وأخذت أصرخ فجأة صراخا عاليا أيقظ أمي من نومها، وقال أبي في حنو: «استمعوا إلى هذا الثائر!» وظل بعدئذ يسميني في ساعات حنانه وعطفه باسم الثائر، وبعد أن جاوزت سن الشباب وشغلتني أحداث الثورة الظافرة كان ينطق أحيانا بهذا الاسم التهكمي ويلوي به شدقيه التواء كان أشد وقعا علي مما يظن.
وقضيت بين أبي وأمي تلك الساعات الأولى من حياتي قبل أن يودع أبي زوجته، وليس في وسع إنسان كائنا من كان أن يقنعني بقوة المنطق وحده أنني لم أسمع ما نطق به وقتئذ من ألفاظ المعزة والحنان، أو أنني لم أره يطبع القبلات على يديها من أولهما إلى آخرهما، أو أنني لم أشهد بعيني أبي وجه الأم الشابة المصفر الجميل بين كومة الوسائد الناصعة البياض.
وكان أبي في أثناء التسع السنين الأولى من حياتي غريبا في بيتنا لا يغشاه إلا حينا بعد حين؛ ذلك أن فترات حريته لم تكن تطول حتى تجعله بيننا أبا عاديا مألوفا كما كان غيره من آباء سائر الأطفال في شارعنا، وكانت زياراته لنا في أثناء هربه تثير مشاعرنا إلى أقصى حد، وكنت أنا أنظر إلى هذه الزيارات كأنها جزء من دورة الفلك، مثلها في ذلك كمثل بيض عيد الفصح الملون، أو أشجار عيد الميلاد.
وصورت لنفسي صورة له من الإشارات العابرة والأقوال القصيرة، ومن عبارات العطف التي كنت أسمعها من أمي ومن بابشكا، ومما كان ينتابنا من روع مفاجئ وخوف على سلامته، ومن الهمسات المتفرقة التي كان ينطق بها رفاقه الثوار، وكثيرا ما كان بيتنا مأوى للرجال المطاردين، وللطلاب ذوي الوجوه الزاهدة المتقشفة والحلل الرسمية، والرجال ذوي اللحى الكثة القادمين من ذلك العالم الغريب المجهول المروع الذي يدعونه سيبيريا، وقد أصبح الزوار الذين يمرون بنا سراعا وما يروونه من قصص عن فرارهم من السجون، وعن الموظفين المرتشين، وكلمات السر وثياب التخفي، أصبحوا هم وقصصهم هذه جزءا من الصورة التي رسمتها لأبي في خيالي.
وكان قنسطنطين الذي يكبرني بثمانية عشر شهرا يأتيني بكل ما يعرفه من الأخبار مهما كانت صغيرة.
وكان يقول لي أحيانا وهو يتصنع الكبرياء: «يجب أن تذكر يا فيتيا أن بابا ليس لصا أو قاتلا بل هو رجل سياسي.»
فكنت أجيبه وأنا لا أفهم معنى ما يقول: «نعم، يا كوتيا.»
وثمة ليلة من ليالي عيد الميلاد - ثالث عيد ميلاد شهدته على هذه الأرض - لا تبرح ذكراها ماثلة في مخيلتي بكل ما حوته من تفاصيل، فهي صفحة من كتاب حياتي كثيرا ما أرجع إليها وأنا حزين، ولكنه نوع من الحزن اللذيذ.
فقد أيقظتنا بابشكا من نوم عميق بعد يوم من أيام العطلة، ولا أزال أرى بعين الخيال لعبنا الجديدة منثورة على أرض الحجرة العارية.
وقالت لنا وهي تنتحب: «تعاليا أيتها اليمامتان الصغيرتان وودعا أباكما المسكين.»
صفحه نامشخص