وكان للتربية السياسية في منهاج دراستنا شأن أعظم من شأن التعليم الفني نفسه؛ ذلك أن الحكومة لم تكن تهدف إلى الحصول على مهندسين وحسب، بل كانت تريد مهندسين ذوي عقول سوفيتية، وكانت كلية لينين التابعة للمعهد وعلى رأسها الأستاذ فيليب الأحمر تعمل جاهدة لهذه الغاية، وكان الذين يعجزون عن استيعاب كتاب رأس المال
Das Capital
لكارل ماركس، ومحاورات إنجل ومؤلفات لينين وأبحاث ستالين وهي أهم من هذه كلها، يخرجون من المعهد أسرع مما يخرج منه الذين يعجزون عن استيعاب حساب التفاضل والتكامل، أو الذين لا يجيدون عمل التصميمات الهندسية.
والتحقت أنا ورفاقي الأربعة بمعهد بناء الطائرات، وإن لم يكن لأحد منا خبرة عملية في بنائها عدا فجورا، وكان لموضوع الطيران في حد ذاته صفة رمزية خاصة؛ لأنه كان أحدث ما اتبع من الوسائل في تجديد روسيا؛ ولذلك كان التحاقنا بمعهد الطيران سببا في شحذ همتنا وانشراح صدورنا.
وكنا في صباح كل يوم نمارس ضروبا من الألعاب الرياضية في حجرتنا لنخفف من آثار البرد القارس، ثم نفطر في المطعم. وكان الفطور المقرر يشمل مقدارا قليلا من الحساء وكسرة صغيرة من الخبز الأسود والشاي من غير سكر أو ليمون، وكنا نذهب بعدئذ إلى المعهد، جياعا نرتعد من البرد، ولكننا لم نر في هذا شيئا من البؤس والشقاء، بل كنا نتحدث طويلا ونضع الخطط الكثيرة للمستقبل، نتحدث عن المعهد والمطعم والحزب وعن أنفسنا نحن.
ونشأ بيننا شيء من الولاء لجماعتنا رغم ما كان بيننا من فروق في الآراء واختلاف في الشخصية، فإذا كان واحد منا نحن الخمسة على موعد مع فتاة جاء له زملاؤه الأربعة بما يحتاجه من رباط للرقبة أو سترة نظيفة أو سراويل أنيقة، بل كنا نقدم له أحيانا بعض الروبلات ليستعين بها على مطالبه في هذه المناسبات.
وكان للمعهد صحيفته الخاصة شأنه في ذلك شأن كل معهد سوفيتي آخر، وسرعان ما انضممت إلى هيئة التحرير فكنت محررا مساعدا لهذه الصحيفة، وكان التذمر من أحوال مسكننا شائعا بين العمال، ورددت صحيفتنا أصداء هذا التذمر، وكثيرا ما وجه النقد فيها إلى قلة الطعام وسوء طهيه، وعدم العناية بغسل الملابس، وقذارة المكان وسوء الإدارة.
وبلغ هذا التذمر غايته حين انتظم الطلاب في اجتماع عام نظمته خلايا الحزب ولجان الشباب، وألقيت في هذا الاجتماع كثير من الخطب وعرضت عدة اقتراحات، وعرضت أنا بناء على اتفاق سابق مع لجنة تنظيم الاجتماع أن يقوم الطلاب أنفسهم ببعض الأعمال الإدارية، وأن يتحملوا هم بعض التبعات، فلما تقدمت بهذا الاقتراح عرض ألكسي أن أقوم أنا من فوري بهذا التنظيم، ولم يكد يعرض اقتراحه حتى قامت فتاة حسناء جذابة لم ألق بالي إليها من قبل وطلبت الكلمة، فلما أذن لها قالت: «أؤيد انتخاب الرفيق كرافتشنكو، فقد عرفته من ثماني سنين وفي وسعي أن أشهد بأنه رفيق مخلص.»
وكانت فتاة حسناء بلا جدال، ممتلئة الجسم، أنيقة الملبس، جريئة في قولها، تبدو عليها شواهد الاعتماد على نفسها، وظللت طوال الاجتماع لا أدري من تكون هذه الفتاة وكيف عرفتني. وانتخبت رئيس «هيئة البيت الكبير»، ولما انفض الاجتماع لحقت بالفتاة في الردهة.
فلما رأتني قالت وهي تضحك ضحكة خبيثة: «كيف حالك يا فكتور أندريفتش؟ لست أشك في أنك قد نسيتني، ولكن حسبي أنني أذكرك.»
صفحه نامشخص