلة مهجعه عقبة مهلكة في الطريق أمام رغبته العلمانية في التميز والشرف. وفي نهاية المطاف، أرسلت عشيقته إلى قرطاج، وكان الفراق مؤلما بالنسبة إليهما. في تلك الفترة، كان أوغسطينوس قد خطب وريثة شابة سييسر مهرها تحقيق آماله وأحلامه. وحتى تصل إلى السن القانونية للزواج، التفت أوغسطينوس إلى شريكة مؤقتة ليعزي بها نفسه؛ فهي لم تكن تمثل أهمية كبرى بالنسبة إليه، وكانت مشاعره جامدة.
في ميلانو، التقى أوغسطينوس لأول مرة في حياته بمفكر مسيحي يتمتع بقدرات لا تقل عن قدراته الخاصة؛ الأسقف أمبروسيوس، وهو رجل حاصل على تعليم عال ويتمتع بعلاقات قوية بأصحاب النفوذ في البلاط. استقبل أمبروسيوس أوغسطينوس بلطف وكياسة، وأجلته مونيكا وأكنت له كل الاحترام ككاهن. قبل أن يمسي أمبروسيوس أسقفا عام 374، كان حاكما إقليميا لذاك الجزء الشمالي من إيطاليا، وساعده تلقيه تعليمه في بيت أرستقراطي مسيحي على إتقان اليونانية. ولم يستق أمبروسيوس أفكاره وإلهامه لعظاته وحسب من علماء لاهوت يونانيين أمثال باسيليوس مدينة قيصرية واللاهوتي اليهودي فيلو، المعاصر الأكبر للقديس بولس، ولكنه استقاها أيضا من أفلوطين. وعمل الدين الذي دان به أمبروسيوس لأفلوطين جنبا إلى جنب مع الحذر بشأن الفلسفة الوثنية كدليل للحقيقة.
ثمة مفكر مسيحي آخر في ميلانو ترك أثرا في أوغسطينوس، وهو رجل عجوز يدعى سيمبليسيان الذي انجذب من خلاله إلى جماعة من العلمانيين المتعلمين تعليما عاليا والمحتلين مكانة اجتماعية مرموقة، وكانت يجتمع أفرادها من أجل قراءة أعمال أفلوطين وفرفوريوس. ولقد أعجبوا بشدة بالقديس ماريوس فيكتورينوس الذي كرس السنوات الأخيرة من حياته لنشر المنطق الأفلاطوني الجديد دفاعا عن المعتقد الثالوثي الأرثوذكسي. لم يكن أوغسطينوس قط متأثرا بشدة بالكتابات اللاهوتية الغامضة لفيكتورينوس، لكن قراءاته لأفلوطين وفرفوريوس بترجمة فيكتورينوس ألهبت أفكاره. وقد يبدو هذا مستغربا للقارئ الحديث الذي يمكن أن تبدو له الأفلاطونية الحديثة معقدة وموجهة لفئة خاصة. إن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة للوجود لها فرضيات مسبقة أو بديهيات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الخاصة بالمنهج العلمي الحديث؛ فنقطة انطلاقها هي العقل لا المادة.
أفلوطين وفرفوريوس
تصور السيرة الذاتية التي كتبها فرفوريوس لأفلوطين الهيبة التي كان يتمتع بها هذا الفيلسوف العظيم، على الأقل في دائرة تلاميذه الداخلية. كتب فرفوريوس تلك السيرة الذاتية بحيث ترافق نسخته من أفلوطين؛ وذلك لأنه أراد من ناحية أن يعرف الجميع كيف كان بطله على حق إذ استأمنه على نشر أطروحاته، وكيف أعجب أفلوطين بشدة بالعقلية النقدية لتلميذه وقدرته على تأليف أشعار بهيجة ملهمة، وكيف أنه في سن الثامنة والستين تأتى لفرفوريوس نفسه في مناسبة هانئة التوحد الصوفي مع الإله، وهي التجربة التي يعيشها المرء أربع مرات فقط في الحياة، حتى بالنسبة إلى أفلوطين المستنير بنور إلهي. يتمثل أفلوطين على هيئة رجل ذي عبقرية فريدة لم تكن روحه الحارسة قوة دونية، ولم يهدأ عقله من التركيز على أسمى ذرى الفكر.
وشأنه شأن معاصره المسيحي الأكبر سنا أوريجن، عاش أفلوطين حياة متقشفة؛ فلم يأكل ولم ينم إلا قليلا، واقتات على النباتات ولم يستحم. «فقد بدا دوما خجلا من وجوده المادي»، ولم يحتفل قط بعيد ميلاده. ولقد أمسى أفلوطين بالنسبة إلى كثير من تلاميذه، ذكورا وإناثا، رمزا للأب الذي يستشيرونه في القرارات الحياتية كبيرها وصغيرها. وكانت لديه قدرة عجيبة على كشف الكذب، وشأنه شأن الأساقفة المسيحيين كان يطلب إليه التحكيم في النزاعات. ولقد نجح في إقناع فرفوريوس بالعدول عن الانتحار.
في نظامه الفلسفي، انطلق أفلوطين يرسم نوعا من الصور اللفظية للبناء الكامل للأشياء على فرض أن هناك تناظرا حميما ما بين الواقع وعملية الفكر البشري. ولقد علق أهمية كبيرة على جدلية محاورتي أفلاطون «بارمينيدس» و«السفسطائي»، ولا سيما تحليل أفلاطون للهوية والاختلاف؛ أي إنه إذا قلنا إن «س» و«ص» هما «الشيء نفسه»، فإننا نوحي بأن ثمة تمايزا بينهما إذا أردنا أن يكون التأكيد على الهوية مثيرا للاهتمام. وعلى النقيض، فإن بيان أن «س» و«ص» مختلفان يوحي بأن ثمة رابطا كامنا للهوية بينهما. ولذا، وراء التعددية والاختلافات المحسوسة والمشهودة في هذا العالم، ثمة وحدة وأداء. وبالمثل فعالم المظاهر المدركة عالم دائم التغير؛ لكن التغير يفترض مسبقا وجود بنية تحتية تظل دائمة أبدية.
نسب أفلاطون صفة عدم التبدل إلى العالم الأسمى للوجود الذي يدركه العقل في مقابل التدفق الدائم التغير للتحول الذي تدركه الحواس الجسدية؛ ولذا، فإن نظرية أفلاطون الخاصة بالأشكال (أو الأفكار)، والمطلقات الأبدية هي كالتالي: أيا كان ما في هذا العالم نصفه بالخيرية أو الجمال أو الحق فهو يتسم بتلك الصفات بقدر ما يستقي صفاته من المطلق الخاص بكل صفة. والأشكال هي الواقع الموضوعي الثابت والساري عالميا. علاوة على ذلك، فإن هذه المسلمات لا تدركها الحواس الجسمانية الخمس، بل عملية رياضية ببساطة للتجريد الفكري القح. وبقدر ما تبدو تلك التجريدات خالية من الحياة، فإن الأفلاطونية تستوعب تلك المسلمات باعتبارها سببية إلى حد كبير؛ فالموجودات الفردية يستحيل تفسيرها بمعزل، بل كأعضاء من فئة سابقة لها؛ ولذا، فالمسلم بالنسبة إلى أي أفلاطوني أكثر واقعا من أي واقعة محددة، وهو المذهب الذي عارضه أرسطو منتقدا كون المسلمات تصنيفات ذهنية لا تتجسد في الواقع إلا عندما تتجسد في موجودات محددة. وفي عمله «مقدمة»، تتبع فرفوريوس فكرته الخاصة بالمصالحة ما بين أفلاطون وأرسطو؛ إذ وضع هذين الرأيين كلا منهما بجانب الآخر وأعرض بوعي عن إصدار حكم يميل به إلى أي منهما.
كان أرسطو معنيا بالوعي بالذات الذي يتطابق فيه العارف والشيء المعروف. وطور أفلوطين هذه الملاحظة وانطلق بها لمستوى أبعد، فصاغ علم لاهوت بدى الكثير من الأفكار الواردة فيه مسلمات ذاتية البيان لأوغسطينوس. على قمة هرم الوجود هناك الواحد، ويراد به الإله، المطلق الذي لا سبيل لمعرفته، ومع ذلك تدركه الروح كشكل من أشكال الوجود الذي يتجاوز كل المعرفة. وفي السلسلة العظيمة أو تسلسل الوجود الذي حدده أفلوطين باعتباره هيكل الأشياء وبنيتها، يعتبر المستوى الأعلى علة ما دونه أيا كان مباشرة. تكلم أفلوطين عن التحول أو التطور الطارئ على البناء الهرمي للوجود على أنه «انبثاق»، وصورة مادية قوية، وفي عملية الانبثاق تحدث خسارة تدريجية؛ وذلك لأن كل أثر يكون أدنى بعض الشيء من علته. ورغم ذلك، فإن عدم الكمال المتأصل في دونيته يمكن التغلب عليه بينما يرتد إلى علته. والعلة نفسها لا يشوبها نقص دوما بفعل عطائها السرمدي للوجود للأثر الأدنى.
لقد مكن هذا النوع من التفكير في الانبثاق السببي في السلسلة الكبرى للوجود أفلوطين من تحقيق عدة إنجازات في آن واحد؛ فمن ناحية، استطاع حل مشكلة كيف يحول دون فقدان الإله والعالم كل علاقة تربط بينهما دون أن يكف المطلق عن أن يكون مطلقا، ودون أن يسقط العالم بشكل منطقي من الوجود كليا. ولقد عبر هذا النوع من التفكير عن نوع من التعويض من طريق «التحول» إلى مصدر الوجود. ومن ناحية أخرى، فقد خفف من وطأة المشكلة التي تسببت في حيرة ذهنية مضنية لجميع الأفلاطونيين؛ ألا وهي الإجابة عن السؤال المتعلق بكيفية ولوج الشر إلى تسلسل الأشياء في الوقت الذي كان فيه هذا التسلسل تدفقا فائضا من الخيرية والقوة الساميتين.
درس أفلوطين أنه على قمة الهرم هناك ثلاثة موجودات مقدسة: الواحد (الإله) والعقل والروح. الواحد خير إلى أقصى حد، ولذا يتعين أن تكون جميع المستويات الأدنى للبناء الهرمي دون الواحد أيضا متمايزة عن الخيرية؛ أي أن تكون أدنى من الخيرية المثالية. وحتى العقل فيه شيء من الدونية ممثلة في بعض الضلالات حول عظمته. أما الروح، وهي أدنى بقدر أكبر في البناء الهرمي، فتتمتع بالقدرة على إنتاج المادة. والمادة، باعتبارها على الطرف النقيض تماما في البناء الهرمي من الواحد الخير، تعتبر شرا مطلقا وعدما لا هيئة له.
كره الأفلاطونيون الجدد الثيوصوفية من كل قلبهم، ومقتوا شكلها المانوي أكثر من أشكالها الأخرى. ولقد افتتحت أطروحة أفلوطين «ضد الغنوصيين» بمجموعة من المقالات الأفلاطونية الحديثة في الجدل المناوئ للمانوية. وإذ رأى أفلوطين الكون كسلسلة عظيمة من الوجود، استطاع أن يعلن أن الشر ما هو إلا عيب في الوجود والخيرية متأصل في حقيقة وجود مستوى أدنى. ولكن، ثمة تفسيران آخران للشر كانا أيضا بارزين في تفكيره. ومن بين هذين التفسيرين، تناولت الإجابة الأولى تبعات الاختيار الحر المساء استغلاله والراسخ في احتمالية ضعف الروح، أما الإجابة الثانية، فبحثت في المادة. إن الضعف في الروح مال إلى جعلها مستغرقة في أشياء خارجية ومادية؛ ولذا، فالشر الكوني اللاأخلاقي الممثل في عيب الوجود الراسخ في المادة يصبح جذرا للشر الأخلاقي في الروح. «من دون المادة، يستحيل أن يوجد شر أخلاقي قط» (أفلوطين). إن وجود المادة في الروح يجلب لها الضعف ويتسبب في سقوطها. وفي الوقت نفسه، تمنى أفلوطين أن يتحدث عن انبثاق الروح وسقوطها كحدث ضروري للوفاء بقدراتها المحتملة وللخدمة التي يتعين على الروح تقديمها لعالم الحواس الدوني. ومن المنصف أن نستنتج أنه حتى أفلوطين أخفق في تحقيق مكانة واضحة ومتسقة، فبعد التحول الذي شهده أوغسطينوس، سعى إلى تصحيح أخطاء أفلوطين.
كانت مذاهب فرفوريوس شبيهة جدا بمذاهب سيده أفلوطين. وفي المدرسة الأفلاطونية الحديثة كان هناك شقاق حيال طائفة الأرباب؛ فقد شعر أفلوطين وفرفوريوس بالتحفظ تجاه المشاركة في التضحيات الهادفة لاسترضاء الأرواح. كتب فرفوريوس أطروحة عن «عودة الروح» (أي إلى الرب). وبالنسبة إلى قراءات أوغسطينوس المثيرة بشكل متعمق، مثلت هذه الأطروحة موقفا وسطا؛ فقد سلم بأن الفلسفة السديدة يمكن استخلاصها في المعابد من المشاورات التي ينطق بها أبوللو إله الشمس عبر نبياته. لكنه كتب بعين ناقدة عن الرفاق الوثنيين الذين افترضوا أن الروح يمكن تطهيرها مباشرة عبر المشاركة في الأضاحي بالمعبد أو عبر ممارسة أنشطة طقسية خارجية. وكانت الأضاحي الحيوانية أيضا دنيوية. علاوة على ذلك، لم تكن عادة تناول اللحم بعد الأضحية متوائمة مع المبادئ النباتية؛ ولذا، دفع فرفوريوس بأن تطهير الروح يمكن أن يتحقق وحسب ب «الفرار من الجسد» الذي اتحدت به بفعل سلسلة من الحوادث المؤسفة. فبالإعراض عن اللحم والنشاط الجنسي، يمكن تحرير الروح تدريجيا من أصفادها البدنية.
ودرس فرفوريوس أن السعادة تكمن في الحكمة التي يمكن العثور عليها بطاعة الأمر القديم لديلفي «اعرف نفسك». باعتراف الجميع، يجعل الشر الكامن في الروح الإنسان عاجزا عن ممارسة التأمل الفكري المستمر، فتمسي تلك اللحظات عابرة بالنسبة إليه. ولكن «مرن نفسك على العودة إلى نفسك، واجمع من الجسد كل العناصر الروحانية المتناثرة والمختزلة في كتلة من القطع الصغيرة.» و«يزج بالروح في الفقر والعوز كلما تعززت روابطها بالجسد. لكن، يمكن أن تصبح الروح خصبة حقا باكتشاف ذاتها الحقيقية الممثلة في الفكر.» «غايتنا تحقيق تأمل الوجود.» «الذين يعرفون الرب يستحضرونه، والذين لا يعرفونه يغيبون عن الرب الموجود في كل مكان.» يعكس كتاب «الاعترافات» لأوغسطينوس هذه اللغة.
ودرس فرفوريوس أن الرب يحيط بكل الأشياء، ولا يحيط به شيء. والواحد موجود لكل من يشارك في الوجود المتدفق من مصدره في الرب. والخيرية يجب أن تكون ذاتية الانتشار، لكن كل التعددية تعول على الوحدة العليا وتسعى للعودة إليها. وفي البناء الهرمي للوجود، من البديهي أنه من الجيد أن يكون المرء موجودا، وأن درجات الوجود هي أيضا درجات للخيرية . كتب فرفوريوس يقول: «كل ما هو موجود خير بقدر ما له من وجود؛ حتى الجسد له جماله ووحدته الخاصان» (يقول أوغسطينوس الشيء نفسه، «حول الدين الحق
De vera
religione »). تحتل الروح، بين الأشياء المادية والعوالم الأسمى للحقيقة البائنة، مكانة وسيطة. وبالإهمال والتحدي العنيف العصي على التفسير، من الممكن أن تغرق الروح في مستنقع الكبرياء والحسد والأشياء الشهوانية. ولكن، بضبط النفس المتقشف والتأمل الاستبطاني، يمكن للروح أن تسمو إلى كمالها الحقيقي. وهذا الكمال هو «التمتع بالرب». تبنى أوغسطينوس هذه العبارة الأخيرة.
واستقى فرفوريوس من أفلوطين مبدأ أنه عند قمة سلسلة الوجود - حيث لا تستطيع حواسنا الخمس الوصول - هناك ثالوث مقدس قوامه الوجود والحياة والذكاء، وهو ثالوث تبادلي كله، ويعرف كوحدة يستطيع المرء داخلها أن يميز العلامات الفارقة. وهيكل الأشياء يطابق بنية الانطلاق المتناغم من المبدأ المطلق للوجود، ومن الاحتمالية إلى الواقع، ومن المجرد إلى الملموس، ومن الهوية إلى تلك الغيرية التي تعتبر أيضا تدنيا في مستوى الوجود. إن مصير الأرواح الأبدية العودة من حيث أتت؛ فالأرواح سرمدية أصلا. ومبدأ العودة أو التحول هو مغزى مبدأ أفلاطون لاستعادة الذكريات؛ أي إن كل المعارف ما هي إلا استرجاع ما عرفه المرء ذات مرة (في وجود سابق) ولكن نسيه. ولقد استعاض الأفلاطونيون الجدد، وأوغسطينوس من بعدهم، بفكرة التنوير الإلهي الذي يضيء من داخل الروح مباشرة عن هذا المذهب إلى حد كبير.
قرب نهاية حياة فرفوريوس (الذي زعم بعض الكتاب المسيحيين أنه كان مسيحيا في شبابه ثم ارتد عن دينه)، ألف هجوما مطولا ولاذعا على المعتقدات المسيحية والجدارة التاريخية للأناجيل. لم يكن كتابه الذي هاجم فيه المسيحية معروفا بالنسبة إلى أوغسطينوس. ولكن، يجوز وصف أعمال فرفوريوس بإنصاف بأنها تقدم فلسفة دينية بديلة مصممة، سواء عن عمد أو من دون عمد، لتوفر منافسا للمسيحية وترياقا لها.
فتنت مجموعة أفلاطونيي ميلانو أستاذهم في البلاغة الجديد بترجمات فيكتورينوس لأعمال أفلوطين وفرفوريوس. وقد كان للغة التي تعرض لها أوغسطينوس في تلك الأعمال التي تتناول معضلة الشر والتجربة الصوفية للعالم اللامادي السامي أثر عظيم. كان الأفلاطونيون الجدد يقولون له إن الروح لها قوة المعرفة الذاتية الفورية والراسخة بداخلها. علاوة على ذلك، فهذه القوة يمكن أن تتحقق وحسب عند تنحية إدراكات الحواس الخمس جانبا، فيشهد العقل عملية تطهير، بفعل الجدل، تطهره من الصور المادية وتسمو به إلى الرؤية المقدسة السعيدة التي تحدث عنها أفلاطون. ولقد آمنوا بأن هذه قوة طبيعية للروح تتحقق بينما تحتضن الروح تدريجيا النور والحقيقة المقدسين.
وصف أوغسطينوس لاحقا في الكتاب السابع من «الاعترافات» كيف أنه حاول في ميلانو أن يتأمل تأملا عميقا المنهج الأفلاطوني الجديد؛ فقد حررته الأفلاطونية من المفهوم المانوي للإله باعتباره مادة مضيئة خفية. وبالاستبطان بمعزل عن الناس وبممارسة طريقة الارتداد الجدلي من الخارجي إلى الداخلي، ومن الدوني والمادي إلى السامي والذهني، نال رؤية عابرة للحقيقة السرمدية والجمال غير المتبدل. وأصيب بالإحباط بسبب سرعة زوال تلك التجربة العميقة جدا، وحقيقة أنه وجد نفسه بعدها مستغرقا في كبريائه وشبقه كما في السابق. ومع ذلك، عرف أوغسطينوس أنه في تلك «اللحظة المضيئة العابرة» حظي بلمحة مذهلة للوجود السرمدي الذي لا يتبدل، والواقع اللامادي الذي يتجاوز بالكامل ذهنه المتغير دوما (الاعترافات). ولا يوجد تلميح لاقتراح في كتاباته اللاحقة، التي كتبها كمسيحي، يفيد بأن تجربة ما قبل التحول هذه لم تكن حقيقية بأي حال من الأحوال. لاحقا في «الاعترافات» (الكتاب الحادي عشر) سيتبنى أوغسطينوس تقريبا لغة مطابقة حول الوحدة بين الحب والهيبة، تلك الهيبة المترتبة على تأمل الآخر المنيع والبعيد جدا و«المغاير»، والحب النابع من الدراية بالآخر الذي هو مألوف جدا وقريب جدا؛ الهيبة المقابلة للسمات السلبية والمجردة، والحب الذي يروم التعبير عنه بكلمات شخصية وبصراحة شديدة.
وفي قلب التجربة التي وصفها استقر الإيمان بأن المخلوق المحدود القدرات لديه شوق نهم للإشباع الموجود وحسب فيما يتجاوزه، وفيما يتجاوز في حقيقة الأمر القدرة البشرية على التعبير أو الوصف.
شكل 1-2: رؤية القديس أوغسطينوس للقديس جيروم بريشة فيتوري كاراباشيو، مدرسة سان جورجيو ديلجي شيافوني، البندقية.
أعادت العظات الأفلاطونية الحديثة الناصحة بكبت الشهوات والحواس المادية أوغسطينوس إلى تحذير شيشرون من أن الانغماس الجنسي لا يمثل أرضا خصبة للجلاء الذهني. وورد في الورقة الدعائية لفرفوريوس حول التغذي بالنباتات الصرفة أنه «كما يتعين على القساوسة بالمعابد الإعراض عن الجماع لكي تتحقق لهم الطهارة الطقسية ساعة تقديم الأضحية، كذلك على الروح الفردية أن تكون طاهرة بالقدر نفسه كي تنال رؤية الرب.» أدرك أوغسطينوس أنه «منساق بفعل ثقل الحياة الشهوانية.» لم يكن مسيحيا، ورغم ذلك اكتشف بواسطة مسيحيين أمثال سيمبليسيان في ميلانو تجربة ذات أهمية نفسية عظيمة له؛ حيث منحته تأكيدا كاملا وكذا وعيا بزواله الشخصي في مقابل الوجود السرمدي للواحد. واكتشف أنه ممزق في صراع ما بين الفلسفة التأملية التي دعت روحه إلى أشياء أسمى من الجسد، وعادة النشاط الجنسي التي شعر بسببها بأنه مقيد، والتي طالما وجد فيها مصدرا للإشباع الجسدي، إن لم يكن النفسي أيضا. وبدأ يعقد الآمال على أن ينال الحصانة والعفة في نهاية المطاف، وصلى من أجل ذلك، «لكن ذلك لم يتحقق بعد» (الاعترافات، الكتاب الثامن). ومما أراح باله وكان له بمنزلة الحافز في الوقت نفسه أن محاورة هورتنسيوس لشيشرون ورد فيها أن «البحث المحض عن السعادة العليا، لا نيلها الفعلي وحسب، كنز يتجاوز كل ثروات البشر أو شرفهم أو متعتهم المادية.»
باتجاه الهداية
إذا كان الأثر الذي ينطوي على مفارقة لمحاورة هورتنسيوس لشيشرون عندما كان أوغسطينوس في التاسعة عشرة من عمره يتمثل في استقطابه نحو المانوية، فقد كان أثر قراءاته الأفلاطونية في الحادية والثلاثين من عمره أن حثته على الاتجاه نحو أكثر ما يكره فرفوريوس؛ ألا وهي الكنيسة. لقد كانت الجماعة الأفلاطونية الحديثة في ميلانو مهتمة خصيصى بأجزاء من العهد الجديد، مثل مقدمة إنجيل القديس يوحنا أو أسلوب القديس بولس المصطبغ بصبغة أفلاطونية في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 3-4 التي قدمت أساسا إنجيليا لأفلاطونية مسيحية. وكان المسيحيون في هذه الجماعة معنيين بتفسير رسالة القديس بولس إلى رومية بطريقة تفادت الحتمية والازدواجية المانوية. لقد فسر أوغسطينوس كمانوي أن الحواري لا يتعارض وحسب مع العهد القديم، بل ومع نفسه أيضا؛ فلغة بولس عن الصراع ما بين الجسد والروح (غلاطية، رومية) اقتبسها المانويون كميثاق لإيمانهم بأن النزعات الجنسية للجسد هي أصل كل الشرور. تبنى أفلاطونيو ميلانو الجدد وجهة نظر أقل تشاؤما بعض الشيء. وسرعان ما اقتنع أوغسطينوس بأن المسافة الفاصلة ما بين أفلاطون والمسيح لم تكن بالكاد خطوة قصيرة وبسيطة، وأن تعليم الكنيسة كان فعليا «أفلاطونية للجمهور»، وطريقة صورية ومجازية للتعاطي مع العقول غير الفلسفية لجعلها عقلانية على الأقل في سلوكها. وحتى نهاية حياته، وبعد أن أمست تحفظاته بشأن عناصر بعينها في التقليد الأفلاطوني محددة وواضحة بفترة طويلة، لم يكن أوغسطينوس ليقصر في الإقرار إقرارا سخيا بالدين الذي يدين به لكتب الأفلاطونية الحديثة. وبينما كان على فراش الموت في هيبو أثناء الحصار الطويل الذي ضربته قبيلة الواندال على مدينته، كانت آخر كلماته المؤرخة اقتباسا من أفلوطين.
إن النزعة الروحانية الأفلاطونية الحديثة والتشديد على الاستبطان والتحرر من عوامل التشتيت بالعالم الخارجي شحذت شعور أوغسطينوس بالانسياق في اتجاهين مختلفين؛ حيث ساقته نزعته الجنسية إلى القاع. وبينما طالع رسائل القديس بولس، بدأ يفكر أن الحواري استوعب حالته بالكامل، ووجد نفسه في دوامة من الصراع الداخلي. وزاد وعيه ببؤسه ذات يوم بشدة بينما كان سائرا في شارع من شوارع ميلانو مرورا بشحاذ يضحك بسعادة غامرة تحت التأثير المخدر للخمر (الاعترافات، الكتاب الخامس). وأدرك أن شعوره عند تأمل الرجل لم يكن الشفقة بل الحسد. واكتشف أستاذ البلاغة أن نسخته من رسائل القديس بولس أمست مهمة بالنسبة إليه.
وفي نهاية شهر يوليو عام 386، وفي بستان البيت بميلانو حيث كان يعيش بصحبة أمه وتلميذه الأسبق أليبيوس (وهو محام بارع ما برح في عام 386 يفند المعتقدات المانوية، ولاحقا أصبح أسقفا لبلدة طاغست)، بلغ أوغسطينوس أخيرا مرحلة لا بد فيها من قرار؛ فقد تدهورت حالته الصحية بسبب الربو الذي أصاب صدره، وبح صوته. ولم يستطع أن يحدد إن كان هذا عرض لوعكته أم علة مساهمة في قراره. قرر أوغسطينوس أن يترك منصبه التعليمي، وأن يتخلى معه عن طموحاته بمسار عملي علماني. وكانت الذروة لما تخلى عن نيته في الزواج بالكامل. هل يستطيع أن يحمل نفسه على العيش من دون امرأة؟ علم أوغسطينوس من صديق أفريقي له يعمل في ديوانية البلاط عن وجود مجتمع من الزاهدين الذين يعيشون في ميلانو وعن تنازل أنطوني الناسك المصري عن ثروته، وسيرته الذاتية التي كتبها بابا الإسكندرية أثناسيوس وسرعان ما ترجمت إلى اللاتينية للقراء الغربيين. إذا استطاعوا أن يحققوا كبت النفس عن الشهوات، فلا بد أن ذلك باستطاعته أيضا؛ أم إن إرادته واهنة أكثر من اللازم؟
وفقا للسرد الوارد في الكتاب الثامن من «الاعترافات» التي كتبها بعد تلك المرحلة بأربعة عشر عاما، أمسك أوغسطينوس بنسخته من إنجيل القديس بولس، وفتحها بشكل عشوائي، وعلى غرار الذين التمسوا إرشاد فيرجل لهم في المستقبل، استرشد أوغسطينوس بأول نص وقعت عليه عيناه، وكانت الكلمات الختامية لرسالة بولس إلى أهل رومية 13 التي تقارن ما بين الشهوانية الجنسية والدعوة إلى أن «البسوا الرب يسوع المسيح.» ووصف قراره بلغة أدبية رائعة تردد صدى أسلوب الشاعر بيرسيوس، وعبارة مذهلة من أفلوطين، وتلميح رمزي إلى سقوط آدم من جنة عدن. وسرد كيف سمع صوتا، إذا جاز التعبير، أشبه بصوت طفل يملي عليه أن «أمسك بالكتاب واقرأ!» ثمة خلاف حول مقدار السرد المكتوب نثرا والمقدار المكتوب بلغة أدبية أو بزخارف بلاغية، لكن لا شك أن هناك عاملا أدبيا. ومن المؤكد أيضا أنه في ميلانو بنهاية يوليو 386 قرر أوغسطينوس أن يتخلى عن فكرة الزواج والطموح العلماني، وأن يخوض تجربة التعميد. واستقال من مهنة التدريس بالمدينة.
لم تكن هدايته مفاجأة، بل نتاج أشهر عدة من المخاض الموجع. ولقد شبه هو نفسه لاحقا عملية الهداية بالحمل والولادة. وكان هذا الاختيار إيذانا بتحول أخلاقي أكثر منه فكري في المحتوى. والقصة الواردة في «الاعترافات» تفترض مسبقا أن أوغسطينوس عام 386 اعتبر الشغف الجنسي العقبة الوحيدة بين روحه والتوحد مع الحقيقة المعنوية السرمدية. وما لقنه إياه أفلوطين وفرفوريوس أمسى الآن ممكنا وفعليا بمساعدة نص من نصوص القديس بولس. وبعدها بخمسة عشر عاما، سيعكف أوغسطينوس على الكتابة عن «الوهم» الذي يعيش فيه البعض في هذه الحياة، ومفاده أنه في هذه الحياة من الممكن للعقل البشري أن يفصل نفسه عن العالم المادي كي يستوعب «النور النقي للحقيقة الثابتة» (الانسجام بين الأناجيل
De consensu evangelistarum ). ومع ذلك، في تلك الفترة راودته أحاسيس «العودة إلى المرفأ بعد الرحلة العاصفة». أجيبت صلوات مونيكا لهدايته وتعميده. من المستحيل أن يهلك ابن الدموع الغزيرة.
بعد ذلك بأشهر قلائل أعلن أوغسطينوس أنه رغم أن الرغبات القديمة لم تكف عن مطاردته في أحلامه، فقد بدأ يحرز تقدما؛ حيث أمسى الآن ينظر للجماع بمقت وكراهية باعتباره «حلاوة مرة» (مناجاة النفس
Soliloquia ). لم تجعل طموحات العيش في تقشف منه ناسكا، وكان يشتاق إلى العيش بين أصدقاء عاديين مشاركا إياهم شغفه وحماسه لأفلاطون والقديس بولس مع شيء من أعمال شيشرون (ولا سيما مناقشات توسكولوم) بين الحين والآخر. مرت ثمانية أشهر ما بين قراره الذي اتخذه في بستان ميلانو وعيد الفصح عام 387 عندما عمد على يد أمبروسيوس، كما عمد ابنه غير الشرعي أديوداتوس وصديقه أليبيوس المحامي. وخلال تلك الأشهر، أعطي هو ومونيكا ومجموعة من الأصدقاء والتلاميذ فيلا على سبيل الاستعارة في مدينة كاسيكاسيوم على التلال على مقربة من مدينة كومو. وهناك استعاد عافيته، وتفكر في موقفه.
شكل 1-3: مشاهد من حياة القديس أوغسطينوس: تعميد القديس أوغسطينوس، 1645 بريشة بينوزو جوزولي. تصوير جصي، كنيسة القديس أوغسطينوس، قرية جيمنيانو، إيطاليا.
لا تظهر هداية أوغسطينوس في كتاباته آنذاك على اعتبار أنها كانت مدفوعة بالفرار من الشكوك الأليمة للريبة الفلسفية عن طريق الاعتصام بالسلطة العقائدية للكنيسة، فمصدر بؤسه وعدم رضاه يكمن داخله. ومع ذلك، كانت مشكلة السلطة واضحة في الخلافات التي نشبت ما بين الكاثوليكيين والمانويين، وأقر أوغسطينوس بخضوعه للمسيح ولمجتمعه، وهو ادعاء بتقرير المصير أمسى يراه لاحقا ضربا من الكبرياء (الاعترافات، الكتاب العاشر). منذ خريف عام 386 فصاعدا، أضحت كتاباته تحوي تلميحات كثيرة للإنجيل وللعقيدة المسيحية. وفي مدينة كاسيكاسيوم، كتب أوغسطينوس عن السلطة والعقل باعتبارهما سبيلين موازيين للحقيقة؛ حيث كانت السلطة ممثلة في المسيح والعقل في أفلاطون. من الممكن أن تعطي السلطة توجيهات يستوعبها العقل بالتبعية. والسلطة سابقة زمنيا، والعقل سابق في ترتيب الواقع. ويفضل المتعلمون تعليما رفيعا اتباع المسار الفلسفي للعقل، ولكن حتى في هذه الحالة لا يمكن أن يكون العقل كافيا لتوفير كل التوجيه الذي تقتضيه الضرورة. من ناحية أخرى، التعويل الحصري على السلطة لا محالة يحيق به خطر عظيم؛ فكيف للمرء من دون عقل أن يميز ما بين الادعاءات المتنافسة للسلطة؟ وكيف للمرء أن يميز ما بين السلطة الإلهية أصلا وسلطة الأرواح الأدنى منزلة التي يوقرها الوثنيون الذين يزعمون قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل بالعرافة والكهانة؟ لكن السلطة الإلهية للمسيح مثبتة باعتبارها أسمى منطق في الوقت نفسه، فهو حكمة الإله نفسها التي تطابق الثالوث الأعلى لعقل أفلوطين (الحياة السعيدة
De
beata vita ).
وأخيرا، على المرء أن يتساءل عن الأفكار المحددة عن الرب والإنسان التي قبلها أوغسطينوس كنتيجة لتعميده واعترافه بالعقيدة المسيحية. باختزالها إلى أكثر عناصرها بدائية وهيكلية، دعت العقيدة المسيحية أوغسطينوس إلى التصريح بالتأكيدات التالية؛ أولا: أن العالم المنتظم ينبع من الخير الأسمى، الذي يعتبر أيضا القوة الأسمى، ولا نعني أفضل قوة يصادف أن يكون لها وجود، بل كمالا لا تستطيع عقولنا حتى أن تتخيل فكرة لأي وجود أسمى منه. ولذا، فإنه «هو» موضوع الهيبة والعبادة. ولا ينبغي أن نفكر في الرب على اعتبار أنه منخرط في صراع من الأدنى إلى الأعلى كالبشر (وكقوة النور المانوية)، بل على اعتبار أنه يمتلك غاية إبداعية وتخليصية متسقة فيما يتعلق بالكون عموما والخلق العقلاني خصوصا. والمستوى الأسمى على سلم القيمة هو الحب، الذي هو طبيعة الرب عينها.
ثانيا: الطبيعة البشرية بحسب معرفتنا بها الآن تخفق في الانسجام مع نوايا الخالق؛ فالبؤس البشري تخلده الأنانية الاجتماعية والفردية، فيطارد الإنسان الجهل والفناء وقصر الحياة وضعف الإرادة، وقبل هذا وذاك الإنكار المتعجرف والعنيد للخير الحقيقي. وخلاصة القول أن البشرية بحاجة إلى علاج الحياة السرمدية وغفران الخطايا أو البعث تحت مظلة حب الرب.
ثالثا: أن الرب الأسمى تصرف في إطار الوقت والتاريخ الذي نحيا فيه، والذي «يسمو» هو فوقه ويتجاوزه، فيجلب لنا المعرفة والحياة والقوة والتواضع (أعظم هبة على الإطلاق) التي من دونها لم يكن أحد ليتعلم أي شيء. ولهذا الفعل ركيزته البالغة ذروتها في المسيح، قدوة البشرية في حياته وتعاليمه الحكيمة وعلاقته البنوية الفريدة بال «الآب» الأسمى. لقد جسد المسيح هبة حب الرب بتواضع انبعاثه وموته. والوصول إلى حركة الرب هذه من أجل إنقاذ الإنسان الساقط يتسنى عبر ارتقاء الإيمان ولزوم مجتمع أتباع المسيح، وهو مجتمع هيكلي يأتمنه على الإنجيل وعلامات العهد المقدس الممثلة في الماء والخبز والخمر. وبذلك توحد روح القداسة ما بين الإنسان والرب، وتمنح الأمل في الحياة القادمة التي يعتبر انبعاث المسيح عهدها المطلق، وتحدث تحولا في الحياة الشخصية والأخلاقية للفرد كي يكون أهلا لمجتمع القديسين في حضرة الرب.
خاطبت التعاليم المسيحية أوغسطينوس من خلال هذه الأفكار بأسلوب أخروي قوي يرتبط بقوة بالأخلاقيات والميتافيزيقا الأفلاطونية. وكان من الأهمية بمكان أن جمع ما بين لغة أفلوطين السلبية الموضوعية حيال الواحد أو المطلق والمفهوم الإنجيلي عن الرب باعتباره ممثلا للحب والقوة والعدل والغفران. ومن المحوري للتوحيد أن يعرف سر الرب لا في هيبة الطبيعة وعظمتها فحسب، بل عن طريق كشف عن الذات أيضا، قياسا على الشخص الذي يعلم الآخرين ما لم يستطيعوا اكتشافه بأنفسهم. ومنذ عام 387 فصاعدا، تناول أوغسطينوس تلك الأفكار باعتبارها مبادئ أولى.
الفصل الثاني
الفنون التحررية
ربما لأن الأفلاطونية أسهمت بقدر كبير في هدايته إلى المسيحية، لم يبادر أوغسطينوس قط بوضع حدود واضحة وحاسمة بين الفلسفة وعلم اللاهوت؛ فهو لم ينظر إلى المنطق الفلسفي كوصيف للعقيدة أو كداعر خطير مهمته إغراء العقل بافتراض أن باستطاعته الوصول إلى غايته المطلقة دون مساعدة الرب ورعايته. عرف أوغسطينوس الموضوع الأساسي للفلسفة بأنه «دراسة الرب والروح البشرية» (مناجاة النفس). يلاحظ المرء استبعاد العالم المادي؛ فالدافع الذي أدى بالناس إلى التفلسف، كما وصف أوغسطينوس بأسلوب شيشروني، هو ببساطة البحث عن السعادة.
ينتشر علم الوجود الأفلاطوني، أو مذهب الوجود وطبيعة الأشياء الوارد وصفه في الفصل الأخير، في شتى كتاباته. هناك فقط بعض الجوانب التي عدل تفاصيلها؛ الأمر الذي يعطينا الانطباع بأنه بقدر ما قبل الحجج الأفلاطونية، قد حولها دوما إلى نتائج تحددها عقيدته. وربما كان من الأصح أن نقول إنه لم يجد منطقا كافيا في الانفصال عن التقليد الأفلاطوني إلا إذا لم يكن متوائما مع مقتضيات العقيدة الكاثوليكية. بطبيعة الحال، فقد اعتبر أوغسطينوس الأفلاطونيين الوثنيين مخطئين في قبولهم الشرك بالله وتعدد الآلهة، ودورات العالم الخالدة، وتناسخ الأرواح. ولقد كان الاعتقاد القديم بالتناسخ قدريا بالكامل بقدر مبالغ فيه، لدرجة أنه لم يتوافق مع مفهوم الرب باعتباره القوة الإبداعية المتفردة العاملة بشكل تخليصي كي تجلب خلقها العقلاني إلى غايته الحقيقية الممثلة في رفقة الرب.
كانت هناك نقاط خلافية أخرى أقل جلاء ولكنها ليست أقل حيثية. ورغم أهمية نبذ الممارسات الجنسية في سياق هدايته، لم يتفق أوغسطينوس مع أفلوطين في رؤيته للمادة والمادية باعتبارهما الأصل الرئيس للشر. ومرة أخرى، على النقيض من أفلوطين (على خطى أفلاطون في «الجمهورية» 509 قبل الميلاد)، لم يقل أوغسطينوس بأن الرب ينبغي أن يوصف بالواحد «المتجاوز للوجود»، واستطاع أن يقبل الأطروحة الأفلاطونية النقيضة عن الواحد والعديد كرواية للعلاقة ما بين الخالق السامي والتنوع المتشعب للخلق، لكن الإله الواحد لا يتجاوز الوجود قط، وطمأنته الآية 3: 14 من سفر الخروج بأن الرب نفسه وجود، وأنه الوجود نفسه: فهو كل ما هو موجود فعلا. (ألقيت عظتان مؤثرتان جياشتان في هيبو على جمع من عمال الموانئ والمزارعين وطورتا هذه الفكرة المميزة: (شروحات المزامير
Enarrationes in Psalmos
ومعاهدة إنجيل يوحنا
Tractatus in Evangelium Johannis ).)
إن الخلق «مشاركة» في الوجود. ويوحي هذا اللفظ بالاشتقاق. وهو مميز لما يشتق، وما يملكه المرء حينئذ يكون متمايزا عن كينونته. بالنسبة إلى المخلوقات، الوجود شيء والتحلي بالإنصاف والحكمة شيء آخر. ولكن الوجود بالنسبة إلى الرب يعني الإنصاف والخيرية والحكمة في الوقت نفسه؛ فالإنسان يمكن أن يكون موجودا دون أن يتحلى بالإنصاف أو الخيرية أو الحكمة، أما الرب فلا؛ فالرب «هو من يملك». عبر أفلوطين عن النقطة نفسها بلغة أرسطية قائلا: في «المادة» الإلهية (أي الجوهر الميتافيزيقي) لا يجوز أن تكون هناك أي عوارض. واتفق أفلوطين وأوغسطينوس على أن الفئة الأولى وحسب من الفئات العشر، ألا وهي المادة، هي التي تنطبق على وجود الرب (الاعترافات).
وجد أوغسطينوس مقدمة إنجيل يوحنا (وهي جزء من العهد الجديد أبهر الفلاسفة الأفلاطونيين الحداثيين) تصريحا نبيلا للصورة العالمية الأفلاطونية، ولنور الرب الذي يشع في الظلام ليعيد العالم المستوحش إلى العوالم العليا. ولكن، إذ وجد المسيحية تعبر عن الحقيقة بشكل أفلاطوني جدا، لاحظ أوغسطينوس نقطة خلافية شديدة؛ إذ لم تقل «كتب الأفلاطونيين» إن الكلمة صارت جسدا. لقد كان مبدأ الوحي الفريد في سياق حياة محددة فكرة مسيحية اضطر ماني إلى تبديلها تبديلا جذريا. بالنسبة إلى أفلاطوني وثني، بدت خصوصية تلك الفكرة غير متوافقة بشكل فاضح مع الثبات الإلهي والسريان الشمولي للعناية الإلهية في الكون ككل. لم يفكر الأفلاطونيون في وجود غاية إلهية تعمل عملها في فوضى التاريخ وخلالها، ومفاهيمهم الخاصة بالزمن كانت دورية لا خطية؛ بتعبير آخر، في فترات زمنية فاصلة كبيرة يرجع تكوين النجوم إلى الموضع نفسه، وحينئذ تبدأ الأشياء كلها مجددا في المسير في نفس الحلقة المفرغة. إن مفهوم التجسيد الفريد الذي يدعو الإنسان لاتخاذ قرار وجودي تترتب عليه تبعات أبدية يعني أن الأفلاطونية لم تكن شيئا يستطيع أوغسطينوس أن يتركه دون تعديل. ومن ناحية أخرى، فقد شعر هو أيضا أنه من الضروري تفسير التجسيد بلغة العناية الإلهية الشمولية كخطوة محورية باتجاه غاية التاريخ ومفتاح لفهم معناه.
خلال الفترة التي اهتدى فيها للمسيحية، كان أوغسطينوس في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أمسى أستاذا مرموقا في الأدب والأسلوب البلاغي. ولو كان قد سعى وراء الوظيفة العلمانية التي حلم بها، لما عرفت الأجيال اللاحقة عنه الكثير بخلاف اسمه، ربما فقط باعتباره مثالا مذهلا للتحول الاجتماعي الذي قام به شاب بارع مثله متحدر من عائلة إقليمية معدمة من ريف مملكة نوميديا الأمازيغية، والذي كد في عمله وحالفه الحظ إذ استمتع بشيء من الرعاية المفيدة لمستقبله. الآن تخلى أوغسطينوس عن كل هذا، وكان عليه أن يجد الإجابات الشافية عن الأسئلة الملحة. وكانت مهمته الأدبية الأولى البحث في أسئلة شائكة عن الشر والقدر التي فرضها عليه في فترة من الفترات المانويون. وكان عليه أيضا أن يرد على المفكرين المشككين الذين كانوا، خلال فترة حرجة، منسجمين مع ذهنه بشدة.
خلال الأشهر التي أمضاها في كاسيكاسيوم، ألف أوغسطينوس سلسلة من المحاورات الفلسفية، التي غالبا ما اتخذت قالب محاورات شيشرون التي كتبها في معتزله في توسكولوم. ولقد مكنه التقليد الأدبي لشكل المحاورة من التصريح بصعوبات كان لم يزل هو نفسه يكابدها، وأصبح باستطاعته أن يناقشها مع نخبة متعمقة التفكير. كانت أجواء المحاورات أشبه بأجواء قاعة المحاضرات؛ حيث استخدم أوغسطينوس المناقشة الجدلية كوسيلة للتلقين، عارضا المشكلات وملتمسا الحلول. وكانت الموضوعات التي تناولها، في بداية المطاف، طبيعة السعادة (الحياة السعيدة)، ونقدا لنظرية المعرفة المتشككة ومذهب تعليق الحكم (ردا على الأكاديميين)، والتأكيد على أن القدر الشخصي أو الخاص ممكن في سياق النظام المتسق للكون، وسلسلة العلة والمعلول (حول الحكم
De ordine ). وفي المحاورة الأخيرة من تلك المحاورات، أدرج أوغسطينوس دفاعا عن دراسة الفنون الحرة كإعداد للعقل لتلقي الحقائق الأكثر سموا، واقترح أنها ينبغي أن ترتب على سلم تصاعدي، على أن تأتي الهندسة والموسيقى تحديدا لتكشف عن النظام الحسابي الكامن وراء الكون. واستعار أوغسطينوس صورة من أفلوطين، واستخدم صورة الرصيف المصنوع من الفسيفساء الذي لا ترى جماله العين المنكبة على قطعة صغيرة واحدة، بل العين التي تحاول فحسب أن تنظر للصورة ككل. وفي فقرة تتوافق بشدة مع الأفلاطونية الجديدة، أعلن أوغسطينوس بأنه «كي نرى الواحد، يجب أن ننسحب من التعددية؛ ولا أعني وحسب تعددية البشر، بل وتعددية الإدراكات الحسية. ونلتمسه وكأنه مركز دائرة تمسك ما حولها بقوة وتحافظ على تجانسه» (حول الحكم).
وفي كاسيكاسيوم، كتب أيضا «مناجاة النفس» (استحدث أوغسطينوس هذه التسمية)، وهي عبارة عن محاورة سلم أوغسطينوس - بحثا عن اليقين خاصة فيما يتعلق بخلود الروح - نفسه فيها إلى إملاءات العقل. ولقد أدت تحفة أدبية ذات طابع أفلاطوني حديث تحديدا من الجدل به إلى تأكيد أن الحقيقة الحسابية صحيحة بشكل سرمدي، وأن العقل الذي يعرف هذه الحقيقة أيضا يشارك في هذا السمو للتسلسل الزمكاني، وهو الرأي المشار إليه على استحياء في أعمال أفلاطون (مينو)، وطوره إلى حد كبير أفلوطين. وفي مزيج خصب من العبارات المستعارة من شيشرون، تمزج «مناجاة النفس» ما بين لغة الإنجيل وخليط قوي من الوجودية الأفلاطونية الحديثة. ثمة إشارة مؤكدة بالاسم لكل من أفلاطون وأفلوطين، ووجود الأفكار المستخلصة من فرفوريوس محتمل جدا. يقول أوغسطينوس هنا إنه ما من سبيل وحيد لينال المرء رؤية الرب؛ ولكن على الأقل يتعين على المرء أن يفر من كل شيء مادي، وينحي بحثه عن الإشباع؛ سواء إشباع الحب الجنسي «حتى الذي يكنه المرء لزوجة متعلمة ومتواضعة»، أو إشباع المال أو السمعة والشهرة، كما يتعين عليه تدريب ذهنه على الوقائع غير المرئية بواسطة عملية شبيهة بالتجريد الهندسي؛ بحيث لا يفكر المرء في المربعات ذات الأحجام المختلفة، بل في المبادئ التي بموجبها تمتاز المربعات بشكلها المربع. وبعدئذ، يجوز أن يبدأ المرء في فهم السمو الغامض للرب الذي تجد فيه الروح الخالدة المطهرة غايتها الحقيقية. والطريق إلى التطهير الداخلي يكون بالإيمان. إن الاقتراح الأخير هو الوحيد الذي ربما كان سيثير حيرة فرفوريوس.
تمزج محاورات كاسيكاسيوم ما بين الثقة بأن ثمة نظاما قدريا وانعداما للثقة بالنفس حيال قدرة الإنسان على فهم ذاك النظام في كل الحالات. وينظر إلى الثقة بالقدر بأكثر من كونها لغزا فكريا: «ستمنح الرؤية لكل من يعيش عيشة كريمة ويحسن الدعاء ويكد في دراسته» (حول الحكم). ولكن، من المقترح أنه في خضم كل هذه التنوعات وتوترات التجربة، يمكن أن يكون هناك انسجام مطلق، وجمال يكمن في النقائض والتباينات كما في صورة مرسومة تحوي من الألوان الفاتح والداكن؛ وعليه، فمن المحتمل أيضا أن تكمن وحدة الحقيقة فيما وراء الموضوعات المتعددة للمعرفة البشرية بمناهجها المختلفة للبحث والاستقصاء.
في ظل تخصيص هذه المكانة العظيمة لدراسة الفنون الحرة، كان من الطبيعي لأوغسطينوس، في الأيام الأولى التالية لتعميده، أن يشرع في وضع سلسلة من الكتيبات المتعلقة بالموضوعات الأساسية للمنهج التعليمي القديم. من بين هذه الكتيبات، لم تصمد دون مساس إلا كتبه عن المنطق والموسيقى. وعثر على كتابه عن قواعد اللغة، وعرضت نسخة منه على عائلة كاسيودوروس في القرن السادس الميلادي، واعتبر ذا فائدة عظيمة لدرجة أن نسخته التي في مكتبته سرقت. وتنقل لنا مخطوطات العصور الوسطى كتابين في قواعد اللغة باسم أوغسطينوس، ومن المحتمل جدا أن أحدهما (ويعرف باسم
Ars breviata ) هو النص «المفقود». والنتيجة واضحة؛ وهي أن الهداية إلى المسيحية والتعميد لم يتمكنا من سحق النزعة التربوية والإنسانية لدى أوغسطينوس. وألقت به التأثيرات الأفلاطونية الحديثة على الطريق إلى النظر إلى الفنون الحرة (ولا سيما الجدلية والهندسة والموسيقى) كتدريب ذهني محبذ بشدة في الفكر التجريدي المؤهل للاستكشافات الميتافيزيقية الأسمى.
في نهاية حياته، كتب أوغسطينوس نقدا أملاه عليه ضميره لعمله الخاص طوال حياته، وأسماه «المراجعات» أو «إعادات نظر» (استدراكات، ولا يجوز ترجمتها «تراجعات»؛ وذلك لأن الكتاب يكاد يكون في أغلبه دفاعا عن أفكاره بقدر ما هو تراجع عن أفعاله الطائشة). في هذا الكتاب، شعر أوغسطينوس أنه مال في شبابه إلى المغالاة في قيمة مثل هذه الدراسات الحرة وأهميتها: «كثير من رجال الدين لم يدرسوا هذه الفنون قط، وكثير ممن درسوها ليسوا برجال دين» (المراجعات
Retractationes ).
تجلى الاهتمام التعليمي لدى أوغسطينوس تجليا مختلفا في فترة نضجه، ولا سيما في واحد من كتبه الأكثر أثرا، وأول الكتب التي طبعت في القرن الخامس عشر. كان هذا الكتاب بعنوان «حول الثقافة المسيحية»، وراجع أوغسطينوس الكتاب وأضاف إليه قرب نهاية حياته. ولقد حفظت مخطوطة النسخة الأولى التي كتبها أوغسطينوس في حياته، وهي موجودة الآن في مدينة سانت بطرسبرج. ويتناول هذا العمل التمحيص في المهارات الضرورية لتفسير الإنجيل تفسيرا صحيحا وبشكل مقنع. واستغل أوغسطينوس «كتاب القوانين» لعالم اللاهوت المنشق تكنيوس ليصوغ شرائع التأويل التي ستتفادى الذاتية، مثلا في تحديد ما هو حرفي وما هو مجازي، وفي حالة المجازي، تحديد المعنى المستتر. لقد أفصح الإنجيل حقا عن حكمة الرب؛ لكن العلوم البشرية كانت غير ذات صلة تماما باكتشاف تلك الحكمة وبيانها؛ فمفسرو الإنجيل الواثقون بوحيهم الداخلي الخاص ارتكبوا أخطاء كثيرة وفادحة. ويسجل أوغسطينوس بشيء من الدهشة أن ثمة مسيحيين معاصرين في أفريقيا لم يقرءوا شيئا بخلاف الإنجيل، ولا يتحاورون غالبا إلا بترجمات غريبة للإنجيل اللاتيني القديم، وذلك استباقا لإنجليزية جمعية الأصدقاء الدينية. كان على يقين من ضرورة إجراء دراسات أكثر توسعا؛ فالعالم بالإنجيل بحاجة إلى معرفة شيء من التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق والبلاغة (كيفية الكتابة والتحدث بوضوح وبشكل ملائم). وقد تكون هناك أماكن تساعد فيها معرفة طفيفة بالتكنولوجيا المفسر. ولا شك أن معرفة بسيطة باللغة اليونانية كانت ذات قيمة قصوى في التحقق من الترجمات والقراءات المختلفة.
لم يدرس أوغسطينوس العبرية قط، رغم أنه كان يفهم الكلمات القرطاجية التي يتحدثها الفلاحون، وكان يعرف تمام المعرفة أنها لغة سامية من أصل واحد هي والعبرية. ووفر عليه وجوب تعلم العبرية نوعا ما إتقان معاصره الأرفع مكانة وصديقه بالمراسلة جيروم لها، وكذلك لأنه كان على يقين من أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي أنجزها سبعون حبرا (السبعونية) لم تكن أقل إلهاما من النسخة العبرية نفسها. ولقد أزعجه الإنجيل اللاتيني الجديد لجيروم (النسخة اللاتينية للإنجيل) كلما وجد كلمات مألوفة منذ زمن طويل مبدلة بلا داع. فهذا أمر يستاء له العلماني الذي دائما ما يكون عدائيا تجاه التغييرات الطقسية.
لقد عكس العمل المتعلق بالثقافة المسيحية التوقير الخاص الذي كان أوغسطينوس يكنه للإنجيل. فقد أنكر صراحة أن الكتاب المقدس يمثل الوسيط الوحيد للوحي الإلهي (العظات)؛ لكنه مثل مبدأ السلطة الذي بدا مركزيا للإيمان المسيحي بطريقة إلهية معينة للخلاص للبشرية الجاهلة الضالة. لقد اعتمدت سلطة الإنجيل والكنيسة على الدعم المتبادل، واستخدامه في الكنائس حدد قيود الشريعة. ولقد رسخت نصوص الإنجيل الطبيعة المقدسة التكوين للكنيسة.
لقد جعل الجدل الموجه ضد نقاد المانوية أوغسطينوس يصر على وجود مغزى روحاني داخلي، ولا سيما للعهد القديم. «يكمن المغزى من العهد الجديد مستترا في العهد القديم، ويتكشف مغزى العهد القديم من خلال العهد الجديد» (تلقين غير المتعلمين
De catechizandis rudibus ). وعلى ذلك، فقد أشبع مجيء المسيح طموحات رسل العهد القديم. لقد جعله المانويون واعيا جدا بالخط الفاصل ما بين الكتب المعترف بها باعتبارها مطابقة للشرع الكنسي من قبل الكنيسة والأناجيل والأعمال المزيفة التي غالبا ما كان يلتمسها ماني؛ خاصة لأن هذه الأعمال المزيفة وضعت لدعم وجهة النظر القائلة بأن الزواج لا محل له من الإعراب للمؤمن. إن حجة المانوي، التي مفادها أن نص العهد الجديد تعرض للتحريف أثناء انتقاله، جعلته على دراية بأهمية القراءات المختلفة بين المخطوطات، أو بالأخطاء الواردة في الإنجيل اللاتيني القديم. فهو لم يستوعب أن النص الإنجيلي يحمل في طياته معنى واحدا فقط قصده آنذاك المؤلف الأصلي. فقد استخدم كتاب الأناجيل أنفسهم كثيرا الرمز والمجاز. والإصرار على معنى حرفي وتاريخي لا محالة يعني الإخفاق في فهم الرسالة الكامنة.
في مواطن قليلة، استطاع أوغسطينوس أن يكتب بثقة عن وضوح الإنجيل وجلائه. ولكن، هناك مواطن أخرى اضطر فيها إلى الاعتراف بأن نصوص الإنجيل غامضة، وأنه ليس كل شيء ضروري للخلاص واضحا لأي قارئ عادي. وتعزز ذلك ملاحظة أن الكثير من المهرطقين ينطلقون من تفسير خاطئ للإنجيل أو متحيز ضده. ولأنهم بارعون ومغرورون، تراهم يترددون في تصحيح أنفسهم؛ «فجزء من الطبيعة الكاثوليكية أن يعرب المرء عن رغبته في قبول التصحيح إذا وقع في الخطأ» (ردا على رسالتين للبيلاجيين
Contra duas epistulas Pelagianorum ).
الفصل الثالث
حرية الاختيار
في صيف عام 387، بينما كان يعيش برفقة مونيكا في روما خلال آخر سنوات عمرها، بدأ أوغسطينوس في كتابة أطروحة كبيرة ومعقدة «عن أصل الشر وحرية الاختيار» (الإرادة الحرة)، وهو العمل الذي أتمه بعدها بستة أعوام أو سبعة. ولقد أفضى به نقده للازدواجية والحتمية المانويتين إلى التأكيد بشدة على الإرادة. ولقد دلل على أن للإرادة مكانة محورية في كل فعل أخلاقي بالاستناد إلى الفضائل الأساسية الممثلة في العدل والفطنة وضبط النفس والشجاعة. والفضيلة تعتمد على الحق والاختيارات العقلانية؛ ولذا تكمن السعادة في حب خيرية الإرادة. وفي المقابل، البؤس نتاج الإرادة الشريرة، والشر نبع من حرية الاختيار المساء استخدامها التي تجاهلت قيم الخيرية والجمال والحق الأبدية.
لقد رأينا أن أوغسطينوس كان يفضل تأصيل الشر في اضطراب الروح بدلا من توطينه في الجسد والمادة، وهو مذهب أفلوطين (مدينة الله
De civitate Dei ). لقد كان ضعف الروح بالنسبة إليه العلة المباشرة - إن لم تكن العلة الكافية بضرورة الحال - للخطيئة. لكنه رأى هذا الاضطراب للروح متأصلا في حقيقة أن الروح تنشأ من لا شيء؛ ومن ثم فهي «طارئة» وعرضة لأن تحيد عن مسارها. وحتى خلودها نجد أنها تملكه لا بطبيعتها الخاصة المتأصلة، بل بهبة من الخالق وبإرادته.
يترتب على الخلق من العدم بالنسبة إلى أوغسطينوس نتيجة مفادها أنه في كل شيء يخلق بهذه الطريقة ثمة عنصر عدمي و«نزعة للعدم»، رغم أن هذه المرحلة المطلقة لا يتوصل إليها قط. وبهذه اللغة، سعى أوغسطينوس إلى التوحيد ما بين المفهوم الإنجيلي لمخلوقية الروح وتبعيتها والتأكيد الأفلاطوني على خلود الروح. في مقالة سابقة عن «خلود الروح» (وهي العمل الذي يحتوي على العديد من الفقرات التي يحاكي فيها فرفوريوس)، كتب أوغسطينوس يقول إنه حتى مادة الجسد لا تفنى بالموت، وكذلك الروح الآثمة تحتفظ إلى الأبد بمسحة من الصورة والشكل الإلهيين. في مرحلة نضجه، كتب أنه «حتى الروح الساقطة تظل صورة للرب» (الثالوث
De Trinitate )، «وقادرة على معرفة الرب» (القدرة على تلقي الرب). و«حتى اللادينيون» يفكرون في الخلود بالإيحاء، وذلك عندما يصدرون أحكاما أخلاقية تأكيدية على سبيل المثال حول سلوك الآخرين، متجاهلين حقيقة أنهم لا يحسنون التصرف هم أنفسهم. ولذا، حتى في أسوأ السيناريوهات، تحتفظ الروح بعلامات العقلانية والحرية التي تعد مغزى «صورة الرب» التي يهبها للإنسان بواسطة الخلق. وفي الوقت نفسه، فإن الروح، إذ خلقت من العدم، ثابتة لا تتغير، وإمكانية السقوط لذلك تمنح بالخلق. ومع ذلك، فإن الاختيار الفعلي للإرادة بتجاهل الخير لا مبرر له ويتعذر تفسيره.
والمعضلة هنا أرقته طويلا. تساءل أوغسطينوس لم سقط بعض الملائكة دون بعض؟ في مرحلة نضجه، بدا له أنه من غير المناسب أن يتحدث عن المصادفة العشوائية واللاعلية. وللتعاطي مع هذه الصعوبة، لجأ أوغسطينوس إلى مبدأ القضاء والقدر.
رغم أن أوغسطينوس انشق عن الرأي الأفلوطيني القائل بأن الشر ينبع من المادة، فإنه وافق على أن التبعة الرئيسية للاختيار الخاطئ للروح هي أنها أمست مرتبطة بشكل وسواسي بالجسد. والمادة بحد ذاتها محايدة أخلاقيا؛ ورغم ذلك فبمقتضى حقيقة كونها مخلوقة من العدم، وبموجب كونها هي ذاتها عديمة الشكل، فهي تحمل في طياتها دونية ميتافيزيقية عميقة. ومع ذلك، الروح هي المعترك الحقيقي. إن «الطبيعة» التي وهبها الله للبشرية خيرة؛ فقد كان لآدم قبل السقوط وللمسيح في انبعاثه «طبيعة نقية» لا يتأتى لبقية البشرية الآن نيلها. ويؤدي فساد الخيارات الواهنة إلى نشوء سلسلة من العادات تقيد الشخصية وتصبح متأصلة، وتمسي طبيعة معيبة أو «فاسدة».
تدلل الخبرة بالقرارات الأخلاقية على أننا جاهلون بما هو صواب، والأدهى أنه عندما نميز الصواب، نجد صعوبة بالغة في لزومه والعمل به. لقد شعر أوغسطينوس بالتردد حيال سؤال إن كان «الجهل والصعوبة» جزءا من خطة الرب الأولية لمخلوقاته لكي يعلمهم، بينما يصلون إلى مرحلة النضح تدريجيا، إجادة التعامل مع مشكلاتهم والوقوف على أرض صلبة بأنفسهم، أم إن الصراع الأخلاقي تبعة دائمة وعقابية لموقف سقوط الإنسان منذ أول عصيان لآدم وحواء. لا ضير من تردد أوغسطينوس في تلك المرحلة ما دام الأمر لم يكن مهما نسبيا نوعا ما لحجة أطروحته حول حرية الاختيار. لاحقا، أمسى أوغسطينوس أكثر ميلا إلى النظرة العقابية. ولكن في العمل السابق، كانت غايته ببساطة دحض الزعم المانوي بأن شرور الحياة البشرية تثبت أن العالم المخلوق ليس من صنع الخيرية السامية والقوة التي لا تجابهها قوة. كان أوغسطينوس على دراية بأنه سيترك عددا من الأسئلة معلقة.
لاحقا حظيت أطروحة الإرادة الحرة بثناء نقاد أوغسطينوس الذين تأسوا ببيلاجيوس إيمانا منهم بأن أوغسطينوس المتأخر أخفق في أن يعطي الحرية حقها؛ ومن ثم انتزع القيمة الأخلاقية من أعمال الفضيلة. وطاب للنقاد اقتباس الأطروحة انطلاقا من كونها تحوي حججا للإرادة الحرة لم يدحضها حتى مؤلفها. ويستطيع أن يجيب بمنطق سديد بأن محاولة وضع أوغسطينوس الشاب في منافسة مع أوغسطينوس العجوز محاولة واهية الأساس. اعترف أوغسطينوس أن هناك بعض الجمل القليلة كان من الممكن أن يصوغها صياغة أكثر دقة، وأحس بأن الكتاب تناول الخطيئة بشكل أفضل من الفضيلة. تضمنت حجة الأطروحة إصرارا على انتقال إثم آدم وعقوبته إلى نسله، وعلى عجز الإنسان الآثم عن إنقاذ نفسه بإرادته، والحاجة إلى أن يقهر تواضع المنقذ الكبرياء والحسد اللذين يشكلان أكثر السمات الشيطانية للسقوط.
يحوي الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثية لأطروحة «الإرادة الحرة» أهم تصريح أدلى به أوغسطينوس وأكثرها ديمومة وثباتا للحجة المؤيدة لوجود الرب. تعاطى أوغسطينوس مع المشكلة بشكل مميز كقضية محورية في نظرية المعرفة، ولم يأخذ على عاتقه إثبات وجود الرب وكأنه يدلل على وجود شيء ما في عالم الحس؛ فحجته لا تفيد بأن المجموع الكلي للأشياء يشمل الرب بالطريقة التي يتضمن بها هذا المجموع الأشياء المدركة بالعقل عبر الحواس الخمس؛ فهو يستوعب أن الرب يتجاوز الزمان والمكان؛ وذلك لأن الإنسان لا يستطيع في سياق الزمان والمكان اكتشاف السعادة أو الكمال المطلقين. وبالمثل، فإن الرب مفترض مسبقا بكل الفكر المتعلق بالمسلمات والتواصل ما بين العقول؛ فالمنطق الرياضي والجمالي والأخلاقي يسلم بأن هناك عالما واقعيا خارج نطاق الحواس. (فالأشياء المادية يمكن إدراكها، أما النظرية المادية فلا، ومع ذلك يتعين صياغتها بلغة مستخلصة من عالم الأشياء المحسوسة؛ فالشخص الذي ينكر حقيقة أسس الفيزياء يعتبر غريب الأطوار. والاعتراض على أن اللغة الخاصة بتلك الأسس متشابهة إلى حد كبير اعتراض غير جاد.)
ولذا، إذا شككنا في النظام البديع للطبيعة بأشيائها النبيلة، فإن هذه الأشياء تهمس في أذن المنطق أن «اليد التي صنعتنا مقدسة» (الاعترافات، الكتاب التاسع، والكتاب الحادي عشر، اقتباس من أفلوطين). لكن النظام والتصميم والجمال، وحتى إمكانية التبدل والتدفق نفسها التي يتمتع بها العالم، وحقيقة أن وجوده ليس «ضروريا»؛ تصبح اعتبارات ثانوية وداعمة لا أكثر للحجة. ويظهر جوهر المادة في إيمان أوغسطينوس بأن الرب ليس شخصا أو شيئا ما موجودا مصادفة؛ فهو الوجود نفسه، ومصدر كل الكائنات الفانية. كأفلاطوني مخلص، يجد أوغسطينوس هذه الحجة معززة بواقع المبادئ الأخلاقية الممثلة في العدل والحكمة والحق. فهي تتجلى بسمو في ميزان القيمة، ومع ذلك فهي وقائع لم يرها أحد أو يمسها أو يتذوقها أو يشمها أو يسمعها.
ولا نعني أن أوغسطينوس كان سينتقص من أهمية الحواس؛ فدليلها محوري لكل الأشياء التي تقع في مجالها، والمسائل المتعلقة بالتذوق واللون والليونة والحجم والشكل وما إلى ذلك نقررها بالحواس ذات الصلة بها. ولكن إدراكات الحواس شكل أدنى من أشكال الفهم. لقد حذر الفلاسفة المتشككون عن حق من أن الحواس يمكن أن تكون خداعة، تماما كما يبدو المجداف في الماء منكسرا. إن المعلومات المستخلصة من الحواس تخضع لفحص العقل الواعي العارف وحكمه.
أعجب أوغسطينوس بصيغة وجدها في أعمال أفلوطين اقتبسها الأخير بدوره من محاورة «فيليبوس» لأفلاطون، ومفادها أنه عندما يتلقى الجسد الإحساس، فإن الروح «لا تكون واعية» بهذه الحقيقة. إن تفوق الروح ضمني، ولكن، هناك فجوة بين التدفق السرمدي وتغير عالم الحواس الخمس والحقائق السرمدية للرياضيات والمسلمات.
بين يدي أوغسطينوس تمتزج الحجة المتعلقة بوجود الرب بحجة الأفلاطونيين الخاصة بواقع المسلمات باعتبارها حقائق سرمدية وثابتة، سواء أكانت حقائق متعلقة بالرياضيات أم بالقيم السامية للعدل والحق، وعلى ضوئها يحكم العقل على كون فعل أو مقترح بعينه منصفا أو صحيحا. بالنسبة إليه تكمن الذروة في أن هناك عالما واقعا يتجاوز العقل البشري ويسمو عليه، وهو بحد ذاته متغير ونادرا ما يستمر طويلا في حالة واحدة. وها نحن نرى مجددا بصمة الاعتقاد المتولد من التجربة الصوفية الموصوفة في الكتاب السابع من «الاعترافات»، ومن خلال تلك التجربة واجهته حالة التناقض ما بين مؤقتيته الخاصة والديمومة السرمدية للرب الموجود.
ومن ثم، وجد أوغسطينوس الغاية من استنباطاته في فكرة الموجود الثابت السرمدي الضروري. بطبيعة الحال، كان على دراية تامة بأن الغاية منحها إياه الإيمان؛ فما من ساع وراء الحقيقة يبدأ من دون قناعات عن مكانها وكيفية العثور عليها. ولكن الفهم يظل مسألة استدلال واستنباط فلسفي. وطاب لأوغسطينوس الاقتباس (من نسخة سفر إشعياء اللاتيني القديم): «عليك أن تؤمن كي تفهم!» ولكن، كانت العلاقة بين الإيمان والمنطق بالنسبة إلى أوغسطينوس على خلاف ما أمست عليه بالنسبة إلى علماء العصور الوسطى. لقد اتضح أن فرضيات الحقيقة التي يسعى الفهم إلى تفسيرها مسائل غير متعلقة بالوحي، ولكن بما كان يمكن أن يطلق عليه علماء اللاهوت في العصور الوسطى «اللاهوت الطبيعي»؛ (أي) المسائل المثبتة بالحجة الفلسفية دون قبول نسبتها إلى أي كشف أو وحي محدد. في أطروحته عن الإرادة الحرة، يسعى أوغسطينوس لإثبات أنه من المنطقي القبول بالإيمان بالرب والخلود والحرية والمسئولية الأخلاقية؛ وهي القناعات التي عرفها الفلاسفة الأفلاطونيون وأظهروها دون أن يكون لديهم إنجيل يسترشدون به.
تحوي الأطروحات التي كتبها أوغسطينوس في العقد الرابع من عمره إشارات مرجعية لمسألة الخلود، وفي ذلك المقالة الغامضة نوعا ما عن إضفاء الصبغة الأفلاطونية على الجدلية فيما يختص ب «خلود الروح» (وهو العمل الذي لم ينسب إليه هو نفسه مكانة عالية إذ اطلع عليه مجددا في فترة لاحقة من حياته). كانت فكرة الموت حاضرة غالبا في وعيه، وخاصة كلما حصد أرواح الأصدقاء أو الشباب المرضى. لقد وصف حياة البشر بأنها سباق نحو الموت (مدينة الله)؛ وعلى المرء ألا يبدأ كل يوم يحياه «راضيا بأنه صمد ليوم آخر، بل بندم على أن يوما آخر من الفترة المخصصة له على الأرض ضاع إلى الأبد.» وأخيرا، فإن إيمانه بأن الموت ليس النهاية لم يعتمد على الجدلية الأفلاطونية، بل على الإيمان بالمسيح القائم (الثالوث).
الفصل الرابع
مجتمع فلسفي
بحلول خريف عام 388، وبعد القداس الذي أقيم على روح مونيكا في أوستيا، عاد أوغسطينوس إلى موطنه أفريقيا (التي لم يغادرها قط بعد ذلك)، واستقر في مدينته الأم طاغست بغية إجراء تجربة على الاعتزال التقشفي مع القديس أليبيوس وغيره من الأصدقاء. التقى الجمع العلماني بانتظام لأداء الصلاة اليومية ولتلاوة سفر المزامير. (لا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية سفر المزامير لروحانية أوغسطينوس؛ فقد ثبت أن اقتباسات الترانيم محورية لبنية «الاعترافات» نفسها.) وفيما بين الساعات التي كرسوا أنفسهم فيها للتنسك والعبادة، ناقشوا شيشرون والقديس بولس والأفكار الأفلاطونية. كان الجمع الأكثر طمأنينة، تأمليا في روحه، وأكاديميا نوعا ما، ومعتمدا على أوغسطينوس باعتباره القائد المعترف به الذي يقدم أجوبة عن الأسئلة التي تثار في النقاشات. وتم تداول هذه الأجوبة كتابة، وجمعت لاحقا في كتاب شهير بعنوان «حول 83 مسألة مختلفة». وتشمل المسألة السادسة والأربعون بيانا مهما عن نظرية الأفكار لأفلاطون يصون التوحيد الإنجيلي بزعمه أن المسلمات هي «أفكار في عقل الرب». لم يكن الجمع الطاغستي يسمى ديرا، وتقاسم «مجتمع الأخوة»، كما أطلقوا عليه، الممتلكات وعاشوا عيشة بسيطة مقتصدة، لكن لم تكن لديهم عهود رسمية ولا ملابس متطابقة، ولا قاعدة محددة أو شرط معين للطاعة، وكانوا أكثر ثقافة من أغلب مجتمعات الرهبان اللاحقة عليهم. لقد كان هذا فعليا أول مجتمع رهباني في أفريقيا اللاتينية.
في هذا المجتمع العلماني، عاش أوغسطينوس عامين ونصف العام، وكانت فترة مثمرة لكتاباته. ولقد ميز التحول التدريجي من تدريس العلوم الحرة إلى الانخراط الجاد في علم اللاهوت كتبه الستة «عن الموسيقى». وقد خصص خمسة من الكتب الستة للنقاش التقني المتعلق بالوزن الشعري والإيقاع. وكانت نيته لاحقا أن يستمر في دراساته بمناقشة الجوانب النظرية للنغم، لكنه لم يكتب هذه المناقشة قط، وترك هذا المجال مفتوحا للفيلسوف بوئثيوس بعدها ب 120 عاما. (لم يكن التأليف العملي للموسيقى مسعى مناسبا للمفكر والنبيل في القدم؛ فقد تركت تلك المهمة للرعاع من الرجال والنساء الذين يستعان بهم لتسلية النبلاء بعد العشاء).
والكتاب السادس عن الموسيقى له طبيعة مختلفة، وكان يتمتع بشيء من التداول المستقل. كان هذا الكتاب إعادة صياغة أوغسطينوس لإيمان أفلاطون بأن المبادئ الرياضية تكمن وراء كل شيء في الكون، وأنها الدلائل الأساسية لنظامه القدري. ولا سيما في محاورة طيماوس، درس أفلاطون أن بنية الروح نفسها تتحدد بنسب مرتبطة مباشرة بنسب الفواصل الزمنية في الموسيقى؛ على سبيل المثال، النغمة الثمانية تقع في الفاصل ما بين 2 و1، والنغمة الخماسية ما بين 3 و2، والرباعية ما بين 4 و3، والنغمة الكاملة تستقر ما بين 9 و8. وحقيقة الأمر أن النسب نفسها تحكم المسافات بين الكواكب.
ويذكر أوغسطينوس أكثر من مرة أنه كان سريع التأثر بصوت الموسيقى؛ ففي ميلانو، حيث اعتاد في بداية الأمر على زيارة الكاتدرائية ليبدي إعجابه بالمهارة الخطابية لأمبروسيوس، لم يجد نفسه منبهرا وحسب بمحتوى النقاشات، بل كذلك بإنشاد المزامير. كان يعلم أن الموسيقى المناسبة قادرة على استحضار معنى الكلمات في القلب. عندما كان شابا يافعا، وجد أوغسطينوس الموسيقى لا غنى عنها للحياة كمصدر للسلوان. وعندما بلغ رشده، لم يكن لديه الوقت الكافي لذلك على أي حال، لكنه ظل مقتنعا بأطروحة أفلاطون القائلة بأن ثمة «تناغما خفيا» (الاعترافات، الكتاب العاشر) ما بين الموسيقى والروح. وما من فن آخر يستبعد على الأقل أربعا من الحواس الخمس، ومحكوم إلى هذا الحد بمبادئ الرياضيات. أي قوة يملكها العقل أكثر إدهاشا من قدرته على تذكر الموسيقى دون أن يسمع فعلا أية أصوات حقيقية؟ بدت هذه الملاحظة لأوغسطينوس دليلا صارخا على سمو الروح بالنسبة إلى الجسد.
لقد تركت دراسة تحليل أفلوطين لطبيعة الجمال (الجزء الأول) أثرا عميقا؛ فقد ذهل أوغسطينوس بفعل تغلغل النظام الرياضي في الكون، وكانت هذه فكرة بارزة في محاورات كاسيكاسيوم. وهنالك كان دفاعه عن العناية الإلهية في مادته جماليا وأفلوطينيا؛ أي إن جلاء وعتمة النور والظلام يساهمان في جمال الكل. لكن هذا الجمال ليس وحسب شعورا ذاتيا، بل هو راسخ في الأرقام. فهناك دقة لا في البيئة العديمة الحياة وحسب، بل كذلك في عمليات الحياة البشرية، كما هو واضح من دراسة الأجنة التي تبين كيف يصل الجنين إلى كل مرحلة متعاقبة من مراحل النمو عند فواصل زمنية ثابتة ودقيقة. أضاف أوغسطينوس أنه علاوة على ذلك يعتمد جمال بناية ما على نسبها الرياضية. ويعتمد تناظر تركيب النوافذ على القياسات؛ ولذا، فالجمال له أساس موضوعي. تمتع الأشياء العين لجمالها، وليس العكس. (كان هذا حكما سيوثقه جزئيا وحسب عندما يتحدث عن حب الرجل للمرأة. وأضاف أوغسطينوس أنه بينما يعد تناظر الجسد البشري وتناسبه قابلين للقياس فعليا بلغة الرياضيات، بشكل يجوز أن يبدو للقارئ الحديث ضربا من الرومانسية غير العادية، «فإن آدم لم يحب حواء لأنها جميلة؛ فحبه لها هو الذي جعلها جميلة»: شروحات المزامير.)
في بعض النصوص، نصادف وجهة النظر الأفلاطونية الحديثة العادية التي مفادها أن الرياضيات محطة انتقالية في الرقي من العالم المادي إلى الميتافيزيقا واللاهوت. كان عليه أن يحذر قراءه من الظن بأنه يعني أن الرياضيات البحتة هي ميتافيزيقا من دون شرط أو قيد. ولا ينبغي أن يفترض المرء أن الهندسة طريقة غامضة تحديدا لتناول اللاهوت (مناجاة النفس). على أي حال، يلاحظ أوغسطينوس على غير المتوقع، أن حفنة لا أكثر من علماء الرياضيات البارعين الذين يعرفهم هم الجديرون فعلا بوصفهم ب «الحكماء» (حرية الاختيار
De libero arbitrio ).
لم يرد أوغسطينوس أن يسأل عن علة وجود العالم وحسب، بل كذلك عن كيفية معرفة عقولنا للأشياء سواء عن طريق الحواس الخمس أو بواسطة الكلمات التي هي «علامات». إن الأسئلة التحليلية المتعلقة بوظيفة اللغة يتعين أن تطرح أولا إذا كان المرء يعتزم أن ينطلق منها إلى الأسئلة الوجودية التي تكمن وراءها. إن هذا الاهتمام بالكلمات والمعاني وعلاقتها بالواقع أثاره فيه دوره المتنامي كعالم لاهوت علماني قائم على تفسير خطاب ذاتي مقدس عبر «كلمة الرب». لقد كان حساسا جدا تجاه حقيقة أن قسما كبيرا من اللغة الدينية كان مجازيا أو غير مباشر؛ فما قد يفسره غير المتأملين، سواء المؤمنون أو الكافرون، على اعتبار أنه نثر تقريري بسيط غالبا ما يكون مزيجا من الاستعارات الخيالية التي تثري الحدس والبصيرة العميقين بدلا من أن تمثل نتيجة استنباط مدروس. كان أوغسطينوس على دراية بأن الطموح الديني يمكن، على الأقل لكثيرين، أن يكون ذا صلة وثيقة بالموسيقى. وخلال حياته، كانت الكنائس الكاثوليكية في شمال أفريقيا تتصالح بقدر متزايد مع الفن الصوري، وتبادر بتثبيت جداريات تصور المسيح والعذراء وبطرس وبولس، رسل العهد القديم، وآدم وحواء (بلباس محتشم)، والتضحية بإسحاق، وغير ذلك من جداريات. شعر بحس الأفلاطوني لديه بالتحفظ تجاه قوة الفن علها تعترض السبيل ما بين الروح والرب بدلا من أن تعمل دوما كجسر من الحواس إلى الروح. لكنه دافع عن الموسيقى الكنسية ضد التطهيريين الذين أرادوا استبعادها بالكامل، وأقر بأنها، على خطورتها المحتملة، وسط طبيعي لمشاعر السمو والتواضع المهيب.
كتب أوغسطينوس أيضا كعلماني في طاغست اثنين من أكثر أعماله أثرا؛ ألا وهما «المعلم» و«حول الدين الحق».
كان عمله «المعلم» بمنزلة تذكار لابنه غير الشرعي البارع أديوداتوس الذي صيغت أفكار أوغسطينوس بالتحاور معه. يختص هذا العمل بكيفية توصيل الحقيقة للبشر، وتبدأ المناقشة بالإجابة البسيطة أننا نوصل الحقيقة للبشر بالكلمات. ولكن هذه الإجابة الساذجة تتعرض بشكل متزايد لنيران النقد؛ فالكلمات مجرد أصوات تستقي أهميتها من العادة والتقليد، لكنها تنقل المعنى وحسب بطريقة متناقضة وبدرجة محدودة. ومعنى اللفظ يتحدد على الأقل بنبرة الصوت أو السياق أو الإيماءات بقدر ما يتحدد بالمقاطع المنطوقة. وتعبير ملامح وجه المتكلم ستفضحه أمام المحيطين به إذا كان ساخرا. وبعض العبارات الاصطلاحية يمكن أن تحمل معنى معاكسا لما تشي به الكلمات في ظاهرها. وإذا وصفت رجلا بأنه محام نزيه فقد لا يعني بضرورة الحال أن هذا هو مقصدك بالضبط من وصفك له. علاوة على ذلك، فالكلمات يمكن استخدامها كذريعة للتستر أو للخداع بغية نقل معلومات مغلوطة. وعلى أي حال، فالكلمات مجرد أصوات مادية، والعقل هو الذي يضفي عليها أهمية.
لا شك أن أوغسطينوس كان آخر من ينكر أن الكلمات مفيدة؛ فالأستاذ البارع جدا في تطويعها كان من المستبعد أن يفكر أنها لا تلعب دورا. إضافة إلى ذلك، يوظف الإنجيل الكلمات، والطقوس الدينية «كلمات مرئية» (ردا على فاوست)؛ وذلك أن الكلمة والروح هما اللتان تضفيان قوة ومغزى باطنيا على ما كان يمكن أن يكون فعلا طقسيا خارجيا وحسب (معاهدة إنجيل يوحنا). ولكن لا يستتبع ذلك أن الكلمات بحد ذاتها يمكن أن تكون فعالة أو كافية لنقل المعنى بالكامل في الأمور العظيمة الثقل. فالحقيقة تنقل في نهاية المطاف عبر تجربة غير محسوسة وغير مسموعة وعصية على الوصف للتواصل ما بين عقل وآخر؛ وذلك لأن العقل لا يمكن أن يعرفه إلا العقل.
أدت هذه الأطروحة بأن تفكر أوغسطينوس في طبيعة الصلاة؛ فعقول الأصدقاء المقربين يمكنها التواصل بعضها مع بعض دون أن ينبسوا ببنت شفة، وربما حتى دون إيماءة واحدة. والرب المبهم السامي هو أيضا أكثر «استبطانا» من أي شيء يمكن أن نعبر عنه، «عندما نصلي، عادة لا نكاد نعرف معنى الكلمات التي نستخدمها» (مناجاة النفس). وهذا القصور متأصل نوعا ما في حقيقة أن مصطلحاتنا وتقسيماتنا تنتمي إلى خطاب مستخلص من عالم المكان والزمان والتتابع هذا؛ ولذا، فهي تشوش الحقيقة المتعلقة بما هو ثابت وخالد وتحرفها. وهذا القصور نوعا ما علامة على كل الأمور التي تنطوي على شعور عميق (ما من كلمة أمست أكثر تمييزا لأوغسطينوس من «التوق») لدرجة أنها تستقر في مكان عميق جدا لا تصل إليه الكلمات. «لا يستطيع الإنسان أن يقول شيئا عما يعجز عن الشعور به، لكنه يستطيع أن يشعر بما يعجز عن صياغته في كلمات» (العظات، شروحات المزامير).
إن القوة المطلقة للفهم المتبادل ما بين الأصدقاء، بحسب معتقد أوغسطينوس، تعول على المشاركة في المنطق العلوي. ولقد انسجم هذا المعتقد مع لغته السامية العاطفية أحيانا التي يستخدمها لوصف هبة الصداقة. ومشاركة النور المشع من المسيح المعلم تعني أن يمسي المرء متمكنا من إدراك الإيمان المطابق لدى الآخرين. وتحدث أوغسطينوس أحيانا عن الجمع الديني على اعتبار أنه يملك القدرة، التي تتسنى له بالحدس الغامض، على إدراك أشكال أصيلة وغير أصيلة للإيمان. وحدث نفسه أن «الآذان الكاثوليكية» لم تكن بحاجة عادة إلى قرارات رسمية من المجامع الكنسية لتملي عليها أسس عقيدتها (ردا على رسالتين للبيلاجيين). إن هذا التنوير العقلي إذن قوة أو إحساس بالرشد والتعقل وليس معلومات عن الحقائق. وهو يتغلغل في المستويات الأكثر عمقا للشخصية. لقد علم الاستبطان أوغسطينوس وجود اللاوعي: «يمكنك أن تعرف شيئا لا تدري أنك تعرفه» (الثالوث).
من المعروف أن هناك سلسلة أخرى من النصوص كتب فيها أوغسطينوس عن الأعماق السحيقة للقلب البشري، وعن «هوة» الإنسان . «كل قلب مغلق على كل قلب» (شروحات المزامير). بالنسبة إلى الرب كل دافع معلوم، لكن الأمر خلاف ذلك بالنسبة إلى الإنسان؛ فالإنسان نفسه عميق عمق المحيطات، وشديد العمق (الاعترافات)، والفرد لا يستطيع حتى أن يفهم شخصيته وقلبه (شروحات المزامير).
لقد كان لديه أكثر من اهتمام عادي بالتداخلات المنطقية. لكن اهتمامه فيما يعتبره القارئ الحديث علم نفس متعمقا ساعد على أن يجعله متشككا في الحيل اللغوية البارعة التي يمارسها الجدليون؛ فمذهبهم «افتقر للعمق» (الاعترافات، الكتاب التاسع وفي مواضع أخرى). وإذ كان الدين ذا قيمة عظيمة كتدريب على المنطق من وجهة نظره (واعتبره لا غنى عنه بالنسبة إلى علماء اللاهوت)، فقد كان يمس مستويات أعمق من الشخصية. ولقد تحدث عن الحقيقة الدينية باعتبارها تنويرا داخليا من «الرب شمس الأرواح». ولم يقترح قط أن الأفكار الحقيقية متأصلة في الروح أو كامنة بداخلها، فهي دوما تبدو كهبة الخالق.
وبلفظ «الروح» كان أوغسطينوس يعني العنصر اللامادي الأسمى في الإنسان، والجزء الذي يمثل العقل فيه مجرد وظيفة. واعتبر أوغسطينوس ماهية «الروح» وكيفية خلق الرب لها شيئا يتجاوز المعرفة البشرية. وقد علق ذات مرة فيما يختص بتعميد المواليد (تعليق حرفي على سفر التكوين
De Genesi ad litteram ) أنه لقد كان من قبيل التبسيط لو استقت ذرية آدم الأرواح وكذلك الأجساد من أبيها الأول بالوراثة. لكن هذا المذهب (انتقال الروح بالوراثة) الذي يقضي بأن الأرواح تكتسب بالوراثة يحمل في طياته مضامين مادية أكثر على الأقل مما يشعر الأفلاطونيون بالانسجام معه. وربما كان من المفضل القول بأن الرب يخلق صراحة روحا لكل شخص أثناء خلقه (تجاهل أوغسطينوس الاعتراض على أن الخالق يجب ألا يتجشم عناء لا نهاية له باعتباره اعتراضا سخيفا) أو أن كل الأرواح، وهي وجهة النظر الأكثر أفلاطونية، موجودة في الرب من البداية، وهي إما ترسل وإما تختار أن تأتي وتستوطن الأجساد على الأرض. وكان الفلاسفة الأفلاطونيون الحداثيون مختلفين فيما بينهم حول الإجابة الصحيحة، ولم يقدم الإنجيل ما يسترشدون به. في ذهن أفلاطون، لم يكن بالإمكان استبعاد أي من تلك الخيارات نهائيا. ورفضه التصريح برأي محدد جلب عليه نقدا شديدا من بعض من شعروا أن هذه المسألة ببساطة لا يصح أن تترك معلقة في ظلمات الحيرة. لكن أوغسطينوس ظل على رأيه.
إن عدم الثقة بالنفس فيما يتعلق بقدرة العقول المحدودة على فهم اللامحدود والسرمدي أفضت به إلى استخدام لغة نسبية بقوة عن الرب الذي يتجاوز معرفتنا. وتعليقا على مقدمة إنجيل يوحنا، كتب أوغسطينوس: «لأن يوحنا أوحي إليه، كان قادرا على أن ينطق بشيء. ولو لم يوح إليه، لما كان لينبس ببنت شفة.» وحتى قبول الوحي الإلهي بوساطة من الإنجيل جعل القول بأن هذا الوحي ملائم للقدرة المتواضعة للمتلقي ومعبر عنه بالصور قولا غير مؤهل (الاعترافات، الكتاب الثالث عشر). في عبارة واحدة صريحة، أعلن أوغسطينوس أن هذا المبدأ لا بد أنه أقل من المقبول بالنسبة إلى الرب «إذا كان باستطاعتك فهمه» (العظات)، أو، وهو الأمر الذي ينطوي على مفارقة، «من الأفضل أن تجد الرب بألا تجده [أي بإدراك أنه يتجاوز قدرتك على الفهم والاستيعاب] عن أن يستقر رأيك على ألا تجده» (الاعترافات، الكتاب الأول). إن سببية النعمة دائما ما تتجاوز فهم البشر (حول الروح والحرف
De spiritu et littera ). ومع ذلك، فإن اللاأدرية المهولة لهذه المقولات لم تتراجع وتستحيل شكا، وكان أوغسطينوس يعلم أن هناك درجات لانعدام الكفاية.
واجه أوغسطينوس الأكاديميين المشككين في احتمالية اليقين كرجل كان في فترة من الفترات واحدا منهم. طاب لهم القول بأن المرء يستحيل أن يصل للحقيقة، بل جل ما يستطيع أن يبلغه محض احتمال أو تقريب؛ شيء أشبه بالحقيقة. وظن أوغسطينوس أنه إذا استطاع القول بأن ثمة مقترحا ما يشبه الحقيقة، فلا بد أن هناك حقيقة يحكم المرء بناء عليها أن ذلك المقترح يشبهها. ولقد أكد كثيرا على حجة غالبا ما كان يكررها، وأمست، في سياق آخر، ذات أهمية كبيرة لديكارت في القرن السابع عشر: «أنا أفكر، إذن أنا موجود؛ حتى وإن كنت مخطئا، فأنا موجود.» إن الشخص الذي يشكك يجب أن يكون على الأقل واثقا تمام الثقة بوجوده الشخصي ، وإلا لما كان في موقف يسمح له بالشك. ولذا، فإن تعليق الحكم ليس موقفا محكما أو عقلانيا.
قد نلاحظ بشكل عابر أن أوغسطينوس، على العكس من ديكارت، لم يحتج بأن اليقين موجود حصريا في الحالة الذاتية للعقل الشكاك؛ فهو لم يكن بحاجة، شأن ديكارت، لأن يجعل تفكيره الأساس الوحيد للمعرفة. لكن صحيح أنه اعتبر الحقائق المحضة للرياضيات مؤكدة عن أي إدراكات حسية للحواس الخمس.
أسهب أوغسطينوس في حجته بقدر أكبر - في اتجاه أفلاطوني - إذ ألمح إلى أن هناك قدرة لدى العقل لمعرفة الحقائق بطريقة أهم بمراحل من سيل الأحاسيس والإدراكات النابع من الجسد. ولذا، إذا كان شيء ما غير قابل للنقاش، فالواقع أن ثمة حقائق يمكن معرفتها. العقل يصبو للحقيقة، وما من أحد يتحمل أن يتعرض للخداع (الاعترافات، الكتاب العاشر؛ العظات؛ العقيدة المسيحية
De doctrina christiana ). وما من أحد يمكن أن ينعم بالسعادة إذا كان يرغب في الحقيقة بشدة لكنه لا يستطيع أن ينالها. لكن هذا الاقتراح الأخير عدله أوغسطينوس تحت ضغط اعتبار ديني؛ ففي الحقيقة الدينية، لا تمثل المعرفة ملكية ثابتة للعارف، لكنها علاقة لا تفتأ تتنامى بالرب. وكل شخص يسعى وراء الحقيقة سيجد لديه الرب إلى جواره يشد من أزره، وهذا بحد ذاته يكفي لنيل السعادة حتى من دون الفهم الكامل للحقيقة الجاري السعي وراءها (عن الحياة السعيدة). والاستمتاع بالرب «رضا لا يشبع منه الإنسان» (العظات). في عدد من النصوص، يبني أوغسطينوس سلما يرتقي عليه يشتمل على سبع درجات لتطور الروح في نضج الفهم (حول الدين الحق؛ كمية النفوس
De quantitate animae ؛ العقيدة المسيحية).
لم يظن أوغسطينوس أن هناك معرفة لا يلعب فيها العقل العارف دورا كبيرا. فمن ناحية، ما من شيء يعرف ما لم تكن هناك رغبة داخلية للعقل تنتقل به إلى الرغبة في الفهم. ولا يسعنا أن نحب ما لا يعرف عنه شيء. لكن هذه البديهية تفترض مسبقا أن المرء لديه بالفعل فكرة عن الموضوع الذي يثير فضوله. «من العناصر المهمة في عملية الكشف أن تطرح السؤال الصحيح وأن تكون على دراية بما تود أن تكتشفه » (مقدمة «أسئلة عن التوراة»
Quaestiones de Heptateucho ). ولقد استخدم لغة أفلاطونية تعبيرا عن العملية التعليمية؛ فهي استدعاء لقدرة - معرفة نوعا ما - موجودة بالفعل.
شارك أوغسطينوس أفلوطين في بغضه لفكرة أن الشيء المعروف متمايز بالكامل عن الذات العارفة وخارج عنها لدرجة أنه في فعل المعرفة لا يوجد عنصر شخصي مهم. يرتبط عنصر الوعي بالذات بمعرفتنا بالعالم الخارجي، والذات الشخصية لا يجوز استبعادها؛ فإذا كنت تعرف شيئا، فأنت تعرف أيضا أنك أنت الذي يعرف ذاك الشيء؛ ولذا، فإن فكرة أن الفهم يتطلب حبا كي يحقق غايته تمتزج من هذا الطريق مع علم اللاهوت. عبر أوغسطينوس عن هذه الفكرة على النحو التالي: كل البحث والتقصي في مسألة كيفية معرفتنا للرب تتلخص في السؤال التالي: «ما مفهومنا للحب؟» (الثالوث). إن حب الخالق كامن في عقل المخلوقات العاقلة وإرادتهم (الثالوث). «إننا نقترب إلى الرب لا بالمسير بل بالحب.» «ليست أقدامنا هي التي تقربنا إليه بل طبيعتنا الأخلاقية. ولا يتم تقييم الطبيعة الأخلاقية بما يعرفه الإنسان بل بما يحبه» (الرسائل).
وعلى ذلك، فالمسار السلبي الذي يحيط فكرة الرب بصفات سلبية حصرا ليس السبيل الوحيد. لا شك أننا نستطيع أن ننفي عن الرب ما ليس من ماهيته أكثر من قدرتنا على تحديد ماهيته (شروحات المزامير). لكن، على الأقل جهلنا جهل مطلع (الرسائل). ولغة المؤمن تتذبذب ما بين الثقة والاستحياء. هنا نسب أوغسطينوس مفارقة لنفسه عثر عليها في أعمال فرفوريوس. إن التدبر في الرب تجربة تتجاوز التفكير، «وهذه الأشياء بطريقة ما تعرف من طريق عدم المعرفة؛ لذا، وبهذا النوع من عدم المعرفة، يدرك غموضها» (مدينة الله؛ الاعترافات، الكتاب الثاني عشر).
ألف أوغسطينوس أطروحة «حول الدين الحق» لأجل رومانيانوس، صاحب العقارات الثري بمدينة طاغست الذي سبق أن كان مصدر التمويل الأساسي لتعليم أوغسطينوس، وهداه الأخير في شبابه إلى المانوية، وكان على أوغسطينوس أن يهديه مجددا ويعيده إلى الكاثوليكية. وكانت الأطروحة تتمتع بنبرة معادية للمانوية، لكنها كانت مميزة في المقام الأول لاحتوائها على أفكار أفلاطونية حديثة داخل إطار مسيحي وكاثوليكي بقوة. وكانت حجته تفرد الكنيسة الواحدة، «الكنيسة الكاثوليكية» تلك التي تقر وتعترف حتى الطوائف المنافسة بتفردها («سلهم أين الكنيسة الكاثوليكية في مدينة ما؟ حتى هم لن يتجرءوا على دعوتك إلى اجتماعاتهم السرية الخاصة»). وصكوك ملكية هذه الكنيسة الواحدة تكمن في تاريخ مقدس مسجل في الكتاب المقدس. ومذاهبها مثبتة بموجب اتساقها مع المنطق (أي مع الأفلاطونية).
إن الاتساق ما بين العقيدة والمنطق رآه أوغسطينوس في حقيقة أنه إذا استبعد الإقرار بالطقوس الشركية من الأفلاطونية، لكانت تلك الفلسفة قريبة جدا من المسيحية، لدرجة أنه «بتعديل بعض الكلمات والآراء، يمسي كثير من الأفلاطونيين مسيحيين» (حول الدين الحق). من الممكن دمج فكرة الأفلاطونيين الحداثيين عن هرمية الوجود ودفاعهم عن العناية الإلهية بشكل نظامي في الإطار المسيحي، وغاية التقليد الأفلاطوني هي نفسها التي أتاحها المسيح. ولذلك، يعرف محتوى الخلاص بالسعادة، والأمان الداخلي الذي يتأتى بينما تحيد الروح عن الكبر والشغف والكثير من الملهيات، وتسمو نحو الواحد، والعقل المحض وباتجاه الرب الذي نتلاقى معه في تواضع المسيح. لقد ظن أوغسطينوس أن المسيح قادر على أن يجلب الخلاص لأنه الرب والإنسان في شخص واحد. والرب-الإنسان هو السبيل والسلم الذي يمكننا بواسطته الرب من الارتقاء من المؤقت إلى السرمدي. وهو الدرب والغاية في الوقت نفسه، وهو سلم يعقوب. وبمعرفة ابن الإنسان في التاريخ، يجوز أن نفطن لحكمة الرب الخالدة (الثالوث). وهو نموذج وهبة، وهو قدوتنا وكفارتنا؛ وهو الوسيط الذي لم يكن لدى فرفوريوس حيز له، ولو أنه استضاف عددا كبيرا من الوسطاء الآخرين الأدنى منزلة والأقل شأنا. في البداية، يبدأ المؤمنون بنموذج المسيح الإنسان الذي كلمته بمنزلة «غذاء الروح»؛ لكن المسيح يرفع إلى مستواه الحقيقي كل من يطيعه ويضع ثقته فيه (الاعترافات، الكتاب السابع). يصف الكثير من نصوص أوغسطينوس بجرأة الخلاص ب «التأليه»، وهي كلمة مشتركة أكثر شيوعا لدى علماء اللاهوت اليونانيين من اللاهوتيين اللاتينيين القدماء. لكن اللغة غالبا ما تكون مقيدة: «فأن تكون الرب شيء وأن تشارك فيه شيء آخر» (مدينة الله). ولا يمكننا الجزم بأننا «في الحياة الأخرى سنتغير ونتحول إلى مادة الرب ونصبح مطابقين له، كما يزعم البعض» (حول الطبيعة والنعمة الإلهية
De natura et gratia ). والمقصود أننا «نتحد مع الرب بالحب» (حول أخلاق الكنيسة الكاثوليكية وأخلاق المانويين
De moribus ecclesiae catholicae et de moribus
Manichaeorum ).
لم يسع بعض معاصري أوغسطينوس ممن فقدوا كل إيمانهم بالأرباب القديمة وراء أي بديل لها بالتطلع إلى المسيحية. ووصفهم أوغسطينوس بأنهم ينكرون كل الأديان على اعتبار أنها مجرد خرافات آسرة، وأرادوا أن يشددوا على حرية الفرد وسيادته كربان لروحه في رحلته في بحر الإيمان. وكان تعليق أوغسطينوس (الذي كان قاسيا أكثر منه صحيحا) أن التأكيد على الاستقلال الرائع سيكون أكثر إبهارا لو لم ينته المطاف بالذين يزعمون أنهم تخلصوا من أصفاد كل الأديان إلى أن يجدوا أنفسهم في الأسر. وقد تتمثل عبوديتهم الأنانية في الإمتاع والراحة الجسديتين، أو الطموح المحض للسلطة والثروة، أو - في حالة النخبة المثقفة - السعي اللانهائي وراء تلك المعرفة الدنيوية التي لا تنعقد الآمال قط على أن تكون أكثر من مجرد كونها نسبية، والتي تميل إلى التذوق الفني. (أثرت الأفلاطونية أيضا التي لم تشجع أوغسطينوس كثيرا على الاهتمام بالعلوم الطبيعية فيه واصطدمت بفكرة أرسطو القائلة بأنه يجوز السعي وراء المعرفة لذاتها. لقد اعتبر أنه من البديهيات أن تكمن المهام الرئيسية للفلسفة في المنطق والأخلاق.) «يكون الإنسان أسيرا للشيء الذي يأمل أن يجلب له السعادة» (حول الدين الحق). والتوق لسعادة حقيقية هي النقطة التي يكتشف عندها الإنسان الرب بداخله (يلاحظ المرء هنا الامتزاج ما بين محاورة هورتنسيوس وفرفوريوس). «لا تخرج عن ذاتك»، ولو حتى بالنظر إلى العالم الخارجي بكماله الرياضي؛ ولكن عد إلى شخصيتك الخاصة. إن العقل مرآة تعكس الحقيقة المقدسة، لكنه متقلب؛ ولذا، «تجاوز ذاتك» واسع وراء أساس ثابت وسرمدي للوجود كله، وحينئذ ستكتشف أن «خدمة الرب هي الحرية المثالية» (حول الدين الحق).
ويتقاطع مع نزوع الأطروحة إلى ما هو عمومي في الطبيعة وفي المنطق فكرة مختلفة كليا؛ ألا وهي التأكيد على الغاية المقدسة في التاريخ. وتختزل هذه الفكرة في النقائض الإنجليزية بين الحنطة والزوان، والعجوز والشاب، والخارجي والباطني. هناك «نوعان من الناس». إن هذه الازدواجية تتناول الوجود الغامض، في مجتمع مغترب وعلماني، لأناس ربانيين مستترين. وبهذه الطريقة، أمسى التباين الأفلاطوني ما بين الحس والعقل مندمجا مع الفكرة الرئيسية المستخلصة في نهاية المطاف من سفر الرؤية الإنجيلي. وهذه الفقرة (حول الدين الحق) هي أول ذكر لفكرة سيشدد عليها أوغسطينوس إلى أقصى حد ممكن لاحقا. بعد عشر سنوات، أمسى نوعا الناس «حبين» ومدينتين، بابل والقدس. وبعدها بأكثر من عشرين عاما، أمسى مذهب المدينتين أساسا لواحدة من أعظم أعمال أوغسطينوس؛ ألا وهو «مدينة الله».
كان هناك خلاف بين الباحثين حول المصدر أو الحافز الذي جعل تلك الفكرة مهمة لأوغسطينوس. أكانت بقايا الازدواجية المانوية بصراعها الكوني ما بين النور والظلام وما بين الرب وأمير الظلام؟ ثمة بديل بدا أكثر معقولية بكثير لأغلب العلماء؛ ألا وهو الانطباع العميق الذي تركه على أوغسطينوس تايكونيوس اللاهوتي المحسوب على الدوناتيين الانشقاقيين الذين انشقوا عن زملائه إذ آمنوا بأن الكنيسة الحقة يجب أن تكون عالمية. ولقد قربته أفكاره جدا من الكاثوليكيين المكروهين لدرجة أنه حرم كنسيا. ولم ينضم إلى المجتمع الكاثوليكي لأسباب لا يمكن إلا أن نستنبطها؛ على سبيل المثال، أن التحول في الولاء الفردي يمكن أن يعوق التقارب المؤسسي. ألف تايكونيوس «كتاب القواعد» - لا يزال باقيا - لتفسير الكتاب المقدس، كما ألف مقالا يعلق فيه على رؤيا يوحنا تدلل الشذرات المتبقية منه على أن التباين ما بين مدينتي بابل والقدس كان مهما بالنسبة إليه.
لكن الاهتمام الكبير برؤيا يوحنا لم يكن قاصرا على المنشقين الدوناتيين، بل كان شائعا بين المسيحيين الأفارقة عموما.
الفصل الخامس
المشوار المهني
في المجتمع العلماني في طاغست، اكتشف أوغسطينوس أنه عاجز عن حل مشكلاته. وفي مرحلة ما، فكر جديا في الانسحاب إلى معتزل مهجور، لكن هذا لم يحدث قط؛ ففي أوائل عام 391، وخلال زيارة لميناء هيبو ريجيوس على بعد 45 ميلا من طاغست، رسم كاهنا بأبرشية كاثوليكية (وقتها كان أغلب المسيحيين في هيبو محسوبين على الطائفة الدوناتية). وانتهت جهوده التأملية على حين غرة، لكنه لم يستطع أن يرفض. جلس وإنجيله في يده ليجهز نفسه لنداء باطني شعر أنه غير مؤهل له من حيث المزاج والهوى والحالة الصحية. لقد أراد أن يكون ناسكا، لا قسا مدنيا منشغلا ومنزعجا بسبب أشخاص غير عقلانيين. سمح له القسيس العجوز الذي رسمه بحل وسط؛ ففي بستان إلى جوار كنيسة هيبو، بنى لنفسه ديرا. وهناك جاء نفر قليل من رجال الدين المسنين والمتقاعدين ليعيشوا معه، ولكن في الأساس تكون المجتمع من إخوان علمانيين قاموا بشئون البيت؛ إما بالاضطلاع بأعمال يدوية وإما بالعمل ككتبة لصالح التجار على الضفة. أنشد إخوان هيبو، الذين كانوا أقل ثقافة من الطائفة العلمانية في طاغست التي انحلت عراها فور رحيل أوغسطينوس؛ سفر المزامير والترانيم الإنجيلية (كانت الأناشيد المؤلفة من ألفاظ ليست من الكتاب المقدس لا يجاز استخدامها إلا فيما ندر في الطقوس الكاثوليكية في أفريقيا، فقد كانت عادة دوناتية). ورغم أن الأمر لم يكن يتطلب منهم أن يقطعوا على أنفسهم عهدا بالفاقة، فقد استسلموا جميعا للحاجة فور دخولهم البيت؛ فالفاقة بالنسبة إلى أغلبهم كانت تمثل أمنا اقتصاديا أعظم مما يمكن أن يحصلوا عليه خارج تلك الجدران. كان الخمر مسموحا به للمرضى، واللحم يقدم كلما جاء زائرون. وفور دخولهم كانوا يرتدون رسميا زيا رهبانيا كما هي العادة، ويعتمرون قبعة تجعل من الصعب تمييزهم في الشارع. وكان عليهم أن يعتادوا على رثاء الجماهير لحالهم؛ تلك الجماهير التي كانت عائدة من قاعدة الموسيقى أو من المسرح المدرج. أكد أوغسطينوس على جوهر المادة في ملاحظته أن حياتهم لا يمكن أن تكون ذات أهمية إلا في ضوء القيم الأخروية (العظات). «إن الذي لا يفكر في الحياة الآخرة، والذي يعتنق المسيحية لأي سبب آخر بخلاف الوعود المطلقة للرب ليس مسيحيا بعد» (العظات). وسرعان ما أقيم أيضا دير للراهبات أشرفت عليه أخت أوغسطينوس الأرملة.
اكتشف أوغسطينوس أن الناس جلبوا مشكلاتهم القديمة معهم متى التحقوا بالدير. وسرعان ما أثبتت التجربة أن الذين يعانون من نقائض في شخصياتهم، أو ضعف أمام الخمر ، أو ميل للبخل والجشع ، أو غير ذلك من الخصال السلبية؛ لم يتركوا تلك النقائص وراء ظهورهم فور امتهان مهنتهم المقدسة وإعلانهم عن اعتزام الزهد والتقشف. استدعى ذلك لدى أوغسطينوس الملاحظة المؤسفة أنه في كل مهنة وفي كل صنعة مخادعون (شروحات المزامير). كان ينوي أن يكون ديره معتركا لجنود المسيح المتمركزين في المقدمة، وكثير من رهبانه خرجوا بالفعل لخدمة الأساقفة. لكن دير هيبو كان أيضا مشفى لبعض الحالات غير السوية الصارخة ومصابي الحياة.
وضع أوغسطينوس قاعدة لديره (الرسائل) ما برحت باقية في نسختين مميزتين؛ الأولى نسخة مخصصة للأخوات في دير الراهبات، والثانية نسخة ذكورية لدير الرهبان. بداية من منتصف القرن الحادي عشر، استعين بالنسخة الثانية كأساس لطوائف أوستن أو الشرائع العادية، وهي الدرجة الكهنوتية التي ما زالت مستمرة إلى الآن. والقاعدة موجزة على نحو لافت، وكذلك جديرة بالذكر نظرا لخلوها من التشديد على الدافع التكفيري. وكان نموذجه ل «فقراء المسيح» يتمثل في الهدوء التأملي الممزوج بالتدبر وضبط النفس، ولكن دون كراهية النفس وكبت كل المشاعر الطبيعية، وبعيدا تماما عن المخاطرة بصحة البدن.
شكل 5-1: صورة جوية لأطلال كنيسة القديس أوغسطينوس بمدينة هيبو.
لم تكن قواعد الانضباط تفرض بشكل عارض. لقد سمعنا (مرة واحدة فقط) عن عقوبة جسمانية نزلت بواحد من الرهبان الشباب بعد أن ضبط وهو يتبادل أطراف الحديث مع الراهبات في «ساعة غير ملائمة». كانت رسالة أوغسطينوس أنه ما دام لا توجد لدينا مدينة باقية، فلنسافر بلا أمتعة. ورغم ذلك، فإن نموذجه، كممارسته الشخصية الخاصة (التي لدينا لها وصف من شاهد عيان، وهو كاتب سيرته الذاتية المعاصر له بوسيديوس، الذي عاش معه في هيبو قبل أن يمسي أسقفا للمدينة التالية كالاما)، يتسم ببصمة التقشف الشديد. كان طوال الوقت مشككا في الحواس باعتبارها عائقا أمام ارتقاء الروح إلى الرب، وظن أن المؤمن يجب أن يكون حذرا طوال الوقت من التراخي الغادر. وكثير من الفقرات في أعمال أوغسطينوس تحذر القراء من حقيقة أن الأثر المفسد والمدمر للعادة الأثيمة يبدأ ب «أشياء بسيطة». وفي «الاعترافات» (الكتاب التاسع)، أشار كذلك إلى الطريقة التي اكتسبت بها أمه مونيكا في شبابه عادة احتساء الخمر في قبو العائلة حتى كادت تمسي مدمنة. علاوة على ذلك، فإن إثما واحدا يمكن أن يفضي إلى غيره من الآثام. والمرء يكذب الكذبة الجسيمة ليغطي على هفوة بسيطة. والقاتل الذي يشهد جريمته شخص آخر سيتعين عليه أن يقتل الشاهد أيضا إن أراد ألا يفضح أمره (شروحات المزامير). وحبات الرمل الصغيرة يمكن أن يبلغ وزنها وزن الرصاص (العظات).
لقد انبثقت الحركة والمؤسسات التقشفية في القرن الرابع من واحدة من تلك الأشواق العميقة للطموح البشري التي يسهل وصفها أكثر بكثير من تفسيرها. والمبدأ التقشفي قديم قدم المسيحية (متى 19: 12؛ رسالة إلى أهل كورنثوس). علاوة على ذلك، تحدث فلاسفة جادون من العالم القديم بالإجماع عن الانغماس الذاتي في الشهوات باعتباره مصدرا للبؤس، وكان أبلغهم حديثا على الإطلاق الفيلسوف المتعي النظري أبيقور. وحض الرواقيون بشدة على الحاجة لكبت الانفعالات والرغبة في الثراء والمقامات الرفيعة وكل السلع الزائلة التي يمكن أن يستولي عليها الإنسان من مالكها. في التقليد الأفلاطوني، شجع التباين الشديد ما بين الروح والجسد باعتبارهما ينتميان إلى عالمين مختلفين أصلا على ازدراء الأشياء الدنيوية. كان الأفلاطونيون الجدد الوثنيون بالكاد أقل نزوعا إلى التقشف من معاصريهم المسيحيين، وكان لديهم رجال الدين خاصتهم، وهم أشخاص ملهمون يتمتعون بقوى التمييز الأخلاقي المدعومة ببساطة نظرتهم المقتصدة وبنبذهم منظومة الزواج.
بالمقارنة بأفلوطين وفرفوريوس، تكلم أوغسطينوس بإيجابية أكبر عن فضائل المهن العلمانية في العالم. وفي «أسئلة حول الأناجيل» قال إن المسيحيين يستطيعون القيام بأمور العالم العلماني «والحفاظ على عجلة التجارة العالمية دائرة بطرق يمكن تسخيرها لخدمة الرب.» ولقد أكد بقوة على أن المسيحي الذي سنحت له الفرصة لأن يصبح قاضيا كان عليه واجبا أن يفعل ذلك (مدينة الله).
ورغم ذلك، لم يخب عزمه التقشفي على الإطلاق. وكان الذين يصبحون رهبانا وراهبات ثم يتركون الدير طمعا في الحياة التي تنتظرهم خلف جدران الدير يمثلون خيبة أمل كبيرة بالنسبة إليه. وظن أن الرهبان الأسبقين مرشحون غير ملائمين بالمرة لجميع الدرجات الكهنوتية المقدسة. ثمة أرملة أقسمت أنها إن شفيت ابنتها من السقم الذي ألم بها، فسترتدي الفتاة الحجاب وتمسي راهبة. وعندما شفاها الرب، سألت الأم إن كان من الممكن أن تتحلل الفتاة من أي واجب، وإن كان العهد الذي أخذته على نفسها بالتزام الترمل يمكن أن يقبل بدلا من العهد الخاص بابنتها. وظن أوغسطينوس أنه يجب أن تبر بعهدها؛ أي إن واجب الأم أن تقنع ابنتها بأن تصبح راهبة؛ وذلك لأنه إذا لم تفعل الفتاة، ورغم أنها لن تقصي نفسها بذلك عن مملكة السماء، فإن ثوابها في الحياة الآخرة لا شك سينقص.
اعتبر أوغسطينوس أن توبة القلب جزء من النمط المنتظم للحياة الروحانية الأصيلة كلها. وينبغي أن يقبل المؤمنون الاقتصاد الشديد كشكل من أشكال الانضباط الذاتي (لم يتكلم أوغسطينوس عن مظاهر التقشف تلك على اعتبار أنها مفروضة من قبل رجال الدين). لقد كان التدخل من قبل السلطة ضروريا في حالة الآثام الجسيمة جدا كالزنا والقتل وتدنيس المقدسات. ومن بين تلك الآثام، كان الزنا المشكلة الأكثر شيوعا على الإطلاق في مجتمعه، وكان يقتضي حرمانا من القربان المقدس وأن يحتل المذنب مقعده في جزء خاص من مبنى الكنيسة مخصص للتائبين. وكان غفران الخطايا والتغاضي عنها هبة المسيح وحده، بحسب اعتقاد أوغسطينوس (الثالوث)؛ فالمسيح هو الذي أوكل إلى كنيسته سلطة المفاتيح التي بموجبها، شريطة الإيمان، يمكن أن يغفر للمؤمنين (العقيدة المسيحية). وكان التائبون يقبلون بهيبة في جمعة الآلام في حضرة المؤمنين المجتمعين، واستعدادا لقربان عيد الفصح. ويذكر أوغسطينوس الإرشاد الرعوي وجلسات التعنيف الخاصة للآثمين، لكنه لا يذكر أي نظام متواتر للاعتراف السري للكاهن والغفران الخاص الذي لم يكن ممارسة رعوية على أيامه. وجرى العرف على الترحيب بالآثمين المغفور لهم في القداس بالمسح على رءوسهم بأيدي القساوسة، وقد يكون صف التائبين في جمعة الآلام «طويلا جدا» (العظات). لكن هذه كانت حالات خاصة من الانتكاسات الخطيرة.
أعلن أوغسطينوس ذات مرة (مدينة الله) أنه حتى أفضل المؤمنين وأكثرهم قداسة يعرف أنه في هذه الحياة «قوام استقامتنا يتمثل في غفران الخطايا أكثر منه في كمال الفضائل.» والمؤمن المعمد منصف وآثم في الوقت نفسه (شروحات المزامير؛ الرسائل). بالنسبة إلى أوغسطينوس، عزز اعتراف المؤمن بحاجته المستمرة للغفران والعفو إحساسه القوي بعدمية المخلوق أمام سمو الله. وهنا استخدام أسلوب يتفوق على أسلوب الراهب مارتن لوثر.
يتسق مع هذا النموذج الروحاني توقه التقشفي لتطهير الكنيسة التجريبية من تنازلاتها للعالم. من بين أكثر ما نطق به أوغسطينوس تحذيرا في عظاته ورسائله ما وجهه إلى رجال الدين الجانحين أو الضعفاء الذين تلاعبوا بحسابات خزانة الكنيسة، أو الذين وجدوا أن واجب ضيافتهم يكشف فيهم عن ضعف مهلك أمام الخمر، أو الذين يعانقون النساء البائسات روحانيا عناقا مواسيا ولم تتوقف علاقتهم بهن عند هذا الحد. لقد تسبب له واجب التعنيف والتقريع في الكثير من الألم والإنهاك الداخليين. لكنه كان على يقين من أن الذين ينهالون بالثناء على أسقف ما لأنه يتساهل معهم يمكن أن يكونوا خبثاء (شروحات المزامير). فاتفاق الآخرين على سعة أفقك كان دليلا دامغا على خيانة رسالتك. تكلم أوغسطينوس بنبرة مترددة عن العلمانية داخل مجتمع الكنيسة؛ فمن ناحية، أقر عن طيب خاطر بأنه ما من مؤمن ينال الكمال في هذه الحياة الدنيا، وأن كثيرا من الناس يحيق بهم الضعف والإخفاقات؛ ومن ناحية أخرى، عندما تكلم عن «المسيحيين اسما» الذين ربما عمدوا لكنهم لم يفتحوا الباب لمنة الله ونعمته في حياتهم، قال أوغسطينوس إنهم ليسوا مؤمنين بحق، ولا ينبغي أن يعتبروا ضمن نخبة الرب وصفوته. وبالمثل، اشتمل منصب الأسقف على رجال دنيويين ومتوسطي الأداء، ولديهم طموحات لمكانة دنيوية وشرف زائل، لكنهم يشبهون عشب الزوان الذي يترك لحين حصاده، وحينها يحرق باعتباره عشبا مؤذيا وغير ذي قيمة.
وإذ كرس أوغسطينوس نفسه بلا قيد ولا شرط لحياة التقشف، فقد اشتاق إلى نشر تلك الحياة في شتى أرجاء الكنائس الأفريقية. لقد أراد ألا يعيش رجال الدين بالمدينة مع عائلاتهم، بل معا في بيت للعبادة. وبطبيعة الحال، لم يتوقع أن يتحول كل المسيحيين إلى رهبان. لكنه لا شك طلب إلى مسيحيين «عاديين» أن يحيوا حياة منضبطة انضباطا شديدا شيمتها الزهد الشديد. لقد ترك المسيح تعاليم ووصايا ضرورية لكل التابعين، لكنها أيضا كانت موجودة في «مشورات» الأناجيل أو توصياتها التي أعطيت للذين ينشدون الكمال ويطمحون لأشياء أسمى. كان المبشرون في الكنائس الأفريقية، وربما في أماكن أخرى، متقشفين عزابا يعيشون في أبسط ظروف حياتية على الإطلاق. وفي عبارة مذهلة، يتكلم أوغسطينوس عنهم واصفا إياهم ب «نيران القداسة والمجد» (الاعترافات، الكتاب الثالث عشر). لكنه كان معارضا بشدة لنزعة معاصرة لدى الراهبين تميل بهم للظن بأن لديهم نداء باطنيا آخر منفصلا تماما بخلاف الكنيسة ككل، وكأنهم يلبون نداء ليخرجوا من الكنيسة لا من العالم الدنيوي. ولقد شعر بقوة أنهم لا ينبغي قط أن يرفضوا دعوة خدمة الأساقفة أو قساوسة الأبرشية حيثما كان هذا هو الدور الذي تريد الكنيسة أن يلعبوه. وكان للراهبات دور اجتماعي خاص فيما يختص برعاية المرضى وإنقاذ اللقطاء. في القدم، كان التخلي عن الأطفال مصيرا شائعا تتعرض له الصغيرات الرضع تحديدا. لكن، كان هناك أيضا الكثير من العائلات الفقيرة فقرا مدقعا، التي كان بالنسبة إليها ميلاد أي طفل آخر بعد الطفلين أو الثلاثة الأوائل بمنزلة كارثة اقتصادية، ولم يكونوا على يقين من قدرتهم على بيع الأطفال الذين يعجزون عن إطعامهم لتجار الرقيق. كان الأساقفة يتعهدون اللقطاء والأيتام بالرعاية، وكانت خزانة الكنيسة خدمة الرعاية الوحيدة المتاحة لهم، رغم أنها لم تكن كافية، فكانت بذلك مصدر أرق دائم لأوغسطينوس، لكنها أفضل من لا شيء على أقل تقدير. وكان لأخواته دور عملي حيوي يلعبنه.
وتدلل على التوقعات المتنامية خلال النصف الثاني من القرن الرابع بأن رجال الدين لن يتزوجوا أو على الأقل لن يسكنوا مع زوجاتهم؛ نصوص عديدة في كتابات أوغسطينوس. كانت الغاية تقشفية في الأساس، لكنها كانت نوعا ما مرتبطة بالسلطة العليا التي ارتبطت في القدم بمثل هذا النوع من نكران الذات.
لقد جعلت حداثة المجتمع الرهباني كمكون مؤسسي في المنظومة الكاثوليكية الأفريقية والخوف من ماضي أوغسطينوس كثيرين يشكون في أنه يروج لمانوية مستترة، وهو الاتهام الذي واجهه أوغسطينوس طوال حياته في عدة أشكال. خلال السنوات الخمس أو ربما الست التي عمل فيها كاهنا في هيبو، كانت أعماله الأدبية الأساسية مكرسة للجدل المعارض للمانوية. فقد انطلق يدافع أولا عن سلطة سفر التكوين، ومن بعده بادر بالذب عن سلطة الكنيسة.
أثار المانويون أيضا أسئلة أخلاقية حساسة، فقد اشتكوا من مبدأ تعدد الزوجات والأخلاق الانتقامية للبطاركة الإسرائيليين. وردا عليهم، سلم أوغسطينوس بأنه في أزمنة وأمكنة مختلفة يمكن أن يختلف معيار ما هو ملائم أخلاقيا. والمبادئ الأخلاقية لا يجب أن تكون بضرورة الحال مطلقة كما يفترض الناس. كانت القاعدة الذهبية (لا تعامل الآخرين بما تكره أن يعاملك الآخرون به) هي القاعدة المطلقة، وتطبيقها في ظروف مختلفة قد يؤدي إلى إجابات متباينة. علاوة على ذلك، فإن ما يضفي قيمة على الفعل الأخلاقي هو الدافع المستند إليه، والتبعات الأخلاقية للفعل. إن الفعل باعتباره حدثا خارجيا وصريحا قد يكون محايدا بحد ذاته؛ فالجماع فعل رائع وصحيح، بل وواجب إيجابي حقا في سياق معين، بينما نراه خطية في سياق آخر. ومع ذلك، سلم أوغسطينوس بأنه يمكن أن يتخيل ظروفا استثنائية ونادرة جدا قد تغالي فيها كذلك زوجة شبيهة بشخصية فيديليو في أوبرا بتهوفن، بدافع إنقاذ زوجها الحبيب من الموت، فتضاجع الشخص الذي يضطهد زوجها، فتكون بذلك أقدمت على فعل ينم عن الإخلاص له، وتعاملت معه كوسيلة لإطلاق سراحه. كان القانون الروماني والرأي العام والإنجيل كلهم ضد فكرة ارتداء الرجال لملابس نسائية، ولكن لم يكن أحد ليعترض على ارتدائها على سبيل التخفي للمرور من خطوط العدو، أو لمجرد أن الأحوال المناخية أمست فجأة باردة برودة لاذعة وما من ألبسة أخرى متاحة. يرتبط هذا الموقف بالحكم على صحة الأشياء. وبطبيعة الحال، لم يفترض أوغسطينوس أن المرء يستطيع أن يضع قانونا أخلاقيا عمليا على أساس استثنائي وغير تقليدي.
لقد بدا له أن التمايز ما بين الوسائل والغايات ذو أهمية أساسية؛ فالظلم ينشأ ما إن تعامل الوسائل على أنها غايات، والعكس صحيح (ردا على فاوست). واستطاع أن يطبق هذا التمايز على مفهومه للزمان والتاريخ كسلم ينبغي أن نسعى به إلى الارتقاء للخلود. والسعي وراء الخيرات الزائلة وتجاهل الخير السرمدي، بل والأدهى حتى معاملة الخير السرمدي كأداة لنيل الغاية الدنيوية، فعل غير أخلاقي. وحتى رفقاء الإنسان قد يصبحون مجرد أدوات لتطويره لذاته إذا لم يحترموا على اعتبار أنهم يستحقون «الحب في الله». وغاية الإنسان المطلقة التمتع بالرب للأبد؛ ومن ثم، ترجم أوغسطينوس التمايز ما بين الغايات والوسائل إلى «متعة ومنفعة».
في أخلاقيات أوغسطينوس وعلم النفس لديه كانت الإرادة مفهوما وفكرة محورية. ومن الصعب تعليل عملياتها حقا. ولكن من دون قرار الإرادة أو موافقتها على توجيه الانتباه لمادة بعينها، لا يستطيع المرء أن يدرك شيئا بفهم واستيعاب ولا يحصل أي معرفة علمية ولا يصل إلى مرتبة الإيمان. تكمن الإرادة في جوهر شخصية الفرد. وتتوجه إلى ما تحبه أيا كان. والحب أشبه بقوة جذب تجذب الروح إلى المكان الذي تجنح إليه أيا كان (الاعترافات، الكتاب الثالث عشر). والحب في ماهيته، بحث واستمتاع (العظات). ولذلك، يتعلق السؤال الأخلاقي الموجه للبشرية بموضوع حبنا، أو، بتعبير آخر، الأشياء ذات الأهمية القصوى سواء بالنسبة إلى الفرد أو بالنسبة إلى المجتمع. وتتعلق أغلب انتقادات أوغسطينوس الأخلاقية الموجهة ضد المجتمع الروماني وحكومته إما بالتشريعات الأكثر عنفا للقانون الجنائي وإما بالطريقة التي ينفق بها الناس أموالهم.
وهنالك تتكشف القيم الأخلاقية أو «موضوعات حب» مجتمع ما أمام الناظرين.
لقد رأى أفلوطين من قبل أوغسطينوس بالفعل علة شر واحدة في فساد الإرادة الرافضة للخيرات «الداخلية» (أي غير المادية) وتفضيل الخيرات الخارجية والدونية. بالنسبة إلى أوغسطينوس، تكمن معضلة الإنسان في أنه عندما يرى ما ينبغي عليه عمله، يجد أن إرادته أضعف من أن تحمله على تنفيذ ما عليه عمله. إن الإرادة حقا مهيأة لاتخاذ القرار، لكن الخيارات المفضلة تميل إلى كل ما هو مريح وممتع أيا كان؛ ومن هنا تنشأ مشكلة طبيعة الإنسان نفسها التي لا تكل ولا تمل في سعيها الدائم عن السعادة في أماكن يتعذر العثور عليها فيها، وهو يعلم أنه ليس سقيم القلب وحسب، بل هو السبب الفعلي في سقمه (الاعترافات، الكتاب العاشر).
الفصل السادس
الاعترافات
خشي أسقف هيبو العجوز، الذي رسم أوغسطينوس كاهنا، من أن تستقطب أي كنيسة أخرى الأخير ليكون أسقفها؛ ولذلك أقنع رئيس أساقفة نوميديا بأن يرسم أوغسطينوس مساعدا لأسقف هيبو. ولقد أحاط بتعيينه في هذا المنصب (غير التقليدي في الشريعة الكنسية) جدل كبير؛ فمزيج ماضي أوغسطينوس المانوي وبراعته الشديدة ساعد على الارتياب فيه؛ فهيبو ليست بالمدينة التي يطالع أهلها الكتب، ولم تكن نوميديا إقليما تتوقع أبرشياته أن يحتل مقعد الأسقف فيها عبقري (ذكر أوغسطينوس أن الأساقفة الأميين كانوا محط السخرية المفضل لأنصاف المتعلمين: «تلقين غير المتعلمين»). وأثار وجود أوغسطينوس المخاوف؛ فقد كان معروفا بهيبته في تفنيد خصومه في المناظرات العامة. ولم يؤمن البعض إيمانا لا يداخله شك بصدق هدايته في ميلانو.
خلال السنوات الثلاث الأولى له كأسقف، ألف أوغسطينوس تحفته الأدبية «الاعترافات» (وهي الكلمة التي تحمل في طياتها معنيين: الثناء والتوبة). والمؤلف شعري-نثري يقع في ثلاثة عشر كتابا على هيئة رسالة إلى الرب، ويعتبر تعديلا عميقا ل «مناجاة النفس» الأفلاطونية الحديثة التي انخرط فيها أوغسطينوس مع العقل في حوار. وبقدر ما كان يحوي هذا العمل في طياته غاية جدلية؛ فقد وجهه أوغسطينوس ضد المانويين. وهناك تلميحات سوداوية لنقاد متشددين للتفسير الإنجيلي لأوغسطينوس ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية، لكنه لم يحددهم قط. ولم يكن للدوناتيين الانشقاقيين سوى دور ثانوي جدا في المسرحية كلها.
كتب أوغسطينوس الكتب التسعة الأولى على هيئة سيرة ذاتية وصولا إلى الفترة التي ماتت فيها مونيكا. والكتاب التاسع تحديدا يتناولها ويتناول علاقته بها بقدر ما يتناول تطور عقله. ولا تصف الكتب الأربعة الأخيرة المخاوف الماضية، بل الحاضرة التي خطرت بباله كأسقف ومفسر للكتاب المقدس، وتتألف من تحليلات أفلاطونية حداثية للذاكرة والزمن والخلق، وأخيرا إنجاز عظيم ممثل في تفسير دقيق لسفر التكوين 1، فسر على أنه مجاز عن طبيعة الكنيسة والإنجيل والأسرار المقدسة. وتوضح الأقسام الذاتية الطابع أطروحة ذكرتها مجددا في قالب أكثر لاهوتية الكتب الأربعة الأخيرة؛ ألا وهي أن المخلوق العقلاني انصرف عن الرب بإهماله؛ حيث فضل الأشياء الخارجية ووهم أن السعادة تكمن في الإشباع الجسدي؛ ولذا فإن الروح تهبط إلى ما دون مستواها وتتفكك، كالابن الضال الذي انتهى به الأمر إلى أن يقتات على روث البهائم. لكن في أعمق هاوية للأنا («الذاكرة» هي الكلمة التي يستخدمها أوغسطينوس إشارة إلى أي شيء ليس ضمن قائمة أولويات الفكر)، تستبقي الروح اشتياقا لإعادة الاندماج والكمال. ويتحقق ذلك في حب الرب، ونموذج المسيح كوسيط ومعلن عن ذاك الحب. لقد خلقنا الرب لذاته، والقلب لا يهدأ أبدا حتى يجد راحته فيه.
تقص «الاعترافات» هداية أوغسطينوس إلى المسيحية، ويحكى المشهد الذي وقع في بستان ميلانو بتنوع غني من الأصداء الأدبية. وتثبت المقارنة النقدية بمحاورات كاسيكياكوم التي كتبت لاحقا أن استعادة الأحداث اللاحقة ل «الاعترافات» تطرح قصة موثوقة، رغم أنها مكسوة بكساء شبه شعري. ولأول وهلة نجد أن ثمة تباينا ما بين «الاعترافات» العاصفة الانفعالية والمناخ الاستفساري الهادئ لمحاورات كاسيكياكوم. ولقد لفت أوغسطينوس نفسه الانتباه أولا إلى الفارق في المزاج بين الاثنين، ملاحظا أنه وجد النبرة الحضرية لمحاورات كاسيكياكوم علمانية وأكاديمية في روحها بشكل مبالغ فيه. ومن العبث القول بأن نصوص كاسيكياكوم أكثر أفلاطونية من «الاعترافات»؛ حيث أثر أفلوطين وفرفوريوس لا يقل انتشارا وتفشيا بشكل واضح. لكن ثلاث عشرة سنة مرت، وأمسى الآن أوغسطينوس مسئولا عن نقل الكلمة والأسرار المقدسة إلى الناس. وتبين «الاعترافات» انشغالا أعمق بالقديس بولس.
بات أوغسطينوس مقتنعا بأن الصراع الأخلاقي الداخلي الوارد في رسالة أهل رومية السابعة لم يكن فحسب تصويرا مجسدا للإنسان الذي لم ينعم بعد بعفو الرب وآلائه، بل كان تصويرا ذاتيا لبولس بعقله المشتت الذي يشبه عقله بشكل استثنائي. لقد أمسى الإنسان، أعظم خلق الرب على الأرض، والمخلوق الذي وهبه الرب ذكاء وقدرات غير عادية للتآزر الاجتماعي؛ غير اجتماعي بفعل الفساد الداخلي (مدينة الله)، وانحراف الإرادة عن جادة الصواب والوقوع اللاحق في أسر عادة خبيثة. في كون يتسم بأسمى درجات النظام والجمال، تبدو الإنسانية وأنانيتها النغمة الشاذة. ويتجلى اعتلال القلب البشري في ذاك الجزء من الثانية من المتعة السرية الفاضحة عندما يعرف الإنسان بأزمة أخيه الإنسان، أو في الرغبة بإتيان شيء محرم لا لأنه ممتع في حد ذاته؛ بل لأنه محرم، وهي الحقيقة التي شدد عليها أوغسطينوس بقصة انحرافه عن جادة الصواب في مراهقته وسرقته للكمثرى، لا لأنه كان يعشقها؛ بل لأن التجربة بالنسبة إليه كانت مغامرة مخالفة للقانون، في إعادة تمثيل لحبة الفاكهة التي اقتطفها آدم وحواء. لقد اعتبر قصته قصة كل البشر.
شكل 6-1: القديس أوغسطينوس في «عالم التباين» من مخطوطة ترجع للقرن الخامس عشر بمكتبة لورينتيان، فلورنسا.
لأول وهلة يبدو هيكل «الاعترافات» محيرا. وبعد تسعة كتب من السيرة الذاتية تصل ذروتها في وصف حساس جدا لوفاة أمه وجنازتها، يربك هذا العمل القارئ غير الخبير؛ إذ يستطرد أوغسطينوس ليتكلم عن الذاكرة والزمن والخلق. وتحمل الكتب الأربعة الأخيرة في حقيقة الأمر مفتاح العمل بأكمله؛ فقد استوعب أوغسطينوس سيرته الذاتية كعالم صغير من عوالم قصة الخلق بأكملها، والسقوط في هوة الفوضى وعدمية الشكل، و«هداية» عالم المخلوقات إلى حب الرب بينما يعايش آلام الحنين إلى الوطن الموجعة. إن ما تصوره الكتب التسعة الأولى في استكشافه الشخصي لتجربة الابن الضال يكتسب بعدا كونيا في الأجزاء الختامية للعمل بأكمله. وترتبط أجزاء السيرة الذاتية كتمثيل عارض للتشرد الهائم لروح الإنسان في «عالم التباين» (وهي العبارة التي يستخدمها أفلاطون إشارة إلى عالم المادة المنفصل تماما عن العالم الرباني). والرحالة الشارد أشبه بمسافر أنهكه العطش في صحراء لا ماء فيها، أو عاشق يتوق لأن يرى محبوبته البعيدة (شروحات المزامير).
طوال حياته كان أوغسطينوس مهتما بشكل غريب بدراسة سلوك الرضع كمصدر خاص لفهم الطبيعة الإنسانية. وفي «الاعترافات»، انطلق أوغسطينوس يبين أن البشر لا يبدءون حياتهم ببراءة؛ حيث يقتفي أثر سحابة المجد التي تعتم بفعل بيئة الراشدين. فما من مخلوق أكثر أنانية، بحسب ظن أوغسطينوس، من الرضيع في مهده: «إذا كان الرضع لا يلحقون الأذى؛ فذلك لأنهم يفتقرون للقوة لا للإرادة» (الاعترافات، الكتاب الأول). ولفهم سلوك الراشدين وهم يتفاوضون بشأن معاملة تجارية صعبة، يحتاج المرء فقط إلى مراقبة الأطفال الصغار وهم يلعبون. وبعد ذلك يأتي بؤس المرحلة المدرسية؛ فاكتساب المهارات الذهنية عمل مجهد لا يقل بشاعة عن الأعمال الشاقة التي حكم على آدم أن يقوم بها بسبب سقوطه. ولاحظ أوغسطينوس أن كد المفكر أسوأ؛ وذلك لأن العامل اليدوي ينام قرير العين على الأقل.
والصداقة سلوان يمنحه الرب في عالم قاس (مدينة الله). كانت مونيكا بالنسبة إلى أوغسطينوس أسمى الأصدقاء؛ فقد أدرك أن حبها وطموحها وحبها للتملك كل ذلك اتسم بعنصر دنيوي. ورغم أنها كانت من مواطني صهيون، فإنها «كانت تعيش في ضواحي بابل». لكن اللغة السامية لمشاعر الامتنان تجاه أمه أحيانا ما تشبه اللغة التي يمكن أن يستخدمها إشارة إلى الكنيسة الأم. وتأتي ذروة «الاعترافات» في الكتاب التاسع حيث وصف أوغسطينوس تجربة صوفية عاشها مع مونيكا في أوستيا قرب نهاية أجلها؛ فقد تبادلا أطراف الحديث حول سرعة زوال كل الأشياء الدنيوية بجمالها ومجدها، على النقيض من الحكمة السرمدية للرب. للحظة شعرا وكأن حوارهما أغرقهما في عالم سرمدي. وقال أوغسطينوس صراحة إنه كان يستخدم لغة في كتابه لم تكن مستخدمة آنذاك. والفقرة غنية بالعبارات المستخلصة من أفلوطين، وتوضح كيف أتاح له الأفلاطونيون الجدد لغة يتحدث بها عن تجربته (الاعترافات، الكتاب التاسع).
شكل 6-2: القديسان أوغسطينوس ومونيكا عام 1854، بريشة آري شيفر.
يظهر بعض أكثر التحليلات عمقا في «الاعترافات» في معالجة الذاكرة في الكتاب العاشر. والنقاش في هذا الكتاب مستقل عن أرسطو وأفلوطين. تعتبر هوية النفس واستمراريتها متجذرة في الذاكرة، وهي مستوى من العقل يضفي وحدة على تعددية التجارب المنفصلة في مجرى الزمن. تستقر الذاكرة في مستوى أعمق من العلم والمشيئة، فهي «باطن العقل» (الاعترافات، الكتاب العاشر)، ومستودع محتمل وحسب في الوعي. ومن خلال بحث البشرية الشمولي عن السعادة، فإن الذاكرة هي أيضا الوسط الذي من خلاله يصبح المرء سريع الاستجابة لآلاء الرب ونعمائه (الاعترافات، الكتاب العاشر). لم يقل أوغسطينوس إن الإنسان الطبيعي بمعزل عن فضل الرب، لديه بالفعل الرب في اللاوعي، حتى عندما ينكره أو يتجاهله بالمستويات الواعية من شخصيته. وتذكر المرء الرب فعل إرادي وقرار بحد ذاته. وحب الرب «ليس بشعور غير محدد، بل هو يقين بالوعي» (الاعترافات، الكتاب العاشر).
ومع ذلك، لم يعتقد أن البشرية يمكن أن تعثر على الرب إلا في أعمق هاوية في «الذاكرة»؛ حيث يستدعى لذهن الشخص الذي لديه استعداد لتنظيم حياته على الطاعة (الاعترافات، الكتاب العاشر). يستدعي هذا التأمل واحدا من أشهر نصوص «الاعترافات»: «في نهاية المطاف، أمسيت أحبك، بجمالك القديم جدا، والمتجدد دوما في ذات الوقت.» ومن بعده يأتي التصريح: «إنك تأمر بالعفة، فهب ما تأمر به، ومر بما تريد.»
ويتابع الكتاب العاشر بيان إلى أي حد امتلك أوغسطينوس، الذي أمسى أسقفا، ضبط النفس في مواجهة المغريات التي تعرضها على عقله حواسه الخمس. وتشبه الفقرة بشدة نصا باقيا من نصوص فرفوريوس. في «الاعترافات» لا تكمن المشكلة فيما تدركه الحواس بقدر ما تكمن في موافقة العقل، «لقد أصبحت مشكلتي الخاصة» (الاعترافات، الكتاب العاشر). ويختتم الكتاب العاشر بالاعتراف باستسلام النفس لنعمة الله المتسامح، المرهون بسر القربان المقدس، وهي فكرة غير أفلاطونية بالمرة. لكن هذا يفضي بنا إلى استقصاء دقيق لطبيعة الزمن.
كان الزمن موضوعا أساسيا على أجندة عمل الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد، ويرجع ذلك نوعا ما إلى ملاحظات أفلاطون في محاورة طيماوس عن الخلود؛ نظرا للمفارقات في الكتاب الرابع لعمل أرسطو «الفيزياء»، الذي أثبت فيه أن الزمن غير حقيقي. لقد ورث أرسطو وعيا قويا بتعقيد المسألة. وقال أوغسطينوس: «أعرف ماهية الزمن إلى أن يسألني أحد عنه» (الاعترافات، الكتاب الحادي عشر). وكان هذا رأي أفلوطين إلى حد كبير، ولو أنه ليس بالحدة نفسها. خالف أوغسطينوس أفلوطين في أنه يؤمن بأن النفس سرمدية؛ فالروح تخلق من العدم. وهي تشارك من البداية في عملية التعاقب. ولكن حينئذ تثار مسألة إن كان الخلاص يمكن أن يكون نجاة خارج إطار الزمن. وهو سؤال شائك جدا لعالم لاهوت مسيحي يؤمن بأن الرب الذي يعتبر ثابتا صمدا ومتجاوزا للزمان والمكان تصرف في الوقت المناسب من أجل إنقاذ البشرية. من الواضح أن أوغسطينوس كان على دراية بمفارقات أرسطو، ولا سيما حجته بأن الماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يوجد بعد، بينما الحاضر لحظة تخلو من هذا التمدد الزمني الذي يبدو أن مفهومنا للزمن يكتسبه.
تكلم أفلاطون عن الماضي والحاضر والمستقبل كأشكال للزمن تسعى لمحاكاة تزامن الخلود. وتكلم أغلب الأفلاطونيين عن الزمن محددا بحركات الأجرام السماوية. وعرف أفلوطين الزمن تعريفا نفسانيا باعتباره تجربة الروح في حركتها من حالة حياة إلى حالة حياة أخرى.
كان أوغسطينوس بالطبع على دراية بأننا عادة ما نقدر الزمن بالشمس والقمر؛ «فالعام 365 يوما وربع اليوم، وربع اليوم يتطلب يوما كبيسا يضاف كل أربع سنوات» (تعليق حرفي على سفر التكوين). لكن في «الاعترافات»، نجد أن تحليل الزمن وارد في سياق الصوفية باعتباره وعيا سرمديا بما هو أبدي؛ وعليه فإنه لم يرد أن يعرف الزمن بلغة الفلك، ولا باعتباره حركة لأي شيء مادي. إن التعاقب والتعدد هما ببساطة تجربة الروح في تدفق التاريخ. ولأن التعدد علامة على الدونية في البناء الأفلاطوني، فإن سرعة زوال حالتنا وفنائها لا بد أن يكونا مؤلمين نوعا ما. يفترض الزمن التغير (الاعترافات، الكتاب الحادي عشر)، «والتغير نوع من الموت» (معاهدة إنجيل يوحنا). لكن الزمن بطبيعته بعد من أبعاد العقل، وحالة نفسانية ترتبط بكون المرء مخلوقا. في الواقع، حتى الملائكة - وهم خلق أيضا - يستقرون في مكان ما وسيط، ما بين الزمن والأبدية. لكننا يجب أن نقول إن الرب صمد ومن ثم فهو سرمدي. وهو عليم بالماضي والمستقبل، ولكن ليس كعلمنا نحن يدور في مدار تجربة نفسانية من التتابع؛ ولذا، من الخطأ أن نطلق على المعرفة الإلهية المعرفة المسبقة؛ فالرب يحيط علما بالماضي والمستقبل، ولكن ليس كعلمنا الذي يتشكل استنادا إلى سلسلة من الأحداث.
على هذا الأساس، واجه أوغسطينوس الأسئلة التالية: لماذا خلق الرب عندما خلق؟ ولم لم يخلق الخلق في وقت أسبق؟ وماذا كان يفعل قبل أن يتخذ قرار الخلق؟ كانت المسألة جادة. وأسف أوغسطينوس لعبثية الإجابة الطريفة التي مفادها أن الرب قبل الخلق كان منشغلا بإعداد الجحيم للمشككين. حسب أوغسطينوس أن الإجابة الصحيحة هي أنه يستحيل أن يكون هناك زمن قبل الخلق وأن الزمن والخلق وجدا في الوقت نفسه. (فجعل الخلق سابقا بعدد محدد من السنوات لا يغير من المسألة؛ والقول بأنه ربما وقع في فترة لا متناهية سابقة بمنزلة استخدام ألفاظ ملغزة وغامضة.)
هاجم المفكرون الوثنيون المسيحية لافتراضها أن الرب، سواء في الخلق أو في التجسد أو في إجابة دعاء المتوسلين إليه، قد يغير رأيه أو يقدم على فعل جديد. واعتبروا أنه من البديهي أن الدورة الأزلية للعملية الكونية وحدها، التي يستحيل أن تتطفل عليها أي تفصيلة دقيقة، يمكن التوفيق بينها وبين عقلانية الرب. في رأي أوغسطينوس، هذا الوضع يحبس العالم في نظام محدود ونهائي. لم يكن في الكون الوثني مجال للاتناهي، بل لكل ما هو محدود ونسبي فحسب. في الكتاب الثاني عشر من «مدينة الله»، شن أوغسطينوس هجوما شاملا على مذهب الدورة الكونية الأبدية؛ فلم يكن فيها مجال للإبداع والتفرد ولا للامحدودية النعمة الإلهية.
من ناحية أخرى، حذرت الكثير من عظات أوغسطينوس من أن الدعاء ليس وسيلة لإعلام الرب ولا للتزلف إليه لتغيير رأيه، بل هو وسيلة للتوفيق بين إرادتنا وإرادته؛ وذلك لأن إرادة الرب وغايته «سرمديتان». فلا يستطيع الرب وحده، بل ولا الإنسان أيضا، إحداث تغيير دون أن تتغير إرادته، ودون أن يبدو عليه أي تناقض على المدى البعيد فيما يختص بخططه الطويلة الأجل. علاوة على ذلك، كان أوغسطينوس على دراية عميقة بأخطار خيبة الأمل في صلاة التوسل. وفي مثل هذه التجارب، يتعين على المرء أن يتفكر في أننا عادة ما نحب الأشياء الخاطئة، وأنه لو أجيبت صلواتنا حينئذ، لكانت إجابتها تجليا لغضب الرب. وقد تكون إجابات بعض الدعوات الأنانية عقوبات من الرب (شروحات المزامير). كان يعرف تمام المعرفة خطورة التجسيد المبالغ فيه. وعن الوجود الثابت للرب في عالمه، كتب أوغسطينوس بثقة: «يستبقي الخالق النظام المخلوق من نقطة العلة المفصلية الأعمق والأسمى» (الثالوث). من بين الأشياء التي لم يرها الفلاسفة الوثنيون حقيقة أن الزمن والعملية التاريخية لهما نقاط تحول مهمة في الحكمة الخفية للرب (مدينة الله).
أدرك أوغسطينوس أن مشكلة علاقة الرب بعالمه تتحول إلى مسألة إن كان (أ) الخلق ينبع من خيرية الرب وحدها بفعل التدفق التلقائي كنشوء حتمي ومادي تقريبا، أم (ب) الخلق ينتج عن الإرادة القديرة للعلة الأولى المكتفية ذاتيا بالكامل التي لا تحتاج - بأي شكل من الأشكال - النظام المخلوق. يميل النموذج الأسبق إلى استخدام تشبيهات مادية كانتشار الضوء أو نمو النباتات. ويبدو النموذج الأخير أشبه بتمجيد للتعسف المستبد كسمة إلهية. هل نشأ الخلق بتدفق الخيرية الإلهية أم بقرار يتعذر تفسيره للإرادة الإلهية؟ لم يدخر أوغسطينوس جهدا ليتفادى معضلة الطبيعة أو الإرادة. وتحمس لمقترح وجده في أعمال أفلوطين مفاده أن مادة الرب وإرادته لا ينفصمان.
ماذا عن المعجزات إذن؟ اعتبر أوغسطينوس النظام كتجل سام للعناية الإلهية. لكن الخالق القدير بلا شك قد يكون لديه نظام وخطة لا يتضمنان فحسب البيئة الطبيعية، بل الحالة الخاصة لخلقه العقلاني الحر. ويمكن أن تقع أحداث غير عادية كجزء من الغاية الإلهية الممثلة في تقديم الموعظة والتلقين للبشر الخطائين؛ وهذا ما نسميه بالمعجزة. لكن المسيحي الروحاني لا يبحث عن المعجزات المادية؛ فما من معجزة أعظم من التحول الداخلي إلى التوبة والإيمان. طوال أغلب عصر ما بعد الرسل، ينبغي السعي وراء نظير معجزات العهد الجديد وأقمطة كنيسة وليدة (عن شمائل الخطايا وغفرانها
De peccatorum meritis ) في أسرار المعمودية والقربان المقدس (المعمودية
De baptismo ). في الكبر، عدل أوغسطينوس هذا الموقف. كانت العلاجات تتم عند مقامات بعض الشهداء الأفارقة. وقدر التكريس الشعبي الآثار القديمة (التي يبيعها النصابون)، والثرى الذي يؤتى به من الأرض المقدسة، والزيت المقدس من مقام القديس ستيفن عندما وصلت بعض العظام قارة أفريقيا. ومع ذلك، كلما كان المؤمن أكثر نضجا في إيمانه، قل بحثه عن عجائب مشهودة (عن شمائل الخطايا وغفرانها). لم يشجع أوغسطينوس رعيته على السعي وراء أقدار خاصة؛ فقد كانت الأسرار المقدسة كافية.
لم يعتبر أوغسطينوس أن دعاء التوسل أو المعجزة ينطويان على تغير في رأي الرب أو غايته، ولم ير أن طلب ضروريات الحياة من الرب - كالصحة البدنية وخصوبة الزوج أو الزوجة - أسمى أشكال الدعاء؛ لكنها لم تصنف كتوسلات غير جديرة، كالدعاء على قريب بالموت بحيث يرث الداعي عليه إرثه. تظل هذه الأدعية إقرارا بأن كل الخيرات هبة من الرب، وليست من آلهة وثنية دونية (شروحات المزامير). ولكن فيما خلا لحظات التشوف العاصف المفاجئة، كان الدعاء بحاجة إلى الهدوء والعزلة (حول المشكلات العديدة المتعلقة بسيمبليسيان
De diversis
quaestionibus ad Simplicianum ). ولم يتبع أوغسطينوس حجة فرفوريوس بأن دعاء التوسل ينطوي على الاستنباط (الأرسطي) بأن العناية الإلهية تظل أحداثا ومصادفات شرطية ليست قدرا محتوما. استنادا لفرضية أوغسطينوس، قدر الرب العلل والمعلولات، لكن الأدعية التي يسمعها الرب تعتبر ضمن العلل الثانوية التي يستخدمها الرب لينجز إرادته (حول الحكم).
الفصل السابع
الوحدة والانقسام
نثرت تبعات الاضطهاد العظيم تحت حكم ديوكلتيانوس (303 ميلاديا) بذور الانقسام بين الكنائس الأفريقية؛ فقد انقسمت حول المرحلة التي يستطيع المرء أو لا يستطيع الوصول فيها إلى تسوية مع السلطة العلمانية. كان المسيحيون الأفارقة يتبنون معتقدات تنبئية بقوة؛ فقد فسروا وحي القديس يوحنا بأن المسيح سيعود حرفيا إلى الأرض ويحكمها مع قديسيه لألف سنة، وهو المذهب الذي شاركه إياهم أوغسطينوس نفسه في بداية الأمر حتى أمسى يفسر الألفية تفسيرا رمزيا عن الفردوس. وعادة ما كانت المعتقدات التنبئية تصاحب وجهة نظر سلبية جدا تجاه الحكومة الإمبريالية باعتبارها عاملا من عوامل الفضيلة، وانتشرت الآراء التشاؤمية بسهولة بين صغار ملاك الأراضي والمزارعين المستأجرين في نوميديا. ومراسيم الإمبراطور الوثني التي تحرم على المسيحيين الاجتماع للعبادة وتطالبهم بتسليم الكتب والأوعية المقدسة دفعت المسيحيين المتحمسين لدراسة قصة بطولة المكابيين ومقاومتهم الشرسة لأنطيوخوس الرابع منذ أكثر من أربعة قرون. لكن كان هناك شقاق حاد بشأن الحكم الأخلاقي بين الصقور والحمائم؛ فالصقور المسيحيون رفضوا رفضا تاما التعاون مع السلطات العلمانية، ولم يرد حمائم المسيحية أي مواجهات ، بل سعوا لأن يحيوا حياة فضيلة وتواضع هادئة. وكان من بين الحمائم أسقف قرطاج ورئيس شمامسته الذي اعتبر المتعصبين مستفزين ولا يستحقون لقب شهيد أو «معترف» (وهو الاصطلاح المسيحي القديم للإنسان الذي يعترف بإيمانه أمام الحاكم ويعاني ويلات التعذيب والحبس، ولكنه لا يمنح هبة الشهادة السامية). وحتى قبل اندلاع حملة الاضطهاد، كان هناك خلاف حاد بين مسيحيي أفريقيا فيما يتعلق بإن كان من الجائز ارتكاب جرائم التخريب بحق المقامات الوثنية باعتبارها حصونا للفساد الشيطاني، أو إن كانت تلك الأفعال تؤجج فحسب مشاعر الغضب والسخط من الكنيسة بين العباد الوثنيين، وتفشل في توقير إخلاص النوايا الوثنية.
في عام 311، لقي أسقف قرطاجة مصرعه وسارع حزب الحمائم بالتصرف، فجمعوا ثلاثة أساقفة بحثا عن رئيس الشمامسة ليحل محله ويمسي خلفه. وشاع الاعتقاد بأن واسم الكهنة الرئيس كان واحدا من هؤلاء الثلاثة، وأنه سبق له منذ ثماني سنوات تسليم الكتب أو الأوعية المقدسة إلى سلطات المصادرة. واستعان الصقور برئيس أساقفة نوميديا الذي تمتع بتأييد قطاع كبير جدا من الأساقفة، ووسم أسقفا منافسا. وبعد بعض المفاوضات المؤرقة، لم تعترف كنائس شمال البحر المتوسط ولا الإمبراطور قسطنطين العظيم بالمرشح النوميدي. ومنذ ذلك الحين حتى الفتح الإسلامي لأفريقيا كانت توجد جماعتان متنافستان، لكل منهما أبرشيتها الخاصة بها، وكلتاهما تتلوان العقيدة نفسها، وكلتاهما لهما أشكال مقدسة مطابقة وهياكل شعائرية مماثلة. وأقيم في كل مدينة وقرية مذبح قبالة الآخر.
وتولى قيادة الحزب النوميدي دوناتس وهو أسقفهم في قرطاج. ورفض الدوناتيون المجتمع الكاثوليكي الذي كان في نوميديا أقلية سواء في المدينة أو في الريف، وازدروه باعتباره دمية في يد الحكومة العلمانية، وأداة لتحقيق غايات سياسية لوثها سجل طويل من الحلول الوسط فيما يتعلق بالأمور الدنيوية. ورفض الدوناتيون الإقرار بصحة الطقوس الكاثوليكية ونقائها أيا كان نوعها، وبذلك كان أوغسطينوس في أعينهم علمانيا منشقا ومهرطقا. وأمسى انعدام الثقة والضغائن بين الجماعتين أمرين راسخين. وحرم الجماعتان الزواج المختلط بينهما، وشرع كل منهما تشريعات كنسية مناهضة للجماعة المخالفة. وكان من الشائع جدا أن تنقسم العائلات وتنشق، وقد كان لأوغسطينوس نفسه ابن عم دوناتي.
آمن الدوناتيون بحماس شديد بأنهم وحدهم حماة القداسة الأصيلة والنقاء الطقسي لمعبد الرب الممثل في الكنيسة. وللدفاع عن رفضهم الإقرار بالأسرار المقدسة التي تقدم خارج حدود الكنيسة الطاهرة، استطاعوا الالتجاء، لسبب محدد، إلى كتابات أعظم الأبطال المسيحيين في أفريقيا الرومانية؛ القديس سيبريان أسقف قرطاج الذي استشهد عام 258. وبدت مزاعم الكنسية الكاثوليكية بأنها الملة الصحيحة للدوناتيين باطلة تماما بفعل تسامحهم مع خطيئة الردة الكارثية؛ فقد كان أسقف قرطاج الكاثوليكي، وكذلك حقا أسقف روما نفسه لو كان يدعم الكاثوليكيين الأفارقة (وهكذا كان الحال فعلا)، عميلين للمسيح الدجال يتقلدان مقعدا لا ينبغي أن يكون لهما في ملاذ الرب نفسه. وبلغ الأمر ببعض الدوناتيين أن قالوا كذلك إن القداس الكاثوليكي، بدلا من كونه ضربا من خدمة العشاء الرباني، احتفال فاسد يسن فيه تجديف لا اسم له. ولم يكن التجار الدوناتيون يتعاملون مع رجال الدين الكاثوليكيين ما استطاعوا.
رد الدوناتيون على الزعم الخطير بأن الرب لم يكن ليقصد أن تختزل كنيسته الكاثوليكية في منطقة صغيرة من الإمبراطورية بأن الخصوصية هي نفسها مبدأ التجسد، وأنه في الأمور الأخلاقية عامة تكون الأقليات على حق، بينما تكون الأغلبية الصامتة اسما آخر للمساومين الضعاف الشخصية، وأهم من ذلك كله أن قداسة الكنيسة مقدمة على وحدتها وتفردها وتعتبر أساسا لهما. واتفق الدوناتيون والكاثوليكيون معا على أن فلك نوح دل مسبقا على الافتداء عبر كنيسة المسيح الواحدة. ومنح هذا الرأي الدوناتيين الرضا بأن يظنوا أن الفلك كان يحوي فحسب ثمانية أشخاص.
عندما أصبح أوغسطينوس أسقفا، وجد الطائفتين مستسلمتين بخنوع لخمسة وثمانين عاما من العداء المتبادل وانعدام الثقة التام. واستمرت الأحقاد والضغائن من جانب الدوناتيين بأعمال العنف المخيفة التي مارسوها ضد البنايات الكاثوليكية ورجال الدين الكاثوليكيين. ووجد المتحمسون الذين سبق أن شنوا هجومهم على المقامات الوثنية هدفا جديدا ممثلا في الكاتدرائيات الكاثوليكية؛ حيث كانوا يهدمون المذبح الخشبي على رأس الأسقف الكاثوليكي المسكين إذا لم يكن حكيما بالقدر الكافي ولم يرحل عن المكان. ولم تكن قصيرة قائمة رجال الدين الكاثوليكيين الذين شوهت أجسادهم أو أصيبوا بالعمى إذ ألقي في أعينهم الجير والخل، أو لقوا حتفهم مباشرة. ولقد نجا أوغسطينوس نفسه ذات مرة من فخ دوناتي كان الغرض منه إسكاته إلى الأبد؛ وذلك لأن دليله سلك الطريق الخاطئ. وشجب الأساقفة الدوناتيون علنا أعمال العنف التي كان ينظمها أساسا رجال الدين الريفيون.
رأى أوغسطينوس أنه من الضروري إمداد المجتمع الكاثوليكي بترسانة فعالة من الحجج اللاهوتية. وحث الأساقفة الكاثوليكيين على عقد سلسلة من المجامع الكنسية يستطيعون فيها تشكيل جبهة موحدة وصياغة سياسية مشتركة. وكان رئيس أساقفة قرطاج، وهو رجل متواضع عول كثيرا على أوغسطينوس في كتابة عظاته، على أهبة الاستعداد أن يقود الركب إذا نصحه أوغسطينوس بذلك. واستقى أوغسطينوس حججه من النبوءات الإنجيلية الخاصة بتمديد حكم الرب على الأرض كلها، وليس في أفريقيا وحدها. علاوة على ذلك، لقنت أمثال المملكة (متى 13) أن حقل الرب بما فيه من حنطة وزوان يجب أن يترك حتى حصاد القيامة. ولذلك فما من فضيحة يمكن أن تمثل أساسا كافيا لإحداث شقاق ومغادرة الكنيسة. كان فلك نوح علامة على أنه لا غنى عن المكوث في الكنيسة إذا لم يرد المرء أن يلقى حتفه في الطوفان. بالنسبة إلى أوغسطينوس، رمز الأشخاص الثمانية على متن الفلك إلى الجوهر الداخلي للكنيسة للمؤمنين ذوي التوجه الذهني الروحاني، الذين اضطروا إلى تحمل عفن الصحبة الأقل عقلانية، لكنهم فضلوا ذلك كثيرا على الغرق. أما بالنسبة إلى زعم الدوناتيين بأن بقية العالم المسيحي أمسى متهما بالكفر بالمصاحبة (أو مع يعرف باسم مغالطة تحميل الوزر)؛ «فالعالم كله يحكم بذلك دون أدنى قلق»: من السهل أن نحكم على العالم (ردا على رسالة بارمينيان
Contra Epistulam
). وحقيقة الأمر أنه «من العلامات المميزة لجميع المهرطقين عجزهم عن رؤية ما هو جلي جلاء عظيما لغيرهم من الناس.»
ومن بين علامات المؤمن الحق، حدد أوغسطينوس أنه يجب أن يحب الكنيسة، بما لها وما عليها. ولم ينكر أنه إبان فترة الاضطهاد العظيم قدم بعض الأساقفة تنازلات غير لائقة للحكومة. ولقد أعجب هو أيضا بالمكابيين وحماسهم المتقد للرب. لكن الأخطاء التي وقع فيها أساقفة بعينهم لم تستطع أن تلوث مجتمعا أو تعاقب أسقفا. ولم تعول العناية الإلهية في فعاليتها على القداسة الشخصية لكاهن وحيد، بل على كونه يستجيب لأوامر الرب؛ وبذلك يثبت درايته بأن الكنيسة كلها تنفعل لأفعاله المقدسة؛ وذلك لأن كل فعل من أفعال الكنيسة كاثوليكي. والسر المقدس ينسب للمسيح، فهو ليس ملكية شخصية للكاهن، والخلاص دائما وأبدا من أفعال الرب لا الإنسان؛ ولذا، فإن سر التعميد المقدس الذي يمنحه القديس الأرثوذكسي، والمنشق في ذات الوقت، يجب ألا يتكرر بأي حال من الأحوال. لقد ختم التعميد الروح بختم حاسم مرة واحدة وإلى الأبد، بالضبط كما مات المسيح مرة واحدة وإلى الأبد ليخلص البشرية. وباعتراف الجميع، لا يمكن أن يكون التعميد الذي يمنح في ظل الانشقاق الديني وسيلة لنيل العناية الإلهية بالكامل حتى يتصالح المتلقي مع الكنيسة. وعلى المبادئ نفسها أنكر أوغسطينوس إنكارا محضا أنه من الممكن أن يكون هناك توريث للإثم حتى لو نبع سلسال من الترسيمات من أسقف متهم بخطيئة مهلكة.
لقد دفعت الأعمال الوحشية الدوناتية التي قام بها متعصبو نوميديا أخيرا الحكومة الإمبريالية إلى تبني سياسة إكراه أقوى ضد المنشقين. في بداية الأمر كان لدى أوغسطينوس أقوى التحفظات حيال نشر الحكومة قواتها، وشاركه شكوكه كثير من الأساقفة الكاثوليكيين في أفريقيا. ولم ينكر أوغسطينوس أن الإكراه على قمع أعمال العنف الإجرامية كان شرعيا، ولكن الضغط على الدوناتيين للانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية بالتهديد بفرض غرامات أو الحرمان من حق توريث الممتلكات بدا لأوغسطينوس غير ملائم بالمرة. وسينجم عن هذا الإجراء حالات هداية على سبيل النفاق والمداهنة أو زيادة مهولة في الأعمال الإرهابية التي يتعذر إيقافها أو حتى حالات انتحار بين الدوناتيين. وفي ظل الضغوط الحكومية الشديدة، جرت العادة على أن يلقي متعصبو نوميديا بأنفسهم من على المنحدرات الشاهقة، وزادت حالات انتحارهم من الكراهية التي تعاطى بها الدوناتيون مع المجتمع الكاثوليكي الذي حمل المسئولية كاملة.
كره أوغسطينوس العنف، وعنف بشدة رفاقه الكاثوليكيين الذين تكلموا بقسوة عن الدوناتيين (الرسائل). ولم ينسجم الجدل مع الإكراه. تضمنت نظرية أوغسطينوس اللاهوتية المبدأ القائل، والمفاجئ لكثير من معاصريه، بأن كل الأسرار المقدسة للدوناتيين، وفي ذلك الترسيم، كانت صحيحة. رأى أوغسطينوس أن ذلك سيزيل حاجزا أساسيا أمام لم الشمل المؤسسي، وربما في الوقت نفسه أيضا يحل مشكلة يعاني منها المجتمع الكاثوليكي الذي كان يعاني قصورا شديدا في عدد رجال الدين الذين يعملون في الأبرشيات. علاوة على ذلك، فقد كان من بين الدوناتيين كثير من المسيحيين المخلصين الأنقياء القلوب الذين شعر أوغسطينوس بأن الرب أوجد بينهم عددا ممن اصطفاهم. وسيثبتون أنهم حقا مصطفون إذا أخلصوا فعلا لكنيسة الرب الحقيقية.
لقد حققت سياسة الإكراه الحكومية نجاحا منقطع النظر عمليا، ولا سيما بين أصحاب الأملاك والتجار في المدن، وكان لذلك أثر أقل في بداية الأمر بين الفلاحين المتحدثين بلغة قرطاج. لكن كثيرا منهم لان بمرور الوقت، وحينئذ أوكل إلى أوغسطينوس مهمة البحث الشاقة عمن يجيدون لغة قرطاج للأسقفيات الريفية. كثير من العلمانيين في أفريقيا اعتبروا صراحة انتماءهم إلى ملة بعينها مسألة غير ذات أهمية بالمرة للخلاص. ومن بين الفلاحين، كان هناك مسيحيون ممن اعتنقوا المسيحية لغايات مادية على أهبة الاستعداد للانحياز إلى أي طائفة تلبي مصالحهم المادية أفضل من غيرها. لقد جعل بؤس الشقاق وعذابه كثيرين يرتدون إلى وثنيتهم القديمة. ولعب الإرهاب في نوميديا دورا كبيرا في الحفاظ على الولاء الدوناتي، وكان الذين يرتدون عن الدوناتية إلى الكاثوليكية عرضة للنهب والسرقة تحديدا.
شغلت عملية المصالحة قسما كبيرا جدا من وقت أوغسطينوس وجهده على مدار سنين طويلة. وعجل بلم الشمل مؤتمر ضخم عقد في قرطاج عام 411؛ حيث واجه أساقفة دوناتيون وكاثوليكيون بعضهم بعضا برئاسة مفوض إمبراطوري (كاثوليكي) وكل إليه التحكيم بين الأحزاب المتخاصمة. كان أوغسطينوس متحدثا رسميا أساسيا باسم القضية الكاثوليكية، وأقنع الأساقفة الكاثوليكيين بالبدء على الملأ في الإعلان عن أنه إذا قبل الدوناتيون بتناول العشاء الرباني معهم وقبلوا الوحدة، فسيدعون حينئذ أقرانهم من الدوناتيين للمشاركة في رعاية كل أبرشية. ولم يكلف العرض السخي شيئا . كانت الضغائن المتبادلة أعظم أثرا من العرض بحيث قضت على كل فرصة لقبوله.
كانت نية الحكومة إذ دعت إلى عقد ذاك المؤتمر، وقد أصدرت حكمها مسبقا لصالح الكاثوليكيين، تبرير سياسة لاحقة من الضغوط المستمرة على عموم الدوناتيين. هل يمكن تبرير الإكراه استنادا إلى أي أسباب بخلاف النجاح العملي؟ من سوء الطالع أن أوغسطينوس رأى كم كانت الضغوط الحكومية تحقق من نجاح؛ ففي مدينته هيبو، تحولت أقلية كاثوليكية إلى أغلبية. وقرر أن يطرح دفاعا نظريا من شأنه أن يتلاقى مع مخاوف الأساقفة الكاثوليكيين الذين شعروا بأنه ما من قوة أو ضغوط اجتماعية يجوز توظيفها للتأليف بين أي إنسان والكنيسة، وأن الكنيسة فيها ما يكفي من المنافقين المداهنين بالفعل من دون أن تدعو إلى أحضانها عددا كبيرا من الأنصار المكرهين وغير المخلصين صراحة. وسرعان ما اكتشف أوغسطينوس أنه من بين المهتدين الدوناتيين كان هناك قلة من الأتقياء الأفاضل الذين سعد بانضمامهم. لقد كانت عملية الهداية على أي حال مسألة طويلة تتطلب حياة كاملة، ولم تكن قط مسألة تتم بين ليلة وضحاها. وحتى الحاقدون والمستوحشون سيكتشفون بلا شك في نهاية المطاف أن الضغوط الساعية إلى لم شملهم بالكنيسة كانت لصالحهم ما دام أنها كانت لخلاصهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. أخبر الملك في قصة وليمة العرس الإنجيلية حاشيته أن يملئوا مائدته عن طريق إجبار الناس على الحضور. لكن المسيح طرد التجار من المعبد بسوط من حبال رفيعة. إن الإعتاق من العقاب ليس دوما بالفعل الذي يقوم به الآباء الحكماء والمحبون، والجراح لا يستطيع أن يعالج دون أن يلحق ألما، لكن غايته شفائية وإصلاحية.
لقد مكنت اقتباسات مختارة من كتابات أوغسطينوس المناوئة للدوناتيين بعض علماء الشرع الكنسي بالعصور الوسطى من أن يجعلوه يبدو وكأنه كان يبرر الإجراءات المتشددة التي اتخذت ضد المهرطقين في العصور الوسطى اللاحقة. كان أوغسطينوس سيصاب بالذعر بسبب حرق المهرطقين، وبسبب المعتقد الذي لم يشع وحسب بين البروتستانت في القرن السادس عشر والكاثوليكيين في العصور الوسطى، بل أيضا في عالم العصور الوسطى للأرثوذكسية البيزنطية، ذلك المعتقد الذي مفاده أن الأفكار الضلالية ذات طبيعة ماكرة وشيطانية جدا، لدرجة أن الطريقة الوحيدة المتاحة للحيلولة دونها تتمثل في استئصال مروجيها. في العصور الوسطى المتأخرة، بدأ الناس ينظرون للمهرطقين بالطريقة نفسها التي ينظر بها البعض في عصرنا هذا للخاطفين القاتلين أو تجار المخدرات القوية المفعول، الذين يصعب تقويضهم عمليا من دون قتلهم. ولقد استندوا إلى نصوص مختارة من أعمال أوغسطينوس لتبرير القسوة، وتجاهلوا المواطن العديدة التي عارض فيها كليا التعذيب والعقوبة القصوى أو أي أسلوب تأديبي يتجاوز ما قد ينتهجه أب محب بحق مع ابنه المذنب. وتحديدا بعد إبطال مرسوم نانت في فرنسا، التمس المعتذرون عن قمع المسيحيين الفرنسيين مساعدة أوغسطينوس. وعندما كتب «أحب وافعل ما تشاء» (في رسالة إلى يوحنا
In
epistulam Johannis ، وفي مواطن أخرى)، أثبت السياق أنه نظر إلى هذه المعادلة الساخرة على اعتبار أنها تقدم تبريرا لتأديب المذنب، وكذلك مبدأ لضبط النفس الشديد على غرار هذا التأديب.
احتج الدوناتيون على أن أفعال الحكومة الإمبراطورية ضدهم لم تبد دليلا على الحب، وأنه كان من الخطأ مبدئيا أن تستغل الكنيسة الكاثوليكية القوة التي يوفرها لها ذراعها العلماني، وأن الكيان الذي يلجأ إلى الاضطهاد بحكم الواقع يزعزع الثقة في ذاته من حيث قدرته على تمثيل كلمة المسيح. ولم يعتقد أوغسطينوس أن هذه الاحتجاجات منطقية بالكامل إذ جاءت على لسان طائفة مسئولة عن قائمة طويلة من أعمال العنف ضد الكاثوليكيين في أفريقيا. ولم يعتقد أيضا أن «التعنيف الأبوي» على المعارضة الإجرامية يرقى لمرتبة الاضطهاد.
بدا بديهيا لأوغسطينوس في نهاية المطاف أن الفعل الذي يحمل الإنسان على الانضمام إلى جماعة التوحيد، حتى لو كان ذاك الفعل مزعجا بعض الشيء، هو حب بحد ذاته. ولكن بالطبع الوسيلة المستخدمة لتحقيق تلك الغاية كان يجب أن تخضع لرقابة وثيقة، ولا يجب أن تتجاوز إلحاق إعاقات طفيفة بأصحاب الممتلكات أو - كما في حالة العمال الريفيين - الجلد الخفيف.
ثمة اختلاف جوهري بين أوغسطينوس والدوناتيين يكمن في مذهب كمال الكنيسة المجاهدة هنا على الأرض. اقتبس الدوناتيون قول القديس بولس أن الكنيسة «لا تشوبها شائبة أو عيب». ولقد سلموا بأنه، حتى بين أبناء طائفتهم، كان هناك أفراد ممن تلقوا الأسرار المقدسة واتضح أنهم ظلوا متمسكين بعناد بمعتقداتهم البالية كما في السابق. ولكن إخفاقات الأفراد ورجال الدين والعامة لم تكن مطلقا كتلويث الكنيسة. ولقد أكدوا أن الكنيسة هي جسد المسيح نفسه، وموطن القداسة، ومجتمع القديسين المضمون بموجب التعاقب الرسولي اليقيني لأساقفتهم.
كان التعاقب الرسولي مهما للكاثوليكيين الأفارقة أيضا؛ لأنه كان الشكل الخارجي الذي ساعد على صيانة تقليد التعليم الرسولي المقدس والأسرار المقدسة. لكنه لم يكن مشددا عليه إلا عندما كانوا يتحدثون عن التعاقب وصولا إلى القديس بطرس في السدة الرسولية التي تمتعوا فيها بالعشاء الرباني بينما لم يتمتع الدوناتيون به (منذ عام 313). ظن أوغسطينوس أن الدوناتيين لم يكن بوسعهم أن يزعموا أنهم يمثلون الكنيسة الكاثوليكية الحقيقية الوحيدة في الوقت الذي كانوا فيه غير متوافقين روحانيا «لا مع روما ولا مع القدس». ولم يعتقد أن بطرس شخصيا كان الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة، رغم أنه في نهاية حياته ذكر أن بعض المفسرين حملوا النص الوارد في القديس متى على هذا المعنى، وأجازوا أن هذا أمر محتمل جدا. فسر أوغسطينوس كلمة «الصخرة» عادة على أنها اعتراف القديس بطرس بالإيمان بالمسيح ابن الرب؛ ونحن «المسيحيون لا نؤمن ببطرس بل بالذي آمن به بطرس» (مدينة الله). يطرح أوغسطينوس القديس بطرس كثيرا كرمز لعمومية الكنيسة الواحدة ووحدتها. وعندما يتحدث عن «السدة الرسولية»، فهو عادة ما يستخدم صيغة الجمع (العقيدة المسيحية).
ومع ذلك، فشأنه شأن غيره من الأساقفة الأفارقة جميعا بالمجتمع الكاثوليكي، كان أوغسطينوس على دراية تامة بحقيقة أن علة الوجود الكاثوليكية في الأقاليم ذات الغالبية الدوناتية إلى حد كبير مثل إقليم نوميديا كانت تعتمد على الاتفاق مع روما. ولقد سلم أوغسطينوس بأن السدة الرسولية من الممكن أن تمارس سلطة إعفاء إذا كانت عملية القانون الكنسي المجمعي الصارمة تتسبب في إحراج شديد. وافترض أوغسطينوس أنه فيما يتعلق بشئون الكنيسة الأفريقية يمكن للأساقفة الأفارقة أن يصدروا حكما متعلقا بالمجمع الكنسي مستقلا؛ لكنهم كانوا يسعدون عندما تعزز السلطة الرومانية من حكمهم. وحيثما حدث ذلك، فلا شك أنه كان يحسم المسألة الجاري مناقشتها؛ قضي الأمر (العظات وفي مواضع أخرى). من ناحية أخرى، كره الأساقفة الأفارقة على استحياء لجوء رجال الدين المدربين في أفريقيا مباشرة إلى الكرسي البابوي، ولم يرق لهم مسألة عدم إحاطة الباباوات أنفسهم علما كاملا بالقضايا موضوع النقاش. في عام 418، وقعت حادثة سيئة السمعة لكاهن مقصر يدعى أبياريوس أوقفه أسقفه مؤقتا حيث لجأ للبابا (زوسيموس) ونال جلسة استماع سخية جدا، لدرجة أن الأساقفة الأفارقة استاءوا جدا من الاستهتار باستقلاليتهم، وطرحوا أسئلة سديدة حول القانون الكنسي الذي بموجبه زعم البابا لنفسه سلطة اتخاذ القرار. وأخيرا، سنوا هم أنفسهم قانونا رسميا «ينص على أنه ما من أحد يجرؤ على اللجوء إلى الكنيسة الرومانية.»
أسف أوغسطينوس أسفا شديدا على رعونة البابا فيما يتعلق بمسألة أبياريوس، واستعداد البابا نفسه للاستماع إلى المهرطقين؛ لكنه بذل قصارى جهده من أجل إخفاء هذه الأمور. كان على يقين من أنه ما من أسقف من أساقفة روما سيقع في خطأ إصدار حكم مناقض للعقل الجمعي لهيئة الأساقفة.
تكلم أوغسطينوس عن الكنيسة باعتبارها جسد المسيح بلغة غنائية، وكانت الكلمة والأسرار المقدسة التي أوكلت للكنيسة سبيل الخلاص وأدواته نفسها؛ ولذا، فالكنيسة هي الحمامة أو العروس المحبوبة لأنشودة الأناشيد، ومجتمع كل المؤمنين، والجسد الذي يمثل المسيح منه الرأس الذي لا ينفصل عنه قط، حتى إن «المسيح الكامل» هو الرب وكنيسته معا بشكل راسخ، والجسد الذي يمثل الروح القدس روحه. وكانت مرثا ومريم ترمزان إلى الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة (لوقا 10)، وهما رمزا النشط والمتأمل. ولكن في هذه الحياة، لا مفر من أن تشوب المجتمع الكاثوليكي التجريبي شائبة. والزلات والأخطاء كثيرة وجسيمة.
لم يشارك أوغسطينوس صديقه جيروم وجهة نظره المتشائمة التي ترى أن الكنيسة المعاصرة تنبأ بها الإسرائيليون في العهد القديم، وشجبها الرسل على اعتبار أنها ميالة ميلا فريدا للردة. وتصوره لرجال الدين المعاصرين له يثبت أن الكم والكيف كانا متدنيين، وأن الفضائح لم تكن أحداثا نادرة. كان يعرف أنه من بين عامة الناس بعض المعمدين ارتكبوا ذنوبا قاتلة، وبعدها قيل لهم إنه لا يجوز لهم حضور العشاء المقدس حتى يبرءوا منها. لكن الخطايا القاتلة تشمل مسائل جسيمة كالزنا أو السرقة. والخطايا البسيطة يبرأ منها المرء بصلاته اليومية للرب وبالزكاة.
بدت لغة الدوناتيين الخاصة برجال الكهنوت المرسومين الضمانة العليا لأسرارهم المقدسة بالنسبة إلى أوغسطينوس التي تحمله على الافتراض مسبقا بمفهوم كهنوتي أكثر من اللازم للكنيسة. كان لدى رجال الكهنوت خدمة ضرورية جدا عليهم أداؤها. وكان الترسيم تقديسا من الروح القدس. وكان من الواضح والجلي أن رئاسة العشاء الرباني يجب أن تمنح للمخول لهم بموجب الترسيم تولي هذا العمل. ولم يحلم أحد (إلا في الطوائف المهرطقة) برئاسة علمانية. لكن أوغسطينوس لم ينظر للكنيسة قط باعتبار أن قوامها رجال الدين. لقد كانت الكهانة مكانة ثانوية، ومجرد خدمة. واستمرارية الكنيسة على العقيدة الرسولية كانت لها في النظام الكهنوتي وسيلة وعلامة، ولكن عندما بحث أوغسطينوس، في تفنيده ل «الخطاب الأساسي» المزعوم لماني، عن تأصيل لحقيقة الإنجيل، تطلع إلى عقيدة الكنيسة الكاثوليكية: «لم أكن لأصدق الإنجيل لو لم تكن سلطة الكنيسة الكاثوليكية تلزمني بأن أفعل ذلك.» ولم يكن أوغسطينوس لينكر نقيض هذه العبارة.
لم يكن أوغسطينوس يظن أن الرب يخاطب الإنسان حصريا عبر العناية الإلهية وعبر الإنجيل والأسرار المقدسة، لكن هذه السبل كانت بالتأكيد الوسائط المحورية الطبيعية. إن كلمات البشر الواردة في الكتاب المقدس وماء التعميد وخبزه وخمره والقربان المقدس كلها عناصر دنيوية واهنة. لكن الرب يجعلها وسائله الخاصة، وهي تبث الحقيقة والعناية الإلهية في القلب المؤمن. ومن دون الإيمان، لا تجدي الأسرار المقدسة الروح نفعا. ومن هنا جاءت المقولة: «آمن وستكون قد أكلت» (معاهدة إنجيل يوحنا). والأسرار الكونية دلائل، أما «الكتاب المقدس فيتكلم عن الدلائل باعتبارها الواقع المشار إليه» (معاهدة إنجيل يوحنا). توظف لغة أوغسطينوس القربانية كلا من اللغة الرمزية المنسجمة مع الأفلاطوني الذي يميل للشعور بالحرج من ظاهرية العلامة المقدسة، واللغة الواقعية المميزة للإنجيل والمرتبطة ارتباطا وثيقا بالفكرة الأخروية الخاصة بتحقيق مملكة الرب هنا والآن؛ وعليه فإننا نجد تمايزا بين السر المقدس والواقع (لم يعن أوغسطينوس أي شيء مادي) ينقله هذا السر المقدس (معاهدة إنجيل يوحنا؛ مدينة الله). أدى به الجدال مع الدوناتيين إلى التشديد على التلقي الداخلي للروح، بينما منعه الجدل بينه وبين المانيين من افتراض أن عناصر العشاء القرباني أكثر دنيوية من أن يستخدمها الرب.
الفصل الثامن
الخلق والثالوث
قرابة الفترة التي أنهى فيها أوغسطينوس «الاعترافات»، كان ذهنه منصرفا بالفعل، خلال الفترات الفاصلة ما بين انشغاله بالشئون الدوناتية، إلى موضوعين آخرين شغلا لحظات فراغه المحدودة على مدار الخمسة عشر عاما التالية وما بعدها. كان الموضوع الأول تفسير الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين، والثاني مذهب التثليث. وكان الموضوعان مسألتين ينزع المفكرون الوثنيون كثيرا إلى السخرية منهما. بدا سفر التكوين الأول كرواية لخلق الرب للعالم أنه يوحي بأن الخلق حدث مرة واحدة وبشكل لحظي. واعتبر الفلاسفة (أو على الأقل بعضهم) أن الخلق عملية بذل فيها الفنان الإلهي قصارى جهده مستعينا بالمادة العديمة الشكل. وبدت قصة آدم وحواء والحية أسطورة ساذجة. وتقبل أغلب الأفلاطونيين لغة «الخلق» في الحديث عن علاقة الرب بالكون، واستخدم أفلاطون الكلمة نفسها في محاورة «طيماوس». لكنهم ظنوا أن هذه اللغة المجازية تعبر عن تعويل سرمدي؛ في الواقع الكون كان سرمديا، ولم يكن له بداية ولا نهاية.
ألف أوغسطينوس خمسة شروحات لسفر التكوين، من ذلك «الاعترافات 11-12» و«مدينة الله 11». وكان أول شرح له تعليقا مجازيا تفنيدا لنقد المانوية. لكن المجاز كان عرضة لتهمة كونه أداة سفسطائية لتفادي الصعوبات المحرجة. شرع أوغسطينوس في كتابة تعليق حرفي، لكنه لم يكمله قط. وقرابة عام 401، بدأ يخط تعليقا ضخما على المعنى الحرفي للكتاب الذي يصنف ضمن أعماله الرئيسية. وتنطلق الكتب الاثني عشر ل «شرح المعنى الحرفي للخروج» من الافتراض بأنه إن لم يكن هنا يعامل سفر الخروج 1-3 كاستعارة عن الكنيسة والأسرار المقدسة والخطيئة والنعمة الإلهية، فلم يكن له أن يعتبر افتتاحية سفر التكوين جزءا من «علم الخلق». كان الأمر محرجا إذ تكلم المسيحيون وكأن الإنجيل يقدم تفسيرا بديلا للعالم كمنافس لعالم علماء الفلك وغيرهم من علماء الطبيعة. ولقد جعلهم ذلك يظهرون بمظهر السذج وجعل عقيدتهم تبدو سخيفة، وطمس الأمور المهمة حقا التي لدى المسيحيين الكثير ليقولوه بشأنها.
تقبل جاليليو بصدر رحب تعليقات أوغسطينوس على هذه المسألة. ويشي تعليق الأخير باهتمام شديد بمسائل نصنفها نحن على أنها علمية، لكنه في الوقت نفسه يرفض أن يفرض قرارا على المسائل الغامضة فحسب استنادا إلى أن النص المقدس كان ينظر إليه البعض على اعتبار أنه كتيب للعلوم الطبيعية.
ولا يعني «الحرفي» بحسب فهم أوغسطينوس أن المؤلف المقدس كان يقص رواية واقعية. ومع ذلك، لم يعن سفر التكوين أن العالم خلق فعليا. إن وجود البشرية ووجود الكون يعولان على إرادة الرب وخيريته. ومن هذا المنطلق لمعنى كلمة «حرفي»، فهم أوغسطينوس سفر التكوين على اعتبار أنه يقص علينا الحال، لا على اعتبار أنه وسيلة معقدة لمناقشة سرمدية العالم والخلود الفطري للروح. ولم يفترض أن الكلام عن وجود الرب كعلة أولى طريقة للقول بأن الكون وجد في بداية فترة متناهية من الزمن. وبينما ظن أغلب الأفلاطونيين أن الخالق ينبغي أن يفهم قياسا على الفنان أو الحرفي الذي يبذل قصارى جهده في تطويع مادة الطين المستعصية، أكد علماء اللاهوت المسيحيين في القرن الثاني على أن الخالق أيضا صنع المادة والعالم «من عدم». وساعد تعليق فرفوريوس على محاورة «طيماوس» لأفلاطون في هذه الجزئية؛ فقد قال فرفوريوس في تعليقه إنه في حين أن المادة في ترتيب الخلق سابقة للشكل الذي منحها إياه الخالق، لم تكن هناك لحظة في مسار الزمن لم يكن لها شكل محدد. تبنى أوغسطينوس هذه اللغة وجعلها لغته الخاصة. وكما لاحظ فرفوريوس نفسه، لبت أكثر متطلبات التوحيد صرامة.
أوحت فكرة فعل الخلق اللحظي للفلاسفة بضرب من الحيل الخارقة للعادة. ورأى أوغسطينوس أن العالم خاض عملية تطور، فلم يخلق كل شيء في العالم الآن هكذا في البداية. وظن أن الرب خلق «مبادئ أصيلة» أو أسبابا علية لكل شيء وجد بعد ذلك، وهذه اللغة سمحت له بتصور أنواع جديدة تظهر لاحقا. ربما أتاحت له اللغة الأفلاطونية المستخدمة لوصف التطور النشوئي للرتب في هرمية الوجود هنا قائمة مفردات، وربما أيضا أثرت فيه لغة أفلوطين إذ تكلم عن «الانبثاق». من البديهيات الأفلاطونية أنه من المحتمل أن كل المعلولات متضمنة في عللها. ولم يعتقد أوغسطينوس أن المصادفة أو العشوائية لعبت دورا في النظام أو التصميم المذهل للعالم. «المصادفة» كلمة نستخدمها عندما يصادف أننا لا نعرف العلة (ردا على الأكاديميين). وما من شيء يحدث دون علة ما (مدينة الله). كان أوغسطينوس واثقا بعقلانية الكون؛ ولم تمثل بالنسبة إليه شذوذات واضحة سوى نزوات الاختيارات الحرة.
يشيع عن أوغسطينوس القدح في الإناث، ويمكن دعم هذا الاعتقاد باقتباسات انتقائية، لكن بعض الألفاظ التي جاءت على لسانه إيجابية جدا؛ فقد عارض أوغسطينوس البيان الحالي لكلمات القديس بولس (الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) التي بحسبها خلق الرب الذكر، لا الأنثى، على صورته. وآمن بأن الرجال والنساء يختلفون جسدا وليس روحا أو من حيث الملكات العقلية. من ناحية أخرى، اعتبر أنه من الواضح والثابت أن الوظيفة الأساسية للمرأة بيولوجية في المقام الأول؛ إذ «لو كان آدم بحاجة إلى رفيق بمعنى شريك في حوار ذكي بحق ورفقة طيبة، لمنحه الرب حقا رجلا آخر؛ وإذ منحه حواء فقد كانت نيته ضمان استمرار الجنس البشري» (تعليق حرفي على سفر التكوين). وافترض أوغسطينوس أن دور المرأة في مؤسسة الزواج أن تكون خادمة وداعمة، شأنها شأن مونيكا التي تحملت رفيقها الخائن المتقلب المزاج وهدأت من روعه. إن شركاء الحياة يجب أن «يسيروا جنبا إلى جنب» (حول الزواج الصالح
De bono conjugali )، وربما كان شاعرا بالأسى على العادة التي ما زالت متبعة في مناطق من عالمنا المعاصر؛ حيث يمشي الزوج في المقدمة وزوجته من خلفه تحمل الأطفال والأمتعة. ورغم أن الزوج والزوجة لم يكونا متكافئين في الحياة العامة، فقد كانا متساويين في الحقوق الزوجية (ردا على فاوست؛ أسئلة عن التوراة ).
ويبين عدد من مقولات أوغسطينوس الأمر الاعتيادي الذي مفاده أن التوجهات العامة عن النساء كثيرا ما تحددها التوجهات السائدة نحو الجنسانية. والرجل الذي دان بالولاء في فترة من الفترات بالمانويين الصوفيين وعاش في الوقت نفسه مع امرأة تلبي له احتياجاته الجنسية من المتوقع أن يكون متضارب الأقوال. لقد أجبره اعتناقه للمسيحية الكاثوليكية على أن يتبنى تقييما إيجابيا للجسد ربما تعارض مع حقيقة أن نبذ الجنس استقر في قلب قراره. ثمة عظة تعلن عن شرعية الاستمتاع بعجائب الطبيعة والموسيقى والأزهار والروائح وأطايب الطعام «والعناق بين الأزواج» (العظات). وفي «مدينة الله» سارع أوغسطينوس بإنكار فكرة تبناها البعض، مفادها أنه في الآخرة سيوحد البعث أجساد الرجال والنساء في أجساد ذكورية، وكأن الأنوثة كانت خطأ مؤسفا سقط فيه الخالق. ومن ناحية أخرى، هاب أوغسطينوس الجنسانية (وخاصة فيما يتعلق بذاته) انطلاقا من كونها تخرج عن السيطرة العقلانية للإنسان بسهولة. وحتى الأخوات اللائي كن يخدمن في دير هيبو حذرن من أن النساء يمكن أن يفقدن الرجال صوابهم بلا وعي ولا قصد منهن بنظرة واحدة فحسب (الرسائل).
لا يحوي مؤلف أوغسطينوس المعروف باسم «تعليق حرفي على سفر التكوين» الكثير من الفقرات الجدلية، لكن العمل يقدم العديد من النقاشات حول مشكلات تتعلق بفكرة الخلق وطبيعة الإنسان. والتوتر القائم ما بين الأفلاطونية والإنجيل واضح طوال الوقت في ذلك المؤلف، ومن الممكن قراءة التعليق على اعتبار أنه يميز وعيا أقوى بأن أوغسطينوس اضطر إلى أن يضع مسافة بينهما أكبر مما ظن ذات مرة إبان حياته في كاسيكياكوم. وكان فرفوريوس، الذي لم يذكر اسما في النص، رمزا أساسيا يستقر وراء كواليس التعليق. ولأن الكتاب يحوي القليل نسبيا من الجدل، فهو يتسم بطابعه التفسيري والمؤقت. عندما نظر أوغسطينوس في «المراجعات» التي كتبها في أواخر حياته على هذا العمل، شعر بأنه تنبئي ومؤقت بشكل مبالغ فيه بما يحول دون كونه كتابا مفيدا. ومن المستبعد جدا أن يوافقه القارئ الحديث هذا الحكم السلبي.
يبدو انشغال أوغسطينوس بالأفلاطونية أكثر جلاء حتى في العديد من المواطن بالكتب الخمسة عشر المعروفة باسم «الثالوث»، وهو العمل الذي انتهى منه أخيرا في الخامسة والستين من عمره. تتعاطى الكتب السبعة الأولى مع تقليد الكنيسة، بداية في الكتاب المقدس ومن ثم لدى المعلقين وعلماء اللاهوت الأرثوذكسيين. ولقد أبهره إلى حد كبير العمل الرئيسي المتقن الذي خطه القديس هيلاري أسقف بواتييه قبله بجيل كامل حول الموضوع نفسه. ومن بين المسائل المحورية التي تناولها هيلاري وأوغسطينوس مسألة تتعلق تحديدا بآريوس، قسيس بأبرشية بالإسكندرية في أوائل القرن الرابع. لقد أشعل آريوس جدلا واسعا بأطروحته التي مفادها أن مذهب الثالوث المقدس يمكن أن ينسجم مع التوحيد عن طريق الإقرار بالدونية الميتافيزيقية والأخلاقية للابن حيال الآب، أو بالإصرار عليها حقا. وشعر أوغسطينوس استنادا لسبب معين أن المناقشات المعارضة لآريوس التي خطها الكتاب الأرثوذكسيين، وفيهم أفاضل علماء اللاهوت اليونانيين بالقرن الرابع، كانت أقل فعالية وقوة من اللازم؛ فقد كانت هناك تنازلات مبدئية أكثر من اللازم لأسلوب آريوس في التفكير. تستكشف الكتب الثمانية الأخيرة إمكانية فهم «الثلاثة في واحد» بواسطة سلسلة من القياسات المستخلصة من علم النفس البشري؛ ولذا يناظر نصفا العمل أطروحته المضادة عن الإيمان والفهم.
لم يرفض التقليد الأرثوذكسي آريوس وحسب، بل رفض أيضا الفكرة المنافسة له والمرتبطة بمهرطق مغمور بالقرن الثالث يدعى سابيليوس، ومفادها أن الآب والابن والروح ما هي إلا صفات تعبر عن سمات للرب الواحد. وخلاصة القول، رفض هذا المذهب فكرة أن الآب والابن والروح مجرد صفات وحسب أو أسماء كاملة. بالنسبة إلى الباحثين الفلسفيين المتأملين غير المسيحيين بذلك العصر، جعلت هذه المسألة الأمر يبدو وكأن مذهب التثليث يتحدى الفهم العقلاني. صحيح أن «الرب» سر سام، لكن طريقة الحديث هذه بدت أشبه بصيغة غير مفهومة، وكاد يكون أقرب إلى تعويذة شعائرية لا ينفذ إليها المنطق. وعندما ذكرت هذه المسألة، سخر المفكرون الوثنيون منها.
أثبت أوغسطينوس بسهولة ويسر أن مفهوم كون الرب واحدا وثلاثة في آن واحد أبعد ما يكون تماما عن الرطانة المعقدة لدرجة أن التأمل البسيط في طبيعة الشخصية البشرية يقدم نموذجا فوريا. يشي الاستبطان بثلاثية الوجود والمعرفة والإرادة، وهذه العمليات الثلاث مرتبطة ارتباطا تداخليا بالتبادل وذات أهمية مكافئة. ببساطة هناك ثلاثيات أخرى؛ مثل: الذاكرة والذكاء والإرادة، أو العقل والمعرفة والحب، أو العاشق والمعشوق والحب الذي يربط بينهما. ولكن، لا تتيح أي من تلك الثلاثيات لأوغسطينوس سلما بسيطا يرتقي به إلى الرب الذي لا توجد صورته لدى الإنسان في الجسد، بل في العقل وفي الحرية والمنطق والوعي بالذات. لقد أجابت القياسات التمثيلية باكتساح عن أسئلة النقاد الذين ظنوا أن مفهوم «الثلاثة في واحد» هراء سخيف. لكن مرونتها وتعددية معناها أعظم من أن تسمحا لعقولنا بأن تنقل هذه المفاهيم إلى الرب. تم التوصل إلى أقرب قياس تمثيلي وأفضله في الكتاب الخامس عشر والأخير، وتحديدا في وحدة التفكير والكلام والإرادة وفي العلاقة الوثيقة بين المعرفة والحب.
لم يكن تعبير «القياس التمثيلي»، بالنسبة إلى أوغسطينوس ومعاصريه، يعني تماثلا غامضا، بل شيئا محددا ورياضيا. في موضع واحد أورد تحذيرات من أن الحديث عن القياس التمثيلي للرب يمكن أن يكون أدق من اللازم، فيمسي في نهاية المطاف تجسيدا له (العظات). لقد سلم بوحدة العقل وعملياته، ولم يتكلم عن العقل على اعتبار أنه يمتلك قدرات مستقلة أو أقساما غير تواصلية. ومع ذلك، تحت ضغوط بحثه عن «آثار» أو «بصمات» الثالوث المقدس في روح الإنسان، يمكن تفسير لغته أحيانا على أنها توحي بأجزاء شبه مستقلة للنفس. وشت هذه الحقيقة بصعوبته اللاهوتية؛ فهو لم يستطع أن يجد اصطلاحات لتفسير التمايز بين الآب والابن والروح القدس بوضوح وجلاء؛ ففي أعمالهم فيما يتعلق بالعالم نجدهم غير منفصلين. ومنذ ترتليان في نهاية القرن الثاني، تحدث علم اللاهوت اللاتيني عن «الشخوص الثلاثة في مادة واحدة» (ولم يحمل هذا الاصطلاح الأخير مدلولا ماديا بضرورة الحال)؛ فقد استخدم اصطلاح «الشخوص» لأول مرة لأن ترتليان عثر في العهد القديم، مثلا في المزمور الثاني، على فقرات فسرها على اعتبار أنها حوار بين شخوص مسرحية.
اعتبر أوغسطينوس كلمة «مادة» مقبولة بشروط كاصطلاح للوجود الميتافيزيقي السامي ، ما دامت لا تحمل في طياتها تلميحا بأن في الرب مادة وحوادث. لكن مسألة «الشخوص الثلاثة» أرقته كثيرا؛ فالرب متجاوز لأي عدد، ولا يمكن إحصاؤه. ربما يستطيع المرء أن يقول «ثلاثة» دون أن يجيب عن السؤال «ثلاثة ماذا؟» لطالما كانت فكرة «الشخوص الثلاثة» تقليدا مجتمعيا مقدسا في الكنيسة، وكان أوغسطينوس يحترم استخدامه في كل من الفلسفة وعلم اللاهوت.
شكل 8-1: لوحة فنية معاصرة للقديس أمبروسيوس، ميلانو، القرن الرابع.
وجد أوغسطينوس، مستعينا بلغة أرسطو، اصطلاحي الآب والابن كلمتين تعبران عن علاقة ما؛ وعليه اقترح أن الثالوث اصطلاح علائقي، لكنه غير مادي؛ فالآب هو الينبوع أو مبدأ الربوبية، والابن «مولود» (أي إن علاقته بالآب داخلية بالنسبة إلى الوحدة المقدسة وليس لها ما يشبهها من تعويل النظام المخلوق العارض). والروح القدس «تنبثق» منهما؛ والكلمة مستخلصة من إنجيل القديس يوحنا.
تناول علم اللاهوت اللاتيني للجيل السابق لأوغسطينوس (هيلاري أسقف بواتييه وأمبروسيوس أسقف ميلانو) بالفعل الروح القدس على اعتبار أنه ينبثق من الآب والابن. ثمة عقيدة يونانية معترف بها في مجلس القسطنطينية قالت بأن الروح القدس «انبثق من الآب». ولم يكن لذاك المجلس تمثيل غربي، واتخذ قرارات كنسية غير ملائمة للغرب. والحقيقة أنه أقر عقيدة كانت غائبة عن الغرب لأكثر من 20 سنة بعد وفاة أوغسطينوس؛ ولذا، لم يكن هناك سبب يدعو أوغسطينوس للتردد في التأكيد على أن الروح تنبثق عن الآب والابن. شعر أوغسطينوس أن تناول المسألة بهذه الطريقة يحمي فكرة التثليث من فهمها كثالوث متدرج غير متساو. ولقد أضفت تشديدا أكبر بالكامل على وحدة الرب مقارنة بالصيغة اليونانية. بشكل تدريجي جدا تسللت صيغة أوغسطينوس إلى العقيدة الشعائرية في الغرب. وبعدها بأربعة قرون، أمست هذه النقطة مشكلة توسع الفجوة ما بين العالمين المسيحيين اليونانيين الشرقي والغربي. دافع الغرب المنتمي للقرون الوسطى عن إقحام عبارة «والابن» في العقيدة استنادا إلى السلطة البابوية. وحتى في القرن السادس عشر، احتفظ المسيحيون الذين استبعدوا من تناول العشاء الرباني بصيغة أوغسطينوس في مقابل النص المجمعي الأصلي. ومن ناحية أخرى، لم تبادر الأديرة الكاثوليكية جنوبي إيطاليا بزيادة إضافة أوغسطينوس.
كان لجهود أوغسطينوس في بيان فكرة التثليث عميق الأثر على المفاهيم الغربية اللاحقة المتعلقة بالشخصية. ظن فرفوريوس أن كل الأرواح تشترك في «روح عالمية»؛ مصدر لكل الطاقة والحيوية في الكون المادي. واستغل أوغسطينوس في بداية حياته فكرة الروح العالمية. ولكن، في أواخر حياته لم يزعم أوغسطينوس قط أنه لا وجود لكيان كهذا، لكنه ظن أنه تسرع في شبابه بافتراض أنه:
بالنسبة إلينا الرب ليس هذا العالم، سواء أكانت هناك روح عالمية أم لا؛ فإذا كانت هناك روح عالمية، فالرب خلقها؛ وإن لم تكن هناك، فيستحيل أن يكون العالم رب أي أحد. ولكن حتى لو لم تكن هناك روح عالمية، فهناك قوة حياتية تطيع الرب وتعمل من خلال الملائكة (المراجعات).
لم يكن جعل العالم ربا المشكلة الوحيدة. مالت لغة فرفوريوس إلى تعيين موضع التفرد، لا في الأرواح بل في التمايز المادي. بالنسبة إلى أوغسطينوس كل روح متفردة بمصيرها الشخصي في مراد الرب. علاوة على ذلك، اعتبر أوغسطينوس أن المفهوم الإنجيلي للرب ينفصل عن التقليد الأفلاطوني؛ نظرا للتشديد على الإرادة وعلى الجوانب الإبداعية والأصلية والمتفردة. وعلى ذلك تطور معنى الشخصية وأمسى لا يعني فحسب اللامادي والسمة الداخلية للإنسان، بل كذلك ما هو مميز وغير مشترك. لقد أفصح التعريف الكلاسيكي للشخص الذي قدمه الفيلسوف بوئثيوس باعتباره «المادة الفردية للكائن العقلاني» تفصيلا عما كان يضمره أوغسطينوس بالفعل.
لم يكن مفهوم الثالوث السامي المستقر على قمة هرمية الوجود بالفكرة التي يمكن أن تسخر منها عقول الأفلاطونيين الجدد لفترة طويلة دون أن يسقط أصحاب تلك العقول في تناقضات ميئوس منها. ولقد عمل أفلوطين وفرفوريوس على هذا النحو بغيبيتهما المتعلقة بالواحد والعقل والروح العالمية. ويساعد ذلك في تفسير علة اعتبار أوغسطينوس في مؤلفه «حول الدين الحق» مذهب أن الرب هو الثالوث حقيقة يسهل الوصول إليها بيسر عن طريق المنطق الفلسفي، بينما لا يمكن فهم فكرة تجسد الإله إلا في تواضع الإيمان. وتعكس هذه النقطة تمسك أوغسطينوس الشديد بالفرضية المسيحية المسبقة التي مفادها أن التدفق التاريخي غير المنظم مرحلة من مراحل الكشف عن الذات الإلهية: تجسدت كلمة الرب المنقذة للإنسان، في جوهرها، في حياة تاريخية شخصية، والكلمة مشهودة عبر مجتمع مرئي تاريخي وفيه. ورغم أن أوغسطينوس كان أفلاطونيا، فإنه لم يعتقد أن الخلاص يكمن في تجريدات سرمدية؛ ولذا، كان بحاجة إلى نظرة تاريخية تنبع من إيمانه الديني المحوري وتعبر عنه، وتفسير يوفر في الوقت نفسه دفاعا عن الإيمان بالعناية الإلهية رغم كل كوارث التجربة التاريخية، ورغم استحالة تبني أي شيء سوى تقدير كئيب للوضع الحالي للطبيعة البشرية.
واعتبر أوغسطينوس التاريخ غاية المعرفة الدنيوية وأنه متمايز تماما عن الحكمة العليا. لكن الانفصال الأفلاطوني ما بين عالمي الحس والعقل يمكن تجاوزه بتطبيق المفهوم المسيحي للتاريخ باعتباره أشبه بسلم مقدس يستطيع الرب أن يستخدمه فيرفع الروح من الحياة النشطة إلى الحياة التأملية ومن الزائل إلى السرمدي عبر يسوع التاريخ الذي يصبح مسيح الإيمان (ردا على فاوست؛ الثالوث). وإننا نمر بواسطته على الدرب المؤدي إلى رؤية الأبدية السرمدية (العظات).
الفصل التاسع
مدينة الله
يرجع الصراع الجدلي بين المفكرين الوثنيين القدماء والمسيحية إلى القرن الأول (انظر أعمال الرسل). وجاء الرد على هجوم سلزوس الوثني في القرن الثاني الميلادي من قبل أوريجن في القرن الثالث. هاجم فرفوريوس بدوره أوريجن، وبداية من قسطنطين فصاعدا دان الأباطرة، بخلاف يوليان المضطرب الذي لم يعش طويلا، بالمسيحية. لكن أغلب أبناء الطبقة الأرستقراطية وأصحاب الأراضي الأثرياء، وكذلك الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم، ظلوا متحفظين والتزموا بعبادة آلهة متعددة. ولا نقول بأن المفكرين آمنوا بالأساطير القديمة؛ فلطالما كان الأرباب الذين كان الناس يعبدونهم في المعابد محط سخرية على خشبات المسارح، وقوضوا على نحو أكثر تهذيبا في قاعات المحاضرات. لكن الطقوس كانت طرقا متلقاة لاستبقاء القوى غير المرئية على حالتها المستحسنة. لا شك أن الإهمال أدى إلى المجاعة والجفاف وانتشار الأوبئة والهزيمة العسكرية. وهجران تلك الطقوس يعني أنه يفترض أن لدى المرء داعيا يدعوه لاتباع طريقة عليا. وبالنسبة إلى كثيرين كان المهم أكثر من أي شيء التطهير الداخلي للروح، وكانت التضحيات والصور والطقوس الخارجية مهما كان نوعها محض تشتيت، ومجرد رموز على أحسن تقدير. وبالنسبة إلى آخرين، كانت الطقوس القديمة مهمة، وأمست أكثر أهمية إذ هاجمها المسيحيون. ومن الممكن القول بأن الأفلاطونيين الجدد بالقرن الرابع الميلادي كانوا ملتزمين بقدر كبير بالطقوس الوسواسية، وفي بعض الحالات كانت تصاحبها ظواهر إعجازية للدفاع عن معتقداتهم. ولقد تصرفوا بطريقة بدت وكأنها تشدد على تماهي الطائفة الوثنية من وجهة النظر المسيحية مع الشعوذة والسحر والتنجيم.
وفيما يتعلق بمسألة الطائفة (كما رأينا من قبل)، كتب فرفوريوس وجهتي نظر؛ فمن ناحية، أقر بأن الطقوس القديمة كان لها ثقل التقليد السحيق، ولا شك أنها استرضت أرواحا شريرة؛ ومن ناحية أخرى، مقت فرفوريوس القرابين من الحيوانات.
شكل 9-1: الإمبراطور يوليان المرتد.
وقرابة الفترة التي رسم فيها أوغسطينوس، أقرت السياسة الإمبراطورية سلسلة من المراسيم التي تقضي بغلق المعابد وحظر الذبائح الوثنية. ترتب على ذلك تولد الكراهية الشديدة للكنيسة. ووقع أكثر من حدث شغب ضد المسيحية أسفر عن خسائر في الأرواح والممتلكات. وفي روما قدم 410 أرستقراطيين وثنيين قرابين خاصة لتفادي قوطيي القائد ألريك، بينما كان رجال الدين المسيحيون يستجدون شفاعة بطرس وبولس ولورانس وغيرهم من القديسين الراعين للمدينة. نهب ألريك المدينة، لكن جنوده أبدوا احترامهم للكاتدرائيات المسيحية. وظن المسيحيون أن الكارثة وقعت بسبب وجود عدد كبير جدا من الوثنيين. ولام الوثنيون تجاهل المسيحيين للأرباب القدماء، وتساءلوا لم كانت الكوارث في العصور المسيحية أكثر عددا. ولقد أثار سقوط المدينة الخالدة في الرابع والعشرين من أغسطس عام 410، وهي التي كانت لها أهمية رمزية أعظم من أهميتها السياسية، نقاشا عن العناية الإلهية في التاريخ، وحوارا عن كون المسيحية على وشك أن تفضي إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية. وفي ظل احتدام هذا الجدل، شرع أوغسطينوس في كتابة «عمل ضخم وشاق» سماه «مدينة الله»، طرح فيه أفكارا سبق أن ظهرت بالفعل في كتابه «حول الدين الحق» الذي ألفه وهو علماني، لكن طريقة الطرح الجديدة كانت أوسع من حيث المنظور.
استقى أوغسطينوس عنوان الكتاب من الزبور، واختاره بحيث يمثل نقيضا متعمدا لكتابي «الجمهورية» لكل من أفلاطون وشيشرون. وكانت أجزاء من ذلك الكتاب معركة حامية الوطيس بينهما وبين أوغسطينوس. استغرق تأليف 22 فصلا من هذا العمل ثلاثة عشر عاما؛ فقد بدأ تأليفه وهو في التاسعة والخمسين من العمر وأنهاه عندما بلغ الثانية والسبعين.
أجابت الفصول الخمسة الأولى على المشركين الذي يعبدون آلهة متعددة ويرون أن الآلهة القديمة تحمي المصالح الرومانية بشكل متفرد. ولكن ألم تكن تلك الآلهة رجالا مؤلهين فحسب؟ لقد استغل أوغسطينوس استغلالا عظيما الدراسة العتيقة للعقيدة الرومانية للعالم الشهير فارو، والمثقلة بإحاطة واسعة وشاملة بأكثر الجوانب تفاهة للطائفة الوثنية. ويتساءل المرء لم جمع أوغسطينوس وصفه للشرك من كتاب وضع منذ خمسة قرون بدلا من وصف الأحداث الجارية في أفريقيا حتى سنوات قليلة سابقة وحسب. لقد اكتسب المفكرون الوثنيون المعاصرون، ربما دفاعا عن أنفسهم، اهتمامات قوية بما هو قديم، ويمكن أن يرى المرء ذلك في «تعليق على حلم سكيبيو» للقديس ماكروبيوس أو «عيد الشمس الوثني». ومفاد محاجتهم المناوئة للمسيحية أنها ليست التقليد الأصلي البدائي. وبادر أوغسطينوس، انطلاقا من سلطة موثوقة، ببيان كيف أن المسائل الأصلية البدائية كانت غير ملهمة ومثيرة للحرج.
شكل 9-2: «مدينة الله»، أقدم مخطوطة على الإطلاق، وترجع إلى منتصف القرن الخامس، بمدينة فيرونا.
وجهت الكتب من السادس حتى العاشر إلى الأفلاطونيين الجدد الذين كانوا يعيدون تفسير التقليد الشركي كدرب للتطهير؛ حيث تلعب الآلهة دور الوسطاء ما بين البشرية وأسمى العوالم. وأتاحت الكتابات الأفلاطونية لزميله الأفريقي أبوليوس الكثير من النصوص للنقاش.
كان أوغسطينوس على دراية بأن نقاشه الودود والنقدي في الوقت نفسه للأفلاطونية سيصدم المتحمسين المعاصرين الذين تعاملوا مع أفلاطون باعتباره سلطة مقدسة لا ينبغي تعديل أي شيء في كتاباته أبدا. ولكن أوغسطينوس وجد في فرفوريوس حداثيا يعيد تفسير التقليد الأفلاطوني بطرق ثورية، وبهذه الطريقة جعله أقرب صلة بالمسيحية التي يكرهها فرفوريوس.
رفض أوغسطينوس الإمبريالية الرومانية والكفاية الذاتية الرواقية وتطهير الذات الأفلاطوني الجديد (رغم إعجابه الشديد والدين الشخصي الذي يدين به) باعتبارها تنويعة لتعبيرات عن الكبر والغرور . ورأى أوغسطينوس أن التوتر المطلق للبشرية لا يكمن في التوتر ما بين العاطفة والمنطق اللذين يمكن أن يكونا بالقدر نفسه أداتين لتأكيد الذات. وفي الجزء الرابع عشر من كتاب «مدينة الله»، يدافع أوغسطينوس عن المشاعر باعتبارها مكونات حميدة في الطبيعة البشرية وضعها الخالق عن عمد، وهاجم أوغسطينوس الفكرة الرواقية بأن المشاعر يجب كبتها؛ فالحب نزعة بشرية أساسية؛ ومن ثم ينبغي توجيهها على النحو السليم؛ أي نحو الرب والجيران. كان المثل الأعلى الإنساني القديم يقضي بالارتقاء بكرامة الإنسان إلى حد المساواة مع ما هو إلهي. ولتحقيق هذه الغاية أوصت أطروحة فرفريوس «عن عودة الروح» بالنأي عن كل شيء جسماني. ورفض أوغسطينوس المماهاة ما بين الجسد وأصل الشرور. ومن ناحية أخرى، فقد اعتقد أنه من الوهم الافتراض بأن أسمى خير للإنسان يمكن أن يناله في هذه الحياة، ويجوز العثور عليه في إنجازاته الاجتماعية أو الثقافية أو التكنولوجية. ويكمن أعظم خير للإنسان في الحياة الأبدية في الرب وبمعيته. ولا يقتضي ذلك نبذا لقيم هذه الحياة، لكنه يجعلها نسبية.
توحي بعض الفقرات في كتاب «مدينة الله» بالتخلي تماما عن الإمبراطورية الرومانية وكل المؤسسات السياسية باعتبارها منظمات نهمة للسلطة تسعى للهيمنة الخبيثة واضطهاد القوي للضعيف. لا شك أن صفحات المؤرخ سالوست التي تناول فيها الصراعات الطاحنة في التاريخ الجمهوري الروماني أثرت في أوغسطينوس، ويقتبس مؤيدا القول المأثور اللاذع لسالوست إذ قال إن المجتمع الروماني كان يتسم بالثراء الشخصي والفساد العام. ورأى شيشرون (واحد من ضحايا تلك الصراعات الطاحنة) أن أي مجتمع منسجم يجب أن يكون لديه نظام قانون، وتتوثق وشائجه بروابط المصلحة المشتركة والتعويل المتبادل. ومع ذلك، لم يتوقف التاريخ الروماني قط عن أن يكون قائمة بالغزوات العدوانية. كيف يمكن أن يكون المجتمع الشركي مجتمعا تسود فيه العدالة؟ «إذا انتزعت العدالة، فستمسي الحكومات مؤسسات لصوصية على نطاق واسع» (مدينة الله).
ولكن حانت الآن العصور المسيحية. أيمكن الآن تحقيق العدالة بمعرفة إمبراطور يقر بالعبادة الحقة للرب الواحد المتجلي في المسيح؟ كتب أوغسطينوس في شبابه من آن لآخر وكأن الإجابة عن هذا السؤال كانت - أو كان من الممكن أن تكون - بالإيجاب، وكأن اعتناق المسيحية كان يعيد إحياء المجتمع المنهك المريض، ويتيح إمكانية تأسيس «إمبراطورية عادلة» (الرسائل)، وكأنه بالتشريع الإمبريالي الداعم للكنيسة الكاثوليكية والمناوئ للطائفة الوثنية والخلاف الانشقاقي مثل ذلك الذي تبنته الدوناتية، ستصبح الإمبراطورية «إمبراطورية مسيحية» (الخطيئة الأصلية وعناية المسيح
De gratia Christi et de peccato originali ). (ترد العبارة الأخيرة وحسب في الكتابات الضخمة لأوغسطينوس، لكن الفكرة ضمنية في العديد من المواضع، وطاب له أن يتحدث عن «العالم المسيحي».) وإن صح ذلك، فإنها ليست متأصلة في جميع الحكومات على هذا النحو لدرجة تجعلها تسعى وراء احتكار السلطة والولاء، وتحاول تدمير الكنيسة باعتبارها تهديدا لسيادتها. علاوة على ذلك، قدم القديس بولس (الرسالة الثالثة عشرة إلى أهل رومية) دعما رسميا لتقييم إيجابي للحكومة باعتبارها أداة تنظيمية من لدن العناية الإلهية، وإن لم تكن تساعد المرء على دخول الفردوس، فهي على الأقل تسد الطريق إلى الجحيم.
لم يعد أوغسطينوس الناضج الذي خط بيمينه «مدينة الله» يستخدم مثل هذه الكلمات التفاؤلية إذ يصف البنى السياسية؛ فقد لاقى اعتناق قسطنطين للمسيحية ترحابا شديدا، لكن اعتناقه لها لم يمهد للألفية. يحلل الجزء التاسع عشر من الكتاب تداخل القيم ما بين المدينتين الأرضية والإلهية. وهما متمايزتان قطعا بلا شك؛ فالعلمانية تختلف عن القداسة، وبابل تختلف عن القدس؛ فالمدينة الدنيوية المنظمة من أجل السلطة والثروة والراحة والمتعة تبعد بعد المشرقين عن المدينة السماوية. والإنسان يسعى وراء قيم مدينة الله حتى في هذه الحياة الدنيا بمعرفة الكنيسة المطابقة (متى 13)، إلى هذا الحد، لمملكة الرب. ولكن رغم أن الفارق يكمن في نطاق رؤيوي حقا، فإن المدينتين معنيتان بشيئين تشتركان فيهما؛ ألا وهما العدل والسلام، رغم أنهما لا تقصدان الشيء نفسه بالضبط بهاتين الكلمتين.
فيما يتعلق بالعدالة، كانت مدينة الله متحيزة للفقراء. ولاحظ أوغسطينوس أن أعلى المدافعين صوتا عن الوثنية كانوا عموما مدافعين عن النظام الاجتماعي القديم الذي تودد فيه الفقراء إلى الأغنياء واستغل الأثرياء تابعيهم الذين يعولون عليهم (مدينة الله ). أدرك أوغسطينوس كم كانت الزكاة الخاصة وخزانة الكنيسة بسجلها من الفقراء المعدمين الذين يتناولون يوميا طعامهم من مطعم الفقراء لا تفيان بالغرض؛ فقد كانت أبعاد الفقر أكبر بكثير من سد حاجة المعوزين إلا بالضريبة المعاد توزيعها (مدينة الله).
عندما حاجج مفكر وثني بأن العظة على الجبل يستحيل أن توضع موضع التنفيذ على أرض الواقع دون القضاء على الإمبراطورية، أجابه أوغسطينوس دون خجل بأن القصاص للجروح ليس السبيل لكي يعيش أي مجتمع في سلام بالمرة؛ ولذا فإن مبادئ المسيح لم تكن غير ذات صلة بالمرة بسعادة العالم الدنيوي وطمأنينته؛ فالمجتمع الموسر المهووس بالثروة والسلطة يعاني من مشاعر الخوف والكبر والحسد الشيطانية التي تطارد الأثرياء ثراء فاحشا. ببصيرة مشهودة لما سيحدث في الغرب في غضون جيل من وفاته، أشار أوغسطينوس إلى أن العالم سيكون مكانا أكثر سعادة إذا خلف الإمبراطورية العظيمة المتكبرة عدد من الدول الأصغر حجما (مدينة الله)؛ فمملكة الرب تسع القوطيين والرومان على حد سواء.
شكل 9-3: تمثال ضخم لرأس الإمبراطور قسطنطين العظيم من كاتدرائية ماكسينتيوس. قصر الأمناء، روما.
أغضبت لغة أوغسطينوس الإمبراطوريين الوطنيين؛ فقد كان على دراية بأن الإمبراطوريات تقوم وتضمحل. ولم يعتقد أن الإمبراطورية الرومانية مكتوب لها الهلاك، كما زعم بعض المتشائمين المعاصرين له. ستسقط روما وحسب إذا سقط الرومان. لعن الناس العصور التي يعيشون فيها، «ولكن طيب العصور أو سوءها أمر يعتمد على الجانب الأخلاقي للفرد ومدى طيب الحياة الاجتماعية، وهو مرهون بنا شخصيا» (العظات). ولاحظ أوغسطينوس أن كل جيل يعتقد أن زمانه بشع دون غيره من الأزمان (العظات)، وأن الأخلاق والعقيدة لم يتدنيا قط كما تدنيا في جيله، ولم تكن القيم المدنية أكثر عرضة للخطر كما كانت في عصره. وظن أوغسطينوس أن واجبه أن يهاجم الجبرية، وأن يستنهض الناس ليستشعروا بالمسئولية إذا سارت الأمور على غير ما يرام؛ فمن الممكن أن يكون لهم رأي فيما سيحدث في المستقبل.
لم يعرف أوغسطينوس «السلام» الذي سعت إليه الكنيسة والإمبراطورية على حد سواء بلغة سياسية أو مدنية فحسب وكأنه كان نتاجا لحل وسط هش أو عابر في الصراع الأبدي من أجل السلطة. سلم أوغسطينوس بأن الحكومة القوية فحسب يمكنها ضمان السلام للناس وتمكينهم من العيش دون خوف من الاضطرابات الاجتماعية، وتعامل مع القانون الروماني - الذي كان ملما به إلى حد كبير - باحترام شديد، باعتباره لا غنى عنه لتجانس المجتمع. ولا ينبغي على المرء مثلا أن يجعل من نفسه قاضيا على الناس وكأن القانون ملك يمينه إذ يواجه قاطع طريق. إن القانون والحكومة ضروريان؛ نظرا لطباع التشوه والجشع والفساد المناوئ للمجتمع الموجودة في القلب البشري. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الفساد يتعمق بشدة لدرجة تحول دون فرض حالة من السلم دون العناية الإلهية الشافية. وأساس السلم عدالة تعطي كل ذي حق حقه. والسلم الحقيقي والعدالة الحقة يتجاوزان هذا العالم على حاله وعلى النحو الذي سيئول إليه، وينتميان إلى مستوى أعلى لغاية الرب. ومن المعروف أن عدد المواطنين الذين تمس العناية الإلهية حياتهم لا يتجاوز أقلية قليلة جدا، لكن هذه الأقلية يمكن أن تكون ذات أهمية عظيمة. لقد فهم فهما وافيا أن الحكومة أكثر فعالية في قمع الرذائل من التشجيع على الفضائل. كان لدى الحكام مسئولية جسيمة تقضي بتوفير الأمن والنظام العام والراحة الفعلية والرخاء، وربما كذلك تسلية الناس والتسرية عنهم. لكن هذه المسئوليات لم تكن تخلو من مسئولية عن الفضيلة المدنية. وإذا كان الحاكم أو القاضي مسيحيا، فعليه واجب ديني وعام بأن يدعم الخير والحق الذي هو معني بنشرهما.
لم يكتب أوغسطينوس قط عن المشكلات السياسة دون وعي منه بأن النظام يجب أن يترسخ على فرض أن الجشع البشري سيؤدي إلى اضطرابات واسعة النظام ما لم تكن هناك قيود وعقوبات. ومع ذلك فقد كان يعتقد أن العالم ينتمي إلى الرب؛ وعالمه لم يكن وحشيا كعالم توماس هوبز، واستطاع أن يتكلم عن الحكومة والتشريع الرشيد باعتبارهما معتمدين في سلطتهما لا على القوة وحسب، بل وعلى إدراك امتلاكهما لأساس أخلاقي، ومن ثم لمسحة أو صورة للعدالة الحقة، ول «قانون أزلي». لقد كانت الحكومة بالنسبة إليه تجسيدا لمبدأ النظام المرتبط بالعناية الإلهية والمفروض على القوى التدميرية التي أطلق لها العنان بفعل سقوط آدم. وفي هذا السياق، قد لا يبطل النظام كل ما هو خطأ بقدر ما يطوع الشر لأغراض حميدة غير مقصودة. ومثال على ذلك الرق والممتلكات الخاصة.
ربما يساء استغلال هيمنة شخص على آخر، لكن هذه الهيمنة أهون الضررين؛ حيث إن البديل هو الفوضى والانعزالية. كره أوغسطينوس تجارة الرقيق، ومتى سنحت له الفرصة، كان يستغل خزانة الكنيسة لتحرير العبيد المضطهدين من الأسر. ذات مرة، اتخذ أهله إجراء مباشرا وبادروا بتحرير عبيد من سفينة راسية بميناء هيبو، واستخدمت الخزانة لتعويض المالكين المتضررين. كان من الصعب منع الآباء الفقراء فقرا مدقعا من بيع أبنائهم. وحار أوغسطينوس ذات مرة من مستأجر باع زوجته، وعندما ناقشه أوغسطينوس، أعلن الرجل أنه يفضل المال على زوجته. ورغم ذلك، لم تكن العبودية شرا محضا متى كان العبيد يعيشون في بيوت رحبة، ويرتدون أحسن الثياب، ويتناولون أطايب الطعام، ويأوون إلى بيوت أفضل من تلك التي يعيش فيها العاملون بالسخرة الذين كانوا يمثلون غالبية القوى العاملة.
كان النظام مهما جدا لدرجة أن الإمبراطور الشرعي - حتى لو كان ظالما - له السمع والطاعة. وكان تابع المسيح يخضع جسده لخدمة القيصر وعقله وروحه للرب. ورغم أنه قد يشارك في الحياة السياسية «كمسافر في بلد غريب» (مدينة الله)، إذا أهلته مواهبه لها، فلا ينبغي أن تكون هذه المشاركة إذعانا سلبيا بل واجبا إيجابيا. إن المجتمع بحاجة إلى أشخاص يتحلون بالنزاهة في الخدمة العامة، وكذلك في مجال التجارة؛ أولئك الذين يتمتعون بالشجاعة ويقفون بالمرصاد للرشوة وتهديدات أصحاب النفوذ والأثرياء. توضح ملاحظات أوغسطينوس أن هؤلاء نادرون.
بالنسبة إلى الضمير المسيحي، كانت العدالة الجنائية والخدمة العسكرية تمثلان أكثر القرارات الأخلاقية إشكالا. شارك أوغسطينوس وجهة النظر التي كادت تكون عالمية للكنيسة الأولى، والتي مفادها أن التعذيب والعقوبة القصوى غير مقبولين في دولة مستقلة تستند إلى تقييم مسيحي للإنسان. ويجب على المرء أن يقول إن وجهة النظر هذه «كادت تكون عالمية » ما دام هناك أيضا رأي - يدعمه رجل قانون مسيحي معتكف مجهول الهوية في القرن الرابع - مفاده أن القانون الجنائي للإمبراطورية المسيحية ينبغي أن يجسد مبدأ القصاص الخاص بالعهد القديم، وأن يكون أكثر حزما من القانون الروماني التقليدي؛ في العصور الوسطى أمسى كتابه الصغير متداولا على نطاق واسع جدا. كان أوغسطينوس معارضا بشدة للتعذيب الذي كان أمرا اعتياديا في الإجراءات الجنائية، ولا سيما محاكمات الخيانة العظمى؛ فقد كان التعذيب يحمل الأبرياء على الاعتراف بأفعال لم يقترفوها ويشوه أجسادهم في نهاية المطاف. وحكم أوغسطينوس أن العقوبة القصوى لا تتوافق مع نية الإصلاح، وعلاوة على ذلك، أحيانا ما ترتكب الأخطاء. ولكن، فيما يتعلق بالخدمة العسكرية، كان أوغسطينوس أقل تشددا؛ فقد سلم بأنه دفاعا عن النفس أو استعادة للممتلكات المسروقة، يمكن أن تكون القوة مشروعة. ألم يحاجج شيشرون نفسه بأن الحروب لا ينبغي أن تشن إلا دفاعا عن النفس أو الشرف؟ بالنسبة إلى أوغسطينوس، لم تكن الحرب وسيلة مناسبة لتسوية النزاعات، وشارك الأمل بأن يتم تقويض الحروب في العصور المسيحية. لكنه أدرك أن العدوان الغاشم الذي تعين مقاومته لأجل القيم التي يجلها المسيحيون إجلالا عظيما سيستمر؛ فعندما أغار رجال قبائل الصحراء الغربية على المستوطنات الرومانية، راسل القائد العسكري المسيحي ناصحا إياه بأن يعتبر قمع المغيرين واجبا دينيا.
ومع ذلك، آمن أوغسطينوس بأن تعظيم ضبط النفس فيما يتعلق بالأعمال العدائية ضرورة دينية وسياسية. إن الطبيعة الإنسانية التي يقتضيها الدين كانت أيضا صحيحة سياسيا. وعلى أساس أن الحروب قد لا يكون هناك مفر منها أحيانا، فإنها يجب أن تشن باحترام للإنسانية، فلا ينتهي الحال بالخصم إلى الشعور بالذل والامتعاض بما يغرس بذور ثقافة الصراع. ولا ينبغي بأي حال من الأحوال قتل الأسرى (كما كانت العادة في الحروب القديمة). ولكن، إذا وجد جندي ما نفسه يشارك في حرب تبدو عدالتها بالنسبة إليه موضع شك، فكفاه إراحة لضميره أنه كان يطيع الأوامر لا أكثر. لكن المبادئ العامة للقانون الجنائي الداخلي لإمبراطورية عادلة كانت تنطبق بالمثل على الصراعات بين الدول.
لم ير أوغسطينوس ، شأنه في ذلك شأن أفلاطون وأرسطو، أن مهنة السياسة منفصلة عن كافة القضايا الأخلاقية، رغم أنه لم يعتقد أن العالم العلماني قادر على إقامة مجتمع عادل بحق.
في «مدينة الله» هناك أماكن تمثل فيها روما الرأس الرمزي للمجتمع الدنيوي في يد قوات شيطانية، بينما تمثل الكنيسة على الأقل إرهاصا بمدينة الله. يعطى النقيض التنبئي أقصى زخم له، وبذلك يخلق الفرضيات المسبقة ل «العلمانية» من قبيل فرضية كون الدين عالما من عوالم الاهتمام لا يمت بصلة إلى انشغال العالم في الأساس بالسلطة والشرف والثروة والجنس. ولكن هناك أيضا نصوص يضفى فيها على روما أهمية في غاية الرب من هذا العالم، بينما ينظر إلى الكنيسة التجريبية على اعتبار أنها تفشل في تحقيق نوايا إلهية؛ نظرا لتنازلاتها للعالم العلماني. كان أوغسطينوس على يقين من أن اعتناق المسيحية سيخفف من حدة بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية لكنه لن يقدم حلولا فورية. وتبين كتاباته المناهضة للدوناتية أنه لم ير «الكنيسة والدولة» كقوتين مستقلتين. ورغم أنه آمن بأن الحاكم المسيحي يجب أن يدعم الكنيسة ويشاع عنه معارضته للرذائل، كان من الممكن أن يصاب بالذهول بشدة من واضعي القوانين الكنسية في العصور الوسطى الذين فسروا أنه يلمح إلى أن الإمبراطورية ينبغي أن يديرها الأساقفة على أن يرأسهم البابا. لقد أشرب أوغسطينوس حب الكنيسة، لكن إخفاقات أعضائها - الكهنوتيين والعلمانيين على حد سواء - جعلته يعيش لحظات كئيبة سوداوية.
في خاتمة «مدينة الله» أورد أوغسطينوس المذهب المسيحي ل «الأشياء الأخيرة»: للمدينتين الدنيوية والسماوية أوجهما الخاص بكل منهما في الجحيم وفي الفردوس. ولقد غرست بداخله الحقيقة المطلقة لهذا الخيار بين الأبيض والأسود شكوكا. فلا شك أن الكنيسة ضمت على الأرض أفرادا يتحلون بالإخلاص والخيرية المتفانيين، رغم أنهما مبهمتان عادة؛ أفرادا يدركون الحالة الملائكية في هذه الحياة الدنيا. وضمت الكنيسة كذلك أناسا كان لاعتناقهم المسيحية، على الأقل في بداية الأمر، دافع دنيوي جدا؛ حيث كانوا يخشون إثارة غضب قديس مساند واسع النفوذ، أو يريدون أن يخطبوا ود امرأة ما ، أو يعقدون الآمال على أن تجلب لهم المسيحية حظا وفيرا في تجارتهم. ودخل البعض في المسيحية طلبا للصحة البدنية، ولم يكن أوغسطينوس قط يقلل من شأن هؤلاء، رغم أن معلمي الديانة المسيحية ينبغي أن يعلموهم أن الدين له غايات أسمى. كان أغلب أعضاء كنيسة أوغسطينوس «أناسا عاديين». وفيما يتعلق بأساس الإيمان، وجد أن السجل الأخلاقي لهؤلاء كان أشبه بالخشب والقش القابل للاشتعال منه إلى الذهب أو الفضة القادرين على الصمود أمام النار التطهيرية لحكم الرب (رسالة بولس إلى أهل كورنثوس). كانوا يدعون الله أن يغفر لهم خطاياهم، وبالنسبة إلى آمالهم في الآخرة، فكانوا يعولون على رحمة الرب التي يلتمسونها في ذكرى القربان المقدس لفداء المسيح وشفاعة الكنيسة القائمة والسابقة. لم يكن أوغسطينوس قط رجلا يوحي بأن المطالب الأخلاقية المنوطة بالمسيحيين أقل من أن توصف بالمتشددة، أو أن المصير في الحياة الآخرة لا يرتبط بأعمال البشر في الحياة الدنيا؛ لكنه يدرك أنه في رحلة الروح الآن وفي مملكة الرب لا يمثل الفناء المادي للجسد إلا حادثا عارضا على الدرب. وفي هذه الحياة الدنيا، ما من أحد خال من الخطايا سوى المسيح، وإذا أضفنا، «بحسب مقتضيات التقوى»، أن السيدة مريم العذراء لم تقترف ذنبا فعليا (حول الطبيعة والنعمة الإلهية)، افترض أوغسطينوس أنها لم تولد مبرأة من الخطيئة الأولى، وأن ابنها هو الذي يخلصها (شروحات المزامير). وخلاف ذلك، فإن تدنيس الحياة في هذا العالم يلوث الجميع (مدينة الله).
ولذلك كان التطهير عملية طويلة متواصلة. وبعد الموت سيكون هناك الذين تقض مضجعهم أحلام تمنحهم استراحة (العظات). ظن أوغسطينوس أن «الجحيم» ليس بمكان فعلي بقدر ما هو حالة للروح العمية والمغتربة عن الرب. سخر الوثنيون من الفكرة كفزاعة لتخويف الناس وحملهم على اعتناق المسيحية. لكن الفلاسفة الأفلاطونيين أنفسهم ظنوا أنه ما من ذنوب تمر دون عقاب، وأن هناك تقويما تصحيحيا وتأديبا. ووافق أوغسطينوس على أن العقاب السماوي تقويمي لكل الذين ينالونه.
من الخطأ التعامل مع كتاب «مدينة الله» على اعتبار أنه بيان عن النظرية السياسية ، أو على اعتبار أنه يحوي فلسفة تاريخية تستهدف استبيان نمط سماوي علوي في مسار الأحداث. وحقيقة الأمر، في عدة مواضع من هذا العمل نجد أن الحجة مصممة بحيث تبين كم من الصعب إدراك هذا النمط. يصعد نجم قوى عظمى ويخبو في تاريخ العالم، ولا تتجلى لنا قط علة هذا الصعود والسقوط. وعدم إمكانية التنبؤ بالموت وبقرارات الإرادة البشرية يعني أن هناك الكثير من الأشياء غير المؤكدة. ويعتنق المؤمن فكرة أن ما لا ينسجم مع عقل الإنسان ينسجم مع الرب. وقد تحمل الكوارث الإنسان على البكاء، لكنها لا ينبغي أن تصيبه بالذهول (الرسائل). ويقدم أوغسطينوس آمالا أكثر للفرد مقارنة بمؤسسات المجتمع البشري المعرضة تحديدا أن تكون وسيلة للغرور الجمعي. على أي حال، ما من أفلاطوني يستطيع بسهولة أن يستشعر التاريخ انطلاقا من كونه عملية مكتفية ذاتيا ومستقلة بنفسها لها عللها ومعلولاتها المنظورة وأهدافها المتأصلة في حركة السببية.
الفصل العاشر
الطبيعة والنعمة الإلهية
في ثلاثينياته، أكد أوغسطينوس - ردا على المانوية - على سلطة الكنيسة والحرية الفردية. ولكن حتى عندما كتب عن الإرادة الحرة، نراه أعلن أنه من دون نعمة الله لإنقاذ الإنسان الساقط، لا يمكن للمرء أن يجد نفسه على طريق البر. ولم يكن هذا الإقرار بالضعف استخفافا بالمنطق والعقل. لقد جعلته محاورة «هورتنسيوس» دوما يتساءل عن استخدام المنطق في تعيين السعادة. وفي فترة رشده، وتحديدا عندما بلغ السادسة والستين من عمره، كتب أوغسطينوس توبيخا عنيفا لعالم اللاهوت العنيد الذي علم نفسه بنفسه وتبنى موقفا إيمانيا بالكامل، وظن أن العقل منفصل عن الإيمان إذ قال له: «احترم العقل احتراما عظيما» (الرسائل «أحبب العقل بشدة»). ورغم ذلك، كان أيضا على يقين من أن الخطيئة تشوه الحكم، وتضعف عزيمة الإرادة؛ وذلك لأن الخطيئة تكره العقل على التعاطي مع الأشياء الخارجية وتنأى به عن تأمل الوقائع السامية؛ ومن ثم تقتضي الحاجة وجود السلطة لغرس «بذور الإيمان» التي ينميها العقل بعد ذلك ويدعمها.
بعد أن أصبح أوغسطينوس أسقفا، بلغت فكرة حاجة الإنسان المطلقة لعناية الرب ذروتها. وتحوي «الاعترافات» المناوئة للمانوية في جوهرها معنى مفاده أن الإنسان المخطئ الذي تعجزه الأنانية من أولى لحظات طفولته أسير العادات التي أمست جزءا من طبيعته وفطرته. ولا يمكن لغير نعمة الله أن تعيد للإنسان حريته الحقيقية؛ ولذا «فعندما يجازينا الرب على فضائلنا، فإنه بذلك يتوج هباته لنا» (الاعترافات، الكتاب التاسع. كرر أوغسطينوس هذه العبارة كثيرا لاحقا واقتبسها ممتنا مجمع ترنت عام 1547).
أمست «الاعترافات» من الأعمال الأكثر بيعا على الفور، وحظي أوغسطينوس بسببها بالكثير من الأصدقاء، وأعطت نقاده المزيد من الأسباب لنقده. ولاقى هذا العمل الممتع البديع إعجاب الأرستقراطيين الأثرياء في روما الذين بدءوا يعتقدون آنذاك أن الأمر لا يقتضي أن يكون المرء غير روماني ليعتنق المسيحية. ولكن الكتاب فسر أيضا على أنه يفترض مسبقا أن التنازلات الأخلاقية يمكن أن تغتفر. وإن استطاع المرء، كما أعلن أوغسطينوس مرارا وتكرارا، أن ينال الزهد كهبة من الرب، أفلا يمكن أن يكون المرء متعاطفا بشكل متسامح مع الذين لم يدخلوا في الإيمان بعد واكتشفوا أن هذه التبعية المتقشفة مكلفة جدا؟
بحلول عام 400 كان هناك زاهد من عامة الناس في روما بريطاني الأصل يدعى بيلاجيوس اشتهر كمستشار روحاني بين علية القوم. وبعد العديد من الرحلات والأسفار التي قام بها استقر في روما وكتب تعليقا على رسائل القديس بولس بهدف تفادي مناشدات المانويين لتلك الرسائل. لقد كان التقليد المسيحي الشرقي اللاهوتي الذي ساعد على تشكيل عقلية بيلاجيوس أكثر إيجابية فيما يتعلق بالطبيعة البشرية من التقييم الأوغسطيني لها؛ فقد كان يخشى القنوط من ألا تقوى الطاقة البشرية على الامتثال لأوامر الرب، وكذلك كان يخشى من الغفران للخطايا دون اشتراط التوبة أو التعميد. وشعر بأنه من غير المعقول أن يطلب الرب من البشر المستحيل. وإذا استقر رأي الإنسان على ذلك، فباستطاعته أن يفي بالوصايا، حتى تلك الوصية الصعبة التي تحرم الزنا. يكمن جوهر العبادة المسيحية في الفعل الأخلاقي لا في الإفراط في غرس المشاعر الصوفية. ألا يفت في عضد أي جهود اعتقاد المرء بأن كل إنسان ورث من آدم طبيعة معيبة؟ وبدا أن القول للناس إن إرادتهم تضمحل لدرجة العجز شبه التام بالنسبة إلى بيلاجيوس باعث على التراخي على نحو مهلك؛ فما من فعل يمكن أن يعتبر خطيئة ما لم يكن مختارا عن عمد. وفسر بيلاجيوس عالمية الخطيئة بأنها نتيجة عادة اجتماعية بعد أن ضرب آدم مثلا كارثيا. ولا شك أنه دون عناية الرب لم يكن المذنب ليفعل كل ما ينبغي أن يفعل، وواجبه السير على درب المسيح. لكن العناية الإلهية مساندة لكنها غير مهيمنة بالكامل؛ فالملاحون يستطيعون أن يصلوا بمراكبهم إلى وجهتهم دون عون من الريح والشراع، رغم أن الأخير يجعل المهمة أيسر. لا بد أن هناك لحظة ما يستقر فيها رأي الإنسان على شيء ويبذل جهدا حقيقيا ويقدم فيه على فعل ينسب إليه حقا. ومذهب أن كل شيء هبة من العناية الإلهية، وفي ذلك الإرادة نفسها، بدا بالنسبة إلى بيلاجيوس موهنا ومحبطا إلى حد الكارثة.
كان تسلسل الأحداث الذي أدخل أوغسطينوس وبيلاجيوس في مواجهة جدلية مفتوحة تدريجيا جدا؛ فقد اتفق الاثنان على مسائل أكثر من تلك التي اختلفوا عليها بكثير. كلاهما كان يرى البشرية حبيسة تقليد اجتماعي آثم مؤسسيا. وأصر بيلاجيوس على أن الخطيئة ليست موروثة ماديا؛ ومن ثم يستطيع المرء أن يفر منها باختياره الحر. ولقد خلق الرب القوانين الأخلاقية (هكذا قال بيلاجيوس) للضمير والإرادة الحرة وغفران الخطايا بالتعميد والتكفير لإعادة بناء العزيمة، وأهم من ذلك كله أن العناية الإلهية تعين الإنسان ما دام يتحلى بإرادة قويمة حقا. وتنير العناية الإلهية درب الإنسان فيعرف الحق، وتكون له عونا إضافيا. ونجد أن أوغسطينوس من ناحية أخرى كان على يقين من أنه لو كانت هناك أي مرحلة في عملية الفرار كانت فيها البشرية مستقلة بذاتها، لكان الغرور والانحراف قد استحكما. وبالنسبة إلى بيلاجيوس، كان الإثم والشر حقيقة عرضية وغير ضرورية. واعتقد أوغسطينوس أنه منذ سقوط آدم لم يعد هذا هو الحال بعد، وأشار إلى نكوص الإرادة الطبيعية عن الخير المحض وإخفاقها في الاستمتاع به.
نظر كلاهما لوضع الإنسان على أنه مأساة تنتهي بالموت. اعتقد بيلاجيوس أن الموت ضرورة بيولوجية. وظن أوغسطينوس أن الخوف من الموت لا يمكن أن يكون عاما أو عميقا إلا إذا كان عقابا على إثم ما.
لقد كان إيمان أوغسطينوس بأنه ما من ألم أو خسارة غير مستحقة راسخا في اهتمامه طوال حياته بالدفاع عن العناية الإلهية. ويجب أن تنتهي هذه القاعدة البديهية، إذا طبقت مع بيلاجيوس تطبيقا فردانيا بالكامل، وذلك عن طريق جعل الرب وكأنه يبدو طاغية مستبدا؛ وإلا فلم يوجد أناس مشوهون أو يعانون من أي عيوب أخرى، منذ ميلادهم في كثير من الأحيان؟ لم يستطع أوغسطينوس قط أن يقبل هذا الاستنتاج؛ ولذا (هكذا قال) لكي يكون المرء ضمن «زمرة الملعونين»، كفاه أن يكون من نسل آدم؛ فهذا بحد ذاته يقصيه من الوصول إلى النعمة إلا بالتدخل الرحيم، ولكن العصي على التفسير للعناية الإلهية. والذين ينالون رحمة الرب لا يسعهم إلا أن يشعروا بالامتنان للعناية الإلهية التي لم يفعلوا شيئا ليستحقوها. والذين لا ينالون رحمة الرب لن يكون لديهم أساس للشكاية من العدالة التي يستحقها الجميع نسبة إلى آدم. وحتى هؤلاء يمكنهم أن يحمدوا الرب على المتع الطبيعية في هذه الحياة الدنيا. ورغم أنه لم يزعم قط أن غير المصطفين مقدر لهم اللعن، كان أوغسطينوس ميالا إلى أن يميز وجهة نظره عن الازدواجية المانوية بالتأكيد على الحرية لدى الرب والحرية لدى الإنسان (هبة المثابرة
De dono perseverantiae )؛ فقد أجاز الرب ضلال الفاسقين لكنه لم يفرض ذلك فعليا.
لقد ظن أنه من الواضح أن الطبيعة البشرية بتكوينها الحالي يستحيل أن تكون طبيعية، ولم يكن من الممكن أن تكون كما قصد الخالق لها أصلا. قبل سقوط آدم، كان لدى الإنسان القدرة على تفادي الرذيلة بإرادته الحرة، ولم يكن ضعف إرادته يحول بينه وبين فعل الخيرات. لو لم يكن آدم قد أذنب، لعاش مع حواء إلى الأبد. ولكن حتى في الفردوس كان آدم بحاجة إلى العناية الإلهية (مدينة الله، الجزء الرابع عشر 27)، لا كعامل مساعد لإرادته بل كوسيلة لا غنى عنها. في عرضه المبكر لسفر الخروج دحضا للمانويين، شرح أوغسطينوس ذات مرة بشكل عابر روايتي خلق الإنسان، فأوحى بأن الإنسان الذي حباه الرب بالروح ربما تلقى النفحة الإلهية كي ترقى مادة خلقه إلى مصاف الأرواح. ويوحي ذلك بأن العناية الإلهية الخارقة للطبيعة كانت إضافة للبشرية الطبيعية حتى في الفردوس، وأن هذه الإضافة هي ما فقد عند السقوط.
بدا لأوغسطينوس أن بيلاجيوس يناصر النزعة الإنسانية شبه الرواقية، حيث يؤكد على المثل الرائعة لكنه يخفق كثيرا في النفاذ إلى لب القلب البشري. علاوة على ذلك، رغم أن بيلاجيوس لم يكن ينتوي ذلك، فقد بدت لغته بالنسبة إلى أوغسطينوس وكأنها توحي بأن النموذج البشري الممثل في المسيح كاف للخلاص، والواقع أن الأسرار المقدسة للكنيسة قد لا تكون ضرورية حقا. لكن أوغسطينوس أجاب بأن المسيحيين سارعوا بتعميد أطفالهم لغفران الخطايا. لم تقتض الممارسة العالمية لتعميد الأطفال أي دفاع قط من وجهة نظر أوغسطينية؛ فقد كانت مثالا ساميا لسيادة العناية الإلهية الاصطفائية للرب سلفا لأي تحرك من جانب إرادة الفرد، وهي بذلك ليست بأي حال من الأحوال مكافأة على الطموح أو الفعل الفضيل.
تبرز المسألة الجاري مناقشتها في هذا الجزء الأخير من الجدل النقطة الرئيسية التي مفادها أن مذهب أوغسطينوس بخصوص فساد الوجود الأخلاقي للإنسان كان يتطلب تأكيدا موازنا على قوة وضرورة السبل الموضوعية للعناية الإلهية المقدمة من خلال الأسرار المقدسة للكنيسة. كانت ركيزة النعمة الإلهية ممثلة في غفران الخطايا المرهون والممنوح عبر التعميد، والمتجدد في الحياة الجديدة في القربان المقدس. وكانت انعكاسات ذلك على سلطة الكنيسة مهولة.
عندما كتب أوغسطينوس عن الإرادة الحرة قبل أن يمسي أسقفا، توقع أن الأطفال الرضع الذين يموتون دون تعميد لن يجدوا مصيرهم في الفردوس ولا في الجحيم. واتهم البيلاجيون أوغسطينوس في كبره بالتخلي عن هذا الاقتراح الحكيم، وبالإيمان بأن الرب الرحيم العادل قادر على إرسال الرضع إلى الجحيم إذا أخفق آباؤهم في إيصالهم إلى جرن المعمودية في الوقت المناسب. وافق أوغسطينوس على أن مثل هذه الأحداث كانت أليمة، لكنها لم تكن قدرا ولا مصادفة؛ لأنه ما من شيء كذلك في عالم الرب (هبة المثابرة). استنادا إلى يوحنا 3، شعر أوغسطينوس يقينا بأنه ما من أحد يرفض التعميد عن عمد يمكن أن يدخل الفردوس. وإذا أدين الرضع غير المعمدين، فإن إدانتهم لن تنسب إلى أي اختيار شخصي، بل سيكون مؤداها أن سلسال آدم اشترك في تغريب جمعي. أثبتت الضرورة المعترف بها للتعميد الخطيئة الأصلية، وأثبت العيب الذي يشوب الطبيعة البشرية الحاجة إلى الإيمان والتعميد. من الواضح أن رؤية أوغسطينوس مزجت ما بين أفكار بيولوجية عن الوراثة وفكرة المسئولية الشرعية للإنسانية. وسرعان ما اكتشف أنه أبحر في خضم عاصفة.
لقد دفعه الخلاف الجدلي البيلاجي إلى أن يتبنى مواقف شعر النقاد، آنذاك ولاحقا، أنها مؤسفة.
من بين نقاد أوغسطينوس برز جوليان البيلاجي أسقف مدينة إكلانوم (الواقعة على مقربة من مدينة بينيفينتو جنوبي إيطاليا) على اعتبار أنه يحظى بمكانة قريبة من مكانة أوغسطينوس؛ فقد شعر أن التشاؤم الأفريقي لا يعبر عن المناخ الطبيعي للكنائس الإيطالية. كرس أوغسطينوس السنوات الأخيرة من حياته لحوارات بينه وبين الأسقف السالف الذكر اختلطت فيها التعليقات المنصفة بالسباب المشين؛ فقد انتقد جوليان اللغة التي استخدمها أوغسطينوس تعليقا على دور الجنس في نقل صفة الإثم. لقد بدا أوغسطينوس بالنسبة إلى جوليان مانويا غير تائب متأثرا بقدر أكبر مما أدركه بالعقد الذي عاشه أوغسطينوس من حياته تحت تعويذة ماني، وكارها صنع الخالق، ومنكرا حقيقة أن الرب إذ منح الإنسان إرادة حرة فإنه قد «حرر» البشرية كي تقف على أقدامها.
دافع أوغسطينوس عن نفسه بشراسة. وأحس أنه مبرأ بالطريقة التي يتعاطى بها البشر جميعا مع الجنس باعتباره مصدرا للمشقة الشخصية والمجتمعية. تعمل غريزة التزاوج لدى الحيوانات فحسب في مواسم معينة من العام، أما في البشر فإن هذه الغريزة توقع الإنسان دوما في المتاعب (العظات، فرانجيب). الخزي ظاهرة عامة؛ ففي إطار العلاقة الزوجية نفسها، حيث يعد الاتصال الجنسي عفيفا بلا شك، عادة ما يتم ذلك الاتصال في خصوصية تامة وفي الظلام. لقد أثار الفلاسفة الكلبيون ثائرة الرأي العام إلى أقصى الحدود إذ تزاوجوا على قارعة الطريق، لكنهم أعرضوا عن هذه الممارسة قبل عصر أوغسطينوس بفترة طويلة. وأثارت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج القيل والقال. لقد جعلت الفجوة ما بين الكرامة والشهوة الحيوانية الموضوع مثار كثير من الكوميديا. لم تسك الألفاظ المحرمة للتعبير عن مزيج الانبهار والاشمئزاز الخاص بالبشرية؟ تقع بيوت الدعارة في مناطق خاصة بالمدن لا في الشارع الرئيسي. وهناك إحساس بديهي بأن الجنسانية يمكن أن تتعارض مع الطموحات العليا.
استغل أوغسطينوس مرارا وتكرارا نقاشا يبدو غريبا على القارئ الحديث؛ فالتغيرات الفسيولوجية التي تجعل من الاتصال الجنسي قابلا للممارسة لا يتحكم فيها العقل أو الإرادة. وكثيرا ما يتعارض الجسد مع المنطق والعقل؛ حيث يستحث الأول متى لم ترد الإرادة والعقل له أن يفعل أو العكس. علاوة على ذلك، «النشوة الجنسية تطغى على العقل» فتطمس التفكير العقلاني (ردا على جوليان البيلاجي
Contra Julianum Pelagianum ). رأى أوغسطينوس في هذه السمة اللاعقلانية واللاإرادية للباعث الجنسي التجلي المطلق لحقيقة وجهة نظره. لم يفهم أوغسطينوس شيئا عن ردود الأفعال المنعكسة؛ ولذا فقد شكل صورة تخيلية للحياة الجنسية لآدم وحواء قبل السقوط (هذا إذا لم يحدث السقوط فعلا بعد خلق حواء بفترة وجيزة). لابد أن ارتباطهما كان هادئا وخاضعا لسيطرة الإرادة، بالضبط كما نستطيع أن نحرك أيدينا وأقدامنا متى شئنا. وكان اقترانهما في الفردوس مصدرا ل «المتعة السامية». لم يقبل أوغسطينوس الأفكار العتيقة التي كانت شائعة بين الطوائف الغنوصية بالقرن الثاني الميلادي، والتي مفادها أن سقوط آدم وقع بإغراء الحية لحواء، أو أن آدم وحواء سقطا لأنهما اتصلا جنسيا قبل الأوان المحدد لهما. وتبرأ سريعا من وجهة النظر (التي تبناها في فترة من الفترات) التي مفادها أن الجماع نتيجة للسقوط. لكن السقوط كان قد أثر على الجماع.
إن نقاشاته العديدة للجنسانية تخلو بشكل واضح من الحشمة، وكانت صريحة جدا لدرجة أنه كان يخشى أن يطلع عليها أصحاب العقول التي لا ترقى لجدية الموضوع قيد النقاش. اطلع أوغسطينوس على الطب كقسم من أقسام العلم، وتضمنت مكتبته كتبا دراسية إكلينيكية، وبينما وضع ردوده على جوليان أسقف إكلانوم، درس أفضل كتاب دليلي لعلم الأمراض النسائية. على أي حال، ما من أحد استطاع أن يتهمه بكونه عزبا عفيفا لا يعي شيئا من أمور الزواج التي يتحدث عنها. لقد شعر أوغسطينوس انطلاقا من كونه قسا بأنه يجب عليه - بل وحق عليه - أن يملي على المسيحيين المتزوجين ما يجوز أو، في عيد الصوم الكبير، ما لا يجوز لهم القيام به في فراشهم.
كما رأينا من قبل، كان تقييم أوغسطينوس للجنسانية يمتاز بالتذبذب ما بين تنازله الشخصي وتقييم كاثوليكي إيجابي لجمال الجسد البشري الذي منحه الخالق للبشر (على سبيل المثال، المراجعات، الجزء الثاني). لكن التقييم الأكثر إيجابية لم يستطع استبعاد حقيقة التجربة التي مفادها أنه حتى بالنسبة إلى المتزوجين يمكن أن تكون للجنس مشكلاته؛ فقد يعصي الجسد الإرادة والعقل، ورأى أوغسطينوس (متبنيا فكرة من فرفوريوس) هذه الحقيقة كعقوبة لمقاومة الروح للخير الإلهي؛ وعليه، شدد أوغسطينوس على أن الفعل الجسدي كان أداة توريث الطبيعة البشرية المعيبة عقب السقوط. ولو لم يكن ذلك هو الحال، لما اعتبر العهد الجديد الحياة الزوجية أدنى درجة من الخير الأعظم للعزوبية، وهي وجهة النظر التي يشارك فيها أوغسطينوس فرفوريوس أيضا؛ ولذا «فإن أس الرذيلة كلها يكمن في إثارة الشهوة» (عن شمائل الخطايا وغفرانها).
اقترح أوغسطينوس بجرأة أن هذه الفرضية تفسر علة ميلاد المسيح من عذراء (وهي المعجزة التي أثارت الكثير من انتقادات الوثنيين شأنها شأن البعث). ومن مريم العذراء ورث المسيح «تشابه الجسد الخطاء» (وهي عبارة القديس بولس)، وليس جسدا معيبا بفعل الخطيئة الأصلية. وبذلك أقحم أوغسطينوس فكرة مؤثرة وقاتلة في علم لاهوت القرون الوسطى؛ ألا وهي أن الفعل الجنسي يستحيل القيام به دون مسحة من الشراهة. في القرن الثاني عشر تعرت الفرضيات المسبقة الكامنة في وجهة النظر هذه، وتعرضت لنقد شديد من قبل بيتر أبيلار وروبرت أسقف ميلون.
ومع ذلك، كان أوغسطينوس على دراية بأنه بحاجة إلى تحصين موقفه التقشفي من المغالاة والغلو . وعندما أنكر، نحو عام 390، ناقد للزهد والتقشف يدعى جوليان (وهو نفسه ناسك) أن العذرية من هذا المنطلق أسمى أخلاقيا من الزواج، أمسى هجوم جيروم الضاري عليه ترنيمة كراهية ضد الجنس والزواج؛ حتى إن تهم تبني المانوية أصبحت تبدو تدريجيا معقولة على غير المألوف. لتفادي تبعات الأفعال الطائشة الأكثر جسامة لجيروم، كتب أوغسطينوس عام 401 أطروحة «حول الزواج الصالح». كانت هذه الأطروحة موجهة للراهبات ومحذرة إياهن من أنه رغم اختيارهن لحياة أسمى حقا، فلا يتعين عليهن ازدراء منظومة الزواج المسيحي. إن المتعة الحسية التي تصاحب لا محالة الفعل الجنسي ينبغي أن تتمايز عن الشبق الذي يمثل تطبيقا خاطئا للنزعة الجنسية. ولقد عرف ثلاثة مكونات صالحة للزواج تعريفا لا يتضمن الاستمتاع المتبادل. وكانت تلك المكونات التناسل والإخلاص المتبادل و«السر المقدس» أو قاعدة عدم قابلية الانفصال (أي حظر الزواج مجددا بعد الطلاق أو الانفصال). ولطالما شعر أوغسطينوس بالتردد حيال المكون الأخير المتعلق بعدم قابلية الانفصال، في ضوء إنجيل متى 5: 32 ورسالة بولس إلى أهل كورنثوس 7: 10-11، فتبنى تدريجيا موقفا متزمتا ومتشددا في المراحل اللاحقة للخلاف البيلاجي.
رأى أوغسطينوس أن الزواج يقوم على أساس قبول الزوجين وليس على أساس الجماع (وقبل وجهة النظر السائدة في القانون الروماني). وبينما كان التناسل هو الغاية من الفعل الجنسي في المقام الأول، حكم أوغسطينوس أنه «من الجائز» أن يستمتع الزوجان بالجماع دون أن تكون لديهما نية التناسل. وشأنه شأن أرسطو والقديس بولس، شدد أوغسطينوس على الواجبات المتبادلة بين الزوجين. وأوصى بتحري أكبر قدر ممكن من ضبط النفس للأزواج المسيحيين الجادين النبلاء، وظن أنه ما من شيء أجمل من الصداقة الخالية من الاتصال الجنسي بين كبار السن. لكنه سلم عن طيب خاطر بأن الوازع الجنسي في الزواج المسيحي «يستغل استغلالا جيدا»، بل وأصر على ذلك. والشيء الذي لم يستطع أن يحمل نفسه على قوله هو أن ما يستغل بحد ذاته محايد أخلاقيا أو فعل طبيعي إلى أقصى حد بالنسبة إلى الطبيعة الحيوانية التي غرسها الرب في الإنسان. لكن التقليد الأفلاطوني جعله ينزع إلى تعريف جوهر الإنسان بطريقة كادت تطمس الطبيعة المادية لهذا المخلوق. واستطاع أن يستشهد بالتعريف المشهور لأرسطو للإنسان باعتباره حيوانا فانيا عقلانيا، لكنه فضل بالتأكيد أن يتكلم عن الإنسان كروح متحدة مع جسد، أو روح تستخدم جسدا.
ثمة نقطة محورية أخرى أجبر الخلاف فيها أوغسطينوس على توظيف لغة أكثر قسوة مما وجدها كثيرون؛ ألا وهي مبدأ القضاء والقدر ومسألة المثابرة المتعلقة به. شعر الناس أنها مسألة معقدة جدا لدرجة أن مجمع ترنت بعدها بسبعة قرون تعاطى معها بعناية شديدة، وأصدر أحكاما لم تساعد على إزالة مواطن اللبس الشديدة فيها (وبذلك فتح المجلس الباب على مصراعيه للخلاف الجنسيني «نسبة إلى المذهب القائل بفساد الطبيعية البشرية»). فهم أوغسطينوس أولوية النعمة الإلهية على اعتبار أنها تقتضي النتيجة الحتمية أن الرب لم يستطع أن يسمح لصفوته في نهاية المطاف بالخروج من نعمته. لا بد أن يوحي القضاء والقدر بأن الوصول إلى الوجهة المقصودة سيتم؛ ولذا، فإن المعرفة البشرية المسبقة ليست سببية، أما معرفة الرب المسبقة فهي سببية. ولم يستطع أوغسطينوس أن يتقيد بالفكرة التي مفادها أن القضاء والقدر قائمان على فضائل متوقعة، وهي الفكرة التي كانت شائعة إلى حد كبير بين علماء اللاهوت اليونانيين المعاصرين له. وما من شيء في الإنسان سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل يمكن أن يمثل العلة الباعثة أو المستأهلة لاصطفاء الرب. اضطر أوغسطينوس أن يواجه الصعوبة الشديدة الممثلة في أن هذه الفكرة تتعامل مع الرب باعتباره مستبدا متعسفا ومبهما بقوله المأثور إن الرب لا يقضي ويقدر وحسب، بل ويضفي على الخلق فضائلهم أيضا. ووجد أن المسيح هو أفضل مثال على وجهة نظره هذه. فبما أن المسيح متحد مع الرب، فخيريته يستحيل أن تكون عارضة أو مزعزعة بأي حال من الأحوال. ولا يجوز أن يذنب، أما نحن فيجوز أن نذنب. ولكن إذا كنا ضمن المصطفين، فلا شك أننا سنرقى من اقتراف الذنوب للوفاء بالغاية المحددة مسبقا للرب. و«المسيح وناسوته الكامل» مقدر مسبقا.
سلم أوغسطينوس بأن المصطفين لا يستطيعون الجزم أبدا إن كانوا مصطفين حقا أم لا ما لم يكن ذلك بالاصطفاء الخاص استثناء، وأصر على وجهة نظره هذه. فمن الممكن أن يكون هناك اختبار تجريبي وحيد للاصطفاء، وأن يكون هذا الاختبار ضروريا لكنه ليس كافيا؛ ألا وهو المثابرة حتى النفس الأخير والموت في حالة من النعمة. لكن الرب وحده يعرف من هم أصفياؤه؛ فالمثابرة هبة غير مستحقة للنعمة، وكذلك أيضا الالتجاء الإرادي للرب إيمانا وتوبة.
سرعان ما أثارت مذاهب أوغسطينوس نقدا بين الرهبان في شمال أفريقيا ولا سيما جنوبي بلاد الغال في مارسيليا وليران. وتلقى دعما مؤزرا من إقليم آكيتين الفرنسي (على مدار عدة قرون، أثيرت نسبة كبيرة جدا من الخلافات والجدل حول مذهب أوغسطينوس المتعلق بالقضاء والقدر على الأراضي الفرنسية).
استند نقاد أوغسطينوس إلى الحقيقة الواضحة التي مفادها أن مذهب القضاء والقدر خاصته يحتكم إلى انتقائه الجزئي لنصوص في الكتاب المقدس، واضطراره إلى تطويع النصوص الأخرى التي لم تطابق أطروحته عنوة. ودعت الحاجة إلى تفسير النص المستخلص من العهد الجديد القائل إن «الرب يريد للجميع النجاة» بحيث يعني أن المصطفين يتضمنون ممثلي كل عرق من أعراق البشرية (حول التعنيف والنعمة الإلهية
De correptione et gratia ). ويمكن اختزال حجة النقاد ضده تقريبا في التهمة البشعة التي مفادها أنه (بشكل فيه تضارب) ضل في عالم «الفضول»؛ حيث زعم أنه يستفسر عن مسائل متعلقة بالرب التي يميط الرب اللثام عنها، وتتجاوز المعرفة البشرية. ولكن، فيما وراء المخاوف كان هناك الخوف المنطقي من أن يولد المذهب الأوغسطيني لامبالاة أخلاقية. ولقد دعم كثير من نقاده جنوبي بلاد الغال معارضته لبيلاجيوس وجوليان، لكنهم شعروا بالحرج من الحجج التي ساقها.
ناصر البعض المذاهب الأوغسطينية السامية المتعلقة بالاصطفاء بين الحين والآخر في التاريخ المسيحي؛ حيث دعمها جوتشالك في القرن التاسع وجون كالفين في القرن السادس عشر وجانسينيوس في القرن السابع عشر. ودائما ما حرض هؤلاء على المعارضة التي سعت لتفادي البديل البيلاجي، لكنها في الوقت نفسه حفظت حرية الإرادة والمسئولية البشرية. وقد يمثل حكم أوغسطينوس الشخصي على النقاش المتعلق بالنعمة الإلهية والإرادة الحرة في كتاب خطه للقديس سيمبليكيوس أسقف ميلانو؛ موجزا للمشكلة من منظور معارضيه، المناوئين لبيلاجيوس أنفسهم، وبحسب رؤيتهم للمسألة: «في محاولة حل هذه المعضلة، بذلت جهودا مضنية على حساب الحفاظ على حرية اختيار الإرادة البشرية، لكن النعمة الإلهية غلبتني» (المراجعات).
أمسى أوغسطينوس يتمتع بأثر واسع النطاق خلال حياته نتيجة كتاباته التي انتشرت وشاعت حيثما كانت اللاتينية لغة مقروءة. وجرى العرف أن خاطبه مراسلون لا يعرفهم طالبين إليه حل الألغاز التي تواجههم أو آملين (عادة عبثا) أن يقبل جهودهم اللاتينية الخاصة. حتى القديس جيروم أرسل إليه في العام الأخير من حياته رسالة كلها ثناء وإطراء من بيت لحم يخبره فيها أنه «أعاد بكتبه فعليا إرساء قواعد العقيدة القديمة»، وأن الهجمات الحاقدة التي شنها المهرطقون عليه دليل كاف على إنجازه (الرسائل). وكان أوغسطينوس محرجا دوما من معاملته بوصفه «مرجعا وحجة» من منطلق أن أحدا لا يتوقع منه تقديم حجج على ما يدعيه. فالكتاب المقدس، وحيثما سكت هذا الكتاب عن شيء أو كان ملغزا، والإجماع المسكوني فحسب كان لهما مثل هذه السلطة لدى المؤمنين. علاوة على ذلك، كان النموذج المثالي بالنسبة إليه يتمثل في مواصلة تصحيح وتحسين فهمه إلى يوم الممات. لم يكن أوغسطينوس عموما رجلا يدافع عن موقف لمجرد أنه سبق أن تبناه من قبل فحسب؛ فقد كان أسلوب تعاطيه مع نقاده عادة ينطوي على بيان الصعوبات في موقفهم واقتراح أنه يفضل أن يعيش متبنيا موقفه الشخصي. وكانت أعماله دوما تعكس الاستقلال النقدي لعقله، وربما كان موطن قوته هو قدرته النادرة على الوصول إلى لب مسألة معقدة. ودون أن يكون فيلسوفا فنيا من وجهة النظر المهنية، كان عقله مجهزا، وتظل كتاباته ذات أهمية كبيرة لأصحاب الفكر الفلسفي المعنيين بالتقليد الأفلاطوني. ولقد توغلت الكثير من أعمال أفلوطين في دمه، لكنه استمر أستاذا بارزا من أساتذة الخطابة الإقناعية. ورغم تحوله من الخطابة إلى الفلسفة في عام 386، كان أثر الترسيم عليه بعدها بخمس سنوات أن أعاده إلى موقف أمست فيه الخطابة مهمة بالنسبة إليه، وقد سيطر عليه إيمان جديد بأنه ليس نصيرا لمصلحة بشرية ما وحسب، بل ومدافع عن حقيقة الرب نفسها. ولم يغادره قط افتتانه بالكلمات.
كتب إدوارد جيبون بازدراء عن أوغسطينوس قائلا: «معرفته مستعارة إلى حد كبير، وحججه أغلب الظن خاصة به.» لكن أي باحث معاصر من شأنه أن يزيل هذا الازدراء ويعكس الحكم الذي أصدره جيبون عليه؛ فقد علم أوغسطينوس نفسه بنفسه إلى حد كبير، وكانت بين يديه مكتبة كبيرة تزخر بالكتب الكلاسيكية والأدب المسيحي (ومن ذلك أعمال لعلماء لاهوت يونانيين)، وكان ذهنه حافلا بالأدب الكلاسيكي، وكان يعرف كيف يستغل كتبه. أما بالنسبة إلى حججه، فكثير منها مستعار في حقيقة الأمر، ولا سيما من فرفوريوس وشيشرون الذي لم يستطع أن ينسى قط محاورته «هورتنسيوس». ولم تعن استعارته من الأفلاطونيين الجدد أن دينه لم يكن ممتزجا بتحليل نقدي.
لقد أوضح ازدراء جيبون لأوغسطينوس العداء العام الموجه نحو السمة الأوغسطينية من جانب التنوير في القرن الثامن عشر. كانت هناك أسباب لهذا العداء؛ فالمشاحنات المريرة ما بين معسكر الإصلاح والمعسكر المناوئ له، التي أسفرت عن حروب طويلة ألحقت أضرارا جسيمة، كانت في الأساس عبارة عن خلافات على تفاسير مختلفة لمذهب أوغسطينوس المتعلق بالكنيسة والنعمة الإلهية. ودار الخلاف الجدلي في القرن السادس عشر حول التبرير بالنعمة الإلهية وحدها بشرط الإيمان وحده (وهو الخلاف الذي بدا مملا وغير ذي صلة بالشخصيات العقلانية البارزة في القرن الثامن عشر) في إطار للأفكار أوغسطيني ومتعلق بالعصور الوسطى في طبيعته، وكان فصلا جديدا في النزاع الدائر حول العلاقة ما بين الطبيعة والنعمة الإلهية. في القرن السادس عشر، التجأ طرفا النزاع إلى أوغسطينوس. وكان قرار مجمع ترنت الخاص بالتبرير (1547) خليطا من عبارات أوغسطينية، وكان معاديا لبيلاجيوس بشدة، حتى إن البروتستانتيين لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على الإيمان بصدقه وإخلاصه. وأهم من ذلك كله أن الإنكار الأوغسطيني للقدرة البشرية على تحقيق الكمال كان له ممثلون، ولا سيما بين أتباع الينسينية والكالفينية، قامت حركة التنوير كرد فعل واضح ضد وجودهم .
شكل 10-1: القديس أوغسطينوس في صومعته في القرن الخامس الميلادي، بريشة ساندرو بوتشيللي. معرض أوفيزي، فلورنسا.
مرة أخرى نجد في أوغسطينوس مثالا للنموذج الصوفي؛ فقد التمست حركة الإصلاح البروتستانتية دعما واسعا من العامة بكراهيتها السياسية للنموذج الرهباني الذي عارضه المعارضون لهيمنة القساوسة على اعتبار أنه يستقطب ثروات طائلة دعما لمؤسساته. ورغم أنه ليس هناك توتر جوهري بين المذهب الصوفي التقشفي في المجتمع ومبدأ التبرير بالنعمة الإلهية بشرط الإيمان، حاول لوثر أن يحاجج بأن العهود الرهبانية تتعارض مع مسيحية العهد الجديد. شاركت حركة التنوير في هذه الكراهية أيضا، لكنها قبلت المعتقد الأوغسطيني المعارض للإصلاح، الذي مفاده أن الإنكار التقشفي للخيرات الطبيعية كان يدرس في العهد الجديد. ورأى فولتير وجيبون هذا التصوف المتأصل في المسيحية كداع وجيه لرفضها ونبذها: فإنجيل النعمة الإلهية والسلام لم يفعل شيئا يجعل العالم مكانا أكثر ثراء من الناحية المادية، والأدهى أنه أحبط الأبهة العسكرية.
من المؤكد أن أوغسطينوس اعتبر المسيحية الأصلية أخروية الطابع؛ فهي تستقي نقاط مرجعيتها ومعاييرها من اعتبارات تتجاوز عملية الزمن والتاريخ. ورغم أنه كان مقتنعا بأن هذا العالم هو عالم الرب، فإنه لم يؤمن بأن الحياة البشرية يمكن أن تنتمي بالكامل للنظام العلماني والمادي، أو أن القيم الرئيسية يمكن أن تتمثل في السلطة والكرامة والثروة والجنس. وقد رسخ شيشرون في ذهن أوغسطينوس ترسيخا تاما فكرة أن هذه القيم يستحيل أن تكون الطريق إلى السعادة، سواء للفرد أو للمجتمع.
قراءات إضافية
The edition of Augustine by the Benedictines of St Maur (Paris, 1679-1700), often reprinted, is in J. P. Migne,
(Paris, 1841-2). Further sermons in G. Morin,
Sermones post Maurinos reperti (Rome, 1930), C. Lambot,
Sermones Selecti (Utrecht, 1950), and F. Dolbeau,
Vingt-six Sermons aux Peuple d’Afrique (Paris, 1996). A guide to these in P. P. Verbraken,
Études critiques sur les sermons authentiques de S. Augustin (Steenbrugge, 1976) .
Many principal works have modern editions in the two series, Corpus Scriptorum Ecclesiasticorum Latinorum and Corpus Christianorum .
For a high proportion English translations exist, such as in the Oxford Library of the Fathers (1838-81), a series edited by M. Dods (T. & T. Clark, and Eerdmans), and three recent series, Library of Christian Classics, Fathers of the Church, and Ancient Christian Writers. Translations of
Confessions (Oxford World’s Classics, 1992) and
The City of God (H. Bettenson, London, 1972, new ed. 1984). The best edition of the
Confessions
is by A. Solignac (Paris, 1962) .
For biography without the theology see the excellent Life by
The
(Eng. tr., London, 1960); J. Burnaby,
Amor Dei (Norwich, 1995); G. Bonner,
Augustine, Life and Controversies (London, 1964, new ed. Norwich, 1986); E. TeSelle,
Augustine the Theologian (New York, 1970); R. A. Markus (ed.),
Augustine: A Collection of Critical Essays (New York, 1972); on the Church, R. F. Evans,
One and Holy (London, 1972); on ethics, H. A. Deane,
The Political and Social Ideas of St Augustine (Columbia, paperback 1963). On the Donatist schism: W. H. C. Frend,
The Donatist Church (Oxford, 1952, reprinted 1985). Neoplatonism: J. J. O’Meara,
The Young Augustine (London, 1954, paperback 1980); C. Harrison,
Augustine, Christian Truth, and Fractured Humanity (Oxford, 2000); R. Sorabji,
Time, Creation and the Continuum (London, 1983); Paul Henry,
The Path to Transcendence (Eng. tr.
Late Latin Writers and their Greek Sources (Eng. tr., Harvard, 1969); H. Hagendahl,
Augustine and the Latin Classics (Gothenburg, 1967); G. O’Day,
Augustine’s City of God (Oxford, 1999) .
Classical Library. An annual survey of literature on Augustine appears in
Revue des études augustiniennes (Paris) .
مصادر الصور
(1-2) Archivi Alinari, Florence . (1-3) © Archivo Iconografico S.A./Corbis . (5-1) From Erwan Marec: Monuments Chrétiens d’Hippone: Ville Épiscopale de Saint Augustin. Arts et Métiers Graphiques, Paris, 1958 . (6-1) Biblioteca Medicea Laurenziana, Florence . (6-2) National Gallery, London . (9-1) The Louvre, Paris . (9-3) German Institute of Archaeology, Rome . (10-1) Archivi Alinari, Florence .
صفحه نامشخص