الغرض بيان انحصار علم البلاغة في المعاني والبيان، وانحصار مقاصد الكتاب في الفنون الثلاثة وينبغي أن يراد أن البلاغة في الكلام كان أو في المتكلم (مرجعها) أي رجوعها إلى أمرين أي يتوقف عليهما: إما رجوع بلاغة الكلام فظاهر، وإما رجوع بلاغة المتكلم، فلأنه إنما تحصل الملكة بالممارسة على الاحتراز، أو تحصل للاحتراز بسهولة، فالاحتراز يتوقف عليه الملكة باعتبار تحققه، وتكرره أو باعتبار تصوره كما هو شأن الغايات، وكذا التمييز، فتفسير المصنف والشارح قوله بأن البلاغة في الكلام مرجعها (إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد) خفى، والمراد بالمعنى المراد ما هو مراد البليغ من الغرض المصوغ له الكلام كما هو المتبادر من إطلاقه في كتب علم البلاغة، فلا يندرج فيه الاحتراز عن التعقيد المعنوي، كما توهمه البعض، ولا الاحتراز عن التعقيد مطلقا كما هو في معرض التوهم، وشأن التوهم أن يتعلق به ولا يختص بالاحتراز عن التعقيد المعنوي (وإلى تمييز الفصيح) كلاما كان أو مفردا من غيره ولك أن تخصه بالكلام، وتدرج تمييز المفرد فيه، وإلى الثاني ذهب المصنف (والثاني) أي تمييز الفصيح عن غيره ومعرفة أن هذا الكلام فصيح وهذا غير فصيح عند التحقيق تمييزات يرجع كل إلى أمر فإنه تمييز الخالص عن الغرابة عن غيره، وتمييز المخالف للقياس عن غيره، وتمييز الخالص عن ضعف التأليف عن غيره، وتمييز الخالص عن التعقيد اللفظي عن غيره، وتمييز الثقيل على اللسان عن غيره، كما أشار إليه بقوله: (منه ما يبين) أي يوضح بمعنى أنه يتضح أن تمييز المميز كان حقا أولا (في علم متن اللغة) وكان الأوضح منه ما يرجع إلى علم متن اللغة يعني معرفة أوضاع المفردات، وأما اللغة فقد يطلق على جميع أقسام علوم العربية، فلذا قيد بالمتن ليكون واضحا. (أو التصريف أو النحو أو يدرك بالحس) المكتسب من الممارسة على التلفظ بالألفاظ الخالصة عن التنافر (وهو) أي: ما يبين في هذه العلوم أو يدرك بالحس (ما # عدا التعقيد المعنوي) فمست الحاجة للاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد إلى علم، وللاحتراز عن التعقيد المعنوي إلى علم، فوضعوا لهما علمي البلاغة، ثم احتاجوا لمعرفة ما يتبع البلاغة من وجوه التحسين إلى علم آخر، فوضعوا له علم البديع.
(وما يحترز به عن الأول) أي أول الأمرين الباقيين علم المعاني (وما يحترز به عن) ثاني الأمرين الباقيين وهو (التعقيد المعنوي علم البيان، وما يعرف به وجوه التحسين علم البديع، وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان، وبعضهم يسمي الأول علم المعاني والأخيرين علم البيان والثلاثة علم البديع) ولا مشاحة فيها لذوي الأبصار، وإنما الاعتبار لما نال مزيد الاشتهار.
لما فرغنا من شرح المقدمة وحان الشروع في شرح علم المعاني، أقول متضرعا متذللا سائلا الإلهام الرباني، إلهي نعوذ بك من الملاهي، ونلوذ بأوامرك في الاجتناب عن المناهي، ونسألك التمتع بأسرار المثاني، وفهم معانيه الأول والثواني، وإحراز ما وعدته بقراءة كل حرف من حروف المباني، ونبتهل إليك في التخصيص بفهم مزايا أودعتها فيها للخواص، وبالعمل بما يعرف عنها الاجتهاد، مقرونا بكمال الإخلاص، ونطلب منك التوفيق لتحقيق إسناد جميع الكائنات إليك في كل حال، ولضبط كل مسند إلى خير مسند إليه، نبي الرحمة من الأفعال والأقوال ومفازا بمراتب علية هي متعلقات الأفعال والأعمال، ونرجو من قصر أنظارنا على إنشاء ما يوجب الوصل إلى موجبات معرفتك، والفصل عما يوجب خفة موازيننا بل مساواتها، والانقطاع عن مغفرتك، إلهي أغننا بإيجاز جوامع الكلم في المسألة عن الإطناب، وألهمنا رشدنا واهدنا الصراط المستقيم في جميع الأبواب:
الفن: هو الضرب والتزيين سمي به كل قسم من كتابه إشارة إلى مهارته في الصياغة، حيث سبك من مادة واحدة هي مفردات الكلم أنواعا، وجلب لتزيينه لمعانيه بتركيبات بديعة إلى ضبطها طباعا، وادعى لإفادة شدة امتزاجها بالمعاني وسرعة الانتقال منها إليها كونها عين المعاني فقال:
صفحه ۱۹۸