وكان ألكسي في واقع الأمر رجلا له بعض الخطر؛ لأنه كان عضوا في اللجنة المركزية لمنظمات الشباب، وكان فتى بهي الطلعة مفتول العضلات أصفر الشعر عسلي العينين، يشع منهما الجد والوقار، جميلا في أخلاقه كما كان جميلا في ملامحه نبيلا صريحا، ذا عقل نقاد يندر وجوده بين الموظفين الشيوعيين، وقلما كنت تراه يزهو بنفسه اعتمادا على سمو مركزه، أو يتهرب من المناقشة الصريحة في الشئون المدرسية أو الشئون العامة.
وسرعان ما استحكمت عرى المودة بيني وبين ألكسي، فقد كنا كلانا نحب حزبنا ونؤمن به، ومن أجل هذا السبب نفسه لم نتردد في التحدث عنه بمنتهى الصراحة، فنسائل أنفسنا عن سبب وجود تلك الهوة السحيقة بين المبادئ والأعمال، وبين الأقوال الرسمية والحقائق الواقعة، وكنا نبحث هذه المشكلة إشفاقا منا على الحزب لا غضبا عليه، وكان أسهل علينا أن نجد من الأسباب ما يبرر حكم الإرهاب الذي بدأت بوادره في الظهور، وأن نكشف عن البواعث النبيلة الكامنة وراء هذا المسلك الآثم في ظاهره، وأن تثبت قلوبنا على الإيمان بعهد الآلام الذي كنا نعيش فيه.
أما جورج فجورا فكان شيوعيا من طراز غير هذا الطراز، وكان يخيل إلى هذا الرجل أن مجرد التفكير في مناقشة ما يصدره الحزب من الأوامر والقرارات هو الكفر بعينه، فأي شيء في هذه الأوامر والقرارات يمكن أن يناقش؟ ألم يكن كل شيء فيها واضحا جليا؟ ولم يكن لجورج رأي خاص، وكل ما كنا نسمعه منه أقوال ينقلها عن ستالين وعن جريدتي إزفستيا وبرفدا وما إليهما من المراجع، أما الموضوعات التي لا يجد لها سندا من الأقوال الرسمية فلم يكن لها وجود لديه، ولم يكن يشك مطلقا فيما نجيزه لأنفسنا أنا وألكسي من تنقيب في الشئون العامة، وما نتكلفه من عناء في بحثها أو عدم التحرج في الحديث عنها، لم يكن يشك مطلقا في أن هذا كله سيكون وخيم العاقبة علينا.
ولم يكن نجلكين أقل إخلاصا للحزب من جورج، ولكنه كان فتى متسامحا، مثابرا، صبورا على ما يصيبه من آلام، وكان كثير الاحترام لجميع رفاقه، يشعرني بأنه فتى ذليل، يرى أن مجرد وجوده على ظهر الأرض نعمة أنعم بها عليه، ولشد ما كان شعوري بحاله هذه مؤلما لي، وكان يخشى تطرف فجورا في حزبيته التي لا يقبل فيها جدلا، بقدر ما يخشى أسئلتي الجريئة، ولعلنا كنا نستغل وداعته هذه فنحمله من أعباء العمل أكثر مما يجب أن يتحمله.
أما الشخص المشكل حقا في حجرتنا فقد كان هو فانيا أفداش تشنكو، وكان فانيا هذا أكبرنا سنا يزيد على الثلاثين من عمره، وكان بدينا قوي الجسم طيب القلب، كسولا فوق ما يتصوره الإنسان، ولما كان قد اشترك في الحرب الأهلية في صف الشيوعية فقد كان يقنع بالحياة في ظلال ما ناله من المجد الزائل في مغامراته الماضية، وكأنه كان يعتقد أن هذه الأعمال تعفيه طوال حياته المستقبلة من القيام بكل عمل جدي أيا كان نوعه.
ولم يكن فانيا شخصا غبيا، وكان في وسعه أن يتقن دروسه لو أنه بذل في ذلك بعض الجهد، وطالما أسدينا إليه النصح في هذا، وأخذنا عليه العهود بأن يجد في العمل الذي ضم من أجله إلى «الآلاف»، ولكن جهودنا كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد كان يستلقي على فراشه ويتظاهر بأنه يحفظ القوانين الكيميائية عن ظهر قلبه، بينما هو في واقع الأمر يقرأ إحدى الروايات الرخيصة.
على أنه كان يعوض كسله وضعفه في الدرس بقدرته على الاتصالات السياسية، فلم يكن يجهل أحدا من الناس، كما أن أحدا من الناس لم يكن يجهله، وكان من أجل هذا يختار بطبيعة الحال في كل اللجان الهامة التي لا يعمل فيها شيئا معينا؛ ولذلك لا يرتكب فيها خطأ يؤخذ عليه، وكان له أصدقاء في مطابخ البيت، وفي أحسن مخازن البقالة التعاونية، وفي غيرها من الأماكن التي يمكن الحصول منها على جرايات إضافية، وكنا نحن نقتسم ما يأتي به بفضل عبقريته السياسية، وإن لم يحل هذا بيننا وبين تعنيفه على كسله وإهماله.
وطرد فانيا من المعهد قبل انتهاء الفترة الأولى من السنة الدراسية، على أنني لم يدهشني قط أن أعرف منه حين قابلته مصادفة في موسكو بعد عدة سنين من ذلك الوقت أنه أصبح رئيس مواثقة
1
كبيرة؛ ذلك أن فانيا لم يكن ذا حظ عظيم من العلم أو الذكاء أو الشعور المرهف يقف في سبيله وهو يرتقي سلم البيروقراطية.
صفحه نامشخص