لقد كانت الثورة الروسية التي شبت نارها في عام 1905م أكثر من تجربة شخصية لأبناء أندراي فيودوروفتش كرافتشنكو الثلاثة، وكنت أنا ثاني أولئك الأبناء، إذ كنت أصغر من قنسطنطين وأكبر من يوجين. لقد كانت هذه الثورة بالنسبة إليهم حقيقة ذات معنى خاص عميق، تحيط بها في نظرهم هالة روائية لم تقلل الهزيمة من سناها، بل بدت لهم هذه الهزيمة نفسها شامخة متلألئة، وقد انطوت هذه الثورة على حوادث أوفت على الغاية في البسالة والرهبة والمثل العليا والتضحية، تعد هي المعيار الذي تقاس به هذه القيم فيما تلاها من عهود.
نعم، إنها كانت ثورة ضيقة النطاق، لم تقتصر على مدينة إيكترنوسلاف فحسب بل اقتصرت فضلا عن هذا على الاجتماعات والوقائع الحربية والاغتيالات التي كانت لأبي يد فيها، وأشرقت في سماء روسيا لأول مرة في عام 1905م أسماء عظيمة قدر لها أن تكون ذات أثر خالد في التاريخ؛ ولكن التاريخ وحده لم يكن ليضارع قط ما نعلمه نحن علم اليقين، وهو أن الزعيم الحق والبطل الذي قاد هذه الثورة هو والدنا الشديد البأس، البهي الطلعة، النحيف الجسم، المفتول العضلات، ذو الشعر الأسود الملتوي، والعينين الزرقاوين البراقتين.
والحق أن خيالنا هذا العزيز علينا كان ينطوي على شيء من الحقيقة، فقد كان النذير الأول للثورة إضراب عام بدأ بإضراب عمال السكك الحديدية، وظل هو المحور الذي يدور حوله الإضراب العام كله، وكان أبي، وهو موظف في مصانع السكك الحديدية في إيكترنوسلاف، عضوا في لجنة الإضراب، وظل يعمل وسط هذا الكفاح الميئوس منه، وجوزي بعد فشله على حماسته شر الجزاء.
وكثيرا ما سمعنا في عهد شبابنا تفاصيل هذه الثورة، حتى أضحت وكأنها قد نسج منها برد حياتنا لحمته وسداه، فلم نكن نعرف حوادثها فحسب، بل كنا نعرف فوق ذلك أسباب هذه الحوادث؛ ولذلك لم أكن في حاجة إلى أن ألقن كره الأوتوقراطية وحب الحرية والعدالة والمساواة، بل كنت أعد هذا الكره من الأمور الطبيعية البسيطة، كما يعد رفاقي في اللعب تعظيم ذوي الحلل الرسمية والسلطان.
وظلت أحداث ثورة 1905م التي قصها علي أبي وأصدقاؤه، والتي قوت أثرها في نفسي اتصالاتي بأمثالها من الحوادث فيما بعد، ظلت أحداث هذه الثورة منقوشة في عقلي، حتى لأستطيع الآن أن أحس حوافر خيل فرسان القوزاق، وكأنها قصف الرعد، تطأ أهل بلدتنا رجالا ونساء، وليس صوت مما سمعته في طفولتي أوضح من صلصلة السيوف الرهيبة، وإني لأتصور الآن أني واقف خلف المتاريس المقامة من عربات النقل المقلوبة، والأثاث المكدس في الطرقات والحجارة المقتلعة منها، وأخشاب الطرق الحديدية، وأرى بعين الخيال رفاقي يخرون صرعى من حولي وهم يئنون ويتوجعون، وجنود القوزاق يمرون بجثثهم كالموج المتلاطم، يصبون علينا جام غضهم وسخطهم، وأتصور نفسي في تيه الشوارع والأزقة الملتوية في حي العمال، يطاردني فرسان الجراكسة ورجال الشرطة في ظلام ليالي الشتاء.
ثم يخيم على المنظر سكون رهيب كسكون القبور، وتبدو جثث الموتى من حولي بمنظرها البشع الرهيب، والناس من حولي، ومناقع الدم تتسع فوق الثلج، كما كانت تتسع بقع الحبر على الورق الخشن الموضوع على مكتبي في المدرسة.
ولو أن أبي قد قبض عليه في تلك الليلة من ليالي شهر أكتوبر لشنق مع من شنق من زملائه أعضاء لجنة الإضراب كما يشنق العصاة المتمردون، لكنه فر، ولم تطاوعه نفسه على أن يفر من غير أن يلقي آخر نظرة على زوجته وعلى قنسطنطين وعلى بابشكا (جدتي لأمي) وكانت تقيم معنا دائما، ومن أجل ذلك تسلل في منتصف الليل وسط شوارع فرعية جانبية، مختفيا وسط الظلال الكثيفة، من بيت إلى بيت، حتى أقبل على منزلنا رقم 8 في شارع كانتناي بالقرب من طريق بشكين الكبير.
فلما وصله هاله ما رأى، وكاد يذهب الروع بلبه، فقد أبصر أنوار المنزل كلها مضاءة، وكان في وسعه أن يسمع ما فيه من حركة قائمة على قدم وساق، ولم يبق لديه شك في أن رجال الشرطة قد دهموا المنزل وأخذوا يفتشونه، ومع هذا فلم يكن في وسعه أن يعود أدراجه مهما يتعرض له من خطر، دون أن يلقي نظرة أخيرة على منزله وعلى أسرته اللذين قد لا يراهما قط بعد ذلك الوقت، فأخذ يتسلل خفية حتى وصل إلى النافذة، ورفع نفسه في حذر شديد وأطل منها إلى داخل الدار.
ثم أدرك أنه كان مخطئا في ظنه، وفتحت جدتي الباب حين سمعت طرقه الخفيف عليه، وأشارت إليه أن يظل صامتا، وأراد أن يذهب إلى حجرة النوم ولكنها أوقفته وقالت له: «إن تانيا نائم.» ثم تبسمت وقالت: «لقد رزقت ولدا آخر.» وذهبت هي نفسها إلى حجرة النوم ثم عادت من فورها وعلى ذراعيها حزمة صغيرة وضعتها بين ذراعيه.
وكانت هذه ليلة مولدي، ليلة الموت خلف المتاريس، ودوي البنادق وصلصلة السيوف الدامية، وصراخ الألم في الطرقات الرثة الملتوية.
صفحه نامشخص