هنا حدثت حركة بين النظارة وأخذ الناس يتهامسون ويتبادلون النظرات. - «نعم، لقد فعلت ، لكني عدت فتبرأت منه منذ أمد طويل، وكل الناس يعرفون موقفي منه.»
فقال عضو اللجنة في إصرار: «إذن فقد وقعت ذلك البرنامج ولست بمنكر هذا؟» - «بالطبع لا أنكر ذلك، فلم أكتم ذلك سرا عن الناس ، إن كل زملائي ليعلمون، وإن الحزب ليعلم، أنني زللت في هذا الخطأ، وأنني اعترفت به فيما بعد.» - «قد يكون ذلك أيها الرفيق سانين، ومع ذلك فإني لا أزال أتساءل إذا كنا قد عرفنا عنك كل شيء، إني لأتساءل هل يعلمون عنك أنك لا تزال تدين بمبادئ ينكرها الحزب ويبرأ منها الشعب السوفيتي؟»
ازداد اهتمام الناس في القاعة على نحو ملحوظ، كأنما شم الجمهور رائحة الدماء، وأخذ الهم يستولي على من كانوا مع «سانين» صحبة منذ دقائق، وجعلوا يرشقونه بالأسئلة صديقا في إثر صديق، ولم تخف غايتهم من ذلك، فقد أرادوا أن «يوقعوه» بأسئلتهم لعلهم بذلك ينقذون رقابهم، وكلما ازداد الزميل به صلة، ازداد حماسة في محاولة إدانته، حتى يبين للناس أنه لم يكن يسايره في شنيع «جرائمه»، ولأنهم يعرفون منه أوجه النقص والضعف، أخذوا يتلاعبون به حتى ارتبك ولم يعد قادرا على أن يقول دائما ما يريد حقا أن يقول.
قال في دفاعه عن نفسه: «أيها الرفاق أعضاء اللجنة، لقد أعلنت منذ أمد طويل براءتي مما كنت قد زللت فيه، إنني لم أؤيد أنصار «تروتسكي» قط تأييدا ذا خطر، فلم أساهم أبدا في هيئتهم، ولم يحدث إلا مرة واحدة في لحظة من لحظات الضعف، أني أغريت بتوقيع ورقة، ثم لم ألبث أن أعلنت براءتي منها، إن هؤلاء الناس الذين يتهمونني ليعلمون عني هذا علم اليقين، ولست أدري لماذا يقلبون الحقيقة فيما يقولون ...»
لكن الرئيس لم يمهله حتى يتم حديثه، وكان في صوته سخرية ظاهرة.
قال: «لا عليك، لا عليك، إننا نعلم علم اليقين كيف تتلونون أيها التروتسكيون يا أعداء الحزب، إن لدينا من الحقائق ما يثبت أنك لم تتغير في باطنك، وليس مما يخلو من المغزى أن يثير أخلص خلصائك حولك الشكوك.» ثم توجه إلى النظارة وقال: «من يريد الكلام؟»
لم يعد إلى الشك إلا سبيل ضئيل في أن ما يصيب «سانين» أصبح قضاء محتوما، فأما وقد انتهى فيه الرجاء فقد تدافع أصدقاؤه ليركلوه ويدفعوه من ذروته إلى الهاوية، كنت تراهم ينهضون في أماكنهم ليقولوا: إن «سانين» مخادع، يظهر الولاء للحزب ويبطن انشقاقا خبيثا، ولا تسمع منهم أحدا يخصص الاتهام بنقط معينة، بل هم يلقون الاتهام جزافا في عبارات محفوظة، وظلوا كذلك حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، فكأنما أحدث بوقوعه هزة كهربائية؛ وذلك أن مهندسا يعرفه المعهد كله ويجله المعهد كله، طلب الكلام.
بدأ يقول: «لقد كنت أصغي في انتباه إلى كل ما قيل في هذا المكان، فلم أسمع نقطة واحدة في صميم الموضوع حقا، أيها الرفاق، إننا الآن نقضي في أمر عضو من أعضاء الحزب، فسنحكم عليه بحياة أو موت من الوجهة السياسية، أين التهم المحددة التي وجهت إليه؟ لم أسمع منها شيئا!»
فلم يقع هذا الدفاع إلا موقع المزيد من الوقود يلقى به في النار، فقد احتدت العواطف، وأمعن زملاء «سانين» في وصمه بما يشين وفي قذفه بألوان السباب، شجعهم على ذلك أعضاء اللجنة الذين كانوا بغير شك قد اتخذوا قرارهم في شأن «سانين» قبل انعقادهم، وقضي الأمر وطرد الرجل من الحزب.
وما هو إلا أن بدأنا نسمع طالبا يقص قصة حياته، كان أسود الشعر كثيفه، فيه الملامح السامية، وهو شاب سيرة حياته قصيرة، فلم تلبث المحكمة أن انتقلت به إلى مرحلة الاستجواب. - «قل لي، أيها الرفيق شلمان، ماذا كانت منزلة أبويك من المجتمع قبل الثورة؟» - «كان أبي خياطا، وكانت أمي زوجة تدير دارها فحسب.»
صفحه نامشخص