بدأ التطهير في معهدنا بصورة رسمية بخطبة طويلة مملة ألقاها الرئيس «جالمبو»، قال: «إن حزبنا العزيز قد امتلأت شعابه «بعناصر غريبة» وأعداء متلونين ووصوليين ومنشقين مقنعين وأفراد يقاومون نظامنا الاجتماعي مقاومة حقيقية، وواجبنا أن نخرجهم من بين صفوفنا فننتزع أقنعتهم من على وجوههم ونعرض خبثهم في ضوء النهار، إن البلاد قد فرغت لتوها من تأميم المزارع ومحو المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وقد ختمت مشروع السنوات الخمس الأول وحالفها فيه التوفيق، وها هي ذي تبدأ مشروعا آخر لسنوات خمس أخر، فهؤلاء الذين يداخلهم الريب في أننا نسير في طريق قويم مؤد إلى الاشتراكية الكاملة والحياة السعيدة هم أنجاس عقدوا الخناصر مع أعداء البلاد، فلا بد من اقتلاعهم من جذورهم ليسلم الحزب وزعيمه الأكبر وأبوه الرفيق ستالين المحبوب!»
وكان كلما ذكر اسم الزعيم؛ دوى المكان بالتصفيق لبضع دقائق يسودها قلق في النفوس.
وأخيرا دارت عجلة التطهير دورتها، وهاك وصفا للإجراء الذي اتبع: يجلس أعضاء اللجنة خلف منضدة ملفوفة بغطاء أحمر، وفوق منصة تزينها صور الزعماء كما تزينها عبارات مما تجري به الألسنة دفاعا عن الحزب، وفي أبرز مكان يوضع تمثال نصفي لستالين، تزخرفه عقود من الزهر، فإذا ما بدئ في محاكمة شيوعي، نودي إلى المنصة، حتى إذا ما بلغها سلم تذكرة الحزب التي معه، وأخذ يقص قصة حياته، فتجيء القصة بمثابة التقرير السياسي والاعتراف الروحي؛ لأنه كان يدلي بمختصر عن أصله ونشأته وسيرته واهتماماته، ويعترف خلال ذلك بما اقترف من خطايا وأشباه الخطايا، وما زل فيه من عثرات، وإنه لمن الخير لك أن تنبئ بنفسك عن أخطائك، لو شككت في أن اللجنة قد يكون لها علم بها، «فإخفاء» شيء كائنا ما كان عن الحزب يضاعف من وزر الجريمة التي أخفيتها.
فإذا ما فرغ المتهم من اعترافاته، أخذ أعضاء اللجنة ومن شاء من النظارة يوجهون إليه الأسئلة، فيذكرونه بما قد أهمل ذكره في روايته، ويوقعونه في أقوال ينقض بعضها بعضا، وكان لمن شاء من الرفقاء أن يتكلم في صالحه أو في غير صالحه، فإذا كانت اللجنة تميل إلى جانبه، جاءت المحاكمة قصيرة في العادة وصورية لا جد فيها، أما إذا أحس النظارة أن المتهم لا يتمتع من اللجنة بالرضى، أو أنه منها على السفود، فإنهم يثبون عليه وثبا، ويدقونه بأقدامهم دقا بغير رحمة، وخصوصا أصدقاءه والمتصلين به، فهؤلاء يأخذهم الخوف على أنفسهم ويسارعون إلى رشقه بألفاظ غلاظ مع الراشقين؛ حماية لأنفسهم من الأذى، وقد تدوم المحنة نصف ساعة، وقد تطول مساء بأسره، وأحيانا يستطيع المتهم أن يرد عدوانا بعدوان، وأن يناقش ويدلي ببرهان براءته، ويبكي ولكنه أحيانا أخرى ينعقد لسانه من شدة الهجوم فيظل في صمت رهيب.
أما من اجتاز التطهير آمنا فترد له تذكرة الحزب ويهنئه الأصدقاء الذين انزاح عن صدورهم هم ببراءته عبء فادح، وكانت اللجنة أحيانا تؤجل حكمها حتى تزداد للقضية بحثا، وأما من انتهت محاكمتهم بالطرد من الحزب فيهملون ويجتنبهم الناس ، فتراهم يقفون في عزلة يتلفتون حولهم في حيرة فلا يرون أمامهم إلا عالما تحطمت قوائمه، ثم ينسلون خارج القاعة يملؤهم الشعور بأنهم طريدو القانون منبوذون، وما أكثر ما كان هؤلاء المطرودون يزهقون أرواحهم بأيديهم.
أمثال هذه اللجان التطهيرية لم يخل منها موضع من بلاد السوفيت على رحبها، ريفها والمدن، وكانت الصحف والمذياع تذيع مقتطفات من هذه المعارض الصاخبة، وكانوا يصفون هذه الحركة في جملتها بأنها «ديمقراطية حزبية»، لكني إذ كنت جالسا في قاعة المحاضرة في المعهد، أخذني شعور عجيب بأن هذا الذي أرى إن هو إلا جزء صغير من مسرحية كبرى يمثل فيها ملايين الرجال والنساء، ومسرحها هو سدس اليابس على هذا الكوكب الأرضي.
أخذ اضطرابي العصبي يزداد رويدا رويدا، إذ كنت أنتظر في قلق دوري على المسرح.
صاح الرئيس جالمبو: «الرفيق سانين، من فضلك.» فتقدم إلى المنصة بخطوات سريعة رجل أشقر الشعر، تقع سنه بين الثلاثين والأربعين، وسلم تذكرته. كان نحيلا وسيم المحيا يلبس منظارا، كلنا نعرفه ونحبه، هو محاضر في الرياضة، محبوب لقليل من الضعف فيه، ولأنه لا يغالي في الدقة، وأخذ يروي قصة حياته، فهو ابن فلاح، بدأ سيرته في الشيوعية بالتحاقه عضوا في هيئة الشباب الشيوعي، واستهل حياته المهنية عاملا بسيطا يعمل على المخرطة في أحد المصانع، ثم التحق بالمعهد وقام فيه ببحث، وانتهى أمره إلى التدريس.
كانت سيرة حياته التي رواها كأنما هي المثال يحتذى، وأخذ السأم يدب في نفوس النظارة مما يسمعون، لولا أن قوطعت هذه السيرة النقية بسؤال وجهه عضو في اللجنة.
قال في صوت خافت: «أيها الرفيق سانين، هل حدث مرة أن وقعت برنامجا يقوم على أساس مذهب تروتسكي مع طلاب آخرين أيام دراستك؟»
صفحه نامشخص