أفضل ما قيل عن الكتاب
جموح
حياة حقيقية
العذراء الألبانية
أسرار معلنة
فندق جاك راندا
مكان في البرية
وهبطت سفن الفضاء
مخربون
أفضل ما قيل عن الكتاب
جموح
حياة حقيقية
العذراء الألبانية
أسرار معلنة
فندق جاك راندا
مكان في البرية
وهبطت سفن الفضاء
مخربون
أسرار معلنة
أسرار معلنة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
هاني فتحي سليمان
أفضل ما قيل عن الكتاب
أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.
سينثيا أوزيك
قصص رائعة، سريعة الإيقاع، تتطور أحداثها على نحو رائع لتصير استعراضا مكثفا شبيها بالرواية لجميع مناحي الحياة ... أجادت مونرو فنها بموهبة فذة.
صحيفة «نيويورك تايمز»
إحساس كبير بالثقة، ذكاء وبصيرة، أسلوب بليغ وجذاب، مليء بالأحداث غير المتوقعة.
جريدة «وول ستريت»
وحدها أليس مونرو من استطاع تجسيد الغابات الشمالية الكندية في قصص قصيرة رائعة لا تنسى ... يضفي أسلوبها الساخر بمسحته اللاذعة بهجة مدهشة على أشد حكاياتها حزنا وكآبة. كما أن إحساسها بالوقت، وقدرتها على قلب حياة الشخصيات رأسا على عقب، يضفيان عمقا رثائيا على قصصها.
مجلة «إنترتينمنت ويكلي»
تظل شخصيات أليس مونرو عالقة في الأذهان، حتى بعد انتهاء أدوارها الروائية، مثل أقارب من عهد الطفولة يتسمون بحدة الطباع وثقل الظل. وكالحال دائما، تصور مونرو أدق التفاصيل في عالم بالغ الصغر.
مقال نقدي في جريدة «لوس أنجلوس تايمز»
إنه لأمر رائع ... عندما تكتب مونرو في أفضل حالاتها، فإنها تصور ملامح الحياة العادية ... وتحولها إلى شيء مدهش ومثير للمشاعر.
مجلة «نيو ريببلك»
أهدي هذا الكتاب إلى صديقاتي المخلصات للأبد: دافني، وديردري، وأودري، وسالي، وجولي، وميلدرد، وآن، وجينجر، وماري.
جموح
خطابات
في غرفة الطعام الملحقة بالفندق التجاري، فتحت لويزا الخطاب الذي وصلها ذاك اليوم من الخارج. تناولت وجبتها المعتادة المكونة من شرائح اللحم والبطاطس، واحتست كأسا من الخمر. كان هناك القليل من المسافرين في الغرفة، وطبيب الأسنان الذي درج على تناول عشائه هناك كل ليلة لأنه أرمل. كان الطبيب قد أبدى اهتمامه بها في البداية ، لكنه أخبرها أنه لم يسبق له أن رأى امرأة من قبل تحتسي الخمر أو المشروبات الكحولية.
قالت لويزا بوقار: «أحتسيها حفاظا على صحتي.»
كانت مفارش الطاولات البيضاء تبدل كل أسبوع، وحتى ذلك الحين كان يوضع عليها مشمع لحمايتها. في الشتاء، كانت رائحة المشمع الذي كانوا ينظفونه بفوطة المطبخ تفوح من غرفة الطعام، وتختلط برائحة أبخرة الفحم المنبعثة من الفرن، ومرق اللحم، والبطاطس المجففة، والبصل - وهي ليست بالرائحة المنفرة لكل من يدلف إلى غرفة الطعام جائعا من فرط البرد بالخارج. على كل طاولة، كان ثمة حامل صغير يحوي زجاجة من الصوص البني، وزجاجة من صلصة الطماطم، وطبقا من الفجل الحار.
كان الخطاب موجها إلى «أمينة مكتبة كارستيرز العامة، في مدينة كارستيرز، بمقاطعة أونتاريو»، ومكتوبا بتاريخ 4 يناير 1917؛ أي منذ ستة أسابيع:
لعلك ستندهشين من تلقي رسالة من شخص مجهول، لا يذكر اسمك!
آمل أنك لا تزالين تشغلين منصب أمين المكتبة، مع أني أظن أنه قد مر وقت طويل، ومن الوارد أن تكوني قد انتقلت إلى مكان آخر.
المرض الذي ألم بي وأودعت بسببه المستشفى ليس خطيرا.
أرى حالات أسوأ بكثير من حولي، وأصرف انتباهي عن ذلك كله بتخيل أشياء والتساؤل مثلا عما إن كنت تعملين بالمكتبة نفسها حتى الآن. وللتأكد من أنك الشخص الذي أقصده، فأنت متوسطة الحجم تقريبا، أو ربما لست كذلك بالضبط، ولك شعر بني فاتح. جئت منذ أشهر قلائل قبل أن يحين موعد التحاقي بالجيش، وحللت محل الآنسة تامبلين التي كانت هنا منذ أن بدأت أتردد على المكتبة في التاسعة أو العاشرة من عمري. خلال الفترة التي أمضتها، كانت الكتب مبعثرة في كل مكان، وكان طلب أدنى قدر من العون منها مسألة انتحارية؛ لأنها كانت صارمة وعنيفة. ما أبهى التغيير الذي كسا أرجاء المكان عندما حللت! كل شيء صار مرتبا في أقسام خاصة بكل من الكتب الروائية والواقعية والتاريخية وكتب الرحلات، كما كنت ترتبين المجلات وتعرضينها في مكان ظاهر فور وصولها، دون أن تتركيها إلى أن تبلى وتصبح عديمة القيمة. شعرت بالامتنان لك، لكنني لم أدر كيف أعبر لك عن مكنون نفسي. تساءلت أيضا ماذا أتى بك إلى هنا! فأنت امرأة متعلمة ومثقفة.
اسمي جاك أجنيو، وبطاقتي في الدرج. الكتاب الأخير الذي استعرته كان شائقا جدا، كان بعنوان «خلق البشر» لمؤلفه إتش جي ويلز. تلقيت تعليمي حتى السنة الثانية من التعليم الثانوي، ثم انتقلت إلى مصنع آل دود شأني شأن الكثيرين غيري. لم ألتحق بالجيش مباشرة إذ كنت في الثامنة عشرة من عمري؛ ولذلك لن تعتبريني رجلا مقداما. أنا شخص له أفكاره الخاصة. قريبي الوحيد في مدينة كارستيرز، أو في العالم كله، هو أبي باتريك أجنيو، وهو يعمل لدى آل دود، ليس في المصنع، بل بالبيت، حيث يتولى أعمال البستنة. أبي إنسان ميال للعزلة أكثر مني شخصيا، يطيب له الخروج إلى الريف لممارسة هواية الصيد كلما سنحت له الفرصة. أكتب له خطابا بين الحين والآخر، لكنني أشك أنه يطالع ما أرسله إليه.
بعد العشاء، صعدت لويزا إلى ردهة السيدات بالطابق الثاني، وجلست إلى المكتب لتكتب ردها:
يسعدني جدا أنك تقدر الجهود التي كنت أبذلها في المكتبة، مع أنها لم تتجاوز مهارات التنظيم العادية.
أنا على يقين أنك تود أن تعرف أخبار الوطن، لكنني لست بالشخص المؤهل لذلك لأنني غريبة هنا. إنني أتبادل أطراف الحديث مع الناس في المكتبة وفي الفندق. المسافرون المقيمون بالفندق غالبا ما يتكلمون عن النشاط التجاري (الذي عادة ما يتسم بالرواج إن أمكن الحصول على السلع)، وقلما يتحدثون عن المرض، لكنهم كثيرا ما يتناولون الحرب في حديثهم. ثمة شائعات كثيرة، وآراء وافرة، يقيني أنها ستجعلك تضحك إن لم تثر ثائرتك، لن أكلف نفسي عناء تدوينها لأنني متأكدة أن ثمة رقيبا سيطالع رسالتي هذه وسيمزقها إربا.
تتساءل كيف انتهى بي الحال إلى هنا؟ إنها ليست بالقصة المثيرة؛ لقد توفي والداي. كان أبي يعمل بشركة إيتون في تورنتو، وتحديدا في قسم الأثاث، وبعد وفاته، اشتغلت أمي هناك أيضا في قسم المفروشات، وأنا أيضا عملت هناك لفترة في قسم الكتب؛ يمكنك أن تقول إن شركة إيتون كانت بمنزلة آل دود بالنسبة إليكم. تخرجت في جارفيس كوليجيت. ولقد أصبت بمرض أودعت بسببه المستشفى لفترة طويلة، لكنني بخير الآن.
كان أمامي متسع كبير من الوقت للقراءة والاطلاع؛ كاتباي المفضلان هما توماس هاردي المتهم بالكآبة والذي أراه مخلصا جدا للواقع، وويلا كاثر. تصادف أن كنت في هذه البلدة إذ علمت أن أمينة المكتبة توفيت، وحدثت نفسي أن هذه المهنة ربما تكون مناسبة لي.
من الجيد أن رسالتك وصلتني اليوم؛ إذ إنني على وشك الخروج من هنا، ولا أعرف إن كانوا سيرسلونها إلي حيثما حللت. يسعدني أنك لم تجدي خطابي سخيفا أكثر من اللازم.
إذا قابلت أبي أو أي أحد مصادفة، فلا داعي لأن تفصحي عن حقيقة أننا نتبادل الرسائل؛ فالأمر لا يعني أحدا في شيء، ويقيني أن الكثيرين سيسخرون مني لأنني أراسل أمينة المكتبة، مثلما سخروا مني من قبل لمجرد أنني كنت أتردد على المكتبة. لم إذن أدعهم يشمتون بي؟
أنا سعيد لأنني سأخرج من هنا، فأنا أوفر حظا من بعض الذين رأيتهم وقد فقدوا قدرتهم على المشي أو الإبصار، وسيتوارون عن العالم. سألت عن مكان إقامتي في كارستيرز، حسن، لم يكن مكانا يدعو للفخر على أية حال. إذا كنت تعرفين بلدة فينيجر هيل، وانعطفت نحو طريق فلاورز، فهو آخر بيت جهة اليمين. كان مطليا باللون الأصفر في يوم من الأيام. يزرع أبي البطاطس، أو ربما كان ذلك في الماضي. اعتدت وضع المحصول على عربتي والتوجه به إلى المدينة. كنت أحتفظ بخمسة سنتات لقاء كل حمل أبيعه.
على ذكر الكتاب المفضلين، في فترة من الفترات كنت أهيم عشقا بزين جراي، لكنني أهملت قراءة الأعمال الروائية تدريجيا، وجنحت إلى مطالعة كتب التاريخ أو أدب الرحلات. أعلم أنني أحيانا أطالع كتبا تتجاوز قدرتي على الفهم، لكنني أنتهي منها بشكل أو بآخر. إتش جي ويلز الذي ذكرته أحد كتابي المفضلين، وكذا روبرت إنجرسول الذي يتناول قضايا دينية في مؤلفاته. لقد منحاني كثيرا من الأفكار التي تستحق التدبر والتفكر. إذا كنت شديدة التدين، فآمل أنني لم أسئ إليك.
ذهبت إلى المكتبة ذات يوم، كان ذلك في ظهيرة أحد أيام السبت، وكنت قد فتحت الباب لتوك، وكنت تضيئين الأنوار حيث كانت الظلمة تعم أرجاء المكان بالداخل والأمطار على أشدها بالخارج. كنت في موقف صعب بالخارج إذ لم تكن لديك قبعة أو مظلة تحتمين بها من المطر، فابتل شعرك. نزعت عنه الدبابيس وتركته ينسدل. هل أكون متطفلا لو سألتك أما زال شعرك طويلا أم أنك قصصته؟ اتجهت صوب المدفأة، ووقفت إلى جوارها، وهززت شعرك، فتناثرت منه قطرات الماء كالزيت في المقلاة. لم أكن قد برحت مكاني حيث كنت أطالع أخبار الحرب في مجلة «إلستراتيد لندن نيوز». تبادلنا ابتسامة عابرة. (لم أقصد أن أقول إن شعرك دهني عندما كتبت ذلك.)
لم أقصص شعري، وإن كانت الفكرة تجول بخاطري كثيرا. لا أعرف إن كان الكسل أم الخيلاء هو الذي يمنعني! إنني لست شديدة التدين.
لقد ذهبت إلى فينيجر هيل، وعثرت على بيتك. تبدو ثمار البطاطس طازجة وصحية. ثمة كلب بوليسي اعترض طريقي، أهو كلبك؟
الجو يميل إلى الدفء نوعا ما. شهدنا فيضان النهر، وظني أنه حدث ربيعي تمر به البلاد كل عام. تسرب الماء إلى الدور السفلي من الفندق، وأفسد على نحو أو آخر مخزوننا من الشراب؛ لذا حصلنا على جعة مجانية أو مشروب زنجبيل مجاني، لكن ذلك كان قاصرا على نزلاء الفندق والمقيمين فيه. يمكنك أن تتخيل كم النكات التي كانت تتداولها الألسن آنذاك.
هل تريد مني إرسال أي شيء إليك؟
لست بحاجة إلى شيء محدد، فأنا أحصل على التبغ وغيره من الأغراض التي تغلفها السيدات في كارستيرز تغليفا جميلا لأجلنا. أود أن أطالع بعض الكتب للمؤلفين اللذين أتيت على ذكرهما، لكنني أشك أن الفرصة ستسنح لي هنا.
منذ بضعة أيام، توفي رجل إثر سكتة قلبية، وصارت الواقعة حديث المدينة. هل سمعت عن الرجل الذي مات إثر سكتة قلبية؟ كانت هذه هي الأنباء المتداولة هنا ليل نهار، وبعدها أمسى الجميع يضحكون، على نحو ينم عن قسوة قلوبهم، لكن الأمر بدا غريبا جدا. لم تكن ثمة معركة حامية الوطيس حتى نفترض أنه أصيب بالذعر! (حقيقة الأمر أنه كان جالسا يكتب رسالة حين وافته المنية، فحري بي أن أتحرى الحيطة إذن!) كثيرون هم من لقوا حتفهم رميا بالرصاص أو قتلوا في تفجيرات، لكنه الوحيد الذي اكتسب شهرة واسعة لأنه مات إثر سكتة قلبية. الجميع يقولون: يا له من درب طويل قطعه ليموت هنا! ويا لها من تكلفة باهظة أنفقها الجيش عليه ليموت في النهاية هكذا!
كان الصيف جافا جدا حتى إن سيارات خزانات المياه كانت تجوب الشوارع يوميا في محاولة لتهدئة الغبار. وكان الأطفال يتراقصون وراءها. كان ثمة شيء جديد أيضا في البلدة؛ عربة ذات جرس صغير تجوب المكان محملة بالآيس كريم، واستحوذت على انتباه الأطفال أيضا. كان يدفعها الرجل الذي أصيب في حادث المصنع - أنت تعرف عمن أتحدث، ولو أنني لا أستطيع أن أذكر اسمه ... لقد فقد ذراعه حتى المرفق. ولما كانت غرفتي بالفندق في الطابق الثالث، شعرت وكأنها موقد، فاعتدت أن أجوب الشوارع إلى ما بعد منتصف الليل، وهكذا كان يفعل الكثيرون الذين كانوا أحيانا يخرجون في ثياب النوم. كان المشهد أشبه بحلم بالنسبة إلي. لم يزل النهر يحتفظ بالقليل من المياه التي تكفي لركوب قارب تجديف، وكان القس الميثودي يخرج للتجديف أيام الآحاد في شهر أغسطس؛ كان يصلي صلاة الاستسقاء في قداس عام، لكن حدث تسريب طفيف في القارب، فتسلل الماء وبلل قدميه، وفي نهاية المطاف غرق القارب وتركه واقفا في الماء الذي لم يصل تقريبا إلى خصره. أكانت هذه حادثة أم خدعة خبيثة؟ ذاع الخبر بأن الرب استجاب لدعائه، لكن الماء تدفق من الاتجاه الخطأ.
كثيرا ما أمر ببيت دود خلال جولاتي. أبوك يحافظ على جمال الحشائش والأسيجة. يروقني البيت، ففيه عبق الأصالة وسيماء البهجة، لكن ربما لم يكن المكان باردا هناك؛ لأني سمعت صوت الأم والرضيعة في وقت متأخر من الليل وكأنهما في الحديقة.
مع أنني قلت إنني لست بحاجة إلى شيء محدد، فثمة شيء أريده؛ صورة لك. آمل ألا يخطر ببالك أنني أتجاوز حدودي بطلبي هذا! لعلك مخطوبة لأحدهم، أو ربما لديك حبيب هنا تراسلينه كما تراسلينني! فأنت فتاة غير تقليدية، ولن يدهشني إذا سبق وخطب ودك أحد المسئولين. لكن الآن بعد أن تجرأت وسألت، لا يسعني أن أتراجع عن طلبي، وسأترك الأمر لك فلتظني بي ما تشائين.
كانت لويزا في الخامسة والعشرين من عمرها، ووقعت مرة واحدة في غرام طبيب تعرفت إليه في المستشفى، وبادلها الطبيب حبا بحب؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى أن خسر وظيفته. كان يحدوها شك شديد حول إن كان أجبر على الرحيل عن المستشفى، أم أنه رحل من تلقاء نفسه بعد أن أصابه السأم من تعقيد علاقته بها، فقد كان متزوجا ولديه أبناء. كان للخطابات دور فعال آنذاك أيضا. بعد أن رحل، لم تنقطع بينهما الخطابات، وراسلته مرة أو مرتين بعد أن سمح لها بالخروج من المستشفى، وبعدها طلبت منه ألا يراسلها ولبى طلبها، لكن انقطاع رسائله دفعها إلى مغادرة تورونتو وقبول وظيفة في مجال السفريات؛ ومن ثم بات الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لا يعتريها سوى مرة واحدة في الأسبوع كلما رجعت ليلة الجمعة أو السبت. كان خطابها الأخير حازما ومتحفظا، ولازمها شعور بأنها بطلة من أبطال القصص التراجيدية حيثما حلت في المدينة وهي تجرجر حقائبها صعودا وهبوطا على سلالم الفنادق الصغيرة، وتحدثت عن الأزياء الباريسية وقالت إن عينات قبعاتها كانت ساحرة، واحتست كأسها بمعزل عن الآخرين. لو كان لديها من تخبره، لسخرت من هذه الفكرة تحديدا؛ لو كان لديها من تخبره، لقالت إن الحب هراء، لقالت إن الحب خدعة، وإنها لمؤمنة بذلك. ولكن استشرافا للأحداث، ما زالت تشعر بهدأة تكتنفها، وقشعريرة تسري في أوصالها، ونكوص للحس، وإعياء شديد.
التقطت صورة لها ... كانت تعرف كيف تريد أن تظهر في صورتها. كم كانت تود أن ترتدي ثوبا فضفاضا، أبيض اللون، بسيطا في تصميمه. لم يكن لديها ثوب بهذا الوصف، بل إنها لم تر مثيلا له إلا في الصور. وكم كانت تحب أن تترك شعرها منسدلا، أو لو كان له ألا ينسدل، لكان يطيب لها أن ترفعه من غير إحكام بالمرة وتعقصه بحبات من اللؤلؤ.
بدلا من ذلك، ارتدت بلوزتها الحريرية الزرقاء، وعقصت شعرها كالمعتاد. رأت أن الصورة جعلتها تبدو شاحبة بعض الشيء وغائرة العينين، وكان تعبير وجهها أكثر حزما وتوجسا مما كانت تريد. أرسلتها إليه على أية حال.
إنني لست مخطوبة، وليس لدي حبيب. وقعت في الحب مرة واحدة، وكان علي إنهاء العلاقة. كنت مستاءة آنذاك لكنني كنت أعرف أنني يجب أن أتحمل الألم، والآن أعتقد أن قراري كان صائبا.
بالطبع حاولت جاهدة أن تتذكره. لم تكن تتذكر أنها نفضت الماء عن شعرها كما قال، أو ابتسمت لشاب بينما تناثرت قطرات الماء من شعرها على المدفأة. يجوز أنه رأى هذا المشهد في أحلامه، ولعل هذا ما حدث.
طفقت تتبع أخبار الحرب بطريقة أكثر تفصيلا مما سبق، لم تحاول أن تتجاهلها بعد ذلك. جابت الشارع وهي تشعر أن رأسها يعج بالمعلومات المثيرة والمزعجة التي تجول بخاطر الجميع؛ معركة سان كونتا، وآراس، ومونت ديدييه، وأميان، ومن بعدها ثمة معركة كانت تدور رحاها عند نهر السوم حيث وقعت بالتأكيد أحداث معركة أخرى من قبل. فردت على مكتبها خرائط الحرب التي كان محتوى الواحدة منها معروضا على صفحتين متقابلتين كما في المجلات. رأت تقدم الألمان إلى إقليم المارن الفرنسي مميزا بخطوط ملونة، وأول دفعة من الجنود الأمريكيين في شاتو-تيري. تطلعت إلى صور بنية اللون لأحد الفنانين، مرسوم عليها فرس يصهل خلال غارة جوية، وبعض الجنود في شرق أفريقيا يحتسون جوز الهند، وصف من الجنود الألمان الأسرى ورءوسهم أو أطرافهم ملفوفة بضمادات، وتعبيرات وجوههم تشي بالكآبة والتجهم. الآن شعرت بما يشعر به الآخرون جميعا؛ مخاوف وهواجس مستمرة، وفي الوقت نفسه شعرت بتلك الإثارة الشديدة. يمكن للمرء أن يرفع بصره لأعلى ويحس بالعالم وهو يتحطم من وراء الجدران.
يسعدني أن أعرف أنه ليس لديك حبيب ، ولو أنني أعرف أن هذا يعد أنانية من جانبي. لا أعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى! لا أقول ذلك لأن حلما راودني عما سيحدث في المستقبل، أو لأنني شخص متشائم يستشرف دائما السوء. جل ما في الأمر أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق في رأيي، ولو أنني لا أطيل التفكير فيه، وأبذل قصارى جهدي كل يوم كي أبقى على قيد الحياة. لا أحاول أن أصيبك بالقلق، ولا أحاول أن أستدر عطفك أيضا، كل ما هنالك أنني أشرح كيف أن فكرة أنني لن أرى كارستيرز مرة أخرى تجعلني أعتقد أن بإمكاني أن أقول ما أشاء. أعتقد أن حالتي هذه أشبه بالإصابة بالحمى؛ ولذلك سأقول إنني أحبك. أفكر فيك واقفة على كرسي بالمكتبة تضعين كتابا في مكانه، وأتخيل نفسي وأنا أتقدم نحوك، وأضع يدي على خصرك لأساعدك في النزول، فتلتفتين نحوي وأنا أطوقك بذراعي كما لو أننا اتفقنا على كل شيء.
ظهر أيام الثلاثاء، يلتقي نساء وفتيات الصليب الأحمر في غرفة الاجتماعات التي تفصلها الردهة عن المكتبة. وعندما كانت المكتبة تخلو لبضع لحظات، كانت لويزا تقطع الردهة وتدلف إلى الغرفة التي تعج بالنساء. كانت قد قررت أن تحيك وشاحا؛ تعلمت في المستشفى كيف تحيك غرزة عادية، لكنها لم تتعلم قط - أو لعلها نسيت - كيف تحيك السطر الأول أو الأخير من الغرز.
كانت السيدات الأكبر سنا منشغلات تماما بتعبئة الصناديق أو بقص ضمادات وطيها من أقمشة من القطن الثقيل المبسوط على الطاولات؛ لكن كثيرا من الفتيات على مقربة من الباب كن يأكلن الكعك المحلى ويحتسين الشاي، وكانت إحداهن تمسك بشلة من الصوف على ذراعيها كي تلفها أخرى.
أخبرتهن لويزا بما كانت بحاجة إلى معرفته.
سألتها إحدى الفتيات والكعك لا يزال في فمها: «ماذا تريدين أن تحيكي إذن؟»
قالت لويزا إنها تعتزم حياكة وشاح لجندي.
قالت أخرى بأسلوب أكثر تهذيبا وهي تقفز من أمام الطاولة: «ستحتاجين إذن إلى الصوف الذي يستخدمونه في الجيش.» عادت وبحوزتها شلات من الصوف البني اللون، وبحثت عن زوج إضافي من إبر الحياكة في حقيبتها، وأعطته إلى لويزا.
قالت لها: «سأساعدك كي تبدئي فحسب. يجب أن يكون العرض متماشيا مع معايير الجيش أيضا.»
تكالبت الفتيات الأخريات وطفقن يغظن تلك الفتاة التي كانت تدعى كوري؛ قلن لها إنها لا تحيك الصوف على نحو سليم.
قالت كوري: «أأنا لا أحيكه على نحو سليم؟ ماذا لو وضعت هذه الإبرة في أعينكن؟» ثم سألت لويزا باهتمام: «أهو لصديق لك؟ صديق بالخارج؟»
أجابتها لويزا: «نعم.» بالطبع سيحسبنها عانسا، وسيسخرن منها أو يرثين لحالها، وفقا لأي نوع من التكلف يظهر في تصرفاتهن، إما لكونها طيبة القلب وإما لكونها ماجنة.
قالت الفتاة التي انتهت من تناول كعكتها: «احرصي إذن أن تكون الحياكة جيدة ومحكمة. أحكمي الغرز كي يشعر بالدفء!» •••
كانت ثمة فتاة تدعى جريس هورن بين هذا الجمع من الفتيات؛ كانت فتاة خجولة، لكن مظهرها ينم عن قوة إرادة. وكانت في التاسعة عشرة من عمرها؛ عريضة المحيا، رفيعة الشفتين مضمومتهما عادة، ذات شعر بني ينسدل على جبينها، وجسد يافع على نحو جذاب. كان جاك أجنيو قد خطبها قبل أن يرحل، لكنهما اتفقا على ألا يخبرا أحدا بخطبتهما.
وباء الإنفلونزا
أقامت لويزا علاقات صداقة مع بعض المسافرين الذين درجوا على الإقامة في الفندق، وكان من بينهم شاب يدعى جيم فراري، يبيع الآلات الكاتبة وتجهيزات المكاتب والكتب وكل أنواع الأدوات المكتبية. كان أشقر الشعر، مقوس المنكبين، مفتول القوام، في أواسط الأربعينيات من عمره؛ يحسب المرء من مظهره أنه يبيع أغراضا أثقل وزنا، وأكثر أهمية بالنسبة إلى الرجال، كالمعدات الزراعية. لم يكف جيم فراري عن السفر طوال فترة وباء الإنفلونزا، مع أنه لم يكن لأحد أن يعرف إن كانت المحلات مفتوحة آنذاك أم لا. بين الحين والآخر، كانت الفنادق تغلق أبوابها أيضا، شأنها شأن المدارس ودور السينما، وحتى الكنائس، وهو الأمر الذي عده جيم فضيحة.
قال للويزا: «يجب أن يخجلوا من أنفسهم، هؤلاء الجبناء! بم ينفعهم مكوثهم في بيوتهم وانتظارهم الوباء حتى يصيبهم في عقر دارهم؟ إنك لم تغلقي المكتبة قط، أليس كذلك؟»
أجابت لويزا أنها أغلقتها فقط عندما أصيبت بوعكة صحية؛ تعب خفيف لازمها أسبوعا على أقصى تقدير، لكن بالطبع تعين عليها الذهاب إلى المستشفى، لم يكونوا ليسمحوا لها بالإقامة في الفندق.
قال لها: «جبناء! إذا كان الموت مقدرا لك، فلا مناص منه، أليس كذلك؟»
ناقشا اكتظاظ المستشفى، ووفاة الأطباء والممرضين، والمشهد البشع الذي لا يهدأ للجنائز. كان جيم فراري يعيش في شارع به جمعية لدفن الموتى في تورونتو؛ قال إن الجمعية لا تزال تخرج الأحصنة السوداء والعربة السوداء، وكل شيء يستعان به في دفن الشخصيات المرموقة التي يستدعي دفنها إحداث جلبة.
قال: «كانوا لا يكفون عن الضجيج ليل نهار.» وأردف وهو يرفع كأسه: «إليك نخب الصحة إذن. تبدين بخير حال.»
كان يرى أن لويزا بدت في الواقع أفضل مما كانت عليه عادة؛ لعلها بدأت تستعمل أحمر شفاه. كانت بشرتها بلون الزيتون الشاحب، وبدا له أن وجنتيها خاليتان من الحياة. كانت أكثر أناقة أيضا، وبذلت جهدا أكبر كي تبدو ودودة. كانت متقلبة المزاج، تتصرف كيفما تشاء. صارت تحتسي الخمر الآن أيضا، ولو أنها لم تكن تقدم على ذلك دون أن تضيف إليه الماء. كانت تحتسي كأسا واحدة فحسب. تساءل هل هذا الاختلاف يرجع إلى وجود عشيق في حياتها؟ لكن العشيق ربما يضفي مزيدا من البهجة على مظهرها دون أن يزيد اهتمامها بكل من حولها، وهو الأمر الذي كان على يقين من أنه قد حدث. الأرجح أن الوقت كان يمر بسرعة البرق، واحتمالات العثور على زوج كانت تتبدد بشدة على خلفية الحرب، وذلك كفيل بإثارة أي امرأة. كانت أذكى وأطيب رفقة، وأبهى جمالا من ذي قبل أيضا، لو قارناها بمعظم الزوجات. ماذا حل بامرأة مثلها؟ أحيانا يكون الحظ العاثر هو السبب فحسب، أو غياب الحكم السديد على الأمور في الوقت الذي كان وجوده فيه مهما. هل الذكاء والثقة بالنفس بعض الشيء في الأيام الخوالي، كانا يشعران الرجال بعدم الارتياح؟
قال: «يستحيل تعطيل الحياة بالرغم من كل شيء. أحسنت صنعا إذ أبقيت المكتبة مفتوحة.»
كان ذلك بداية شتاء عام 1919 حيث تفشى وباء الإنفلونزا مجددا، بعد أن أصبح من المفترض أن تكون قد انتهت مرحلة الخطر. بدوا وكأنهما وحيدان في الفندق بأسره. كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة تقريبا، لكن صاحب الفندق كان قد خلد إلى النوم. كانت زوجته في المستشفى بعد أن أصيبت بالإنفلونزا. كان جيم فراري قد جلب زجاجة الخمر من المشرب الذي أغلق خشية العدوى، وجلسا إلى الطاولة بجوار النافذة في غرفة الطعام. تجمع الضباب الشتوي بالخارج، والتصق بالنافذة حتى شقت على الناظر رؤية أعمدة الإنارة أو السيارات القليلة التي تتهادى بحذر على الجسر.
قالت لويزا: «أوه، لم يكن إبقاء المكتبة مفتوحة مسألة مبدأ، بل كان لسبب شخصي أكثر مما يخيل إليك.»
بعدها تعالت ضحكاتها، ووعدته بقصة عجيبة. قالت: «لا بد أن الخمر أطلق للساني العنان.»
قال جيم فراري: «لست ثرثارا من هواة القيل والقال.»
رمقته بنظرة ساخرة حادة، وقالت إن من يزعم ذلك يتضح على الأغلب أنه على العكس تماما، بالضبط كأن يعد المرء بأنه لن يخبر أحدا أبدا.
قالت: «لك أن تفشي ما سأقول أيان وأنى شئت، بشرط ألا تفصح عن الأسماء الحقيقية، وألا تقصها على أحد في الجوار. آمل أن تكون ثقتي في محلها وألا تفعل ذلك! ولو أنني لا أشعر بأنني أعبأ البتة الآن، ربما سيتبدل شعوري هذا فور أن تتبدد آثار الشراب. ثمة درس مستفاد في هذه القصة، درس للنساء اللائي يجعلن من أنفسهن أضحوكة. ستتساءل وما الجديد في ذلك، من الممكن أن نتعلم هذا الدرس كل يوم!»
بدأت تقص عليه قصة جندي شرع في مراسلتها من خارج البلاد، وأنه يذكرها منذ أن كان يتردد على المكتبة، لكنها لم تتذكره؛ ومع ذلك، فقد ردت على رسالته الأولى بمنتهى الود، وبدأت المراسلات تتوالى بينهما. أخبرها عن المكان الذي كان يقيم فيه بالبلدة، فعرجت على البيت كي تصف له ما حل بالمكان. وأخبرها عن الكتب التي قرأها، وأفصحت هي عن معلومات شبيهة تخصها. خلاصة القول أن كلا منهما أفصح عن بعض ما يعتمل بداخله، وأحس بدفء مشاعره تجاه الآخر. كان هو الذي أعلن عن مشاعره أولا. لم تكن لتتسرع كأي امرأة ساذجة. في البداية، ظنت أنها تتعامل بلطف معه فحسب، وحتى وقت تال لذلك، لم تكن تريد أن تنبذه وتحرجه. طلب منها صورة، فالتقطت لنفسها واحدة، ولم ترق لها، لكنها أرسلتها إليه على أية حال. سألها إن كان لها عشيق، فأجابت صدقا أن ليس لها عشيق. لم يرسل أي صورة له، ولم تطلب هي منه واحدة، ولو أن الفضول كان ينال منها بالطبع للتعرف على شكله. لم يكن من السهل أن يلتقط لنفسه صورة في حرب تدور رحاها؛ علاوة على ذلك، هي لم تود أن تظهر بمظهر المرأة التي تتراجع عن لطفها وكياستها لو اتضح لها أن مظهره لا يرقى لتوقعاتها.
قال لها في رسائله إنه لا يتوقع أن يعود إلى أرض الوطن. قال إنه لا يخشى الموت بقدر خشيته أن ينتهي به الحال كما انتهى ببعض الرجال الذين رآهم وقت إقامته بالمستشفى متأثرين بجراحهم. لم يسهب في تفسيره، لكنها افترضت أنه كان يعني الحالات التي لم يعرفوا عنها شيئا إلا الآن - ذوي الأعضاء المبتورة، والمصابين بالعمى، والمصابين بالحروق الذين أمست هيئتهم أقرب إلى الوحوش. لم يكن يعترض على قدره، وهي لم تقصد أن تلمح إلى ذلك؛ جل ما في الأمر أنه كان يتوقع الموت، واختاره من بين خيارات أخرى، وفكر فيها وراسلها شأنه شأن الرجال الذين يراسلون حبيباتهم في موقف كهذا.
عندما وضعت الحرب أوزارها، مرت فترة قبل أن تصلها أنباؤه. كانت تستشرف رسالته كل يوم، لكن هيهات! لم تصلها أي رسائل. كانت تخشى من أنه ربما كان من الجنود الأسوأ حظا في الحرب كلها؛ هؤلاء الذين قتلوا في الأسبوع الأخير، أو حتى في اليوم الأخير، أو حتى في الساعة الأخيرة. أخذت تنقب في الصحيفة المحلية كل أسبوع، حيث ظلت قوائم الإصابات الجديدة تطبع إلى ما بعد ليلة عيد الميلاد، لكن اسمه لم يكن ضمن تلك القوائم. والآن، بدأت الصحيفة تسرد أيضا قائمة بأسماء العائدين إلى أرض الوطن، وعادة ما كانت تطبع صورة إلى جوار الاسم، وتعليقا مفرحا، وعندما زادت أعداد الجنود العائدين إلى أرض الوطن بكثرة وبسرعة، لم يكن ثمة مجال لتلك الإضافات. وبعدها رأت اسمه، شأنه شأن غيره من الأسماء في القائمة. لم يكن قد قتل، ولم يصب بأذى؛ إنه في طريق العودة إلى كارستيرز، بل لعله حتى قد بلغها بالفعل.
حينئذ، قررت أن تترك أبواب المكتبة مفتوحة على مصراعيها على الرغم من تفشي وباء الإنفلونزا. كل يوم كانت على يقين من أنه سيحضر، كل يوم كانت متأهبة للقائه. كانت أيام الآحاد عذابا بالنسبة إليها. عندما دخلت مجلس المدينة، كانت تحس دائما بأنه ربما سبقها إليه، ولعله كان متكئا على الجدار بانتظار وصولها. أحيانا كان هذا الشعور يكتنفها بطريقة غريبة جدا لدرجة أنها رأت ظلا حسبته رجلا؛ الآن استوعبت كيف يظن الناس أنهم رأوا أشباحا. كلما فتح الباب، كانت تتوقع أن تطالع وجهه. أحيانا كانت تبرم اتفاقا بينها وبين نفسها ألا تنظر إلى الباب إلى أن تعد حتى العشرة. قليل من الناس توافدوا على المكتبة بسبب وباء الإنفلونزا؛ فأوكلت لنفسها مهام جديدة كإعادة ترتيب الأشياء خشية أن يجن جنونها. ولم تكن تغلق المكتبة إلا بعد موعدها بخمس أو عشر دقائق. وبعدها تخيلت أنه ربما على الجانب الآخر من الشارع على درجات سلم مكتب البريد، يراقبها ويمنعه الخجل من أن يقدم على أي خطوة. كانت تخشى أن يكون مريضا، فكانت تتحسس أخبار الحالات الأخيرة، لكن أحدا لم يذكر اسمه.
في ذاك الوقت تحديدا، انقطعت عن القراءة تماما؛ بدت لها أغلفة الكتب وكأنها أكفان، إما بالية وإما مزينة، ولعل ما بينها ثرى.
كان يجب أن يلتمس لها العذر، أليس كذلك؟ كان يجب أن يلتمس لها العذر لظنها بعد كل هذه المراسلات أن الشيء الوحيد الذي يستحيل أن يحدث هو ألا يتودد إليها، وألا يتواصل معها مطلقا، وألا يطأ عتبتها بعد كل هذه الوعود. كانت الجنازات تمر من أمام نافذتها دون أن تلقي لها بالا ما دام أنه ليس في تابوت من التوابيت. حتى عندما كانت مريضة في المستشفى، كانت الفكرة المسيطرة عليها هي أنها لا بد أن ترجع، لا بد أن تغادر الفراش، لا بد ألا يظل الباب موصدا في وجهه. تحاملت على نفسها ووقفت وهي تترنح، وعادت للعمل. ذات نهار قائظ، وبينما كانت ترتب الصحف الجديدة على الأرفف، برز اسمه أمام عينيها كحلم من أحلامها التي راودتها وهي محمومة.
قرأت إشعارا عاجلا عن زواجه من الآنسة جريس هورن! لم تكن فتاة تعرفها، لم تكن من مرتادي المكتبات.
كانت العروس ترتدي فستانا من الحرير الرقيق البني المائل إلى الصفرة، يزدان بشريط يمزج بين اللونين البني والأصفر الباهت، وتضع على رأسها قبعة من القش لونها بني فاتح وتزدان بخطوط طولية مخملية بنية اللون.
لم تكن توجد صورة، لم يكن يوجد سوى شريط يمزج بين اللونين البني والأصفر الباهت. هذه هي نهاية قصتها الرومانسية، هذه هي النهاية التي لا مفر منها.
لكن وهي جالسة إلى مكتبها في المكتبة، منذ بضعة أسابيع، في ليلة سبت بعد أن رحل الجميع، وأغلقت هي باب المكتبة، ولما همت بإطفاء الأنوار، اكتشفت قصاصة من الورق، خطت عليها كلمات قليلة: «كنت خاطبا قبل أن أسافر.» بلا اسم؛ لا اسمها ولا اسمه. وكانت صورتها موجودة مطمورة جزئيا تحت النشافة.
كان بالمكتبة تلك الليلة، وكانت تلك الفترة حافلة برواد المكتبة، وكثيرا ما كانت تترك مكتبها بحثا عن كتاب ما، أو لترتيب الأوراق، أو لوضع بعض الكتب على الأرفف. كان في الغرفة نفسها معها وراقبها، وسنحت له الفرصة كي يكتب لها هذا، لكنه لم يدعها تتعرف عليه. «كنت خاطبا قبل أن أسافر.»
سألت لويزا: «هل تعتقد أن الأمر برمته كان مزحة؟ هل تظن أن رجلا يمكن أن يكون شريرا إلى هذه الدرجة؟» «بحسب خبرتي، مثل هذه الخدع تمارسها النساء أكثر من الرجال. لا لا، لا تفكري بهذه الطريقة أبدا، الأرجح أنه كان مخلصا، ولعله انجرف بعض الشيء. هكذا يبدو لك ظاهر الأمور فحسب. كان خاطبا قبل أن يسافر، ولم يتوقع أن يرجع سالما، لكنه عاد سالما، ولما عاد كانت خطيبته بانتظاره؛ ماذا كان بوسعه أن يفعل غير ذلك؟»
سألت لويزا: «ماذا كان بوسعه أن يفعل حقا؟» «لقد حمل نفسه أكثر مما تطيق.»
قالت لويزا: «آه، هذا ما حدث، هذا ما حدث! وماذا عساه أوقعني في هذه الحالة سوى غروري الذي يجب أن يكبح جماحه!» بدت عيناها تبرقان، وبدا تعبير وجهها لئيما، وهي تقول: «ألا تظن أنه أمعن النظر في صورتي، وحدث نفسه أن الأصل ربما يكون حتى أسوأ من تلك الصورة البائسة، فتراجع وانسحب؟»
أجابها جيم فراري: «لا أظن، ولا تحقري من شأنك!»
قالت: «لا أريدك أن تحسبني غبية. أنا لست غبية وعديمة الخبرة كما تصورني هذه القصة.» «حقا لا أحسبك غبية أبدا.» «ولكن، ربما تراني عديمة الخبرة؟»
حدث نفسه أن هذا هو النمط المعتاد، فبمجرد أن تفرغ امرأة من قص قصة عن نفسها، تنتقل إلى قصة أخرى. يشوش الخمر على عقولهن فيغيب عنهن تماما التعقل في الأمور.
سبق أن وضعت ثقتها فيه إذ أسرت إليه بأنها كانت مريضة بمستشفى، وأخبرته أنها وقعت في حب طبيب في ذلك المستشفى الذي كان مقاما في بقعة جميلة أعلى جبل هاميلتون، وجرت عادتهما على اللقاء هناك إلى جوار أروقة الممشى المحاطة بأسيجة. طبقات من الصخور الجيرية شكلت درجا، وفي البقاع المحتجبة كانت ثمة نباتات من غير المعتاد أن يراها المرء في أونتاريو؛ كنبات الأزالية، ونبات الوردية، ونبات الماغنوليا. كان الطبيب ملما ببعض المعلومات عن النباتات، وأخبرها أن هذا هو الكساء النباتي الكاروليني؛ نباتات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الموجودة هنا، وأكثر كثافة من حيث الإزهار. وثمة بعض البقاع التي تمثل غابات صغيرة أيضا وتحفل بأشجار بديعة المنظر، ومسارات تحتمي بالأشجار؛ أشجار الزنبق.
قال جيم فراري متعجبا: «زنبق؟! زنبق على الأشجار!» «لا، لا. هذا وصف لشكل أوراقها!»
سخرت منه بتحد، ثم عضت شفتها. رأى من المناسب أن يستمر في الحوار فقال: «زنبق على الأشجار!» بينما أكدت هي بالنفي، وقالت إن الأوراق هي التي تتخذ شكل الزنبق، وأخبرته أنها لم تقل ذلك قط، وأن عليه أن يكف عن ذلك! وطغت عليهما حالة من التقييم الحذر جدا - كان يعرفها تمام المعرفة ويتمنى فقط أن تدركها هي - حالة حافلة بمفاجآت سارة، وإيماءات شبه ساخرة، وآمال جريئة، ونوع قدري من الحنان.
قال جيم فراري: «كل هذا لنا وحدنا. لم يحدث ذلك من قبل، أليس كذلك؟ وربما لن يحدث مجددا.»
سمحت له بأن يمسك يديها، ويساعدها على النهوض من كرسيها، وأطفأ مصابيح غرفة الطعام بينما كانا يخرجان منها. صعدا الدرج الذي كثيرا ما صعده كل منهما منفردا، وتجاوزا صورة الكلب الواقف عند قبر سيده، وصورة هايلاند ماري وهي تنشد في الحقل، وصورة الملك العجوز بعينيه الجاحظتين، وبهيئته التي تنم عن الانغماس في الملذات والشبع حتى التخمة.
أخذ جيم فراري ينشد أو يهمهم وهما يرتقيان الدرج: «الليلة يخيم الضباب، وقلبي في حالة رهاب.» وضع يده بثقة على ظهر لويزا، وقال وهو يوجهها عند منعطف الدرج: «كل شيء بخير، كل شيء بخير!» وعندما صعدا الجزء الضيق من الدرج وصولا إلى الطابق الثالث، قال: «لم يسبق لي أن صعدت بهذا القرب من السماء في هذا المكان!»
لكن، في فترة متأخرة من الليل، أصدر جيم فراري أنينا ختاميا واستيقظ ليوبخ لويزا، وكان النعاس لا يزال يغالبه: «لويزا، لويزا، لماذا لم تخبريني أن الوضع كان هكذا؟»
قالت لويزا بصوت خافت متردد: «أخبرتك بكل شيء.»
قال: «وصلني انطباع غير صحيح إذن. لم أعتزم قط أن يحدث ذلك فارقا بالنسبة إليك.»
قالت إنه لم يحدث أي فارق. الآن، ودون أن يمارس عليها أي ضغوط، شعرت وكأنها تدور في دوامة على نحو لا يقاوم، وكأن الفراش تحول إلى نحلة دوارة يلهو بها طفل صغير وكادت تطيح بها. حاولت أن تفسر أن آثار الدم على الملاءة ربما تعزى إلى حيضها، لكن كلماتها خرجت من فمها بعدم اكتراث، فكان من العسير الربط بينها.
حوادث
عندما عاد آرثر إلى البيت قبل الظهر بفترة وجيزة، قادما من المصنع، صاح قائلا: «ابتعدي عن طريقي حتى أغتسل! وقع حادث في المصنع.» لم يرد أحد، كانت السيدة فير، مدبرة المنزل، في المطبخ تتكلم عبر الهاتف بصوت عال جدا لدرجة أنها لم تستطع أن تسمعه، وبالطبع كانت ابنته بالمدرسة. اغتسل وألقى بكل شيء يرتديه في سلة كبيرة، ومسح الحمام جيدا كما لو كان قاتلا. خرج في هيئة بهية حتى شعره كان لامعا ومصففا، وقاد سيارته إلى بيت الرجل. كان عليه أن يستفسر عن مكان البيت، كان يعتقد أنه يقع في بلدة فينيجر هيل، لكنهم نفوا ذلك وقالوا إن الأب هو الذي يعيش هناك، أما الشاب وزوجته فيسكنان على الجانب الآخر من البلدة وراء الموقع الذي أقيم فيه جهاز تبخير التفاح قبل الحرب.
عثر على الكوخين المبنيين بالطوب، وكانا متجاورين، واختار الكوخ الأيسر حسبما قيل له. لم يكن من الصعب التعرف على البيت على أية حال. سبقته الأنباء. كان باب البيت مفتوحا، ولم يكن الأطفال قد بلغوا سن دخول المدرسة، كانوا يمرحون في فناء البيت. ثمة فتاة صغيرة كانت تجلس على عربة للصغار، ولم تكن تتحرك، بل تعترض طريقه. دار من حولها، وبينما هو يفعل، خاطبته فتاة أكبر سنا بطريقة رسمية - وتحذيرية. «مات أبوها، أبوها هي!»
خرجت امرأة من الغرفة الأمامية، تحمل ستائر على ذراعيها، أعطتها لامرأة أخرى تقف في الردهة. كانت التي استلمت الستائر امرأة عجوز، ملامح وجهها مستكينة، وقد فقدت أسنانها العليا؛ من المرجح أنها كانت تأخذ طعامها معها إلى البيت لتتناوله بأريحية. أما المرأة التي أعطتها الستائر فكانت بدينة، ولكنها شابة نضرة البشرة.
قالت المرأة العجوز لآرثر: «أخبرها بألا ترتقي هذا السلم؛ ستكسر رقبتها وهي تخلع الستائر. هي تحسب أننا بحاجة إلى أن نغسل كل شيء. هل أنت الحانوتي؟ أوه، أرجو المعذرة! أنت السيد دود؟ جريس، تعالي هنا! جريس، إنه السيد دود.»
قال آرثر: «لا تزعجيها.» «تعتقد أنها ستزيل جميع الستائر وتغسلها وتعلقها مرة أخرى بحلول الغد؛ لأنه سيتعين عليه الدخول إلى الغرفة الأمامية. إنها ابنتي، ولا يمكنني أن أقول لها شيئا.»
جاء رجل مريح الطلعة، يرتدي حلة ذات طابع ديني، قادما من خلف البيت وقال بصوت حزين: «سوف تهدأ الآن.» كان القس الخاص بهم، لكنه لم يكن ينتمي لأي من الكنائس التي يعرفها آرثر، هل هو من الكنيسة المعمدانية؟ أم الخمسينية؟ أم من كنيسة الإخوة بليموث؟ كان يحتسي الشاي.
جاءت امرأة أخرى، وأزالت الستائر بسلاسة وخفة، وقالت: «ملأنا المغسلة وشغلناها. في يوم كهذا اليوم، ستجف بسرعة البرق. أبعدي الأطفال عن هنا فحسب.»
كان على القس أن يفسح الطريق، ويرفع كوب الشاي عاليا كي يتفاداها هي وحزمة الستائر التي بين يديها، قال: «ألن تقدم أي منكن كوبا من الشاي للسيد دود؟»
قال آرثر: «لا، لا عليك.» ثم قال للمرأة العجوز: «تكاليف الجنازة، إذا أمكنك أن تخبريها!»
قالت طفلة بنبرة منتصرة على الباب: «بالت ليليان في ملابسها! سيدة أجنيو، بالت ليليان في ملابسها!»
قال القس: «نعم نعم، سيكونون ممتنين جدا.»
قال آرثر: «المدفن وشاهد القبر، كل شيء. تأكد أنهن يفهمن ذلك، أيا كان ما يردن أن يكتب على شاهد القبر.»
كانت المرأة العجوز قد غادرت فناء البيت، وعادت وبين ذراعيها طفل يصرخ. قالت: «المسكينة! لقد أخبروها أنها لا يفترض أن تدخل البيت، أين بوسعها الذهاب إذن؟ ماذا بوسعها أن تفعل سوى أن تبول في ملابسها؟!»
خرجت الشابة من الغرفة الأمامية وهي تجرجر سجادة.
قالت: «أريد أن توضع هذه السجادة على الحبل وتنفض.»
قال القس: «جريس، ها هو السيد دود جاء ليقدم لك واجب العزاء.»
أردف آرثر: «ولأسأل إن كان ثمة شيء يمكن أن أفعله!»
صعدت المرأة العجوز الدرج حاملة الطفلة بين ذراعيها، وتبعها طفلان آخران.
وقعت عينا جريس عليهم. «أوه، لا تفعلوا! عودوا إلى الخارج!» «أمي هنا بالداخل.» «نعم، وأمك في خير حال ومنشغلة، ولا تريد إزعاجا، إنها تساعدني هنا بالخارج. ألا تعرفين أن والد ليليان توفي؟»
قال آرثر معربا عن رغبته في الانصراف: «هل من خدمة أسديها لك؟»
حدقت جريس فيه فاغرة فاهها. صوت المغسلة كان يملأ أرجاء المكان.
قالت: «نعم، انتظر هنا!»
قال القس: «إنها شاردة الذهن، ولا تقصد أن تتصرف بوقاحة.»
عادت جريس وهي تحمل مجموعة من الكتب.
قالت: «هذه الكتب كان قد استعارها من المكتبة، لا أريد أن أدفع غرامة عليها. كان يتردد على المكتبة ليلة كل سبت؛ ومن ثم أعتقد أن موعد استحقاقها يحين غدا. لا أريد التورط في مشكلة مع المكتبة.»
قال آرثر: «سأهتم بالأمر، يسعدني ذلك.» «كل ما في الأمر أنني لا أريد التورط مع المكتبة.»
قال القس معاتبا لها برفق: «كان السيد دود يتكلم عن تحمل أعباء الجنازة بالكامل، بما في ذلك شاهد القبر، أيا كان ما تريدينه على الشاهد.»
قالت جريس: «أوه، لا أريد شيئا مبالغا فيه.»
صباح الجمعة الماضية، وقع حادث أليم وبشع في مصنع نشر الخشب الخاص بآل دود. شاء القدر أن يعلق كم السيد جاك أجنيو بمسمار تثبيت لولبي في شفقة توصيل، وهو يحاول أن يمد يده تحت العمود الرئيسي، فانسحب ذراعه وكتفه تحت العمود؛ ونتيجة لذلك، احتكت رأسه بالمنشار الدائري الذي يبلغ قطره نحو قدم، وفي لمح البصر انفصل رأس الشاب المسكين عن جسده بزاوية من تحت أذنه اليسرى مرورا بعنقه. ويعتقد أنه لقي حتفه على الفور، لم يمهله القدر أن يتكلم أو أن يصرخ، لكن تدفق شلال الدم هو الذي لفت انتباه زملائه للكارثة.
هذه هي الرواية التي أعيدت طباعتها في الصحف بعد مرور أسبوع على الحادث، كي يطلع عليها من فاتته مطالعة الخبر، أو ليحصل عليها من أراد أن يحتفظ بنسخة إضافية ليرسلها إلى أصدقائه أو أقاربه خارج البلدة (ولا سيما الذين اعتادوا العيش في كارستيرز ورحلوا عنها). صحح هجاء كلمة «شفقة» إلى «شقفة»، ونشر اعتذار عن الخطأ. كان هناك أيضا وصف لجنازة مهيبة جدا حضرها حتى أناس من بلدات مجاورة، وأخرى بعيدة جدا مثل مدينة والي؛ منهم من جاء بالسيارة، ومنهم من وفد بالقطار، ومنهم من جاء على متن عربة تجرها الأحصنة. لم يعرفوا جاك أجنيو عندما كان على قيد الحياة، لكنهم أرادوا - حسبما جاء في الصحف - أن يكونوا مشاركين في تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير لما هالهم من بشاعة الحادث الذي أودى بحياته. أغلقت المحال جميعها في كارستيرز أبوابها لساعتين ظهر ذاك اليوم، ولم يغلق الفندق أبوابه، لا لشيء سوى أن المشيعين كانوا بحاجة إلى مكان يتناولون فيه الطعام والشراب.
ترك الفقيد من ورائه زوجته جريس وابنته ليليان ابنة السنوات الأربع. شارك الفقيد بجسارة في الحرب العالمية الأولى، وأصيب مرة واحدة فقط، ولم تكن إصابته حينها بالإصابة الخطيرة، وعلق كثيرون على هذه المفارقة.
لم يكن إغفال الصحيفة مسألة نجاة الأب من الموت في الحرب متعمدا، فمحرر الصحيفة لم يكن من أبناء مدينة كارستيرز، ونسي الناس إخباره بقصة الأب الناجي حتى فات الأوان.
لم يتذمر الأب نفسه من إغفال الصحيفة تلك القصة. في اليوم الذي أقيمت فيه الجنازة، حيث كان الطقس جميلا، خرج من البلدة مثلما اعتاد أن يفعل عندما يستقر رأيه على تمضية يومه بعيدا عن آل دود. كان يرتدي قبعة من اللباد، ومعطفا طويلا يمكن الاستفادة منه كبساط إن أخذته سنة من النوم. كان الحذاء الواقي الذي يرتديه مشدودا بأناقة على قدميه بأشرطة مطاطية. خرج قاصدا البحث عن أسماك الشبوط، لم يكن الموسم قد آن بعد، لكنه كان بارعا دوما في استباق الموسم. كان يصطاد خلال فصل الربيع وأوائل الصيف، ويطهو ما يصيده ويأكله. كان لديه مقلاة وإناء يخفيهما على ضفة النهر، أما الإناء فكان لغلي الذرة التي ينتزعها من الحقول في فترة لاحقة من العام، حينما يتناول أيضا ثمار أشجار التفاح البرية وأشجار العنب. كان في كامل قواه العقلية، بيد أنه كان يمقت الحوار، ولم يستطع أن يتفادى الحوار بالمرة خلال الأسابيع التالية لوفاة ابنه، لكنه كان ماهرا في اختصاره. «كان عليه أن يتحرى الحيطة أثناء عمله.»
ولما كان يمشي في البلدة ذاك اليوم، التقى شخصا آخر لم يحضر الجنازة؛ التقى امرأة. لم تحاول أن تبدأ معه أي حوار. الواقع أنها بدت حادة في عزلتها مثله تماما إذ كانت تشق طريقها بخطوات واسعة وسريعة. •••
امتد مصنع البيانو الذي بدأ في تصنيع الأرغن المزماري على طول الجانب الغربي من البلدة كجدار مدينة من العصور الوسطى. كانت هناك بنايتان شاهقتان كالمتاريس الداخلية والخارجية، يصل بينهما جسر توجد به المكاتب الرئيسية. إذا توغلت في المدينة وشوارع بيوت العمال، فستعثر على أفران تجفيف الأخشاب ومصنع نشر الأخشاب ومخازنها. كان نفير المصنع بمنزلة تنبيه لاستيقاظ الكثيرين؛ حيث كان ينطلق في السادسة صباحا، وكان ينطلق مرة أخرى إيذانا ببدء العمل في السابعة، وكذا في الثانية عشرة ظهرا إيذانا بساعة الغداء، وفي الواحدة ظهرا لاستئناف العمل، وأخيرا في الخامسة والنصف إيذانا بانتهاء العمل وعودة العمال إلى بيوتهم.
كانت اللوائح معلقة بجوار ساعة تسجيل الحضور والانصراف تحت الزجاج، وكانت اللائحتان الأوليان تنصان على ما يلي: «يخصم لمن يتأخر دقيقة واحدة ما يوازي 15 دقيقة من أجره. كن منضبطا.» «لا تستخف بعاملي الأمان والسلامة. انتبه لنفسك وللعامل الذي يعمل إلى جوارك.»
سبق أن وقعت حوادث في المصنع، والواقع أن ثمة رجلا لقي مصرعه عندما وقع فوقه حمل من الأخشاب؛ وقع ذلك الحادث قبل انضمام آرثر للعمل في المصنع. وذات مرة أثناء الحرب، فقد رجل ذراعه أو جزءا من ذراعه، ويوم أن وقع ذلك الحادث، كان آرثر في تورونتو؛ لذا، فهو لم يشهد حادثا واحدا، لم يشهد حادثا خطيرا على أية حال، لكن كثيرا ما أصبحت تراوده الآن فكرة أن شيئا ما قد يحدث.
لعله لم يكن لديه شعور جازم بأن المتاعب لن تعترض طريقه مثلما كان يشعر قبل وفاة زوجته. توفيت زوجته عام 1919 في الموجة الأخيرة لوباء الإنفلونزا، بعد أن تجاوز كل الناس خوفهم من الوباء؛ حتى هي لم تكن خائفة. كان ذلك منذ خمس سنوات تقريبا، وما زال الحادث بمنزلة الستار الذي أسدل على جزء من حياته كان يخلو من الهموم. لكن لبعض الناس، بدا آرثر دوما إنسانا مسئولا وجادا جدا؛ لم يلحظ أحد فارقا كبيرا في شخصيته.
في الأحلام التي راودته عن الحوادث، خيم الصمت، وكان كل شيء معطلا، كل آلة في المكان توقفت عن إصدار الضجيج المعتاد منها، وتلاشت أصوات الجميع، وعندما تطلع آرثر من نافذة المكتب، أدرك أن يوم الدينونة قد حان. لم يستطع أن يذكر قط أنه رأى أي أمارة على ذلك، كل ما رآه هو الخواء وغبار منتشر في ساحة المصنع ينبئه بأن الساعة قد حان موعدها «الآن». •••
ظلت الكتب داخل سيارته لأسبوع أو ما شابه. قالت ابنته بي: «ماذا تفعل هذه الكتب هنا؟» وحينئذ استعاد الذكريات.
قرأت بي عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها: «السير جون فرانكلين وقصة حب المعبر الشمالي الغربي» بقلم جي بي سميث، و«ماذا أصاب العالم؟» بقلم جي كي تشيسترتون، و«الاستيلاء على كيبيك» بقلم أرشيبولد هيندري، و«البلشفية: النظرية والتطبيق» بقلم اللورد برتراند راسل.
قالت بي: «البلجفية»، وصحح لها آرثر الكلمة. سألته عن مغزاها، فقال: «إنه مذهب شائع في روسيا لا أستوعبه - عن نفسي - استيعابا وافيا، لكنه مخز بحسب ما سمعته عنه.»
كانت بي في الثالثة عشرة من عمرها آنذاك، وكانت قد سمعت عن الباليه الروسي والدراويش، وعلى مدار العامين التاليين، كانت تعتقد أن البلشفية ضربا من الرقص الشيطاني أو ربما الإباحي! على الأقل كانت هذه هي القصة التي قصتها على الآخرين عندما شبت عن الطوق.
لم تذكر أن الكتب كانت مرتبطة بالرجل الذي تعرض للحادث، كان ذلك سيجعل القصة أقل إمتاعا. ولعلها نسيت فعلا. •••
كانت أمينة المكتبة مرتبكة، فالكتب ما زالت تحتفظ ببطاقات التعريف بداخلها؛ مما يعني أن أحدا لم يتصفحها، كل ما هنالك أنها أزيحت عن الأرفف، وأخذت من المكتبة. «الكتاب الذي ألفه اللورد راسل مفقود منذ فترة طويلة.»
لم يكن آرثر معتادا على هذا النوع من التأنيب، لكنه قال برفق: «إنني أعيدهم بالنيابة عن شخص آخر؛ ذلك الشاب الذي قضى نحبه في حادث المصنع.»
فتحت أمينة المكتبة كتاب فرانكلين، كانت تتطلع في صورة القارب المحاصر بالثلج.
قال آرثر: «زوجته طلبت مني إعادتها.»
التقطت كل كتاب على حدة، وهزته وكأنها تتوقع أن ثمة شيئا سيسقط منه، ومررت أصابعها بين الصفحات. كان الجزء السفلي من وجهها يتحرك بطريقة غير مستحسنة، وكأنها كانت تمضغ وجنتيها من الداخل.
قال آرثر: «تخميني أنه أخذها معه إلى البيت لما أحس برغبة في ذلك.»
بعدها بدقيقة قالت: «عذرا، ماذا قلت؟ أستميحك عذرا!»
كان يعتقد أن الحادث هو الذي أربكها. فكرة أن الرجل الذي مات تلك الميتة كان آخر من فتح هذه الكتب، وقلب هذه الصفحات، فكرة أنه ربما خلف جزءا من حياته في هذه الكتب؛ قصاصة من الورق أو شريطا لتنظيف الغليون وضعه لتمييز الصفحات، أو حتى بعض شذرات التبغ. كان هذا ما أربكها.
قال: «على أية حال، أتيت إلى المكتبة لإعادة هذه الكتب.»
انصرف عن مكتبها لكنه لم يغادر المكتبة في الحال، فهو لم يدخل المكتبة منذ سنين. ها هي صورة أبيه معلقة بين النافذتين الأماميتين حيث كانت دوما.
إيه في دود، مؤسس مصنع دود للأرغن، وراعي هذه المكتبة المؤمن بالتقدم والثقافة والتعليم، صديق مخلص لمدينة كارستيرز والعمال.
كان مكتب أمينة المكتبة في الممر الواصل بين الغرفتين الأمامية والخلفية، وكانت الكتب موضوعة على الأرفف المقسمة إلى صفوف في الغرفة الخلفية. كانت ثمة مصابيح مظللة باللون الأخضر لها حبال تشغيل طويلة تتدلى في الممرات التي بين الأرفف. تذكر آرثر أن ثمة مسألة أثيرت منذ عدة سنوات باجتماع مجلس الإدارة بشأن شراء لمبات بجهد 60 واط بدلا من 40 واط. أمينة المكتبة هذه هي التي تقدمت بهذا الطلب، وأجيب طلبها.
في الغرفة الأمامية، كانت الصحف والمجلات على أرفف خشبية، وبعض الطاولات الدائرية الثقيلة تحيط بها مقاعد بحيث يستطيع الناس الجلوس إلى الطاولات والقراءة، علاوة على صفوف من الكتب الداكنة الكبيرة وراء الزجاج، ربما كانت قواميس وأطالس وموسوعات. نافذتان عاليتان جميلتان تطلان على الشارع الرئيسي، وصورة والد آرثر معلقة بينهما. ثمة صور أخرى مبعثرة في أنحاء الغرفة ومعلقة على ارتفاع أعلى من اللازم، ومعتمة جدا، وتعج بعدد هائل من الشخصيات لدرجة تجعل من الصعب على الناظر إليها استبيانهم بسهولة . (لاحقا، عندما أمضى آرثر ساعات عديدة في المكتبة، وناقش محتوى هذه الصور مع أمينة المكتبة، علم أن واحدة منها كانت تمثل معركة فلودن حيث كان ملك اسكتلندا ينطلق نزولا من تل عال نحو حجاب كثيف من الدخان، وأخرى لجنازة للفتى ملك روما، وثالثة للشجار الذي نشب بين أوبيرون وتيتانيا من مسرحية «حلم ليلة صيف».)
جلس إلى إحدى طاولات القراءة حيث يمكنه أن يتطلع بناظريه عبر النافذة، وأمسك بنسخة قديمة من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» كانت موضوعة على تلك الطاولة. انصرف عن أمينة المكتبة، كان يرى أن هذا هو التصرف السليم ما دام أنها بدت منفعلة بعض الشيء. وفد زوار آخرون على المكتبة، وسمعها تتكلم معهم، بدا صوتها طبيعيا بالقدر الكافي الآن. ظلت فكرة مغادرة المكتبة تراوده، لكنه لم يفعل.
أعجبته النافذة العالية المكشوفة التي انعكس عليها ضوء الليل الربيعي، وراقت له روعة هاتين الغرفتين وطريقة ترتيبهما. أبهرته فكرة تردد الكبار على المكتبة، ومطالعتهم للكتب بانتظام، أسبوعا تلو الآخر، كتابا بعد كتاب، حياة كاملة. هو نفسه كان يطالع الكتب بين الفينة والأخرى كلما رشح له أحدهم كتابا، وعادة كان يستمتع بالكتب التي يطالعها، وبعدها ينتقل إلى قراءة المجلات كي يتابع مستجدات الأمور، ولم يكن يفكر قط في قراءة الكتب حتى يعترض طريقه كتاب جديد بالمصادفة.
كانت ثمة فترات عابرة خلت فيها المكتبة من روادها، ولم يبق إلا هو وأمينة المكتبة.
خلال واحدة من تلك الفترات، دنت منه ووقفت إلى جواره حيث انشغلت بإعادة بعض الصحف إلى مكانها على الرف، وعندما انتهت تحدثت إليه بإلحاح مكبوت. «أظن أن الرواية التي نشرت في الصحيفة عن الحادث كانت دقيقة نوعا ما، أليس كذلك؟»
قال آرثر إنها ربما كانت دقيقة أكثر من اللازم. «لماذا؟ لماذا تقول ذلك؟»
فشرح لها نهم العامة الذي لا ينتهي للتفاصيل المرعبة. هل على الصحيفة أن تشبع نهم قرائها؟
قالت أمينة المكتبة: «أعتقد أن هذا أمر طبيعي، أعتقد أنه من الطبيعي أن يرغب الناس في معرفة الأسوأ. الناس يريدون تصورها، وهذه رغبتي شخصيا. لا أعرف شيئا عن الآلات، ومن الصعب بالنسبة إلي أن أتخيل ما حدث حتى بمساعدة الصحيفة. هل انحرفت الآلة عن مهمتها المعتادة؟»
أجابها آرثر: «لا، لم تمسك الآلة بتلابيبه وتسحبه نحوها كما لو كان ذبيحة؛ جل ما في الأمر أنه ارتكب خطأ ما، أو تصرف بغير حرص على أية حال، فهلك على الفور.»
لم تنبس ببنت شفة، لكنها لم تبرح مكانها.
قال آرثر: «على المرء أن يحتفظ برباطة جأشه أثناء العمل، وألا يسرح بذهنه ولو لثانية واحدة. الآلة خادمك الأمين، وهي خادم ممتاز، لكن لا عقل له.»
تساءل هل قرأ ما لفظ به توا في مكان ما أم توصل إليه بنفسه.
قالت أمينة المكتبة: «وأعتقد أنه لم تكن ثمة وسائل لحماية العمال، أليس كذلك؟ لكن لا بد أنك على دراية بكل ذلك.»
حينئذ تركته، فقد دخل أحدهم المكتبة.
بعد الحادث، شهدت البلدة موجة من الطقس الدافئ، وبدا طول الليالي وحرارة النهار المنعشة مفاجئين ومدهشين، وكأن هذه الفترة ليست نهاية الشتاء في هذه البقعة من البلد كل عام تقريبا. انحسرت مياه الفيضان بطريقة عجيبة إلى المستنقعات، وبرزت الأوراق الغضة من الفروع المخضبة بالحمرة، وفاحت روائح الأفنية المحاذية لمخازن الحبوب في البلدة، واختلطت برائحة أزهار الزنبق.
بدلا من أن تنتاب آرثر رغبة في الخروج في مثل هذه الليالي، وجد أفكاره تجنح إلى المكتبة، وكثيرا ما كان ينتهي به المآل هناك، فيجلس في البقعة التي وقع اختياره عليها في أول زيارة له. كان يجلس نصف ساعة أو ساعة كاملة، يطالع مجلة «إلستراتيد لندن نيوز» أو «ناشيونال جيوجرافيك» أو «صنداي نايت» أو «كوليارز»، كل هذه المجلات كانت تصل حتى باب بيته، وكان من الممكن أن يطالعها دون أن يبرح منزله، في مختلاه، ناظرا إلى حديقته المسيجة التي كان يعتني بها العجوز أجنيو، وأحواض الزرع الحافلة الآن بأزهار الزنبق من كل لون زاه وتوليفة مبهجة. بدا أنه يفضل منظر الشارع الرئيسي الذي تقطعه سيارات الفورد الجديدة الرشيقة بين الفينة والأخرى، أو بعض السيارات الأقدم ذات الأسقف القماشية المغبرة التي تصدر أصواتا حادة. كان يفضل مكتب البريد ببرج ساعته التي تشير إلى توقيتات أربع مناطق مختلفة - كلها خاطئة، كما كان يحلو للناس أن يقولوا. وكذلك كان مولعا بمراقبة المشاة والمتسكعين على الأرصفة، والذين يحاولون تشغيل نافورة مياه الشرب، مع أنه تقرر إيقافها عن العمل حتى غرة يوليو.
لم يكن يشعر بالحاجة إلى الاختلاط بالناس، فهو لم يكن هناك من أجل تبادل أطراف الحديث مع الآخرين، ولو أنه كان يلقي السلام على من كان يعرف اسمه، وكان يعرف أغلبهم بالفعل. وربما يتبادل بضع كلمات مع أمينة المكتبة، ولو أنها لا تتجاوز «صباح الخير» كلما جاء، و«مساء الخير» كلما رحل. لم يكن يطلب شيئا من أحد، وأحس بأن حضوره لطيفا ومطمئنا، والأهم من ذلك كله، طبيعيا؛ فبجلوسه هنا للمطالعة والتأمل، هنا بدلا من البيت، أحس وكأنه يقدم شيئا للعالم، وأن الناس يستطيعون التعويل على ما يقدمه.
كان هناك تعبير يعشقه، وهو «خادم العامة». أبوه الذي كان يتطلع فيه هنا بوجنتيه ذواتي اللون الوردي الباهت، وعينيه الزرقاوين الجامدتين، وفمه العجوز النكد؛ لم يفكر في نفسه من هذا المنطلق قط؛ كان يرى نفسه شخصية عامة وولي نعم. كان يعيش بنزواته وقراراته دون أن يمسه أذى. ربما جال في أنحاء المصنع كلما شهدت الأعمال فترة كساد، ليقول لهذا العامل أو ذاك: «عد إلى منزلك! عد إلى منزلك ولا تبرحه فربما أعدتك إلى عملك مرة أخرى.» فينصرف العامل. ربما يعمل العمال الذين يسرحهم من العمل في حدائقهم، أو يخرجون لاصطياد الأرانب، فتتراكم عليهم فواتير مشترياتهم، ويسلمون بأن الحال لم يكن ليكون خلاف ذلك. كانوا يتندرون بصيحته: «عد إلى منزلك!» لقد كان بطلهم أكثر مما كان يمكن أن يصبح عليه آرثر مهما حاول، لكنهم ليسوا على استعداد لتحمل المعاملة نفسها اليوم. خلال الحرب، اعتادوا على الأجور العالية، واعتادوا أن يوجد طلب عليهم دوما، ولم تخطر ببالهم قط حالة إغراق السوق بالعمالة التي حدثت عندما عاد الجنود إلى أرض الوطن، ولم يخطر ببالهم كيف أن مشروعا كهذا ظل يحقق أرباحا بالحظ وبشيء من الذكاء من عام إلى آخر، وحتى من موسم إلى آخر. لم تكن التغيرات تروق لهم - فقد استاءوا من التحول الآن إلى تصنيع الأرغن الآلي الذي ظن آرثر أنه الأمل في المستقبل - لكن آرثر كان يفعل ما يتحتم عليه القيام به، ولو أن أسلوبه في مباشرة العمل كان على النقيض من أسلوب والده تماما. كان يدرس كل الأمور ويتدبرها مرارا وتكرارا، ويختفي عن المشهد إلا إذا دعت الضرورة إلى خلاف ذلك، ويحافظ على كرامته، ويحاول دوما أن يكون منصفا.
كانوا يتوقعون أن يتم توفير كل شيء من أجلهم، وهكذا كانت توقعات البلدة بأسرها؛ ستطل عليهم فرص العمل كما تطل عليهم الشمس كل صباح. وتصاعدت الضرائب المفروضة على المصنع في الوقت نفسه الذي فرضت فيه ضرائب على المياه، التي جرى العرف على إمدادها بالمجان. وأمست صيانة طرق الولوج إلى المصنع مسئولية المصنع نفسه لا البلدة، وكانت الكنيسة الميثودية تطالب بأموال طائلة من أجل بناء مدرسة الأحد الجديدة، وكان فريق الهوكي التابع للبلدة بحاجة إلى زي جديد، وكان العمل جاريا على تركيب حلوق حجرية لبوابات متنزه النصب التذكاري لضحايا الحرب، وفي كل عام كان أذكى الصبية في السنة النهائية من المرحلة الثانوية يوفد إلى الجامعة على حساب آل دود.
سل وسيلبى طلبك!
لم تكن التوقعات أقل تفاؤلا بالبيت أيضا، فقد كانت بي مشتاقة للالتحاق بمدرسة خاصة، والسيدة فير تضع عينيها على خلاط جديد للمطبخ، ومغسلة جديدة أيضا. وكان من المخطط له في العام الحالي طلاء كل الزخارف التي يزدان بها البيت من الخارج، وكل تلك الديكورات الزخرفية التي استنفدت كميات مهولة من الطلاء. وفي خضم ذلك كله، ما كان من آرثر إلى أن طلب لنفسه سيارة جديدة طراز كرايسلر.
كانت ذلك ضروريا، فلا بد أن تكون لديه سيارة جديدة يقودها، لا بد أن يقود سيارة جديدة، ولا بد أن تلتحق بي بالمدرسة، ولا بد أن تحصل السيدة فير على أحدث الأجهزة، ولا بد من طلاء الزخارف التي يزدان بها البيت بطلاء جديد أبيض بياض ثلوج الكريسماس. إن لم يحدث ذلك، فإنهم سيخسرون احترام الناس لهم، وثقتهم بأنفسهم، كما أنهم سيشرعون في التساؤل إن كانت ظروفهم تتدهور وحالهم يسوء. كان بالإمكان تأمين كل هذه الاحتياجات؛ بشيء من الحظ يمكن تأمينها كلها.
شعر آرثر لسنوات طويلة عقب وفاة والده بأنه إنسان مدع، ولم يخالجه هذا الشعور طوال الوقت، بل بين الحين والآخر. الآن تبدد هذا الشعور ... كان بإمكانه الجلوس هنا والإحساس بأن هذا الشعور قد تبدد. •••
كان في مكتبه حين وقع الحادث، يتشاور مع مندوب مبيعات يروج لقشرة الخشب. تناهى إلى مسامعه تغير في الضوضاء الصادرة من المصنع، لكن التغير كان زيادة في حدة الضوضاء وليس سكونا. لم يكن مثل هذا التغير استنفارا له - كل ما في الأمر أنه أزعجه بعض الشيء. ونظرا لأن الحادث وقع في مصنع نشر الخشب، لم يعلم به أحد على الفور في الورش أو في أفران تجفيف الخشب أو في المخازن، واستمر العمل في بعض الأماكن دون انقطاع لعدة دقائق. حقيقة الأمر هي أن آرثر الذي كان منكبا على عينات قشرة الخشب الموضوعة على مكتبه، ربما كان من بين آخر من أدركوا أن ثمة انقطاعا في العمل. طرح على مندوب المبيعات سؤالا، فلم يجبه الأخير. نظر آرثر لأعلى ليجد الرجل وقد فغر فاهه، وارتسمت علامات الهلع على وجهه، وتبددت رباطة جأشه تماما.
وبعدها سمع من ينادي اسمه - سواء «السيد دود» كالمعتاد، أو «آرثر! آرثر!» على لسان الرجال الأكبر سنا الذين عرفوه طفلا - وسمع أيضا كلمات متناثرة مثل: «منشار»، و«رأس»، و«يا إلهي، يا إلهي!»
ربما تمنى آرثر لو ساد شيء من الصمت، وانحسرت الأصوات والأشياء بتلك الطريقة المرعبة والمريحة في آن واحد، ليفسح له المجال. لكن ما حدث كان خلاف ذلك؛ ثمة صراخ وتحقيقات وأناس يهرعون في كل مكان، وهو في خضم ذلك كله مدفوع نحو مصنع نشر الخشب. ثمة رجل أغشي عليه وسقط بطريقة كان من شأنها أن تودي بحياته لولا أنهم فصلوا الكهرباء عن المنشار قبل لحظة واحدة. كان جسده ملقى على الأرض، لكن هذا الجسد كان كاملا بحيث إن آرثر لم يستمر طويلا في الخلط بينه وبين جثة الضحية. أوه، لا، لا! لقد واصلوا دفعه للأمام. تحولت نشارة الخشب إلى اللون القرمزي؛ كانت مخضبة بالدماء. تناثرت الدماء على كومة الخشب هنا، وكذلك شفرات المناشير. كانت هناك كومة من ملابس العمل أغرقتها الدماء ملقاة في نشارة الخشب، وأدرك آرثر أن هذه هي الجثة التي لم تكن سوى جذع الرجل وأطرافه فحسب. شلال من الدماء تدفق لدرجة أنه أمسى من الصعب تمييز شكل الجثة لأول وهلة، حيث غير الدم من هيئتها فأصبحت أشبه بحلوى البودينج.
أول ما خطر على باله أن يغطي الجثة، فخلع سترته، وبادر بتغطيتها. كان عليه أن يدنو منها حتى إن حذاءه أصدر صوتا وهو يغوص في الدماء. ولعل سبب عدم إقدام سواه على هذا الفعل أن العمال ببساطة لا يرتدون سترات.
كان أحدهم يصرخ: «هل ذهب أحد لاستدعاء الطبيب؟» قال رجل على مقربة من آرثر متعجبا: «نذهب لاستدعاء الطبيب! الطبيب لن يستطيع أن يخيط رأسه في جذعه، أليس كذلك؟»
لكن آرثر أصدر أوامره باستدعاء الطبيب، حيث كان يرى أن ذلك أمر ضروري، فلا يجوز أن تقع حالة وفاة ولا يستدعى طبيب. استنفرت أوامره بقية الرجال، فسعوا لإحضار الطبيب والحانوتي والتابوت والأزهار والواعظ. بدءوا في تنفيذ ما كلفهم به، فأزالوا نشارة الخشب، ونظفوا المنشار، وذهب من كانوا على مقربة من الحادث ليغتسلوا بحسب أوامره. وحمل الرجل الذي أغشي عليه إلى المطعم. سأل آرثر عن حال هذا الرجل وطلب من عاملة المكتب أن تصنع له قدحا من الشاي.
كان الأمر يدعو إلى احتساء رشفات من الكونياك أو الويسكي، لكن كانت لديه قاعدة تحظر احتساء هذه الكحوليات بين جنبات المصنع.
ما زال ثمة شيء مفقود وهو الرأس. أين كان الرأس؟ قالوا إنه هناك، هناك. سمع آرثر صوت تقيؤ على مقربة منه. حسن، إما أن يرفع الرأس بنفسه وإما أن يطلب إلى أحدهم أن يرفعه، لكن صوت تقيؤ بعض من حوله من شدة الخوف حسم الأمر وشجعه، ومنحه شيئا من قوة الإرادة كي يتقدم هو بنفسه. رفع الرأس عن الأرض، وحمله برفق وبحرص وكأنه يحمل إبريقا ثمينا يحتاج إلى عناية شديدة في حمله. أزاح الوجه عن ناظر الآخرين، وكأنه يطمئنه، وضمه إلى صدره. تسرب الدم عبر قميصه، والتصق بجلده. كان الدم دافئا؛ شعر وكأنه رجل مصاب. كان يعلم أنهم يراقبونه، وكان يشعر بنفسه وكأنه ممثل أو كاهن. ماذا سيفعل بالرأس الآن بعد أن ضمه إلى صدره؟ خطرت له إجابة هذا السؤال أيضا؛ يضع هذا الرأس على الأرض ويعيده إلى مكانه الطبيعي، ولكن بالطبع بلا إحكام، فلا يمكنه أن يلحم الرأس بالجسد ويعيده كما كان تماما؛ فقط سيضعه في مكانه تقريبا، ويرفع السترة ويجره إلى موضع جديد.
لم يكن بوسعه الآن الاستفسار عن اسم الرجل، سيتعين عليه أن يحصل على اسمه بطريقة أخرى؛ فبعد الخدمات التي قدمها للمكان، سيكون الجهل باسمه بمنزلة إساءة.
لكنه اكتشف أنه يعرف اسمه بالفعل، خطر له الاسم على حين غرة؛ فبينما كان يضع طرف سترته على أذن القتيل التي ما برحت تشير لأعلى، ومن ثم بدت وكأنها مفعمة بالحياة دون أن يصيبها عطب، خطر له الاسم. إنه ابن الرجل الذي كان يتردد على بيتهم ليعتني بالحديقة، ذاك الرجل الذي لم يكن يعتمد عليه دوما. رجل آخر يختاره القدر مرة أخرى إثر عودته من الحرب. هل هو متزوج؟ هكذا حسبه. سيتعين عليه أن يزور زوجته في أسرع وقت ممكن، أما الآن، فإنه بحاجة إلى ملابس نظيفة. •••
عادة كانت أمينة المكتبة ترتدي بلوزة حمراء داكنة، وكانت شفتاها مخضبتين بلون يتماشى مع لون البلوزة، وكان شعرها مقصوصا قصة قصيرة. لم تعد يافعة بعد، لكنها احتفظت لنفسها بهيئة ملفتة للأنظار. تذكر أنه منذ عدة سنوات عندما عينوها، حدث نفسه بأنها بارعة الأناقة. لم يكن شعرها قصيرا آنذاك، بل كان ملفوفا أعلى رأسها تأسيا بالموضة التي كانت شائعة آنذاك. ولم يفقد شعرها لونه؛ ذلك اللون الدافئ البديع الذي يشبه لون أوراق شجر البلوط في الخريف. حاول أن يتذكر كم كان راتبها، بالتأكيد لم تكن تجني الكثير، لكنها بدت رائعة الجمال حتى مع دخلها المحدود. وأين كانت تعيش؟ هل في ذلك النزل الذي كان يقيم فيه أساتذة المدارس؟ لا، ليس هناك، كانت تعيش في الفندق التجاري.
والآن، ثمة شيء آخر خطر له؛ لا توجد قصة محددة يستطيع أن يتذكرها. لم يكن بوسع أحد الزعم بثقة أنها سيئة السمعة، لكن سمعتها لم تكن خالية من الشبهات أيضا، فقد زعم أنها تحتسي الشراب برفقة المسافرين. ربما لديها رفيق بينهم، رفيق أو رفيقان.
كانت ناضجة بما يكفي لتفعل ما يحلو لها. لم يكن وضعها مماثلا لتلك المعلمة التي عينت، من بين أسباب أخرى، لأجل أن تكون مثالا يحتذى به. لا غبار عليها ما دامت تنجز عملها كما ينبغي، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك. حياتها أمامها لتعيشها، شأنها شأن غيرها من البشر. ألا تفضل أن تعمل امرأة فاتنة هنا بدلا من العجوز النكدة ماري تامبلين؟ قد يفد الغرباء على البلدة، ويحكمون عليها بما تراه أعينهم؛ ولذا فإننا بحاجة إلى امرأة فاتنة حسنة الخلق.
كفاك! من قال إنه ليس لدينا امرأة بهذه المواصفات؟ كان يجري حوارا افتراضيا ويدفع الحجة بالحجة نيابة عنها، وكأن شخصا أتى وأراد أن يقصيها من مكانها، ولم يكن ثمة ما يوحي له بأن الحال كان على هذا النحو.
ماذا عن سؤالها الذي طرحته الليلة الأولى بخصوص الآلات؟ ماذا كانت تعني بذلك؟ أكانت طريقة خبيثة لتأنيب الضمير؟
حدثها عن الصور والإضاءة وأخبرها حتى كيف أن والده أرسل العمال إلى هنا، ودفع لهم مقابل صنع أرفف المكتبة، لكنه لم يتكلم قط عن الرجل الذي أخذ الكتب دون أن يخبرها بذلك. الأرجح أنه أخذ كتابا في كل مرة، ربما أخفاه تحت معطفه. لا بد أنه أعادها إلى المكتبة بالطريقة نفسها، وإلا تراكمت عنده في البيت، ولم تكن زوجته لتوافق على ذلك. كانت سرقته للكتب مؤقتة، سلوكا غير مؤذ، ولكنه غريب! هل كانت ثمة أي علاقة بين ظن المرء أنه قادر على فعل الأمور على نحو مختلف بعض الشيء، وبين افتراض أنه يستطيع أن يفلت بفعلته بحركة طائشة ربما تفضي إلى أن يعلق كمه وتسوق المنشار إلى عنقه؟
ربما كانت ثمة علاقة ... إنها مسألة سلوك. «ذاك الرجل - كما تعرفين - الذي تعرض لحادث.» هكذا تحدث إلى أمينة المكتبة مضيفا: «لماذا في رأيك كان يتسلل بهذه الطريقة لأخذ الكتب التي كان يريدها؟»
قالت أمينة المكتبة: «هذا حال الناس جميعا؛ منهم من يمزق الصفحات لشيء لم يرق له أو لأمر يقوم به. إنهم يقدمون على أمور غريبة فحسب! لا أعرف.» «هل سبق أن مزق بعض الصفحات؟ هل حدث أن عنفته من قبل؟ هل جعلته يرهب مواجهتك مطلقا؟»
أراد أن يمازحها بعض الشيء ملمحا إلى أنها لم تكن لتبث الذعر في قلب أحد، لكنها لم تترجم أسئلته بهذه الطريقة.
سألته: «وكيف يتسنى لي ذلك وأنا لم أتكلم معه قط؟ لم أره من قبل. لم أره لأعرف من هو من الأساس!»
ابتعدت عنه واضعة حدا لهذا الحوار؛ لم يكن المزاح يروق لها إذن. هل هي ممن أصيبوا بجراح كثيرة التأمت فلا يراها الناظر إليها إلا عن كثب؟ هل ثمة مأساة قديمة أو سر ما يقض مضجعها؟ لعلها فقدت حبيبا لها في الحرب. •••
في ليلة لاحقة، ليلة سبت في فصل الصيف، طرحت الموضوع بنفسها، الموضوع الذي لم يكن ليطرحه هو مرة أخرى. «هل تذكر الحوار الذي دار بيننا ذات مرة عن الرجل الذي تعرض للحادث؟»
قال آرثر إنه يذكره. «أريد أن أسألك أمرا قد تراه غريبا.»
أومأ برأسه. «وسؤالي هذا أريدك أن تحتفظ به سرا.»
قال: «نعم، بلا شك.» «كيف كان شكله؟»
شكله؟ ارتبك آرثر؛ ارتبك من تلك الهالة من السرية التي أحاطت بها سؤالها - من الطبيعي بالتأكيد أن تهتم بشكل الرجل الذي كان يتردد على المكتبة ويخرج منها محملا بالكتب دون علمها - ولأنه لم يستطع مساعدتها، هز رأسه نافيا، لم يستطع أن يستدعي في ذهنه أي صورة لجاك أجنيو.
قال: «كان طويلا، أعتقد أنه كان طويل القامة، بخلاف ذلك لا أستطيع أن أساعدك. إنني لست الشخص المناسب للإجابة عن هذا السؤال، يسهل علي أن أميز أي شخص، لكنني لا أستطيع أن أعطي وصفا جسمانيا له، حتى لو كان شخصا تقع عليه عيناي يوميا.»
قالت: «لكنني ظننت أنك من رفع رأسه عن الأرض - هكذا سمعت.»
قال آرثر بخشونة: «لم أكن أرى أن من اللائق تركه هكذا على الأرض!» خاب ظنه فيها، وشعر بالحرج لأجلها، لكنه حاول أن يتكلم دون أن تشي كلماته بأي انفعال، فخلا صوته من أي تأنيب. «ليس بإمكاني حتى أن أخبرك بلون شعره؛ فقد كان شعره مطموسا على نحو شبه كامل آنذاك.»
لم تنبس ببنت شفة للحظة أو اثنتين، ولم ينظر إليها، وبعدها قالت: «لا بد أنني أبدو كواحدة من هؤلاء اللائي يهيمن بمثل هذه الأمور.»
أصدر آرثر صوتا يعبر عن اعتراضه على ما قالت، لكن بدا له حقا أنها من هؤلاء.
قالت: «لم يكن ينبغي أن أسألك ... لم يكن ينبغي أن آتي على ذكر هذا الأمر. لا يمكنني أبدا أن أفسر لك علة سؤالي، كل ما أطلبه منك ألا تحسبني من هؤلاء أبدا إن كان في مقدورك ذلك.»
سمع آرثر كلمة «أبدا» لم يكن بوسعها أن تشرح له قط، يجب ألا يظن بها هذا أبدا. في خضم خيبة أمله، استشف اقتراحا ما، وهو أن تستمر حواراتهما، وربما على نحو أقل عشوائية. استشعر في نبرة صوتها تواضعا، لكنه كان تواضعا مستندا إلى ثقة من نوع ما، لا شك أنه كان جنسيا.
أم أن هذا ما حسبه لأن هذه الليلة الموعودة؟ كانت تلك ليلة السبت التي عادة ما كان يتوجه فيها إلى مدينة والي كل شهر. كان سيتوجه إلى هذه المنطقة تلك الليلة، وعرج على المكتبة في طريقه فحسب، لم يكن ينوي المكوث طويلا كما حدث. كانت تلك الليلة التي كان يزور فيها امرأة تدعى جين ماكفارلن . كانت جين ماكفارلن تعيش منفصلة عن زوجها، لكنها لم تكن تفكر في الطلاق منه. لم يكن لديها أطفال، وكانت تكسب قوت يومها من حياكة الملابس. التقاها آرثر أول مرة عندما زارت بيته لحياكة ملابس لزوجته. لم تكن علاقتهما قد بدأت آنذاك، ولم يخطر ببال أحدهما أن ثمة علاقة ستنشأ بينهما. كانت جين ماكفارلن أشبه بأمينة المكتبة من جوانب بعينها؛ كانت حسنة المنظر، وجريئة، وأنيقة، وبارعة في عملها مع أنها لم تكن شابة. ما عدا ذلك، لم يكن ثمة تشابه بينها وبين أمينة المكتبة، فهو لا يخطر بباله أبدا أن جين ماكفارلن قد تمثل لغزا لأي رجل، ثم تشعره بأنه لا سبيل لحل هذا اللغز. جين من النساء اللائي يشعرن الرجال بالسلام، والحوار المستتر الذي كان يدور بينه وبينها - الحوار المثير والمقتضب واللطيف - كان أشبه بالحوار الذي كان يدور بينه وبين زوجته.
ذهبت أمينة المكتبة باتجاه مفتاح المصباح الموجود بجانب الباب، وأطفأت المصباح الرئيسي، وأوصدت الباب، واختفت بين أرفف الكتب حيث أطفأت المصابيح هنالك أيضا على مهل؛ كانت ساعة المدينة تعلن تمام التاسعة. لا بد أنها اعتقدت أن ساعة المدينة كانت دقيقة؛ ساعته كانت تشير إلى التاسعة إلا ثلاث دقائق.
حان الوقت لأن ينهض من جلسته، حان وقت الرحيل، وقت الذهاب إلى منطقة والي. عندما انتهت من إطفاء المصابيح كلها، عادت وجلست إلى جواره.
قال لها: «لم أكن لأظن فيك ظن السوء قط، أو أفكر فيك بطريقة لا تسرك.»
لم يكن إطفاء المصابيح ليجعل المكان معتما إلى هذا الحد. صادف هذا الوقت منتصف الصيف، لكن بدا أن ثمة سحبا مطيرة تجمعت. عندما التفت آرثر للمرة الأخيرة إلى الشارع، وقعت عيناه على فيض من ضوء النهار: الناس يتسوقون، والصبية يرش بعضهم بعضا عند نافورة ماء الشرب، والفتيات يسرن في ملابسهن الصيفية الخفيفة الرخيصة المزخرفة بالورود، ما أتاح للشباب مراقبتهن من أي مكان يتجمعون فيه؛ سواء من على درج مكتب البريد، أم من أمام محل الأعلاف. والآن، وهو يتطلع مرة أخرى، رأى الشارع في حالة جلبة بسبب الريح الشديدة التي حملت في طياتها القليل من زخات المطر. كانت الفتيات يصحن ويضحكن ويضعن حقائبهن على رءوسهن وهن يهرعن إلى ملاذ آمن، في حين انشغل العاملون بالمحلات بفتح مظلات محلاتهم، وسحب سلال الفاكهة إلى الداخل، وكذا أرفف الأحذية الصيفية، وأدوات البستنة التي كانت معروضة على الأرصفة. سمع دوي صفق أبواب مبنى مجلس المدينة بعد أن هرعت المزارعات إلى الداخل ممسكات بأكياسهن وأطفالهن ليحتشدن في حمام السيدات. شخص ما حاول أن يفتح باب المكتبة. تطلعت أمينة المكتبة إلى الباب لكنها لم تتحرك. وسرعان ما هطلت الأمطار بغزارة في الشوارع، وضربت الريح سقف مبنى مجلس المدينة، وعصفت بقمم الأشجار. استمر هزيز الرياح والخطر المتعلق بها دقائق معدودة أثناء مرور العاصفة القوية بالمدينة، وبعدها لم يبق سوى صوت الأمطار التي كانت آنذاك تسقط رأسيا، بقوة شديدة جدا، وكأن المدينة تتعرض لشلال من المياه.
حدث آرثر نفسه أنه لو حدث الشيء نفسه في منطقة والي، لتوقعت جين عدم حضوره. كانت هذه آخر خاطرة علقت بذهنه لفترة طويلة.
قال وقد أصابته الدهشة: «لم تكن السيدة فير لتغسل ملابسي، كانت تخشى أن تمسها.»
قالت أمينة المكتبة بنبرة مرتعشة وخجولة، لكنها واثقة: «أعتقد أن ما قمت به كان عملا مميزا.»
أحدثت الأمطار جلبة مستمرة أعفته من الرد عليها، حينئذ وجد أنه من السهل أن يلتفت وينظر إليها؛ كان جانب وجهها مضيئا إضاءة خافتة بفعل ماء المطر الذي يسيل على النوافذ، وكانت تعبيرات وجهها هادئة وتوحي باللامبالاة، أو هكذا بدت له. أدرك أنه لم يكن يعرف عنها شيئا تقريبا؛ لم يكن يعرف أي نوع من البشر هي حقا، وأي أسرار تخفيها! لم يستطع حتى أن يقدر قيمته بالنسبة إليها، كل ما عرفه هو أن له شيئا من القيمة لديها، ولم تكن قيمته تقليدية.
عجز عن وصف الشعور الذي أحسه ناحيتها كعجزه عن وصف رائحة ما. كان هذا الشعور أشبه بسريان الكهرباء في الجسد، وبحبات القمح المحترقة. لا، إنه أشبه بالبرتقال اللاذع! لقد عجزت عن وصفه.
لم يكن يتخيل قط أن يجد نفسه في موقف كهذا، يسيطر عليه هوس واضح. لكن بدا أنه كان مهيأ لهذا الموقف، فمن دون أن يعيد النظر في الأمر، ومن دون حتى أن يفكر، حدث نفسه قائلا: «آمل أن ...»
تكلم بصوت خافت جدا لدرجة أنها لم تسمعه.
ثم رفع صوته وقال: «آمل أن نتزوج!» نظرت إليه وضحكت، لكنها أحكمت زمام نفسها، وقالت: «معذرة! آسفة، أضحكني ما كان يدور بخلدي.»
سألها: «وماذا كان يدور بخلدك؟» «حدثت نفسي أن هذه هي آخر مرة سأراك فيها.»
قال آرثر: «إنك مخطئة.»
شهداء تولبادل
أخرج قطار الركاب المنطلق من كارستيرز إلى لندن من الخدمة إبان الحرب العالمية الثانية، بل نزعت أيضا سككه الحديدية من مكانها، زعم الناس أنها نزعت للإسهام بها في المجهود الحربي. وعندما عقدت لويزا العزم على السفر إلى لندن لزيارة اختصاصي القلب الذي كان في منتصف الخمسينيات من عمره، اضطرت إلى ركوب الحافلة؛ إذ لم يكن من المفترض أن تقود سيارتها بعد الآن.
قال اختصاصي القلب إن قلبها واهن بعض الشيء، ونبضها غير مستقر، وحسبت أن ذلك يجعل قلبها أشبه بممثل كوميدي، ونبضها أقرب إلى جرو مربوط إلى حبل! لم تقطع سبعة وخمسين ميلا لتلقى مثل هذه المعاملة العابثة، لكنها تجاهلتها لأنها كانت منشغلة بالفعل بأمر آخر كانت تطالعه في غرفة الانتظار لدى الطبيب. لعل الذي كانت تطالعه هو الذي جعل نبضها غير مستقر.
في صفحة داخلية بالصحيفة المحلية، قرأت العنوان التالي: «تكريم الشهداء المحليين»، وببساطة كي تستنفد مزيدا من الوقت، تابعت القراءة. قرأت أن ثمة احتفالا ما سيقام بعد الظهر بمتنزه فيكتوريا لتكريم شهداء تولبادل. قالت الصحيفة إن قليلين هم الذين سمعوا عن شهداء تولبادل، وبالطبع لويزا لم تسمع عنهم من قبل. كانوا رجالا مثلوا أمام القضاء من قبل، وأدينوا بتهمة الحنث باليمين؛ ولقد أدت هذه الجريمة الغريبة، التي ارتكبت منذ مئات السنين في مدينة دورسيت بإنجلترا، إلى ترحيلهم إلى كندا، وانتهى الأمر ببعضهم إلى لندن حيث عاشوا الأيام المتبقية لهم، ودفنوا دون أن يلتفت إليهم أحد ودون أي نوع من التأبين. ينظر إليهم الآن باعتبارهم ضمن أوائل من أسسوا حركة النقابات العمالية، ولقد نظم مجلس النقابات العمالية، بجانب ممثلين من اتحاد العمال الكندي وقساوسة بعض الكنائس المحلية، احتفالية تقام اليوم احتفالا بالذكرى المائة والعشرين لاعتقالهم.
حدثت لويزا نفسها بأن وصفهم ب «الشهداء» فيه مبالغة نوعا ما؛ فحكم الإعدام لم ينفذ فيهم على أية حال.
كان من المقرر أن يقام الاحتفال في تمام الثالثة، وأن يخطب في الناس أحد القساوسة المحليين، والسيد جون (جاك) أجنيو، المتحدث الرسمي باسم إحدى النقابات من تورونتو.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية والربع عندما غادرت لويزا عيادة الطبيب، ولم تبرح الحافلة المتجهة إلى كارستيرز مكانها إلا في تمام السادسة. فكرت في احتساء قدح من الشاي وتناول الطعام بالطابق الأخير في محل سيمبسونز، وبعدها تتسوق بحثا عن هدية زواج، أو إذا أتيحت لها فسحة من الوقت، فستذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم خلال فترة ما بعد الظهيرة. كان متنزه فيكتوريا يقع بين عيادة الطبيب ومحل سيمبسونز، وقررت أن تمر عبره. كان الجو حارا، وظل الأشجار جميلا. لم تستطع تفادي رؤية مكان مقاعد الاحتفالية، ومنصة المتحدثين الصغيرة المغطاة بقماش أصفر، وعلى أحد جانبيها علم كندا، وعلى الجانب الآخر علم افترضت أنه يمثل نقابة العمال. اجتمع نفر من الناس، ووجدت نفسها تغير مسارها كي تستطيع إلقاء نظرة عليهم؛ بعضهم من كبار السن الذين ارتدوا ملابس أنيقة بالرغم من بساطتها، وكانت النساء اللائي يرتدين أوشحة حول رءوسهن في هذا اليوم القائظ أوروبيات. وبخلاف هؤلاء، كان يوجد عمال مصانع؛ رجال يرتدون قمصانا قصيرة الأكمام، ونساء يلبسن بلوزات وسراويل فضفاضة جديدة، وقد سمح لهم بالخروج قبل انتهاء مواعيد العمل الرسمية. لا بد أن قليلات من النسوة حضرن من بيوتهن لأنهن كن يرتدين ثيابا صيفية وصنادل، ويحاولن مراقبة أطفالهن الصغار. ظنت لويزا أنهم لن يعبئوا أبدا بأسلوبها في اختيار ملابسها الأنيقة كعادتها، ملابسها المصنوعة من قماش الشانتو بلون الصوف الطبيعي وقلنسوتها الحريرية القرمزية، لكنها لاحظت آنذاك امرأة تفوقها أناقة ترتدي ثوبا من الحرير الأخضر، وشعرها البني الداكن معقوص بقوة للخلف ومربوط بوشاح لونه يجمع بين الأخضر والذهبي. تقدمت نحو لويزا على الفور وهي تبتسم، وقادتها إلى مقعد خال، وأعطتها ورقة منسوخة من أصل. لم تستطع لويزا قراءة الطباعة الأرجوانية اللون. حاولت أن تلقي نظرة على بعض الرجال الذين كانوا يتبادلون أطراف الحديث إلى جوار المنصة، لتعرف هل كان المتحدثون من بينهم؟
مصادفة الاسم لم تكن حتى ملفتة. لم يكن الاسم الأول ولا اسم العائلة غير تقليدي إلى هذه الدرجة.
لا تعرف لم جلست، أو لم جاءت هنا من الأساس! بدأ شعور بالتأفف المألوف والمقزز بعض الشيء يراودها. راودها هذا الشعور بلا داع، لكن فور أن اجتاحها هذا الشعور، لم ينفعها أن حدثت نفسها بأنه لم يكن ثمة داع لهذا الإحساس، الشيء الوحيد الذي يجب أن تفعله هو النهوض والفرار من هذا المكان قبل أن يجلس المزيد من الناس ويحاصروها.
اعترضت المرأة ذات الرداء الأخضر طريقها، وسألتها إن كانت على ما يرام.
قالت لويزا بنبرة فيها حشرجة: «يجب أن ألحق بالحافلة.» تنحنحت وتابعت قائلة بقدر أكبر من السيطرة على مشاعرها: «حافلة متجهة إلى خارج المدينة.» ورحلت عن المكان، ولو أنها لم تكن تمشي في الاتجاه الصحيح الذي يفضي بها إلى محل سيمبسونز. الواقع أنها فكرت في إلغاء فكرة الذهاب إلى سيمبسونز، أو إلى محل بيركس لشراء هدية الزواج، أو حتى الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم. ستتجه إلى محطة الحافلات فحسب، وتجلس هناك حتى يحين موعد حافلتها وتعود إلى البيت. •••
كان يفصلها عن محطة الحافلات نصف بناية حين تذكرت أن الحافلة لم تقلها إلى هناك صباح ذاك اليوم. كان العمل جاريا من أجل هدم المحطة وإعادة بنائها، وثمة محطة مؤقتة تفصلها عنها عدة بنايات. لم تنتبه بالقدر الكافي للشارع الذي كانت فيه الحافلة؛ هل كانت في شارع يورك شرقي المحطة الأصلية أم في شارع كينج؟ على أية حال، كان عليها أن تنعطف لأن هذين الشارعين كانا مغلقين، وكاد رأيها يستقر على أنها ضلت الطريق عندما أدركت أن الحظ حالفها بالقدر الكافي إذ عثرت على المحطة المؤقتة في طريق عودتها. كانت المحطة المؤقتة بيتا عتيقا؛ واحدا من تلك البيوت الشاهقة الرمادية المائلة إلى الصفرة المبنية من الطوب، التي ترجع تاريخيا إلى الفترة التي كانت المنطقة فيها سكنية. لعل استغلاله كمحطة مؤقتة سيكون الاستغلال الأخير له قبل هدمه، ولا بد أن البيوت التي حوله هدمت لتخصيص تلك البقعة الشاسعة التي تغطى أرضيتها بالحصب لانتظار الحافلات. ما زال هناك عدد من الأشجار على أطراف تلك البقعة، وتحتها صفوف قليلة من المقاعد التي لم تلاحظها عندما نزلت من الحافلة قبل الظهر. ثمة رجلان يجلسان في أطلال شرفة من شرف البيت على مقعدي سيارة قديمة، كانا يرتديان قميصين بنيين يزدانان بشعار الشركة، لكن هيئتهما كانت تنم عن اللامبالاة حيال عملهما؛ حيث لم ينهضا حين سألتهما هل الحافلة المتجهة إلى كارستيرز ستتحرك في تمام السادسة بحسب موعدها، وأين يمكنها شراء مشروب غازي؟
في تمام السادسة على حد علمهم.
ثمة مقهى في نهاية الشارع.
الجو أكثر برودة بالداخل، لكن لم يتبق من المشروبات سوى الكولا والبرتقال.
أخرجت لنفسها زجاجة من الكولا من المبرد الموجود في غرفة انتظار صغيرة متسخة تفوح منها رائحة المراحيض؛ لا بد أن نقل محطة الحافلات إلى هذا البيت المتهالك جعل الجميع يسترخون ويتكاسلون. كانت هناك مروحة في الغرفة التي استخدموها كمكتب، ورأت أثناء مرورها بعض الأوراق وهي تتطاير من فوق المكتب، قالت عاملة المكتب: «اللعنة!» وأسرعت الخطى للحاق بالأوراق.
كانت الكراسي المغبرة الموضوعة في ظل أشجار المدينة خشبية قائمة دهنت أصلا بألوان مختلفة، فبدت وكأنها استعيرت من عدة مطابخ، وأمام الكراسي كانت توجد قطع بالية من السجاد العتيق ومماسح الأرجل المطاطية كي تقي الأرجل من الحصى المنثور على الأرض. ووراء الصف الأول من الكراسي، حسبت أنها رأت كبشا مستلقيا على الأرض، لكن اتضح أنه كلب أبيض رث الهيئة، أسرع الخطى نحوها وتطلع إليها للحظة بنظرة رصينة شبه رسمية، وشم حذاءها سريعا، ثم ابتعد عنها. لم تلاحظ إن كانت هناك أي شفاطات لتناول المشروبات، ولم تشعر برغبة في العودة للبحث مجددا. احتست الكولا من زجاجتها وهي تميل رأسها إلى الوراء وتغلق عينيها.
عندما فتحت عينيها، وجدت رجلا جالسا يفصله عنها كرسي واحد ويتحدث إليها.
قال: «وصلت هنا بأسرع ما يمكن. قالت نانسي إنك ستستقلين حافلة. فور أن انتهيت من إلقاء كلمتي، انطلقت مسرعا، لكن محطة الحافلات متهدمة.»
قالت: «لفترة مؤقتة فقط.»
قال: «تعرفت عليك على الفور على الرغم من مرور عدة سنين. عندما رأيتك، كنت أتحدث إلى أحدهم، وبعدها التفت مرة أخرى، فإذا بك اختفيت.»
قالت لويزا: «لا أعرفك.»
قال: «حسن، لا أحسبك تعرفينني، بالطبع لن تعرفيني.» كان يرتدي سروالا رماديا وقميصا ذا أكمام قصيرة بلون أصفر باهت، ووشاحا أبيض مائلا إلى الصفرة معقودا عقدة غليظة؛ بدا أكثر أناقة من رجل محسوب على النقابة. كان أشيب الشعر أجعده وكثيفه، وكان شعره من النوع المرن الذي يتموج صعودا وهبوطا من جبهته، كانت بشرته تميل إلى الحمرة، والتجاعيد تملأ وجهه من فرط المجهود الذي بذله أثناء الكلمة التي ألقاها. كان يرتدي نظارة ذات زجاج ملون، أزاحها عن عينيه الآن، وكأنه يريد أن تراه على نحو أفضل. عيناه زرقاوان زرقة خفيفة، ومحمرتان بعض الشيء وقلقتان. وعلى الرغم من أنه كان حسن المظهر وما زال يحتفظ بقوامه الممشوق، فيما خلا بروز بسيط أعلى الحزام، فإنها لم تجد مظهره الجيد - بملابسه الرياضية المنمقة وشعره الأجعد وتعبيراته النافذة - شديد الجاذبية. كانت تفضل ملامح آرثر؛ ذلك التحفظ والجلال المتشح بالسواد الذي يراه البعض تعاليا وتراه هي شيئا مثيرا للإعجاب وبريئا.
قال: «كنت أنوي دائما كسر حاجز الصمت بيننا، كنت أود أن أتحدث إليك. كان ينبغي أن أدخل وأودعك على الأقل، لقد حانت لحظة الرحيل فجأة.»
لم تكن لدى لويزا أدنى فكرة عما يمكن أن تقوله ردا على ذلك. تنهد وقال: «لا بد أنك مستاءة مني. أما زلت كذلك؟»
قالت: «بلى.» ثم عادت بطريقة ساخرة إلى المجاملات المعتادة قائلة: «كيف حال جريس؟ وكيف حال ابنتك؟ ليليان؟» أجابها بقوله: «جريس ليست على ما يرام؛ فهي تعاني من التهاب المفاصل، ووزنها يتعارض مع حالتها. أما ليليان فهي في خير حال؛ تزوجت، لكنها ما زالت تدرس الرياضيات للمرحلة الثانوية؛ ليس بالعمل العادي بالنسبة إلى امرأة.»
كيف يمكن للويزا أن تصحح معلوماته؟ هل بإمكانها القول إن زوجته جريس تزوجت مجددا خلال الحرب، تزوجت من مزارع مطلق؟ قبل ذلك، كانت معتادة على التردد على بيتنا وتنظيفه مرة واحدة أسبوعيا. كانت السيدة فير قد بلغت من الكبر عتيا، وليليان لم تكمل دراستها الثانوية قط، فكيف لها أن تعمل بالتدريس في مدرسة ثانوية؟ تزوجت ليليان صغيرة، وأنجبت عددا من الأطفال، وهي تعمل حاليا في صيدلية، وهي تضارعك طولا وشعرها مجعد وأشقر. كثيرا ما كنت أتطلع إليها، وأحدث نفسي لا بد أنها تشبهك. في مراحل عمرها الأولى، اعتدت أن أعيرها ملابس ربيبتي التي أمست صغيرة عليها.
بدلا من ذلك كله، قالت له: «إذن ذات الرداء الأخضر لم تكن ليليان، أليس كذلك؟» «نانسي؟ أوه، لا! نانسي هي ملاكي الحارس. فهي تراقب وجهتي ومواعيدي، وتهتم بإعداد خطبي التي ألقيها، وتهتم بمأكلي ومشربي، ومواعيد تناول الدواء؛ يميل ضغطي إلى الارتفاع، لكنه ليس بالأمر الخطير. لكن أسلوب حياتي ليس صحيا؛ فأنا لا أكف عن الحركة، فالليلة يجب أن أستقل الطائرة المتجهة إلى أوتاوا، وغدا لدي اجتماع مهم، ودعيت إلى وليمة كبيرة مساء غد.» أحست لويزا أن الأمر يستدعي أن تقول: «هل علمت أنني تزوجت؟ لقد تزوجت آرثر دود.»
ظنت أنه أبدى شيئا من الدهشة، لكنه قال: «نعم، سمعت بهذا الخبر.»
قالت لويزا بجلد: «لقد عملنا بكد أيضا. مات آرثر منذ ست سنوات، حافظنا على المصنع طوال الثلاثينيات، حتى خلال الفترات التي لم يبق لدينا فيها سوى 3 عمال فحسب. لم يكن لدينا مال لتنفيذ الإصلاحات، وأذكر أننا خلعنا مظلات المكتب كي يصعد بها آرثر على السلم ويرمم بها السقف. حاولنا أن نفعل كل ما هدانا تفكيرنا إليه، حتى حارات لعبة البولينج الخلوية صنعناها لأجل تلك الأماكن الترفيهية. وبعدها اندلعت الحرب، ولم نستطع الصمود. استطعنا بيع كل آلات البيانو التي صنعناها، لكننا كنا بصدد صنع حقائب لأجهزة الرادار للبحرية. كنت لا أبرح المكتب مطلقا.»
قال بنبرة بدت دبلوماسية: «لا بد أنه كان تحولا كبيرا مقارنة بعملك في المكتبة.»
قالت: «العمل هو العمل، ما زلت أعمل. ربيبتي مطلقة، وهي بالكاد تدير البيت نيابة عني. تخرج ابني أخيرا في الجامعة. من المفترض أنه يتعرف على مجال عملنا حاليا، لكنه يستأذن للانصراف في منتصف النهار كل يوم. وعندما أرجع إلى البيت وقت العشاء، تكون قواي قد خارت حتى إنني أكاد أسقط من فرط التعب، ويتناهى إلى مسامعي رنين مكعبات الثلج في كأسيهما وضحكاتهما من وراء السياج. فور أن تقع أعينهما علي يقولان: «ماد، أيتها المسكينة! اجلسي واحتسي شرابا.» يدعواني «ماد» لأنه الاسم الذي كان ابني يناديني به رضيعا، لكنهما شبا عن الطوق الآن. أجد البيت باردا عندما أعود إليه؛ إنه بيت جميل إذا كنت تذكره، بني من ثلاثة طوابق على شكل كعكة زفاف. ثمة بلاط من الفسيفساء في ردهة المدخل. لكن ذهني دوما مشغول بالمصنع، ولا أنفك أفكر فيه؛ ماذا يمكن أن نفعل كي نصمد؟ هناك خمسة مصانع فقط في كندا متخصصة في صنع البيانو الآن، وثلاثة منها في مقاطعة كيبيك، وفيها خفضت تكلفة العمالة، لا شك أنك تعرف كل ذلك. عندما أتخيل حوارا يدور بيني وبين آرثر، فإنه يدور في فلك الموضوع نفسه. ما زلت قريبة منه جدا، لكن قربي منه لا يكاد يكون روحانيا. قد تعتقد أنه مع الكبر يمتلئ العقل بما يدعونه الجانب الروحاني للأمور، لكن عقلي لا ينفك يميل إلى الجانب العملي أكثر فأكثر في محاولة لحل أية مشكلة. ما من شيء يمكن أن يتحدث المرء عنه مع رجل فارق الحياة!»
توقفت، وشعرت بالحرج، لكنها لم تكن متأكدة من أنه أنصت لكل ذلك، وحقيقة الأمر أنها لم تكن متأكدة من أنها قالت كل ما قالت أساسا.
قال: «ما جعلني أمضي قدما، وجعلني أنطلق في المقام الأول بما تمكنت من إنجازه أيا كان، هو المكتبة؛ ولذا، فإنني مدين لك بالكثير.»
وضع يديه على ركبتيه، وترك رأسه تتداعى بين يديه.
قال: «آه، هذا هراء.»
أصدر أنينا تحول في نهاية المطاف إلى ضحكة.
قال: «أبي ... لعلك تذكرين أبي، أليس كذلك؟» «نعم، أذكره.» «حسن، أحيانا ما أحدث نفسي أن فكرته كانت صحيحة.»
وبعدها رفع رأسه وهزها، وقال: «الحب لا يموت أبدا.»
شعرت بنفاد صبرها لدرجة أنها أحست بالإهانة، فحدثت نفسها قائلة: هكذا إذن تحيل الخطب من يلقيها إلى شخص يستطيع قول أشياء كهذه. الحب يموت دوما، أو على أية حال يحيد عن مساره أو يفتر، وفناؤه أمر وارد.
قالت: «اعتاد آرثر زيارة المكتبة والمكوث فيها. في البداية، استفزني جدا؛ كنت أتطلع إلى مؤخرة عنقه، وأتساءل ماذا لو تلقى ضربة ها هنا! لن تجد منطقا في كلامي مطلقا، لن تراه منطقيا. واتضح لي أن لدي رغبة مختلفة تماما، أردت أن أتزوجه وأن أحيا حياة عادية.»
كررت عبارة «حياة عادية»، وبدا أن ثمة دوارا خفيفا يتمكن منها، غفران كامل للحماقة، يثير بشرة يدها التي يغطيها النمش، وأصابعها الجافة السميكة التي لا تبعد كثيرا عن أصابعه على المقعد الفاصل بينهما. فوران غرامي للخلايا، ولنوايا قديمة. «أوه، لا يموت أبدا.»
جاء جمع من الناس يرتدون ثيابا غريبة عبر الساحة المغطاة بالحصب، وكانوا يتحركون معا ككتلة واحدة متشحة بالسواد. ولم تظهر النساء شعرهن، كن يرتدين أوشحة سوداء أو قلنسوات تغطي رءوسهن، أما الرجال فكانوا يعتمرون قبعات عريضة وحمالات بناطيل سوداء، والأطفال كانوا يحاكون الكبار في ملبسهم، بل حتى في قلنسواتهم وقبعاتهم. كم بدوا مثيرين جميعا في حلاتهم هذه، كم بدوا مثيرين ومغبرين ومنهكين وخجولين!
قال بشيء من السخرية وبنبرة مستكينة وحنونة: «شهداء تولبادل. حسن، أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب إليهم، وأتبادل أطراف الحديث معهم.»
هذه النبرة التي تنطوي على شيء من السخرية، وهذا الحنان المتململ، جعلاها تفكر في شخص آخر. من هو؟ عندما رأت منكبيه العريضين من ظهره، ومؤخرته العريضة المستوية، عرفته على الفور.
إنه جيم فراري.
أوه، أي خدعة كانت تتعرض لها؟ أو أي حيلة كانت تمارسها على نفسها؟! لم يكن ليتحقق لها مرادها. استجمعت قواها، وتراءى لها أن كل هذه الثياب السوداء تذوب متحولة إلى بركة صغيرة. كانت تشعر بالدوار والخزي، لن يتحقق لها مرادها.
لكن السواد لم يكن طاغيا على المشهد، هكذا أدركت وهم يدنون منها. استطاعت أن تميز اللون الأزرق الداكن ممثلا في قمصان الرجال، والأزرق الداكن والأرجواني في ثياب بعض النسوة. استطاعت أن تميز الوجوه؛ رجال يستترون وراء لحاهم، ونساء يعتمرن قلنسوات تغطي نصف رءوسهن. الآن عرفتهم، إنهم من طائفة المينونايت.
تعيش هذه الطائفة في هذا الجزء من البلدة على غير عادتهم مطلقا. كان بعضهم يعيش حول قرية بوندي شمالي كارستيرز. سيعودون أدراجهم في الحافلة نفسها التي ستعود هي فيها.
أما هو فلم يكن معهم، بل لم يكن على مرأى منهم.
خائن بائس، رحال.
فور أن أدركت أنهم ليسوا مجموعة من الغرباء الضالين بل ينتمون إلى طائفة المينونايت، لم يوح مظهرهم لها بالخجل أو الكآبة. الواقع أنهم بدوا مرحين جدا؛ حيث مرروا كيسا من الحلوى، فطفق الصغير والكبير يأكل منه. جلسوا على المقاعد المحيطة بها.
لا عجب أنها كانت تشعر بحالة مزرية من البرد والرطوبة. أطاحت بها نوبة لم يلاحظها أحد غيرها. يمكنك أن تقول أي شيء حيال ما حدث، لكن ما حدث كان يرقى لأثر نوبة تعتري المرء. اعترتها النوبة، فتركت لمعانا في بشرتها، وطنينا في أذنيها، وخواء في صدرها، واضطرابا في بطنها. كانت تواجه ضربا من الفوضى والحيرة الشديدتين، مآزق مفاجئة وحيلا مرتجلة وترضيات متلاشية.
لكن تلك الصحبة من المحسوبين على طائفة المينونايت مباركة. صوت مؤخراتهم وهي تتحرك على المقاعد، وطقطقة كيس الحلوى بين الأيادي، وصوت الشفاه وهي تمصمص بتأن، والحوارات الخافتة. اقتربت فتاة صغيرة من لويزا ومدت إليها يدها بكيس من الحلوى دون أن تتطلع إليها، وتناولت لويزا النعناع المحلى بالزبد الاسكتلندي. دهشت لويزا إذ أمسكت بقطعة الحلوى في يدها، وفوجئت إذ تلفظت بكلمة «شكرا»، وإذ تذوقت في فمها المذاق الذي كانت تتوقعه. طفقت تمص قطعة الحلوى بتأن مثلهم تماما، وهو ما جعل هذا المذاق يدوم لبعض الوقت.
أضيئت المصابيح ولو أن المساء لم يسدل أستاره بعد. وفي الأشجار أعلى المقاعد الخشبية، علق أحدهم أسلاكا تتدلى منها مصابيح صغيرة ملونة لم تلاحظها لويزا إلا الآن؛ جعلتها تلك المصابيح تفكر في الاحتفالات، والكرنفالات، وقوارب المنشدين في البحيرة.
سألت المرأة الجالسة إلى جوارها: «ما هذا المكان؟» •••
في اليوم الذي توفيت فيه الآنسة تامبلين تصادف أن كانت لويزا مقيمة في الفندق التجاري. كانت تعمل مندوبة مبيعات متجولة آنذاك لصالح شركة تبيع القبعات والأشرطة والمحارم والإكسسوارات وملابس النساء الداخلية لمحلات التجزئة. سمعت الحوارات التي تدور في الفندق، وخطر لها أن المدينة سرعان ما ستكون بحاجة إلى أمينة مكتبة جديدة. كانت منهكة جدا من جر حقائب عينات بضاعتها كلما استقلت قطارا أو ترجلت منه، ومجهدة من عرض منتجاتها في الفنادق وحزم حقائبها وفكها. ذهبت فورا وتحدثت إلى مسئولي المكتبة؛ السيد دود والسيد ماكليود. بدا الاثنان وكأنهما يشكلان فريق استعراض مسرحي، ولو أن هيئتهما لم توح بذلك. كان الأجر زهيدا، لكن حالها لم يكن على ما يرام وهي تعمل بنظام العمولة. أخبرتهم أنها أنهت دراستها الثانوية في تورونتو، وعملت في مكتبة إيتون قبل أن تغير مسارها وتعمل مندوبة مبيعات متجولة. لم تر أنه من الضروري أن تخبرهم بأنها لم تعمل هناك سوى خمسة أشهر إذ اكتشفت أنها مصابة بالسل، وأنها أودعت مستشفى لأربع سنوات بعدها. على أية حال، شفيت من السل، وجفت البقع التي أصابت جلدها وقتها.
نقلتها إدارة الفندق إلى إحدى غرف النزلاء الدائمين في الطابق الثالث. كان باستطاعتها أن ترى طبقات الثلوج المتراكمة أعلى أسطح المباني. كانت مدينة كارستيرز تقع في واد نهري، وكان تعداد سكانها يتراوح بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة، وكان بها شارع رئيسي طويل يمتد منحدرا من أعلى التل مرورا بالنهر وصعودا إلى التل مرة أخرى، وكان هناك مصنع متخصص في صناعة البيانو والأرغن.
كانت البيوت قد بنيت منذ زمن بعيد، والساحات شاسعة رحبة، والشوارع تتراص على جانبيها أشجار الدردار والقيقب النضرة. لم تكن حاضرة بالمدينة قط كلما أثمرت الأشجار، بالتأكيد ذلك يصنع فارقا كبيرا. لا بد أن كثيرا من الأشياء الظاهرة تخفيها الأشجار كلما أورقت.
كانت سعيدة ببدايتها الجديدة، ومعنوياتها هادئة وممنونة، فقد سبق لها أن فتحت صفحات جديدة، ولم تفتح الحياة ذراعيها لها كما كانت تأمل، لكنها كان مؤمنة بالقرارات السريعة الحاسمة، وتدخلات القدر غير المتوقعة، وتفرد مصيرها.
رائحة الخيول تفوح من المدينة. وبينما أسدل الليل أستاره، كانت الخيول الضخمة المعصوبة العينين بحوافرها المزدانة بالريش، تجر المزالق عبر الجسر ومن أمام الفندق إلى ما وراء أعمدة الإنارة حيث الطرق الجانبية المظلمة. وفي مكان ما في المدينة، سيتلاشى صوت أجراس الواحد منها في أجراس الآخر.
حياة حقيقية
دخل رجل حياة دوري بيك ووقع في حبها، على الأقل كانت لديه رغبة في الزواج منها، وكانت رغبته حقيقية.
قالت ميليسينت: «لو كان أخوها على قيد الحياة، لما كانت بحاجة إلى الزواج.» ما الذي كانت تعنيه؟ ليس شيئا مخزيا. وهي لم تكن تلمح إلى المال أيضا؛ كانت تعني أن الحب موجود، وأن الحنان يفضي إلى الراحة، وفي الحياة البائسة العقيمة نوعا ما التي عاشتها دوري وألبرت معا، لم تكن الوحدة خطرا يتهددهما. ميليسينت التي كانت واسعة الحيلة وعملية في بعض النواحي، كانت أيضا عاطفية جدا في نواح أخرى، فقد كانت تؤمن دوما بعذوبة المودة التي تحل محل العلاقة الحميمة.
ظنت أن الطريقة التي كانت تستخدم بها دوري الشوكة والسكين هي التي أسرت لب زوجها. كانت نفس طريقة استخدامه لهما. أمسكت دوري الشوكة بيدها اليسرى، واستخدمت اليمنى فقط لقطع الطعام، ولم تكن تنقل الشوكة باستمرار إلى يدها اليمنى لتلتقط بها الطعام؛ ذلك لأنها التحقت في شبابها بكلية «ويتبي ليديز»، قبل أن يتدهور الوضع المالي لعائلة بيك. ومن بين الأمور التي تعلمتها هناك أيضا الكتابة بخط يدوي بديع، ولعل جمال خطها كان عاملا مساعدا أيضا؛ لأنه بعد اللقاء الأول لهما، بدا أن التودد بينهما أصبح بالمراسلة. راق لميليسينت وقع اسم كلية «ويتبي ليديز»، وكانت تخطط - دون أن تشرك أحدا في خطتها - لأن تلحق ابنتها بها يوما ما.
لم تكن ميليسينت نفسها أمية؛ فقد عملت في مجال التدريس بإحدى المدارس، وسبق أن رفضت تودد صديقين جادين لها؛ الأول لأنها لم تكن تطيق والدته، وأما الثاني فلأنه حاول أن يزج بلسانه في فمها - قبل أن توافق على الزواج من بورتر الذي كان يكبرها بتسعة عشر عاما. كان يملك ثلاث مزارع، ووعدها بأن يقيم لها حماما في غضون عام، إضافة إلى غرفة طعام ضخمة ورحبة وأريكة ومقاعد، وليلة زفافهما قال لها: «عليك الآن أن تتقبلي ما يخبئه لك القدر!» لكنها كانت تعلم أن نيته لم تكن سيئة. كان ذلك عام 1933.
سرعان ما أنجبت ثلاثة أطفال، وبعد الطفل الثالث، أصيبت ببعض المتاعب. كان بورتر محترما، وبعد المتاعب التي عانتها عادة ما كان يتركها بمفردها.
كان بيت بيك مشيدا على أرض آل بورتر، لكن بورتر لم يكن هو الذي اشترى حصة آل بيك، اشترى بورتر بيت ألبرت ودوري من الرجل الذي اشتراه منهما؛ ولذا، فقد كانا فعليا يستأجران بيتهما القديم من بورتر، لكن المال لم يكن في المشهد. عندما كان ألبرت على قيد الحياة، كان يحضر ويعمل ليوم واحد كلما تطلب الأمر الاضطلاع ببعض الأعمال الضرورية - عندما كانوا يصبون الأرضية الخرسانية في الحظيرة، أو يضعون القش في مخزن التبن. كانت دوري تزورهم في تلك المناسبات، وكذلك عندما رزقت ميليسينت بطفل جديد، أو عندما كانت تضطلع بتنظيف البيت. كانت تتمتع بقوة خارقة تعينها على جر الأثاث في أنحاء المكان، وكان بمقدورها أن تضطلع بمهام الرجال كتركيب النوافذ المقاومة للعواصف. عندما كانت تشرع في إحدى المهام الشاقة التي تضطلع بها - كنزع ورق الحائط عن جدران غرفة كاملة - كانت ترخي كتفيها للوراء وتأخذ نفسا عميقا في سعادة غامرة. كانت قوة الإرادة عنوانها، فهي امرأة ضخمة البنية، قوية البنيان، ضخمة الساقين، كستنائية الشعر، عريضة الوجه، ولو أن وجهها لم يخل من بقع داكنة مخملية الملمس. ثمة رجل في الجوار سمى فرسه على اسمها.
على الرغم من المتعة التي كانت تجدها دوري في تنظيف المنزل، لم تكن تمارس أغلب تلك الأعمال في بيتها؛ فقد كان البيت الذي عاشت فيه هي وألبرت - البيت الذي تعيش فيه وحدها بعد وفاته - كبيرا ومجهزا تجهيزا رائعا، لكنه خلا تقريبا من الأثاث. كثيرا ما كان الأثاث يأتي على لسان دوري - البوفيه المصنوع من البلوط، وخزانة أمها، والفراش ذو القوائم الأسطوانية - ولكن كان يتبع ذلك دوما عبارة: «الذي بيع في المزاد.» بدا المزاد كارثة طبيعية، شأنه شأن الفيضان والعاصفة مجتمعين، لا طائل من الشكوى منها. لم يبق بساط واحد، وبيعت كل الصور؛ لم يبق سوى روزنامة من بقالة نان، وهي المكان الذي كان ألبرت يعمل فيه. ومما أفقد الغرف ما يميزها وجعل فكرة تنظيفها عبثية؛ غياب هذه الأغراض، وحضور غيرها كمصائد دوري ومسدساتها والألواح التي استخدمت لسلخ الأرانب وفئران المسك. ذات مرة صيفا، وقعت عينا ميليسينت على روث كلب أعلى الدرج، لم تره عندما كان رطبا، لكنه كان رطبا بما يكفي ليمثل نوعا من الإساءة. تغير لونه من البني إلى الرمادي بفعل حرارة الصيف، وصار مهيبا ومتحجرا وثابتا، ومن الغريب أن ميليسينت نفسها لم تعد تعترض على وجوده، وأصبحت تنظر إليه من منطلق كونه شيئا له حق في البقاء في المكان.
دليلة هي الكلبة صاحبة الروث. كانت سوداء وفي جيناتها جينات سلالة اللبرادور، وكانت تروق لها مطاردة السيارات، الأمر الذي كان من الممكن أن يقضي عليها في نهاية المطاف. بعد وفاة ألبرت، ربما أصيبت هي ودوري على حد سواء باضطراب عقلي طفيف، لكن هذا الاضطراب لم يكن يتجلى للآخرين على الفور. في البداية، لم تعد تترقب عودة زوجها، ومن ثم لم يكن ثمة موعد محدد للعشاء، ولم تعد ثمة ملابس رجالية تحتاج إلى غسلها، مما أغناها عن فكرة الغسيل بانتظام. ولم يعد ثمة من تتبادل معه أطراف الحديث، فما كان من دوري إلا أن أكثرت من الحديث إلى ميليسينت، أو إلى ميليسينت وبورتر معا. تكلمت عن ألبرت وعمله؛ وهو قيادة عربة بقالة نان - التي أمست فيما بعد شاحنتهما - في شتى أرجاء الريف. ارتاد ألبرت الجامعة، ولم يكن أحمق، لكن بعد عودته من الحرب، لم يكن على ما يرام، فخطر له أنه من الأفضل أن يعمل خارج البيت، فشغل وظيفة سائق شاحنة نان، واحتفظ بها إلى أن وافته المنية. كان رجلا اجتماعيا على نحو مدهش، وتجاوز عمله توصيل البقالة فحسب؛ فكان يؤمن للناس توصيلة إلى المدينة، ويقل المرضى العائدين إلى بيوتهم من المستشفى. كانت هناك امرأة مجنونة في طريقه، وذات مرة عندما أخرج بقالتها من شاحنته، شعر بأنه مضطر إلى مغادرة المكان. لكن ها هي تقف وفي يدها فأس وعلى وشك أن تطيح برأسه. الواقع أنها شرعت في توجيه ضربتها إليه، ولما تفاداها لم يسعها سوى أن تكمل مسارها، فأخذت تقطع صندوق البقالة، وسكبت رطلا من الزبد. ظل يوصل لها البقالة، حيث لم يرد أن يبلغ عنها السلطات التي كانت ستودعها مستشفى الأمراض العقلية. لم تعد الكرة، بل أعطته كعكات محلاة ببذور مشبوهة ألقاها على الحشائش في نهاية الطريق. وهناك نسوة أخريات - أكثر من واحدة - ظهرن له عاريات؛ خرجت إحداهن من حوض استحمام في منتصف أرضية المطبخ، فانحنى ألبرت ووضع البقالة عند قدميها. سألته دوري: «ألا يذهلك تصرف البعض؟» وأخذت تقص قصة الأعزب الذي شنت الجرذان هجوما على بيته، لدرجة أنه اضطر إلى حفظ طعامه معلقا في كيس تدلى من القضبان الخشبية في سقف المطبخ. لكن الجرذان تسلقت القضبان الخشبية، وقفزت على الكيس ومزقته، وأخيرا لم يسعه إلا أن يصحب طعامه معه إلى الفراش.
قالت دوري: «دائما ما كان ألبرت يقول: إن الذين يعيشون وحدهم يستحقون الشفقة.» قالتها وكأنها لا تدرك أنها أمست واحدة منهم. أصيب ألبرت بأزمة قلبية، ولم يستطع إلا أن يركن شاحنته على جانب الطريق. ركن سيارته في بقعة جميلة حيث أشجار البلوط تكسو المنحدرات، ونهير صغير امتد على طول الطريق.
ذكرت دوري أشياء أخرى أخبرها بها ألبرت فيما يتعلق بآل بيك في أيامهم الأولى؛ أخذت تقص كيف وفد الأخوان إلى المدينة على متن طوف عبر النهر، وشرعا في بناء طاحونة عند منطقة بيج بيند حيث لم يكن ثمة أثر لشيء سوى الغابات البرية، ولم يعد ثمة شيء الآن سوى طاحونتهما والسد. لم تكن المزرعة قط مشروعا يبتغى منه رزق، بل كانت بمنزلة هواية لأصحابها عندما أقاموا البيت الكبير وأتوا بالأثاث من إدنبرة؛ أتوا بهياكل الأسرة والكراسي والخزائن المنحوتة التي بيعت بالمزاد. قالت دوري إنهم جاءوا بها من هورن، ومنها إلى بحيرة هورن مرورا بالنهر. قالت ميليسينت إن ذلك مستحيل، وأحضرت كتابا مدرسيا في مادة الجغرافيا كانت تحتفظ به، لبيان الخطأ الذي وقعت فيه دوري؛ قالت ميليسينت: «لا بد أن النهر لم يكن أكثر من قناة آنذاك يا دوري. أذكر أن ثمة قناة كانت موجودة. قناة بنما؟ إنها كانت قناة إيري على الأرجح.»
قالت دوري: «نعم، جاءوا بها من حول منطقة هورن، ومنها إلى قناة إيري.»
قالت ميليسينت لبورتر الذي لم يبد اعتراضا: «دوري امرأة نبيلة حقا مهما قال الناس!» لقد اعتاد بورتر على أحكامها الشخصية المطلقة. أضافت ميليسينت مستشهدة باسم المرأة التي ربما يقال إنها أعز صديقاتها: «إنها أكثر نبلا مائة مرة من موريل سنو، أعلنها صراحة ولو أنني أحب موريل سنو بشدة.»
اعتاد بورتر سماع ذلك أيضا.
كانت ميليسينت تقول: «أحب موريل سنو حبا جما، وإنني على استعداد لدعمها مهما حدث. أحب موريل سنو، لكن هذا لا يعني أنني أوافق على كل ما تفعله.»
التدخين، والسباب، والأيمان المغلظة التي تقسمها، والتعبيرات الرديئة التي تطلقها.
لم تكن موريل سنو الخيار الأول لصديقة ميليسينت الصدوقة. في الأيام الأولى من زواجها، كانت تطلعاتها في السماء؛ زوجة المحامي نيسبيت، زوجة الطبيب فينيجان، زوجة السيد دود.
فقد أوكلن إليها أعمالا شاقة في لجنة النساء المكرسات لخدمة الكنيسة، لكنهن لم يدعونها قط إلى حفلات الشاي التي كن يقمنها، ولم تتلق دعوة إلى بيوتهن إلا لحضور الاجتماعات. لم يكن بورتر سوى مزارع، مهما امتلك من مزارع. كان ينبغي أن تدرك هذه الحقيقة.
لقد التقت بموريل عندما قررت أن تتلقى ابنتها بيتي جون دروسا في العزف على البيانو، وكانت موريل مدرسة الموسيقى خاصتها. كانت تدرس في المدارس، علاوة على الدروس الخصوصية. وفي تلك الفترة، لم تكن تتقاضى سوى 20 سنتا عن الحصة الواحدة. كانت تعزف الأرغن في الكنيسة، وتشرف على توجيه العديد من فرق الجوقة، لكن بعض هذه الأعمال كانت مجانية. انسجمت هي وميليسينت انسجاما شديدا، لدرجة أن ميليسينت استضافتها في بيتها قدر ما استضافت دوري، ولو أن لكل مكانة مختلفة.
كانت موريل قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، ولم تتزوج قط، وكان الزواج موضوعا تناقشه على الملأ بسخرية وأسى، لا سيما كلما كان بورتر موجودا. كانت تسأل: «ألا تعرف أي رجال يا بورتر؟ ألا تدلني على رجل محترم؟» وكان بورتر يقول إنه ربما يفعل، لكنها ربما لن تراهم محترمين. في الصيف، كانت موري تزور أختا لها في مونتريال، وذات مرة ذهبت للإقامة لدى بعض بنات العم اللائي لم تلتق بهن من قبل في فيلادلفيا، لكنها كانت تراسلهن فحسب. وأول ما أخبرت عنه حين عودتها كان وضع الرجال في مونتريال، حيث قالت: «مأساة! كلهم يتزوجون في سن الشباب. وهم كاثوليك، وزوجاتهم لا يمتن قط، بل ينشغلن كثيرا بالإنجاب. ثمة رجل كان مرشحا لي، لكنني أدركت فورا أنه لن يناسبني أبدا؛ فقد كان إمعة يتبع أمه.»
ثم استطردت قائلة: «التقيت رجلا، لكن كان فيه عيب خطير؛ لم يكن يقلم أظفار قدميه الطويلة الصفراء. حسنا، ألن تسألوني كيف عرفت؟»
كانت موريل تتشح دوما بدرجة من درجات الأزرق. كانت ترى أن المرأة عليها أن تختار اللون الذي يناسبها حقا، ولا تكف عن ارتدائه، شأنه شأن عطرها. ينبغي أن تكون ملابسها عنوانها.
كان من الشائع أن اللون الأزرق هو اللون المحبب إلى الشقراوات، لكن هذا لم يكن صحيحا؛ فالأزرق عادة ما يجعل الشقراوات يزددن شحوبا مما هن عليه في الأساس. الأزرق يناسب ذوات البشرة السمراء سمرة خفيفة، كبشرة موريل التي لم تفقد كليا سمرتها المكتسبة قط. الأزرق يناسب الشعر البني والعينين البنيتين كعينيها تماما. لم تكن تبخل على نفسها قط فيما يتعلق بالملابس - كان من الخطأ أن تفعل ذلك. كانت أظفارها دوما مطلية بلون زاه ولافت للنظر؛ لون الخوخ أو الأحمر القاني أو حتى بلون الذهب. كانت قصيرة القامة مكتنزة، وعودت نفسها على ممارسة التمارين الرياضية للحفاظ على خصرها المتناسق. كانت لديها شامة داكنة اللون في مقدم عنقها؛ شامة كجوهرة على سلسلة خفية، وشامة أخرى أشبه بدمعة على طرف عينها.
قالت ميليسينت ذات يوم وقد اعترتها دهشة أن توصلت إلى ذلك الوصف: «الكلمة التي تصفك الوصف الأمثل ليست جميلة، بل ساحرة.» ثم احمرت خجلا من مجاملتها الشخصية؛ إذ أدركت أنها بدت طفولية ومبالغة.
احمرت موريل خجلا هي الأخرى بعض الشيء، ولكن بشيء من المتعة؛ فقد كانت تعشق إعجاب الآخرين بها، بل تلتمسه صراحة أيضا. ذات مرة، عرجت على ميليسينت في طريقها إلى حفل موسيقي في مدينة والي عقدت آمالها على أن يؤمن لها بعض الجوائز؛ كانت ترتدي ثوبا أزرق فاتحا ثلجي اللون يتلألأ.
قالت: «وهذا ليس كل شيء؛ فكل ما أرتديه جديد، وكل ملابسي حريرية.»
ليس صحيحا أنها لم تجد رجلا قط، فقد عثرت على رجال كثر، لكنها لم تجد فيهم من يستحق أن تدعوه لتناول العشاء. عثرت عليهم في بلدات أخرى حيث صحبت جوقتها إلى حفلات مجموعات الجوقة، وفي تورونتو في حفلات العزف المنفرد على البيانو التي ربما تصحب فيها طالبا واعدا. وأحيانا ما كانت تعثر عليهم في بيوت طلابها؛ كانوا أعمام هؤلاء الطلاب أو آباءهم أو جدودهم، والسبب وراء أن أحدا منهم لم يكن يطأ بيت ميليسينت - بل كانوا يلوحون تارة بفجاجة، وتارة باستعراض من سياراتهم المنتظرة بالخارج - هو أنهم كانوا متزوجين. ربما كانت زوجاتهم طريحات الفراش، أو معاقرات للخمر، أو شرسات. وأحيانا لا يذكر رفيقها شيئا عن زوجته، فتبدو وكأنها شبح. رافقوا موريل إلى الاحتفالات الموسيقية حيث كان اهتمامهم بالموسيقى هو العذر الحاضر، حتى إنها ذات مرة اصطحبت طفلا موهوبا كوصيف! كانوا يدعونها إلى العشاء في بلدات نائية، وكانت تصفهم بالأصدقاء. دافعت ميليسينت عنها، ما الضرر إذا كانت العلاقة كلها في العلن؟ لكنها لم تكن كذلك تحديدا، وكانت تنتهي بسوء فهم وكلمات قاسية وتصرفات مسيئة، وربما تحذير من مجلس إدارة المدرسة. كان على الآنسة سنو أن تحسن التصرف. كان الناس يرونها مثالا سيئا؛ زوجة عبر الهاتف، فيحادثها أحدهم قائلا: «آنسة سنو، يؤسفني أننا بصدد إنهاء العلاقة.» أو ببساطة يلزم الصمت، فلا يعاود الاتصال بها مجددا؛ ومن ثم، كانت بين موعد لا يحترم، أو رسالة تقابل بالتجاهل، أو اسم لا يأتي ذكره مجددا.
قالت موريل: «لا أنتظر الكثير، أنتظر من الأصدقاء أن يكونوا أصدقاء، وفجأة أراهم ينسحبون عند أول مشكلة تلوح في الأفق بعد أن يزعموا أنهم سيدعمونني دوما. لم يحدث ذلك؟»
قالت ميليسينت ذات مرة: «حسن، أنت تعرفين يا موريل، الزوجة زوجة. لا بأس من أن يكون للمرء أصدقاء، لكن الزواج زواج، ولا مساس به.»
استشاطت موريل غضبا لكلمات ميليسينت؛ حيث حسبت أن ميليسينت تظن فيها ظن السوء شأنها شأن الآخرين. ألم يكن من حقها أن تمضي وقتا ممتعا؛ وقتا بريئا ممتعا؟ صفقت الباب وراءها، ودهست بسيارتها نبات زنبق الكالا، عن عمد بالطبع. ليوم كامل، اكتسى وجه ميليسينت بالبقع من فرط البكاء. لكن العداء لم يستمر، وعادت موريل وهي تجهش بالبكاء أيضا، وألقت باللائمة على نفسها، قالت: «كنت ساذجة من البداية.» ودخلت الغرفة كي تعزف على البيانو. تعودت ميليسينت على هذا الموقف المتكرر، كلما كانت موريل سعيدة، وبرفقة صديق جديد، كانت تعزف أنغاما شجية رقيقة مثل «أزهار الغابة»، أو:
ارتدت ثياب الرجال
ارتدتها بكل مرح وابتهاج ...
وكلما تمكن منها الحزن والإحباط، كانت تضرب مفاتيح البيانو بقوة وعصبية، وتنشد بازدراء:
مرحبا جوني كوب، ألم تستيقظ بعد؟
أحيانا كانت تدعو ميليسينت الناس إلى تناول العشاء (ولو أنها تجاهلت آل فينيجان، وآل نيسبيت، وآل دود)، ثم يطيب لها أن تدعو دوري وموريل أيضا. وكانت دوري خير عون لها في غسل الأواني والقلايات فيما بعد، بينما تسلي موريل الزوار بعزفها على البيانو.
دعت القس الأنجليكاني للحضور يوم الأحد بعد صلاة المساء، ومعه الصديق الذي تناهى إلى مسامعها أنه مقيم لديه. كان القس الأنجليكاني عازبا، لكن موريل فقدت الأمل فيه سريعا. قالت إنه غير مناسب لها؛ فشخصيته غير واضحة. يا للأسف! فقد كان يروق لميليسينت، خاصة صوته العذب. لقد ترعرعت ميليسينت تحت مظلة الكنيسة الأنجليكانية، وعلى الرغم من أنها تحولت إلى الكنيسة المتحدة التي زعم بورتر انتماءه لها (وهكذا كان انتماء الجميع، وكذلك جميع الشخصيات البارزة في المدينة)، فإنها ما زالت تفضل التقاليد الأنجليكانية؛ صلاة المساء، وصوت أجراس الكنيسة، والجوقة التي تتقدم الممشى بهيبة ووقار قدر الإمكان وهي تنشد - بدلا من التكدس في المكان والجلوس في صمت فحسب. وأجمل ما في الأمر الكلمات: «لكن ارحمنا يا الله، نحن المذنبين الأشقياء، واغفر لأولئك المعترفين بخطاياهم، ورد التائبين بحسب وعدك ...»
رافقها بورتر إلى الكنيسة الأنجليكانية ذات مرة، ولم ترق له قط.
كانت التجهيزات لعشاء تلك الليلة كبيرة، فقد أتوا بالإستبرق، وملعقة الغرف الفضية، وأطباق الحلوى السوداء ذات الأزهار المرسومة عليها يدويا، ودعت الحاجة إلى كي مفرش الطاولة، وتلميع كل أدوات المائدة الفضية، ثم كان يخشى من أن بقعة صغيرة من الملمع ربما لا تنمحي، أو تلتصق علكة رمادية على أسنان الشوكات أو بين العنب حول حافة إبريق الشاي الذي كان ضمن جهاز الزفاف. طوال يوم الأحد، كانت ميليسينت تتقلب بين المتعة والعذاب والتشويق. تضاعفت المشكلات التي كان يمكن أن تحدث؛ قد لا تحتفظ الكريمة البافارية بتماسكها (لم تكن لديهم ثلاجة بعد، فاضطروا إلى وضع الأشياء التي أرادوا تبريدها في الصيف على أرضية القبو)، وربما لن تصير كعكة الآنجل هشة بالقدر الكافي، وإذا صارت هشة، فربما تصير يابسة، وقد يفوح من البسكويت طعم الدقيق الفاسد، أو ربما تزحف خنفساء خارجة من طبق السلطة. بحلول الخامسة مساء، كانت في حالة هستيرية من التوتر والعصبية لدرجة أن أحدا لم يستطع أن يظل معها في المطبخ. وصلت موريل مبكرا لتعاونها، لكن البطاطس التي قطعتها إلى شرائح لم تكن رقيقة بالقدر الكافي، كما أنها جرحت أصابعها وهي تبشر الجزر؛ ولذلك طلب منها أن تغادر المطبخ لأنها عديمة الجدوى، فخرجت للعزف على البيانو.
كانت موريل ترتدي ثوبا رقيقا مجعدا فيروزي اللون، وفاحت منها رائحة عطر إسباني. لعلها أسقطت القس من حساباتها، لكنها لم تر ضيفه بعد. لعله عازب أو أرمل ما دام يسافر وحيدا، والأغلب أنه ثري، وإلا فلم يكن ليسافر أبدا، لم يكن ليقطع كل هذه المسافة. قال الناس إنه جاء من إنجلترا، ونفى أحدهم ذلك زاعما أنه وفد من أستراليا.
كانت تحاول عزف مقطوعة «الرقصات البوليفستية».
تأخرت دوري، مما زاد الأمور تعقيدا؛ فالسلاطة المغطاة بالجيلاتين لا بد أن توضع في القبو مرة أخرى خشية أن تلين زيادة عن اللازم، والبسكويت الذي وضع في الفرن كي يسخن لا بد من إخراجه خشية أن يجف بشدة. جلس الرجال الثلاثة في الشرفة حيث كان من المخطط تقديم الوليمة على طريقة البوفيه، واحتسوا عصير الليمون الفوار. أدركت ميليسينت أثر الخمر على أهلها؛ فقد لقي أبوها حتفه بسبب الخمر وهي في العاشرة من عمرها، وطلبت من بورتر أن يقطع على نفسه عهدا بألا يمس الخمر بعد الزواج قط، وبالطبع لم يف بعهده؛ لكنه كان كلما احتسى الخمر نأى بجانبه عنها، فظنت أنه حفظ عهده لها حقا. كان هذا وضعا معتادا جدا آنذاك، على الأقل بين المزارعين الذين درجوا على احتساء الخمر في الحظيرة، والامتناع عنه في بيوتهم. أغلب الرجال كانوا يعتقدون أن ثمة خطبا في أي امرأة لا تضع هذه القاعدة.
لكن موريل عندما خرجت إلى الشرفة بكعبها العالي وثوبها الرقيق المجعد صاحت فجأة: «أوه، شرابي المفضل! الخمر والليمون!» رشفت رشفة وزمت شفتيها في وجه بورتر. «فعلتموها مجددا! نسيتم الخمر مرة أخرى!» ثم استفزت القس سائلة إياه إن كانت بحوزته قارورة من الخمر في جيبه. كان القس لبقا، ولكنه ربما صار متهورا بفعل الملل، قال ليت كان بحوزته قارورة من الشراب!
كان الزائر، الذي نهض كي يتعرف إليه الآخرون، طويل القامة نحيل البدن شاحب البشرة، ووجهه بدا مجعدا ومحدد الملامح وحزينا. لم تدع موريل خيبة الأمل تتمكن منها، جلست إلى جواره وحاولت بحماس أن تجري معه حوارا. أخبرته عن تدريسها للموسيقى، وكان نقدها لاذعا إذ تحدثت عن فرق الجوقة المحلية والموسيقيين، ولم يسلم الأنجليكانيون من لسانها، وألقت اللوم على القس وعلى بورتر، وقصت قصة الدجاج الذي صعد على خشبة المسرح خلال حفل مدرسي أقيم بالمدينة.
نهض بورتر بالأعمال الموكلة إليه مبكرا، واغتسل وبدل ملابسه، لكنه ظل يتطلع بعصبية باتجاه الحظيرة وكأنه تذكر شيئا لم ينجزه. ثمة بقرة كانت تصيح بصوت عال في الحقل، وفي نهاية المطاف استأذن في أن يذهب ويرى ما ألم بها من خطب. اكتشف أن صغيرها علق في أسلاك السياج، وشنق نفسه. لم يتكلم عن هذه الخسارة التي مني بها بعد أن عاد وقد غسل يديه، كل ما قاله: «العجل علق بالسياج.» لكنه ربط بطريقة ما بين الواقعة المؤسفة وهذه الجلسة الترفيهية، حيث التأنق والبذخ، ظن أن ذلك لم يكن بالأمر الطبيعي.
قالت ميليسينت: «هذه الأبقار شقية كالأطفال تماما، فهي دائما ما تريد أن تستحوذ على انتباهك في الوقت غير المناسب!» أطفالها، الذين أطعموا في وقت مبكر، اختلسوا النظر من بين الدرابزين على الطعام وهو يحمل إلى الشرفة. وتابعت قائلة: «أعتقد أننا يجب أن نبدأ دون دوري! لا بد أنكم تتضورون جوعا أيها الرجال، هذه مجرد وليمة بسيطة. أحيانا ما نستمتع بالطعام خارج البيت ليلة الأحد.»
صاحت موريل التي ساعدت في حمل العديد من الأطباق إلى خارج البيت، بما في ذلك سلاطة البطاطس، وسلاطة الجزر، والسلاطة المغطاة بالجيلاتين، وسلاطة الملفوف، والبيض المتبل، والدجاج المشوي البارد، ورغيف السلمون، والبسكويت الساخن، والمقبلات: «فلنبدأ، فلنبدأ!» فور أن جهزوا كل شيء على الطاولة، ظهرت دوري بجوار البيت، وبدت مفعمة بالحماس إما بسبب المسافة التي قطعتها عبر الحقل، وإما بفعل الإثارة. كانت ترتدي ثوبا صيفيا جميلا من نسيج شفاف أزرق زرقة البحر، يزدان بنقاط بيضاء، وياقة بيضاء، ويناسب فتاة صغيرة أو سيدة عجوز. ظهرت بعض الخيوط في المواضع التي حاولت فيها نزع خيوط مهترئة من الياقة بدلا من إصلاحها، وعلى الرغم من الجو الحار ذاك اليوم، كانت ترتدي قميصا داخليا تدلى طرفه من أحد كميها، ومن الواضح أن حذاءها لمعته منذ برهة قصيرة وبطريقة تفتقر إلى البراعة، لدرجة أن المادة المستخدمة في تلميعه تركت آثارا على العشب.
قالت دوري: «كنت سأصل في الموعد المحدد، لكنني اضطررت إلى مطاردة قطة برية وإطلاق النار عليها. ظلت تحوم حول بيتي ولم تكف قط، فاقتنعت بأنها مسعورة.»
كانت قد بللت شعرها، وأعادته إلى الهيئة التي كان عليها مستعينة بدبابيس الشعر. بالنظر إلى شعرها على هيئته هذه، ووجهها الوردي اللامع، بدت أشبه بدمية لها رأس صيني وأطراف ملحقة بجذع قماشي ومحشوة بالقش.
واصلت دوري حديثها قائلة: «حسبتها لأول وهلة تستعد للتزاوج، لكنها لم تتصرف على النحو الذي يوحي بذلك، فهي لم تكن تدعك بطنها مثلما اعتدت أن أرى. ولاحظت بعض البصاق، فحدثت نفسي أنه من الأفضل أن أطلق النار عليها، ثم وضعتها في كيس، واتصلت بفريد نان لأرى إن كان يستطيع أن ينقلها إلى الطبيب البيطري في منطقة والي، أريد أن أتأكد إن كانت مسعورة حقا. ويطيب لفريد دوما أن يجد عذرا ليخرج بسيارته، قلت له أن يترك الكيس على الدرج لو لم يكن الطبيب البيطري بالبيت مساء الأحد.»
سألت موريل: «ترى ماذا سيظنها؟ هدية؟» فأجابتها دوري: «لا، فقد ألصقت قصاصة على الكيس تحسبا لتساؤله. كانت القطة تبصق ويسيل لعابها لا شك.» لمست وجهها لتوضح لهم أين كان السيلان. سألت القس الذي أقام في المدينة ثلاث سنوات، وكان هو الذي دفن أخاها: «هل تستمتع بزيارتك للمدينة؟»
قالت ميليسينت: «السيد سبيرز هو الزائر يا دوري.»
تعرفت دوري على الضيفين، ولم يبد عليها أي حرج من زلتها. قالت إن السبب الذي دعاها للاعتقاد بأنها قطة برية هو أن فروها كان كله أشعث وبشعا، وظنت أن أي قطة برية لم تكن لتحوم ببيتها ما لم تكن مصابة بالسعار. «لكنني سأضع تفسيرا في الجريدة تحسبا لأي مستجدات. سأشعر بالأسى إذا كان الحيوان الأليف لأحدهم، فقد فقدت حيواني الأليف منذ ثلاثة أشهر؛ كلبتي دليلة، فقد صدمتها سيارة.» كان من الغريب أن يصف أحد هذه الكلبة بالحيوان الأليف؛ فتلك الكلبة السوداء الضخمة التي اعتادت أن تهرول دوما إلى جوار دوري في أرجاء الريف، كانت تقطع الحقول باندفاع وشراسة لتشن هجماتها على السيارات. لم تصب دوري باكتئاب على خلفية نفوق كلبتها؛ قالت إنها توقعت أن هذا سيكون قدرها ذات يوم. ولكن، الآن بعد أن سمعتها ميليسينت تقول: «حيوان أليف»، حدثت نفسها بأنها ربما شعرت بشيء من الأسى ولم تظهره.
قالت موريل للسيد سبيرز: «تعال واملأ طبقك وإلا تضورت جوعا! أنت الضيف، ولا بد أن تبدأ أولا. إذا بدا صفار البيض داكنا، فاعلم أن السبب يرجع إلى طبيعة الغذاء الذي كان يأكله الدجاج؛ اطمئن، لن تصاب بالتسمم. بشرت الجزر للسلاطة بنفسي، فإذا وجدت بضع قطرات من الدم، فاعلم أنني كنت متحمسة جدا لدرجة أنني جرحت أصابعي. من الأفضل أن ألتزم الصمت الآن وإلا قتلتني ميليسينت!» ضحكت ميليسينت بغضب وقالت: «أوه، هذا ليس صحيحا! أنت لم تفعلي!»
أصغى السيد سبيرز باهتمام شديد لكل ما قالته دوري، ربما هذا ما جعل موريل تتحدث بهذه الوقاحة. حسبت ميليسينت أنه ربما وجد دوري امرأة كندية غير تقليدية تميل إلى الشراسة وتطارد الحيوانات وتطلق عليها النيران، لعله يتفحصها ليرجع إلى أرض الوطن ويصفها لأصدقائه في إنجلترا.
التزمت دوري الصمت أثناء الأكل، وتناولت كميات كبيرة من الطعام، وتناول السيد سبيرز كثيرا من الطعام أيضا - الأمر الذي أسعد ميليسينت - وبدا أنه إنسان يميل إلى الصمت طوال الوقت. أدار القس دفة الحوار متحدثا عن الكتاب الذي كان يطالعه، كان بعنوان «طريق أوريجون تريل»، قال: «المعاناة التي فيه بشعة!»
قالت ميليسينت إنها سمعت بالمكان، «لدي بعض أولاد العم يعيشون في أوريجون، لكنني لا أستطيع أن أذكر اسم البلدة. ترى هل سلكوا ذاك الدرب!»
قال القس إنهم لو خرجوا منذ مائة عام، لربما كان ذلك محتملا.
قالت: «لا أعتقد أن ذلك كان منذ فترة طويلة؛ كان اسم عائلتهم رافيرتي.»
قال بورتر بحماس مفاجئ: «يا إلهي! ثمة رجل بالاسم نفسه كان يهوى سباقات الحمام، كان ذلك منذ فترة بعيدة حيث كانت هذه الرياضة شائعة، وكانت ثمة رهانات أيضا. حسن، كان يعاني من مشكلة ما في بيت الحمام حيث لم تكن حماماته ترجع مباشرة إلى بيتها؛ وهذا يعني أنها لم تكن تمر على الأسلاك، ولم تكن تحصى في السباق؛ ولذا، فقد أخذ بيضة كانت إحدى حماماته ترقد عليها، وأفرغها ووضع فيها خنفساء، فجعلت تصدر أصواتا داخل البيضة، فحسبت الحمامة بطبيعة الحال أن بيضتها على وشك أن تفقس، فطارت في خط مستقيم عائدة إلى البيت، ومرت فوق الأسلاك، وكل الذين راهنوا عليها حققوا مكاسب كبيرة، وكذلك هو. حقيقة الأمر أن ذلك كان في أيرلندا، والرجل الذي قص هذه القصة جاء إلى كندا بعد أن حقق مكاسب في المراهنات على الحمام.»
لم تصدق ميليسينت أن اسم الرجل كان رافيرتي قط، كان ذلك حجة فحسب.
سأل القس دوري: «هل تحتفظين بمسدس في بيتك؟ وهل هذا يعني أنك قلقة بشأن المتجولين بغرض السرقة وما شابه ذلك؟»
تركت دوري سكينها وشوكتها، ومضغت الطعام بحرص وتلذذ وابتلعته، ثم قالت: «أحتفظ به لأغراض الصيد.»
بعد برهة قالت إنها تصطاد جرذان الأرض والأرانب، وكانت تنقل جرذان الأرض إلى الجانب الآخر من المدينة، وتبيعها في مزرعة للمنك. وكانت تسلخ الأرانب، وتبسط فروها وتبيعه في مكان ما في مدينة والي، تروج فيه التجارة حيث يفد عليه السائحون. كانت تستمتع بلحم الأرانب المقلي أو المسلوق، لكنها لم تكن تستطيع تناوله كله بنفسها، فكانت تأخذ الأرنب بعد سلخه وتنظيفه، وتعطيه إلى عائلة من العائلات الفقيرة. وكثيرا ما كانت عطياتها ترفض؛ كان الناس يعتقدون أن أكل الأرانب أمر سيئ، مثله مثل أكل الكلاب أو القطط، ولو أن ذلك، بحسب اعتقادها، لم يكن شيئا مخالفا للمألوف في الصين.
قال السيد سبيرز: «هذا صحيح، فقد تناولت الاثنين من قبل.»
قالت دوري: «حسن، أنت تعرف إذن أن للناس تحيزاتهم.»
سألها عن الجلود قائلا إنها يجب أن تنزع بعناية شديدة، وقالت دوري إن ذلك صحيح مضيفة أن على المرء استخدام سكين يثق به. وصفت له باستمتاع الشق الطولي الأول وصولا إلى البطن، وقالت: «العملية أصعب عند التعامل مع فئران المسك؛ لأنك يجب أن تكون أكثر حرصا عند التعامل مع الفرو، فهو أغلى ثمنا، إنه فرو أكثر سمكا ومضاد للماء.»
سأل السيد سبيرز: «إنك لا تطلقين النار على جرذان المسك، أليس كذلك؟»
نفت دوري ذلك، كانت تنصب لهم فخاخا. فخاخ، نعم. هكذا أجابها، فوصفت له دوري فخها المفضل الذي أجرت عليه بعض التعديلات الطفيفة، فكرت في استصدار براءة اختراع له، لكنها لم تشرع في ذلك قط. تحدثت عن الممرات المائية الربيعية، ونظام الجداول الصغيرة الذي كانت تتبعه حيث كانت تسير لأميال يوما بعد يوم بعد أن يكون الجليد قد ذاب تقريبا، ولكن قبل أن تزهر أوراق الشجر، وهي الفترة التي يكون فيها فرو جرذان المسك في أفضل حالاته. كانت ميليسينت تعلم أن دوري تقوم بهذه الأعمال، لكنها ظنت أنها تقوم بها لكسب بعض المال، ولما سمعتها تتحدث الآن، بدا أنها متيمة بهذه الحياة فعلا؛ البعوض الأسود الذي يجوب المكان، والمياه الباردة التي تمر على رأس حذائها الطويل، والجرذان الغارقة. وأنصت إليها السيد سبيرز ككلب عجوز، أو ربما ككلب صيد، جالسا وعيناه نصف مفتوحتين، لم يمنعه من الدخول في حالة غير لائقة من غياب الوعي سوى تقديره الجيد لذاته. كانت حوله هالة من نوع ما لم يستطع أحد أن يستوعبها؛ عيناه جاحظتان، وأنفه يرتعش، وعضلاته تجيب عنه، وتسري قشعريرة في بدنه بينما يسترجع في ذاكرته يوما من الطيش والانشغال. سألها عن بعد المياه وارتفاعها، وسألها عن وزن الفرو، وعدد الحيوانات التي يمكنها صيدها يوميا، وهل كان السكين نفسه يستعمل لسلخ جرذان المسك؟
طلبت موريل من القس سيجارة، وحصلت عليها، ودخنتها للحظات، ثم سحقت عقبها في وسط الكريمة البافارية.
قالت: «إذن لن آكلها فيزداد وزني!» نهضت وشرعت في المشاركة في رفع الأطباق عن المائدة، لكنها في النهاية اتجهت إلى البيانو، وعاودت عزف مقطوعة «الرقصات البوليفستية».
سعدت ميليسينت بالحوار الدائر مع الضيف، ولو أن جاذبية الحوار أربكتها واستغلقت عليها، وظنت أيضا أن الطعام كان شهيا، ولم يكن ثمة أي لحظات حرجة، أو مذاق غريب، أو يد كأس لزجة.
قال السيد سبيرز: «كنت أحسب خبراء نصب الفخاخ يعيشون في الشمال جميعا. كنت أظنهم يعيشون فيما وراء الدائرة القطبية، أو على الأقل على الدرع الكندي ما قبل العصر الكمبري.»
قالت دوري: «خطر لي أن أزور هذه المنطقة.» بدا صوتها غليظا لأول مرة؛ إما بفعل الحرج وإما الإثارة، «ظننت أنني أستطيع العيش في كابينة ونصب فخاخ طوال الشتاء، لكنني كنت أتعهد أخي بالرعاية، ولم يكن باستطاعتي تركه، وإنني ملمة بالمكان هنا.» •••
في أواخر الشتاء، وصلت دوري إلى بيت ميليسينت حاملة قطعة كبيرة من الحرير الأبيض، قالت إنها كانت تعتزم صنع ثوب زفاف. كانت هذه أول مرة يسمع فيها أحد عن حفل الزفاف هذا - قالت إنه سيقام في شهر مايو - أو يعرف الاسم الأول للسيد سبيرز، كان اسمه الأول ويلكنسون، ويلكي.
متى قابلته دوري؟ وأين قابلته؟ منذ ذلك العشاء في الشرفة؟
لم تقابله في أي مكان، كان قد رحل إلى أستراليا حيث اشترى أملاكا، وتبادلا الرسائل.
فرشت سجادة على أرضية غرفة الطعام بعد أن أزيحت الطاولة إلى جوار الجدار، ووضع الحرير على السجادة، وألقى امتداده الشاسع اللامع، ورقته البراقة بستار من الصمت على البيت بأسره. وجاء الأطفال ليحدقوا فيه، فصاحت فيهم ميليسينت أن يبتعدوا؛ كانت تخشى أن يقطعوه. ووضعت دوري - التي تستطيع بكل سهولة أن تسلخ جلود الحيوانات - المقص جانبا، وأقرت بأن يديها ترتعشان.
استدعيت موريل كي تعرج عليهما بعد انتهاء اليوم الدراسي. ضربت بيدها على صدرها فور أن سمعت بالأنباء، ووصفت دوري بالخبيثة، وشبهتها بكليوباترا لأنها أغوت مليونيرا.
قالت: «أراهن أنه مليونير؛ أملاك في أستراليا، ماذا يعني ذلك؟ أراهن أنها ليست مزرعة خنازير! كل ما آمله أن يكون له أخ! أوه، دوري، كم أفتقر إلى الكياسة إذ لم أهنئك!»
أغدقت على دوري سيلا من القبلات التي لها صوت مسموع، بينما تسمرت دوري في مكانها تتلقى القبلات وكأنها طفلة في الخامسة من عمرها.
ما قالته دوري هو أنها والسيد سبيرز خططا لإتمام «شكل من الزواج»، سألتها ميليسينت عما تعنيه: «هل تعنين حفل زفاف؟ أهذا ما تعنينه؟» أجابت دوري: «نعم.»
بدأت موريل في شق الحرير بالمقص قائلة إن شخصا آخر كان يجب أن يقوم بهذه المهمة، وإنه إذا قدر لها أن تقوم بها مجددا فلن تفعلها في مكان كهذا.
سرعان ما اعتادوا على الأخطاء، الأخطاء والتصحيحات. في وقت متأخر بعد ظهر كل يوم، عندما تصل موريل، كانوا يتعاملون مع مرحلة جديدة - القص والتشبيك بالدبابيس، والتسريج، والحياكة - بأسنان مطبقة وصيحات غاضبة. اضطررن إلى تغيير النمط وهن يعملن، بما يسمح لهن بالكشف عن المشكلات غير المتوقعة؛ مثل ضيق الأكمام، وتجميع القماش الحريري الثقيل عند الخصر، والأجزاء الغريبة التكوين في جسد دوري. كان وجود دوري يعرض المهمة للخطر؛ ولذا فقد أوكلتا إليها مهمة إزالة القصاصات وملء البكرات. وكانت كلما جلست إلى ماكينة الخياطة عضت على لسانها.
أحيانا لم يكن ثمة شيء تفعله، فكانت تجوب المكان من غرفة إلى أخرى في بيت ميليسينت، وتتمهل لتتطلع من النوافذ على الثلج وطبقة الجليد الرقيقة، ونهاية الشتاء الذي يغطي الأرجاء بالخارج، وإلا كانت تقف كوحش سهل الانقياد في ملابسها الداخلية الصوفية التي كانت تفوح برائحة جسدها، بينما انشغلا بشد الفستان حولها.
تولت موريل مسئولية الملابس. كانت تعلم ما يتعين وجوده، يجب أن تكون هناك ملابس أخرى بخلاف فستان الزفاف، يجب أن يكون هناك ثوب للخروج، وثوب للنوم ليلة الزفاف، وروب يناسبه، وبالطبع مجموعة جديدة كليا من الملابس الداخلية، وجوارب حريرية وحمالة صدر - وهي الأولى التي سترتديها دوري على الإطلاق.
لم تكن دوري على دراية بأي من ذلك، قالت: «كنت أعتبر فستان الزفاف العقبة الأساسية، ولم أستطع أن أفكر في شيء سواه.»
ذاب الثلج، وامتلأت الجداول بالمياه. لا بد أن جرذان المسك تسبح الآن في المياه الباردة برشاقة وحماس حاملة كنزا من الفرو على ظهورها. لو جالت الفخاخ بخاطرها، فإنها لم تكن تفصح عن ذلك. النزهة الوحيدة التي قامت بها تلك الأيام كانت عبر الحقل من بيتها إلى بيت ميليسينت.
حفزت التجربة موريل، فصممت معطفا على أعلى مستوى من الصوف، خمري اللون، عالي الجودة، وألحقت به بطانة. أهملت بروفات جوقتها.
كان على ميليسينت أن تفكر في غداء الزفاف، كان من المقرر إقامته في فندق برونزويك. ولكن، من الذي سيدعى للحضور بخلاف القس؟ كثير من الناس يعرفون دوري، لكنها مشهورة في أذهانهم بالسيدة التي تترك الأرانب المسلوخة على أعتاب الأبواب، المرأة التي كانت تجوب الحقول والغابات مع كلبها وفي يديها بندقيتها، المرأة التي خاضت في الجداول المغمورة بالمياه مرتدية حذاءها المطاطي الطويل. قليل هم من كانوا يعرفون آل بيك القدامى، ولو أن الجميع كانوا يذكرون ألبرت وكانوا يحبونه. لم تكن دوري محط سخرية - ثمة شيء كان يوفر لها الحماية من سخرية الآخرين؛ إما شعبية ألبرت وإما فظاظتها ومهابتها - لكن أنباء زواجها أثارت بعض الاهتمام الذي لم يكن ودي الطابع قط. كان الناس يتكلمون عن الأمر باعتباره حدثا عجيبا، ومخزيا بعض الشيء، وربما كان خدعة. قال بورتر إن الناس كانوا يراهنون على ما إن كان العريس سيحضر أم لا.
في نهاية المطاف، تذكرت ميليسينت بعض أبناء العم الذين حضروا جنازة ألبرت؛ هم أناس عاديون محترمون، كانت دوري تحتفظ بعناوينهم، فأرسلت إليهم الدعوات. ومن بعدهم تذكرت أصحاب بقالة نان - التي كان يعمل ألبرت بها - وزوجاتهم، واثنين من رفاق ألبرت في لعبة البولينج وزوجتيهما. وربما أصحاب مزرعة المنك حيث تبيع دوري جرذان الأرض، والمرأة التي تعمل بالمخبز التي كانت ستجمل الكعك.
كانت الكعكة تصنع بالبيت، ثم تؤخذ إلى المحل لتزينها تلك المرأة التي حصلت على دبلوم في تزيين الكعك من مكان ما في شيكاجو. ستغطى بورود بيضاء والأسقلوب الشريطي، والقلوب والأكاليل، وأوراق الشجر الفضية اللون، وتلك الحلوى الفضية الصغيرة التي قد تنكسر أسنان المرء وهو يتناولها. وفي تلك الأثناء، كان يتعين خلطها وخبزها، وفي هذه المرحلة يمكن الاستعانة بذراعي دوري القويتين لتقليب المزيج مرارا وتكرارا حتى يصبح متماسكا جدا، لدرجة أنه بدا وكأنه فاكهة مسكرة وزبيب وكشمش، مع مخيض من اللبن والبيض بنفحة من الزنجبيل يساعد على تماسكه كالصمغ. عندما حملت دوري الوعاء الكبير في حضنها، وأمسكت بملعقة العجن، سمعت ميليسينت دوري تتنفس الصعداء لأول مرة منذ فترة طويلة.
قررت موريل أنه لا بد أن تكون هناك وصيفة عزباء للعروس، أو وصيفة متزوجة للعروس، وهي تحديدا خارج المعادلة؛ لأنها ستنشغل بالعزف على الأرغن؛ ستعزف مقطوعة «أوه، أيها الحب المثالي» وأعمال الموسيقار الألماني مندلسون.
يجب أن تكون ميليسينت هي الوصيفة، لم تكن موريل لتقبل رفضها. أحضرت معها ثوبا مسائيا لها، وثوبا أزرق سماويا طويلا شقته من الخصر - كم كانت واثقة من نفسها وجريئة الآن فيما يتعلق بالحياكة! - واقترحت فستانا قصيرا أكثر زرقة من الدانتيل، ومعه سترة نسائية قصيرة من الدانتيل مناسبة له. «ستبدو جديدة كليا وستناسبك جدا.» هكذا قالت.
ضحكت ميليسينت عندما جربت الثوب لأول مرة، وقالت: «شكلي يفزع الحمام!» لكنها كانت سعيدة.
لم تحظ ميليسينت وبورتر بحفل زفاف بالمعنى الحرفي، كل ما في الأمر أنهما ذهبا إلى بيت القس، وقررا ادخار المال لشراء الأثاث، قالت: «أفترض أنني سأكون بحاجة إلى شيء آخر؛ شيء يغطي رأسي.»
صاحت موريل: «غطاء الرأس! ماذا عن غطاء رأس دوري؟ لقد انشغلنا أكثر من اللازم بفساتين الزفاف لدرجة أننا نسينا مسألة غطاء الرأس تماما.»
تكلمت دوري بصراحة على غير المتوقع، وقالت إنها لن ترتدي غطاء للرأس أبدا؛ فهي لا تحتمل شيئا كهذا يتدلى من فوق رأسها، ستشعر وكأنه بيت عنكبوت! تشبيهها لغطاء الرأس ببيت العنكبوت فاجأ موريل وميليسينت؛ وذلك لأن النكات الشائعة عن بيت العنكبوت كان يتردد صداها في أماكن أخرى.
قالت موريل: «هي على حق، سيكون غطاء الرأس شيئا مبالغا فيه.» فكرت في بديل. إكليل من الزهور؟ لا، مبالغ فيه أيضا. قبعة كلاسيكية كبيرة؟ نعم، لنأت بقبعة صيفية قديمة، ونغطها بالحرير الأبيض، ثم لنأت بأخرى ونغطها بشريط زينة ذي لون أزرق داكن.
قالت ميليسينت بارتياب: «ها هي قائمة الطعام؛ دجاج بالكريمة في لفائف المعجنات، وبسكويت صغير دائري الشكل، وقوالب الجيلي، وسلاطة مع التفاح والجوز، وبوظة وردية وبيضاء مع الكعك ...»
قالت موريل وهي تفكر في الكعك: «هل لديه سيف بأي حال من الأحوال يا دوري؟»
سألت دوري: «من؟»
فأجابتها موريل: «ويلكي، حبيبك ويلكي. هل لديه سيف؟»
سألت ميليسينت: «وماذا يدعوه لأن يكون لديه سيف؟»
قالت موريل: «حسبت أنه ربما لديه واحد.»
قالت دوري: «ليست لدي معلومات تفيدك.»
خيم الصمت للحظات على الجميع؛ لأنهن انشغلن بالتفكير في العريس. كان عليهن أن يدخلنه إلى الغرفة، ويجلسنه بين كل ذلك؛ القبعات الكلاسيكية الضخمة، الدجاج بالكريمة، أوراق الأشجار الفضية. ساورتهن الشكوك، أو على الأقل تسللت الشكوك إلى ميليسينت وموريل، ولم تجرؤ واحدة منهن أن تتطلع في عين الأخرى.
قالت موريل: «ظننت ذلك فحسب بما أنه إنجليزي، أو أيا كانت جنسيته.»
قالت ميليسينت: «إنه رجل لا بأس به على أي حال.» •••
موعد الزفاف وافق السبت الثاني من شهر مايو، وكان من المقرر أن يصل السيد سبيرز الأربعاء ويقيم لدى القس. في الأحد السابق عليه، كان من المفترض أن تزور دوري ميليسينت وبورتر وتتناول معهما العشاء. كانت موريل هناك أيضا. لم تصل دوري، فشرعوا في تناول العشاء دونها.
في منتصف العشاء، نهضت ميليسينت فجأة وقالت: «سأذهب إليها، من الأفضل أن تكون أكثر حفاظا على المواعيد ليلة زفافها.»
قالت موريل: «يمكنني أن أصحبك.»
رفضت ميليسينت صحبتها وشكرت لها عرضها؛ فاثنتان ستجعلان الموقف أسوأ مما هو عليه.
أي موقف؟
لم تكن تعرف.
قطعت الحقل وحدها. كان الجو دافئا، والباب الخلفي لبيت دوري مفتوحا على مصراعيه. بين البيت والمكان الذي كانت تحتله الحظيرة، كان هناك بستان من أشجار الجوز التي ما زالت فروعها عارية؛ إذ إن أشجار الجوز من بين الأنواع التي يتأخر فيها نمو الأوراق. بدت أشعة الشمس الحارقة التي تتسلل من بين الفروع العارية غير طبيعية. قدماها لم تصدران أي صوت على العشب.
وهناك على المنصة الخلفية استقر كرسي ألبرت القديم ذو الذراعين، الذي لم يوضع بالداخل طوال الشتاء.
خطر لها أن دوري ربما تعرضت لحادث، حادث يرتبط ببندقيتها، ربما أثناء تنظيفها لها، فهذا حادث شائع بين الناس. أو لعلها مستلقية في الحقل في مكان ما. لعلها مستلقية في الغابات بين أوراق الأشجار العتيقة الميتة والكراث ونبات الدموية. ربما تعثرت أثناء عبورها لحاجز ما. ربما اضطرت للخروج مرة أخيرة. وبعدها، وبعد كل المحاولات الآمنة، انطلقت رصاصة من البندقية. لم تحدو ميليسينت أي مخاوف كهذه من قبل بشأن دوري، وكانت موقنة بطريقة ما أن دوري حريصة جدا وبارعة جدا. لا بد أن ما حدث العام الجاري فتح الباب على مصراعيه لكل الاحتمالات. عرض الزواج، الذي جاء كضربة حظ، يمكن أن يجعل المرء يؤمن بالكوارث أيضا.
تحت ستار هذه الخيالات المفزعة التي تصارعت في رأسها، أخفت ميليسينت ما كانت تخشاه حقا.
نادت اسم دوري عند الباب المفتوح، وكانت متأهبة جدا للصمت الذي سيجيبها، صمت خبيث ولامبالاة من بيت خلا مؤخرا من شخص تعرض لكارثة (أو ربما لم يخل بعد من جثة ذاك الشخص الذي تعرض لتلك الكارثة، أو ربما عرض نفسه لها)؛ كانت مستعدة لأسوأ السيناريوهات لدرجة أنها صدمت، وبالكاد حملتها قدماها إذ وقعت عيناها على دوري نفسها ترتدي بنطالها وقميصها القديمين.
قالت: «لقد كنا بانتظارك، كنا بانتظارك على العشاء.»
قالت دوري: «لا بد أن الوقت سرقني.»
قالت ميليسينت وهي تستعيد رباطة جأشها بينما ساقتها دوري عبر الردهة الخلفية بحطامها المألوف الغامض: «أوه، هل توقفت كل ساعاتك عن العمل؟» استطاعت أن تشم رائحة الطهي.
كان المطبخ معتما بسبب أزهار الليلك الضخمة الجامحة التي التصقت بالنافذة. استخدمت دوري الفرن الخشبي الأصلي للبيت، وكانت لديها واحدة من طاولات المطبخ العتيقة التي بها درج للسكاكين وشوكات الطعام. شعرت بارتياح لما رأت أن الروزنامة المعلقة على الحائط تشير إلى العام الجاري.
كانت دوري تطهو طعام العشاء. كانت بصدد تقطيع بصلة أرجوانية اللون لتضيفها إلى قطع من اللحم وشرائح البطاطس التي طهتها في المقلاة. كل هذا كفيل بأن ينسيها متابعة الوقت.
قالت ميليسينت: «تابعي إعداد طعامك، تناولت بعض الطعام قبل أن أقنع نفسي بالخروج للبحث عنك.»
قالت دوري: «أعددت الشاي.» كان لا يزال يحتفظ بحرارته على ظهر الفرن، عندما صبته بدا أشبه بالحبر.
قالت وهي تعيد بعض اللحم الذي كاد يخرج من المقلاة: «لا يمكنني الرحيل ... لا يمكنني الرحيل عن المكان هنا.»
قررت ميليسينت أن تتعامل مع موقفها هذا تعاملها مع طفل صغير متذمر، راغب عن الذهاب إلى المدرسة.
قالت: «سيكون هذا خبرا عظيما للسيد سبيرز في الوقت الذي قطع هو فيه كل هذه المسافة.»
مالت دوري للخلف بينما صار الشحم فوارا.
قالت ميليسينت: «الأفضل أن تزيحي هذا القدر بعيدا عن النار لبرهة.» «لا يمكنني الرحيل.» «سمعت هذه العبارة من قبل.»
أنهت دوري الطهي، وغرفت الطعام في طبق، وأضافت صلصلة الطماطم، وشريحتين كبيرتين من الخبز المغموس في الدهن المتبقي في المقلاة. جلست لتتناول الطعام والتزمت الصمت.
كانت ميليسينت جالسة أيضا بانتظار أن تفرغ من الطعام، وأخيرا قالت: «أعطني سببا واحدا!»
هزت دوري كتفيها ومضغت طعامها.
قالت ميليسينت: «لعلك تعرفين شيئا لا أعرفه! ماذا تكشف لك؟ أهو فقير؟»
هزت دوري رأسها نافية، وقالت: «إنه غني.»
إذن كانت موريل على حق. «أكثر النساء يضحين بأي شيء من أجل زيجة كهذه.»
قالت دوري: «لا أعبأ بذلك.» ومضغت طعامها وابتلعته وكررت عبارتها: «لا أعبأ بذلك.»
كان على ميليسينت أن تخاطر، ولو أنها شعرت بالحرج. «إذا كنت تفكرين فيما أظن أنك تفكرين فيه، فالأرجح أن قلقك ليس في موضعه. في كثير من الأحيان، هم لا يهتمون بهذه المسألة عندما يكبرون في السن.» «أوه، ليس هذا ما يقلقني! فأنا أعرف كل شيء عن هذه المسألة.»
تساءلت ميليسينت: أتعرف حقا؟ وإن صح ذلك، فكيف؟ لعل دوري تتخيل أنها تعرف، ربما من الحيوانات. ظنت ميليسينت أحيانا أنه لو كانت النساء تعرف حقا، لما تزوجت أي امرأة.
ومع ذلك، قالت: «الزواج يخرجك من قوقعتك ويمنحك حياة حقيقية.»
قالت دوري: «لدي حياة.»
قالت ميليسينت وكأنها يئست من الجدال: «حسن.» جلست واحتست كأس الشاي العكرة. كانت بانتظار الإلهام يهبط عليها، تركت الوقت يمر ثم قالت: «الأمر يرجع إليه على أي حال. لكن هناك مشكلة تتعلق بمكان إقامتك؛ لا يمكنك العيش هنا بعد الآن؛ فعندما عرفنا أنا وبورتر أنك ستتزوجين، عرضنا بيتك للبيع بالأسواق، وبعناه بالفعل.»
قالت دوري فورا: «أنت تكذبين!» «لم نرد أن نتركه خاليا ليكون ملاذا للمتشردين؛ فبادرنا ببيعه مباشرة.» «لن تستطيعي مخادعتي بحيلة كهذه أبدا.» «عن أي حيلة تتحدثين إن كنتما ستتزوجان؟»
كانت ميليسينت تؤمن فعلا بما تقوله؛ فمن الممكن بيع البيت سريعا، من الممكن أن يعرضا البيت بسعر زهيد، فيشتريه من يشتريه. لا يزال بالإمكان عمل الترتيبات اللازمة. أو من الممكن هدمه للاستفادة من الطوب والأعمال الخشبية؛ سيسعد بورتر بالتخلص منه.
قالت دوري: «لا أتوقع منك أن تطرديني من بيتي.» والتزمت ميليسينت الصمت.
سألت دوري: «إنك تكذبين، أليس كذلك؟»
قالت ميليسينت: «إلي بكتابك المقدس لأقسم لك!»
بحثت دوري عنه فعلا، قالت: «لا أعرف أين هو.» «دوري، أنصتي إلي! كل ذلك لمصلحتك أنت. قد يبدو لك أنني أدفعك إلى الرحيل يا دوري، لكنني أحثك على الإقدام على الشيء نفسه الذي أراك غير مؤهلة للإقدام عليه من تلقاء نفسك.»
قالت دوري: «أوه، لماذا؟»
حدثت ميليسينت نفسها: لأن كعكة الزفاف قد صنعت بالفعل، وكذا فستان الزفاف، والغداء قد طلب، والدعوات أرسلت؛ كل هذا العناء الذي تجشموه! قد يقول الناس إن هذا لسبب سخيف، لكن الذي سيقول ذلك لن يكون من بين من تجشموا كل هذا العناء. ليس من المنصف إهدار جهودهم.
لكن الأمر كان أكبر من ذلك، حيث كانت مؤمنة بما قالته لدوري بأن زواجها هو الطريقة الوحيدة التي ستنعم من خلالها بحياة. وماذا كانت دوري تعني ب «لا يمكنني الرحيل عن المكان هنا»؟ لو كانت تعني أنها ستشعر بالحنين إلى الوطن، فلتشعر به! لم يكن الحنين إلى الوطن شعورا يصعب التغلب عليه قط. لم تكن ميليسينت لتلقي بالا لحديث دوري عن «المكان هنا»، لم يكن من مصلحة أحد أن يحيا «هنا» لو عرض عليه ما عرض على دوري. إنها لخطيئة أن ترفض عرضا كهذا بسبب العناد والرهبة والسذاجة.
بدأت تشعر أن دوري حوصرت، لعل دوري ستتراجع عن موقفها، أو تسمح على الأقل لفكرة التراجع عن موقفها بالتسلل إليها، ربما. جلست كجذع شجرة دون أن تحرك ساكنا، لكن هذا الجذع ربما كان لينا من الداخل.
لكن ميليسينت هي التي شرعت في البكاء والنحيب فجأة، وقالت: «أوه، دوري ... لا تكوني ساذجة!» نهضتا وتعانقتا، ثم أخذت دوري تهدئ من روع صديقتها، وتربت على كتفيها بطريقة موقرة، بينما بكت ميليسينت وكررت بعض الكلمات التي خلت من أي رابط: «سعيدة»، «مساعدة»، «سخيفة».
قالت عندما هدأت بعض الشيء: «سأتعهد ألبرت بالرعاية، وسأضع أكاليل الزهور على قبره، ولن أخبر موريل سنو بذلك، ولا بورتر. لا حاجة لأن يعرف أحد بذلك.»
لم تقل دوري شيئا، بدت ضائعة وشاردة قليلا، وكأنها كانت منشغلة بالتفكير في شيء ما مرارا وتكرارا، وأسلمت نفسها لثقله وغرابته.
قالت ميليسينت: «هذا الشاي سيئ جدا؛ ألا يمكننا أن نصنع بعض الشاي الصالح للشرب؟» ذهبت لتلقي بمحتوى كأسها في دلو المخلفات السائلة.
هنالك وقفت دوري في دائرة الضوء الخافت للنافذة - عنيدة وطيعة وطفولية وأنثوية - أكثر إنسانة غرابة وجنونا، بدا أن ميليسينت تمكنت الآن من إخضاعها؛ إخضاعها وإقناعها بالرحيل. أقنعتها بالرحيل على حسابها الشخصي، هكذا حدثت ميليسينت نفسها بأن الأمر كلفها أكثر مما كانت تتوقع. حاولت أن تلفت انتباه دوري بنظرة كئيبة ولكن مشجعة، فبددت نوبة بكائها. قالت: «سبق السيف العذل.» •••
مضت دوري قدما في خطط زفافها.
لم يكن أحد يعلم أنها كانت تعتزم القيام بذلك. عندما أوقف بورتر وميليسينت سيارتهما أمام بيتها لتوصيلها، كانت ميليسينت لا تزال تشعر بالقلق.
قالت: «اضغط على آلة التنبيه، الأفضل أن تكون جاهزة الآن.» قال بورتر: «أليست هي التي تهبط الدرج هناك؟»
كانت هي. وكانت ترتدي على فستانها الحريري معطفا رماديا فاتحا كان لألبرت، وتحمل قبعتها الكلاسيكية الكبيرة في يدها، وفي اليد الأخرى باقة من أزهار الليلك. أوقفا محرك السيارة، فقالت: «لا، أريد أن أمشي، فالمشي يساعدني على تصفية ذهني.» لم يكن لديهما خيار سوى أن يواصلا قيادة السيارة وينتظراها في الكنيسة، ويرياها وهي تقترب على مرأى الناس في الشارع، والناس يخرجون من المحلات لينظروا إليها، وبضع سيارات تطلق أصواتا من آلة التنبيه تشجيعا لها، وآخرون يلوحون ويصيحون: «ها هي العروس!» وإذ دنت من الكنيسة، توقفت وخلعت معطف ألبرت، وحينئذ بدت براقة ورائعة كعمود الملح في الكتاب المقدس.
كانت موريل داخل الكنيسة تعزف على الأرغن؛ ولذا لم تدرك، في هذه اللحظة الأخيرة، أنهم نسوا تماما أمر الجوارب، وأن دوري أمسكت بسيقان نبات الليلك بيدين عاريتين. كان السيد سبيرز في الكنيسة أيضا، لكنه خرج ضاربا بكل القواعد والأعراف عرض الحائط، تاركا القس واقفا وحده. كان رشيقا وشاحبا وهمجيا تماما كما تذكرته ميليسينت، لكنه عندما رأى دوري وهي تلقي بالمعطف القديم في مؤخرة سيارة بورتر، وتعتمر تلك القبعة على رأسها - كان على ميليسينت أن تهرع إليها لتصلح من هيئتها - بدا قانعا بطريقة تنم عن النبل. كان لدى ميليسينت صورة متخيلة عنه هو ودوري وهما يرتقيان ظهر الفيلة في ثياب رسمية، تسير بهما الدواب بمشقة، ويعيشان المغامرة معا. مجرد رؤية. كانت متفائلة إلى أبعد الحدود، شاعرة بالارتياح، وهمست لدوري قائلة: «سيجوب بك العالم كله! سيجعلك ملكة!» •••
بعدها ببضع سنوات، كتبت دوري من أستراليا قائلة: «زاد وزني بشدة، فأصبحت أشبه ملكة تونجا.» ثمة صورة ملحقة برسالتها أثبتت أنها لم تكن تبالغ في قولها. كان شعرها أبيض، وبشرتها بنية، وكأن نمشها ذاب على بشرتها وخضبها بالكامل. كانت ترتدي معطفا كبيرا يشع بألوان الأزهار الاستوائية. اندلعت الحرب ووضعت حدا لفكرة السفر إلى أي مكان، وعندما وضعت الحرب أوزارها، كان ويلكي يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تبرح دوري كوينزلاند حيث عاشت في مزرعة كبيرة، وعكفت على زراعة قصب السكر والأناناس والقطن والفول السوداني والتبغ. كانت تركب الخيل على الرغم من حجمها، وتعلمت أيضا قيادة الطائرات، وحلقت وحدها بضع مرات في تلك البقعة من العالم، واصطادت التماسيح. وقضت نحبها في الخمسينيات من عمرها في نيوزيلندا وهي تتسلق جبلا كي تتطلع إلى أحد البراكين.
أخبرت ميليسينت الجميع بما زعمت أنها لن تفصح عنه. وبالطبع كان لها الفضل. تذكرت مصدر وحيها، تذكرت حيلتها بلا ندم، قالت: «كان على أحدهم أن يأخذ بزمام الأمور.» شعرت أنها نجحت أن تهب دوري حياة جديدة على نحو أكثر فاعلية مما فعلت مع أبنائها؛ فقد خلقت حالة من السعادة، أو ما شابه ذلك. نسيت كيف بكت دون أن تعرف السبب.
كان لحفل الزفاف أثره على موريل، فقد قدمت استقالتها، وسافرت إلى ألبرتا، قالت: «سأمنح نفسي مهلة عام.» وفي غضون عام، كانت قد عثرت على زوج يختلف كل الاختلاف عن الرجال الذين كانت تعرفهم في الماضي. كان رجلا أرمل لديه طفلان صغيران؛ كان قسا مسيحيا. تعجبت ميليسينت من وصف موريل له، أليس جميع القساوسة مسيحيين؟ عندما عادا لزيارتها - بعد أن أمسى عندهما طفلان آخران - فهمت الهدف من هذا الوصف؛ فقد طويت صفحة التدخين وشرب الخمر والسباب وكذلك التبرج، ونوعية الموسيقى التي اعتادت موريل على عزفها؛ أمست تعزف الآن تراتيل كتلك التي كانت تسخر منها في السابق. وأضحت لا تهتم بألوان ثيابها، ولا تستخدم مثبتا جيدا لشعرها الذي أصابه الشيب وبرز عند جبهتها متجعدا. قالت: «عندما أسترجع فترات كثيرة من حياتي السابقة، أشعر بالغثيان.» وأحست ميليسينت أن موريل تحسبها هي وبورتر على أغلب الظن من المنتمين إلى تلك الأوقات التي كانت تشعرها بالغثيان. •••
لم يبع البيت أو يؤجر لأحد. ولم يهدم أيضا، فبنيانه كان قويا لدرجة أنه لم ينهر بسرعة. كان من الممكن أن يصمد لسنين طويلة، ويحتفظ بشكله المقبول. من الممكن أن تتفرع الشقوق بين الطوب دون أن ينهار الجدار. أطر النوافذ كانت مائلة، لكن النوافذ لم تسقط. وكانت الأبواب موصدة، لكن يحتمل أن الأطفال تسللوا ليكتبوا على الجدران، ويكسروا الآنية الفخارية التي خلفتها دوري وراءها. لم تدخل ميليسينت إلى البيت قط لتلقي نظرة.
كان ثمة شيء اعتاد كل من دوري وألبرت القيام به، وبعدها أمست دوري تفعله وحدها ... لا بد أنهما اعتادا عليه في طفولتهما. كل عام في فصل الخريف، كانا يجمعان - ثم هي من بعده - كل الجوز الذي يسقط من الأشجار، وكانا يعكفان على جمع عدد أقل شيئا فشيئا من ثمار الجوز حتى يوقنان إلى حد كبير بأنهما جمعا آخر ثمرة، أو على الأقل الثمرة قبل الأخيرة، ثم يعدان ما جمعاه، ويدونان الإجمالي على جدار القبو؛ التاريخ والعام والإجمالي. لم تكن ثمار الجوز تستخدم في أي شيء ما إن تجمع، بل كان يلقى بها بطول الحقل وتترك حتى تتعفن.
لم تواصل ميليسينت هذه المهمة العقيمة بعد دوري، فقد كان لديها الكثير من المهام الأخرى التي يجب أن تضطلع بها، وكثير من المهام المتعلقة بأطفالها. ولكن، عندما آن أوان سقوط ثمار الجوز على العشب الطويل، كانت تفكر في هذه العادة، وكيف أن دوري كانت تتوقع ألا تنقطع عنها حتى مماتها. حياة حافلة بالعادات، بالمواسم؛ ثمار الجوز تسقط، وفئران المسك تسبح في جدول الماء. لا بد أن دوري ظنت أن هذه هي الحياة المقدرة لها، هذه الحياة الغريبة الأطوار نوعا ما، لا بد أنها ظنت أن القدر كتب لها أن تحيا حياة الوحدة التي يمكنها أن تتحملها. الأرجح أنها كانت ستشتري كلبا آخر.
حدثت ميليسينت نفسها بأنها لم تكن لتسمح لها بذلك، لم تكن لتسمح بذلك، ولا شك أنها على حق. لقد عاشت حتى طعنت في السن، وما زالت على قيد الحياة، ولو أن بورتر مات منذ عقود. البيت لا يلفت انتباهها كثيرا، ها هو قابع هناك وكفى. لكن بين الحين والآخر، ترى واجهته التي ملأتها الشقوق، نوافذه الخاوية المائلة، وأشجار الجوز خلفه تفقد مرارا وتكرارا ظلتها الرقيقة من الأوراق.
قالت إنه حري بها أن تهدم هذا البيت، وتبيع لبناته، وتساءلت لماذا لم تقدم على ذلك حتى الآن.
العذراء الألبانية
في جبال مقاطعة مالتسيا إي ماد، لا بد أنها حاولت أن تخبرهم باسمها، لكنهم لم يفهموا منها سوى «لوتار». كانت مصابة في ساقها من جراء السقوط على صخور حادة عندما أصيب مرشدها بطلق ناري. كانت تعاني من حمى. لم تكن تعلم كم من الوقت مضى حتى نقلوها عبر الجبال، بعد أن لفوها بدثار غليظ ووضعوها بإحكام على ظهر حصان. أعطوها ماء حتى تشرب بين الحين والآخر، وأحيانا كانوا يقدمون لها شرابا مسكرا قويا جدا يسمونه «راكي»، وهو ضرب من البراندي. رائحة أشجار الصنوبر كانت تتسلل إلى أنفها. ذات مرة، كانوا على متن قارب، فاستيقظت وتطلعت إلى النجوم وهي تلمع ويخبو بريقها وتتبدل مواقعها - عناقيد غير مستقرة جعلتها تشعر بالغثيان. لاحقا أدركت أنهم في البحيرة لا محالة؛ بحيرة سكوتاري أو سكودر أو سكودرا. توقفوا بين أعواد القصب ... كان البساط يعج بالحشرات الضارة التي تسللت تحت الخرقة المربوطة حول ساقها.
في نهاية رحلتها، ولو أنها لم تكن تعلم أنها النهاية، كانت مستلقية في كوخ صغير من الأحجار، وكان هذا الكوخ هو البناء الخارجي الملحق ببيت كبير يعرف باسم «كولا»، كان كوخا للمرضى والمحتضرين. لم يكن مخصصا للولادة؛ فنساء هذه البقعة كن ينجبن في الحقول أو على قارعة الطريق بينما كن يحملن حملا إلى السوق.
ربما مضى عليها أسابيع وهي مستلقية على فراش من السرخسيات المتراكمة. كان الفراش مريحا ويمكن تبديله بسهولة إذا ما تلوث أو لامسه الدم. كان اسم العجوز التي تتعهدها بالرعاية تيما. سدت جرحها بمعجون مصنوع من شمع النحل وزيت الزيتون وراتنج الصنوبر. كانت الضمادة تستبدل عدة مرات يوميا، وكان الجرح يغسل بشراب «راكي». استطاعت لوتار أن ترى ستائر سوداء تتدلى من العوارض الخشبية، وحسبت أنها بغرفتها في بيتها بصحبة أمها (التي كانت قد توفيت) والتي كانت تتعهدها بالرعاية. سألت: «لم علقت هذه الستائر؟ إنها تبدو بشعة!»
كانت ترى بالفعل خيوط عنكبوت، خيوطا غليظة ومغطاة بالغبار، خيوط عنكبوت قديمة، لم يمسسها شيء على مدار السنين .
وفي هذيانها، شعرت أيضا بلوح عريض يضغط على وجهها؛ شيء أشبه بلوح التابوت. لكن عندما عادت إلى رشدها، أدركت أن هذا الشيء لم يعد كونه صليبا؛ صليبا خشبيا أراد رجل أن يحملها على تقبيله. كان الرجل قسا فرنسيسكانيا، طويل القامة، صارم الملامح، أسود الحاجبين والشارب، كريه الرائحة، يحمل بخلاف الصليب مسدسا أدركت لاحقا أنه من نوع براونينج. علم من هيئتها أنها مسيحية - غير مسلمة - لكنه لم يدرك أنها ربما تكون ملحدة. كان يتحدث القليل من الإنجليزية، لكنه كان يلفظ الكلمات بطريقة صعب عليها فهمها، ولم تكن تعرف آنذاك شيئا من لغة الجيج. لكن بعد أن هدأت الحمى، وعندما حاول أن يتحدث إليها بالإيطالية، استطاعا أن يتبادلا أطراف الحديث لأنها كانت قد تعلمت الإيطالية في المدرسة، وجابت إيطاليا لمدة ستة أشهر. أدرك أكثر بكثير من أي شخص ممن حولها أنها كانت تتوقع منه - في البداية - أن يفهم كل ما تقوله.
سألته عن أقرب مدينة، فأجابها أنها سكودرا. طلبت منه أن يقصد هذه المدينة، ويبحث عن القنصل البريطاني، إن وجد. أنا أنتمي إلى الإمبراطورية البريطانية. قل لهم إنني هنا، أو إذا لم تجد قنصلا، فاذهب إلى مخفر الشرطة.
لم تكن تعي أن أحدا لن يقصد مخفر الشرطة أبدا تحت أي ظرف، لم تكن تعلم أنها أصبحت تنتمي الآن إلى هذه القبيلة التي تدعى «كولا»، حتى بالرغم من أنهم لم تكن لديهم نية قط لاحتجازها، بل كان ما حدث خطأ محرجا.
فالهجوم على امرأة أمر مخز على نحو لا يصدق. عندما أطلقوا النار على مرشدها وأردوه قتيلا، حسبوا أنها ستعود أدراجها على صهوة جوادها، وتسلك طريق الهبوط من الجبل وصولا إلى الحانة. لكن جوادها أصابه الذعر من صوت الرصاص، وتعثر بين الصخور، فسقطت عن صهوته، وأصيبت بجرح في ساقها؛ ومن ثم لم يكن ثمة خيار أمامهم سوى حملها معهم إلى القبيلة عبر الحدود الفاصلة بين كرنا جورا (التي تعني «الصخرة السوداء» أو مونتينيجرو) ومنطقة مالتسيا إي ماد.
سألت ظنا منها أن السرقة هي الدافع: «ولكن، لم سرقتم مرشدي ولم تسرقوني؟» فكرت كم بدا الرجل وحصانه يتضوران جوعا، وسرحت بأفكارها في الخرق البيضاء المتطايرة من عصابة رأسه.
قال القس الفرنسيسكاني مذهولا: «أوه، إنهم ليسوا لصوصا! إنهم رجال شرفاء. لقد أطلقوا النار عليه لأن بينهم وبينه ثأرا، بينهم وبين عائلته. هذا هو قانونهم.»
قال لها إن الرجل الذي أصيب بطلق ناري - ويعني مرشدها - قتل رجلا من قبيلة «كولا» هذه. ولقد قتله مرشدك؛ لأن رجلا من هذه القبيلة قتل رجلا من قبيلة مرشدك. هكذا يدورون في حلقة مفرغة، وهكذا كان الوضع لفترة طويلة، كان هناك دوما المزيد من الأبناء الذين يأتون إلى الحياة. إنهم يعتقدون أن لديهم من الأبناء ما يتجاوز أبناء غيرهم في شتى أنحاء العالم، وكثرتهم تفي بهذا الغرض وتسد هذه الحاجة الماسة.
اختتم القس الفرنسيسكاني كلامه قائلا: «حسن، إنها لجريمة بشعة! لكنها ارتكبت صونا لشرفهم، وشرف عائلتهم. إنهم دوما على استعداد للموت من أجل شرفهم.»
قالت لو كان مرشدها قد فر إلى كرنا جورا، فلم يكن ذلك ليوحي بأنه كان على أهبة الاستعداد.
سألها القس الفرنسيسكاني: «لكن ذلك لم يحدث أي فارق، أليس كذلك؟ حتى لو كان قد فر إلى أمريكا، فلم يكن ذلك ليحدث فارقا.» •••
في مدينة تيريستي ركبت سفينة بخارية لتبحر بطول ساحل دالماتيا. كانت برفقة صديقيها السيد كوزينز وزوجته اللذين التقت بهما في إيطاليا، وصديقهما الدكتور لام الذي انضم إليهما من إنجلترا، ورست بهم السفينة في ميناء بار الصغير الذي يسميه الطليان أنتيفاري، وباتوا ليلتهم في الفندق الأوروبي. بعد العشاء، جالوا في الشرفة، كانت السيدة كوزينز تهاب البرد، فعادوا إلى الداخل ولعبوا لعبة الورق. كان الجو ممطرا ليلا؛ استيقظت وأنصتت لصوت قطرات المياه، وشعرت بإحباط شديد أثار عندها إحساسا بالاشمئزاز تجاه هؤلاء الأشخاص الذين ينتمون للعصور الوسطى، وخاصة السيد لام الذي تعتقد أن آل كوزينز دعواه للمجيء من إنجلترا لتلتقي به. لعلهما ظنا أنها ثرية! ربما حسباها وريثة لثروة طائلة تجوب الأطلسي بلكنتها الغريبة التي يستطيعان بالكاد أن يتغاضيا عنها . هؤلاء الناس يأكلون بشراهة، ثم يضطرون إلى تعاطي أقراص طبية. وكان القلق يساورهم من الوجود في أماكن غريبة. لم جاءوا إذن؟ في الصباح، سيتعين عليها العودة بصحبتهم إلى السفينة وإلا أحدثوا جلبة. لم يكونوا ليسلكوا الطريق الجبلي أبدا إلى سيتيني - عاصمة مونتينيجرو - فقد قيل لهم إنه ليس من الحكمة سلوك ذاك الطريق. هي لن ترى أبدا برج الأجراس الذي كانت رءوس الأتراك تتدلى منه، أو شجرة الدلب التي اجتمع الناس حولها ليستمعوا لأمير الشعراء. لم تستطع أن تخلد إلى النوم مجددا، فقررت أن تنزل مع أول ضوء للنهار حتى لو استمرت الأمطار في هطولها، وأن تقطع ولو مسافة بسيطة من الطريق لترى فقط الأطلال التي كانت تعرف أنها موجودة هناك بين أشجار الزيتون، والقلعة النمساوية القابعة على صخرتها، والوجه المظلم لجبل لوفتشين.
شجعها الجو على المضي قدما في خططها، وكذلك موظف الاستقبال بالفندق الذي استدعى لها على الفور مرشدا رث الهيئة ولكن بشوش الوجه، مع حصانه الهزيل. وانطلقا، هي على صهوة الحصان، ومرشدها سائر على قدميه. كان الطريق منحدرا ومليئا بالمنحنيات والصخور، والشمس تزداد حرارة، والظل المتقطع باردا ومظلما. شعرت بالجوع يداهمها، وفكرت في ضرورة أن تعود أدراجها قريبا. كانت ستتناول طعام الإفطار مع رفاقها الذين يستيقظون في وقت متأخر.
لا شك أن البحث جار عنها الآن بعد العثور على جثة المرشد. لا بد أن السلطات لديها علم بالواقعة - أيا كانت هذه السلطات - ولا بد أن السفينة البخارية أبحرت في موعدها المحدد، وأن أصدقاءها رحلوا على متنها. لم تحتفظ إدارة الفندق بجوازات سفرهم، ولم يكن أحد في كندا ليفكر في التحقق من الأمر؛ فهي لم تكن تراسل أحدا بانتظام، انقطعت الاتصالات بينها وبين أخيها إثر وفاة والديها. قال لها أخوها ذات مرة إنها لن تعود إلى أرض الوطن إلا بعد أن تنفق إرثها كله، وتساءل عمن سيتعهدها بالرعاية حينئذ.
عندما كانت محمولة على الأعناق عبر غابة الصنوبر، أفاقت ووجدت نفسها مكبلة ومستسلمة - على الرغم من الألم، ربما بفعل شراب «راكي » - استسلام المذهول. استقرت عيناها على الحزمة التي كانت متدلية من سرج الرجل السائر أمامها، ترتطم بمؤخرة الحصان، كانت بحجم ثمرة الكرنب الملفوفة في قماش متيبس ورث الهيئة. •••
سمعت هذه القصة في مستشفى سانت جوزيف القديم في فيكتوريا من شارلوت التي كانت صديقتي خلال أيامي الأولى هناك. بدت صداقاتي حينئذ حميمة وغامضة. لم أعرف قط لماذا كان الناس يقصون علي قصصهم، أو ما الذي أرادوا مني تصديقه.
جئت إلى المستشفى بالورود والشيكولاتة. رفعت شارلوت رأسها بشعرها المقصوص الخفيف الأبيض اللون لترى الورود، وقالت: «عجبا! لا رائحة لها! على الأقل بالنسبة إلي. إنها جميلة لا شك.» وأضافت: «يجب أن تأكلي الشيكولاتة بنفسك، فكل شيء طعمه كالقطران في فمي. لا أدري كيف تأتى لي أن أعرف طعم القطران، ولكن هذا هو ظني.»
كانت محمومة، وعندما أمسكت بيدها، وجدتها ساخنة ومتورمة. قص أحدهم شعرها بالكامل مما جعلها تبدو وكأنها فقدت بعضا من لحمها المحيط بوجهها وعنقها، وبدا الجزء المغطى من جسدها بملاءات المستشفى مترهلا ومتكتلا كما هو شأنه دائما.
قالت: «لكن لا تحسبي أنني ناكرة للجميل! اجلسي، أحضري الكرسي الذي هناك، فهي لا تحتاجه.» كان في الغرفة امرأتان أخريان؛ إحداهما بدت وكأنها حفنة من الشعر الأشيب المائل إلى الصفرة موضوعا على الوسادة، والأخرى مقيدة في مقعدها تتلوى وتتذمر.
قالت شارلوت: «هذا مكان مريع! لكن يجب أن نبذل قصارى جهدنا فحسب للتكيف معه. إنني مسرورة جدا لرؤيتك.» وأضافت مشيرة برأسها تجاه السرير المجاور للنافذة: «هذه المرأة لا تكف عن الصراخ طوال الليل. علينا أن نحمد الرب على أنها نائمة الآن. لا يداعب النوم جفوني مطلقا، لكنني أستغل الوقت على الوجه الأمثل. ماذا كنت أفعل في رأيك؟ كنت أعكف على تأليف قصة لفيلم سينمائي! كل تفاصيلها في ذاكرتي، وأريد أن أقصها عليك. تستطيعين الحكم عليها بما إن كانت تصلح لفيلم جيد أم لا. أعتقد أنها تصلح لفيلم جيد. أريد أن تلعب جينيفر جونز دور البطولة فيه؛ ومع ذلك، فإنني لست متأكدة، فهي لم تعد تحتفظ بنفس الروح؛ فقد تزوجت من ذلك المغولي.»
قالت: «اسمعي - لكن هلا رفعت هذه الوسادة قليلا، وراء رأسي؟ - أحداث الرواية تدور في ألبانيا، وتحديدا شمالي ألبانيا التي كانت تعرف حينئذ باسم مالتسيا إي ماد في عشرينيات القرن العشرين عندما كانت الحياة بدائية جدا. تحكي قصة فتاة صغيرة تسافر وحدها، اسمها في القصة لوتار.»
جلست وأعرتها انتباهي، كانت شارلوت تميل للأمام، بل إنها حتى تتأرجح بعض الشيء على فراشها غير الوثير لتؤكد لي على نقطة ما. كانت تلوح بيديها المتورمتين لأعلى ولأسفل، وعيناها الزرقاوان اتسعتا في حسم، ثم من آن لآخر كانت تتكئ على الوسادة مجددا، وتغلق عينيها لكي تستجمع تفاصيل القصة. قالت: نعم، نعم. ثم تابعت الحكاية.
وأخيرا قالت: «نعم، نعم. أعرف كيف تسير الأحداث، ولكن كفاك هذا القدر الآن. عليك العودة غدا لتتعرفي على المزيد. غدا، هل ستأتين؟»
أجبتها: «نعم، غدا.» وبدا أن النعاس غلبها قبل أن تسمع إجابتي. •••
كان «الكولا» عبارة عن بيت رائع من الأحجار الخشنة يحتوي على إسطبل في الطابق السفلي وأماكن المعيشة في الطابق العلوي. وثمة شرفة كانت تحيط به في كل الجهات، وكانت هناك دوما امرأة عجوز تجلس بالشرفة تحمل أداة غريبة مزودة ببكرة، تطير كطائر حائر من يدها اليمنى إلى اليسرى تاركة شريطا أسود لامعا. أميال متتابعة من الشرائط السوداء اللامعة التي تزين جميع سراويل الرجال. ثمة نساء أخريات كن يعملن على الأنوال، أو يرقعن الصنادل الجلدية معا. لم يجلس أحد هناك ليحيك شيئا؛ لأن أحدا لم يفكر في الجلوس لإنجاز أعمال الحياكة. الحياكة عمل كن يضطلعن به كلما ذهبن إلى ينبوع الماء ويرجعن منه ودلاء المياه مربوطة على ظهورهن، أو كلما سلكن الدرب المؤدي إلى الحقول أو إلى غابة أشجار الزان حيث كن يجمعن الفروع الساقطة. كن يغزلن الجوارب - باللونين الأسود والأبيض، أو باللونين الأحمر والأبيض - بخطوط متعرجة كضربات البرق. يجب ألا تترك النساء بلا عمل. قبل الفجر، كن يعجن دقيق الخبز في وعاء خشبي استحال لونه إلى السواد، ويشكلنه في صورة أرغفة من الخبز على الصاج المعد لذلك، ويخبزنه على الموقد (كان خبزا غير مختمر من الذرة، يؤكل ساخنا وينتفخ كالفطر النفاث في المعدة). وبعدها، كن يكنسن «الكولا»، ويلقين بالسراخس العفنة، ويجمعن حمل أذرعهن من السراخس النضرة للنوم عليها الليلة التالية. كانت هذه عادة إحدى المهام التي اضطلعت بها لوتار بما أنها لم تكن بارعة فيما خلاها من مهام. الفتيات الصغار كن يقلبن الزبادي حتى لا يتكتل وهو يتخمر، أما الفتيات الأكبر سنا، فربما ينحرن عنزة صغيرة، ويخطن بطنها بعد أن يحشينها بالثوم البري والمريمية والتفاح، أو قد يذهبن معا؛ النساء والفتيات من كل الأعمار، ليغسلن الأوشحة البيضاء للرجال في مياه النهر القريب، الباردة والصافية صفاء الزجاج. كن يتعهدن محصول التبغ بالرعاية، ويعلقن أوراقه الناضجة لتجف في الحظيرة المعتمة، ويعزقن الذرة والخيار، ويحلبن النعاج.
بدت النساء صارمات، لكنهن لم يكن كذلك في واقع الأمر؛ جل ما في الأمر أنهن كن منشغلات، ومتفاخرات بأنفسهن، وكلهن حماس للمنافسة؛ من يقدر على رفع أكبر حمل من الخشب؟ من الأسرع في الحياكة وفي قطع أكبر عدد من صفوف أعواد الذرة؟ كانت تيما، التي تعهدت لوتار بالرعاية في مرضها، أبرز النساء العاملات على الإطلاق؛ فقد كانت تقطع المنحدر المؤدي إلى «الكولا» عدوا حاملة على ظهرها حملا من الخشب بدا أنه عشرة أمثال حجمها، وكانت تقفز من صخرة إلى أخرى في النهر، وتزيح الأوشحة وكأنها تنهال ضربا على الأعداء. كان النسوة يهللن «أوه، تيما، تيما!» بإعجاب ساخر، و«أوه، لوتار، لوتار!» بالنبرة نفسها تقريبا عندما تركت لوتار - التي هي على العكس تماما من تيما فيما يتعلق بجدواها - الملابس تنجرف بعيدا في النهر. أحيانا كن يضربن لوتار بعصا كما يضربن الحمير، لكنه ضرب يحمل في طياته السخط لا القسوة، وأحيانا ما كان الصغار يقولون: «تحدثي بلغتك!» فتتحدث الإنجليزية لتسليتهم. كن يتجهمن ويبصقن تأففا من تلك الأصوات الغريبة التي تصدرها. حاولت أن تعلمهن بعض الكلمات - «يد» و«أنف» وما إلى ذلك - لكن هذه الكلمات بدت مضحكة بالنسبة إليهن، فكانت الواحدة منهن ترددها على مسامع الأخريات، فيقعن على الأرض من فرط الضحك.
كانت النساء ترافقن النساء، والرجال بصحبة الرجال، باستثناء بعض الأوقات ليلا (النساء اللائي كن يتعرضن للسخرية بشأن تلك الأوقات كن يشعرن بحالة من الإحراج الشديد والرفض، وأحيانا ما كن يصفعن من يمازحهن بشأنها)، وفي أوقات الوجبات التي تقدم فيها النساء الطعام للرجال. ولم يكن للنساء أي دخل بما يفعله الرجال طوال اليوم؛ كان الرجال يصنعون ذخائرهم، ويولون عناية خاصة لبنادقهم التي كانت توضع في صناديق جميلة مزدانة بنقوش فضية، وكانوا ينسفون الصخور بالديناميت أيضا لإخلاء الطريق، ويتحملون مسئولية الجياد. أينما كانوا، كانت ضحكاتهم وأناشيدهم تتعالى، وتمتزج بأصوات إطلاق العيارات الفارغة، والأوقات التي كانوا يمضونها بالبيت، كانت بمنزلة إجازة بالنسبة إليهم، ثم كان بعضهم ينطلق على صهوة حصانه في رحلة لإنزال العقاب بأحدهم، أو لحضور مجلس كان يعقد لوضع حد لسلسلة من عمليات القتل. ولم تكن تؤمن أي من النساء بأن تلك المجالس تجدي نفعا؛ كن يضحكن ويقلن إنها ستفضي فحسب إلى مقتل 20 آخرين. وكلما انطلق شاب في أول مهمة قتل له، كانت النسوة يحدثن جلبة كبيرة بشأن ملابسه وتسريحة شعره لتشجيعه. وإذا أخفق، لم يكن يجد لنفسه زوجة؛ فأي امرأة مهما بلغت منزلتها كانت تخجل أن تتزوج رجلا لم يسبق له أن قتل. والجميع كانوا تواقين لوجود عرائس جدد بالبيت ليساعدن في أعماله.
ذات ليلة، بينما كانت لوتار تقدم الطعام لواحد من الرجال - وكان ضيفا؛ حيث جرى العرف دوما على دعوة ضيوف لتناول الوجبات على الطاولة المنخفضة التي يسمونها «سفرة» - لفت انتباهها كم كانت كفاه صغيرتين، ومعصماه خاليين من الشعر، وعلى الرغم من ذلك لم يكن صغيرا، لم يكن صبيا؛ كان وجهه بلا شارب، مليئا بالتجاعيد. أنصتت لصوته وهو يتكلم، فبدا لها أجش ولو أنه أنثوي، لكنه كان يدخن، ويتناول طعامه بصحبة الرجال، ويحمل بندقية.
سألت لوتار زميلتها في تقديم الطعام: «أهذا رجل؟» هزت المرأة رأسها معربة عن عدم رغبتها في الكلام؛ حيث يمكن للرجال سماعهما، لكن الفتيات اللائي سمعن سؤالها لم يكن حريصات قط؛ أخذن يقلدن لوتار: «أهذا رجل؟ أهذا رجل؟ أوه، لوتار، يا لك من ساذجة! ألا تميزين العذراء عندما ترين واحدة؟»
لم تسألهم عن شيء آخر، لكن في المرة التالية التي وقعت فيها عيناها على القس الفرنسيسكاني، جاءته هرولة لتطرح عليه سؤالها: ما العذراء؟ كان عليها أن تتعقبه؛ لأنه لم يكن يتوقف ويتبادل معها أطراف الحديث كما كانت عادته لما كانت طريحة الفراش في الكوخ. كانت دوما تعمل حين يحضر إلى «الكولا»، ولم يكن بوسعه تمضية وقت طويل مع النسوة على أية حال؛ فقد كان يجالس الرجال. لاحقته عندما رأته يهم بالرحيل بخطواته السريعة على الطريق المحاط بأشجار السماق، متجها نحو الكنيسة الخشبية العارية، وصولا إلى البيت المتاخم للكنيسة حيث كان يقيم.
قال: إنها كانت امرأة، ولكنها امرأة صارت كالرجال؛ فهي لم ترد أن تتزوج، وقطعت على نفسها عهدا على مرأى ومسمع من الناس بأنها لن تتزوج أبدا، ثم ارتدت ثياب الرجال، وأصبحت لديها بندقيتها الخاصة. بإمكانها اقتناء حصان إن استطاعت، وهي تعيش كيفما يحلو لها. كانت فقيرة عادة، ولم تكن هناك نساء يعملن لديها، لكن أحدا لم يكن يضايقها، وصار بإمكانها مشاركة الرجال الطعام على «السفرة».
لم تعد لوتار تتحدث مع القس بشأن الذهاب إلى سكودرا؛ فقد استوعبت أن المسافة التي تفصلها عنها لا بد أنها طويلة جدا. كانت أحيانا تسأله عما إذا كان سمع خبرا يعنيها، وما إذا كان أحد بصدد البحث عنها، فيجيبها بتجهم أن لا أحد فعل. وكلما فكرت كيف كانت تتصرف خلال الأسابيع الأولى التي عاشتها هنا - تملي على الآخرين الأوامر، وتتكلم الإنجليزية دون حرج، وتعتقد يقينا أن حالتها الخاصة جديرة بالاهتمام - خالجها شعور بالخزي من ضيق أفقها وقلة استيعابها للأمور. وكلما طال بها الأمد في «الكولا»، برعت أكثر في استخدام لغة قومها، واعتادت على العمل، وبدت لها فكرة الرحيل أمرا مستغربا. يوما ما سيتعين عليها الرحيل، لكن كيف يتسنى لها ذلك الآن؟ كيف ترحل في منتصف موسم جمع التبغ، أو حصاد السماق، أو في خضم التجهيزات للاحتفال بعيد نقل رفات القديس نيكولاس؟
في حقول التبغ، كن يخلعن ستراتهن الضيقة وقمصانهن، ويعملن نصف عاريات تحت أشعة الشمس الحارقة، متخفيات بين صفوف النباتات العالية. كانت عصارة التبغ داكنة وثخينة كدبس السكر، وكانت تسيل على أذرعهن وتلطخ صدورهن. في الغسق، كن يقصدن النهر ويغتسلن، ويخضن في المياه الباردة، فتيات ونساء؛ حيث كانت الواحدة منهن تحاول دفع الأخريات ليفقدن توازنهن، وسمعت لوتار اسمها يتردد بنبرات تحذير وانتصار دون احتقار، شأنه شأن غيره من الأسماء: «لوتار، حذار لوتار!»
أطلعنها على أشياء. قلن لها إن الأطفال يموتون هنا بسبب «ستريجا»، حتى الكبار يصيبهم الوهن ويموتون أحيانا عندما تلقي عليهم ال «ستريجا» تعويذتها. تبدو «ستريجا» وكأنها امرأة عادية؛ لذا لا يمكن لأحد الجزم بهويتها. إنها تمص الدماء، وإن شئت أن تأسرها، فلا بد من وضع صليب على عتبة الكنيسة في عيد الفصح عندما يكون الجميع بالداخل؛ حينئذ، سيتعذر على المرأة التي هي ال «ستريجا» الخروج، أو من الممكن تعقب المرأة المشتبه بها لتراها وهي تستفرغ دما. وإذا استطعت أن تأخذ عينة من هذا الدم على عملة فضية، وتحملها في جعبتك، فلن تمسك أي «ستريجا» أبدا بسوء.
ستستحيل قصة الشعر عند اكتمال القمر إلى اللون الأبيض.
إذا كنت تعاني من آلام في الأطراف، فقص بعضا من شعر رأسك وإبطيك واحرقه؛ حينئذ ستختفي الآلام. «الأوراز» شياطين تخرج ليلا، وتومض وميضا زائفا لتربك المسافرين وتجعلهم يضلون الطريق. يجب أن تربض أرضا وتغطي رأسك، وإلا فسيسوقونك إلى جرف فتهلك، وكذلك فهم يحاصرون الجياد ويمتطونها حتى تهلك. •••
جمع التبغ وسيقت الأغنام من المنحدرات، وحوصر الحيوان والناس على حد سواء في «الكولا» خلال أسابيع الثلج والأمطار الباردة. وذات يوم، مع بشائر الدفء الأولى لشمس الربيع، ساقت النساء لوتار إلى الكرسي الموجود بالشرفة، وهناك في أجواء احتفالية سارة، قصصن الشعر الذي يعتلي جبينها تماما، ثم صففن بعض شعرها للوراء، وخللن ما تبقى منه بصبغة للشعر. كانت الصبغة زيتية حتى إن الشعر بدا متيبسا جدا، فصار بإمكانهن تشكيله على هيئة أجنحة وكعكات. الجميع احتشدن من حولها؛ منهن المنتقد ومنهن المعجب. وضعن دقيقا على وجهها، وألبسنها ثيابا أخرجنها من واحدة من الخزائن الضخمة المنحوتة. تساءلت عن السبب وراء هذه الجلبة، بينما وجدت نفسها تختفي داخل بلوزة بيضاء مزركشة بنقوش ذهبية، وصدرية حمراء ذات كتفيتين محشوتين، ووشاح من الحرير المخطط يبلغ عرضه ياردة كاملة، وطوله اثنتا عشرة ياردة، وتنورة صوفية يجتمع فيها اللونان الأسود والأحمر، بالإضافة إلى سلسلة تلو أخرى من الذهب الزائف الموضوع على شعرها وحول عنقها. قلن لها إن السبب إبراز جمالها، وعندما انتهين قلن: «انظروا! إنها جميلة!» نطقنها بانتصار وتحد لمن شككن في إمكانية تحقيق التحول. ضغطن عضلات ذراعيها التي تشكلت من العزق وحمل الأخشاب، وربتن على جبينها المغطى بالدقيق، ثم صحن لأنهن نسين شيئا مهما جدا؛ قلم التبرج الأسود الذي يصل ما بين الحاجبين بخط واحد أعلى الأنف.
صاحت إحدى الفتيات اللاتي لا بد أن إحداهن أوكلت إليها مهمة الاستطلاع: «القس قادم!» فقالت النسوة اللائي كن يرسمن الخط الأسود: «لن يعطلنا!» لكن الأخريات تنحين جانبا.
أطلق القس الفرنسيسكاني عيارين فارغين في الهواء إيذانا بوصوله كعادته دوما، وكذلك فعل الرجال الموجودون بالبيت ترحيبا به، لكنه لم يجالس الرجال هذه المرة. صعد إلى الشرفة مباشرة مناديا: «عار عليكن! عار عليكن!» وخاطب النسوة قائلا: «أعرف لم صبغتن شعرها. أعرف لم ألبستنها ثياب العروس. كل ذلك من أجل مسلم حقير!»
قال للوتار: «أنت! أنت التي تجلسين في زينتك هكذا؛ ألا تعرفين لم تلك الزينة؟ ألا تعرفين أنهم باعوك إلى مسلم؟ سيأتي من فوتهاج، سيأتي إلى هنا بحلول الظلام!»
قالت واحدة من النسوة بجرأة: «وما العيب في ذلك؟ الثلاثة الذين جاءوا بهم من أجلها كانت شخصياتهم أشبه بنابليون. يجب أن تتزوج أحدا على أية حال.»
أخبرها القس الفرنسيسكاني أن تخرس، وسأل لوتار: «أهذا ما تبغين؟ أتريدين الزواج من كافر والعيش معه في فوتهاج؟»
أجابت لوتار أن لا، وشعرت كأنها لا تقوى على الحركة أو الكلام تحت ثقل شعرها المدهون بالزيت وحليها وملابسها المبهرجة. تحت ثقل هذه الأشياء، عانت معاناة من يحمل نفسه على الاستيقاظ ليواجه خطرا محدقا به. كانت فكرة الزواج من مسلم أبعد من أن تمثل هذا الخطر - جل ما استوعبته أنها ستعزل عن القس، ولن يتسنى لها بعد الآن أبدا أن تطالبه بأي تفسير.
سألها: «هل كنت تعلمين أنهم سيزوجونك؟ أهذه رغبتك؟ أن تتزوجي؟»
أجابت أن لا، لا. فصفق القس الفرنسيسكاني بيديه وقال: «اخلعن عنها هذه الزينة الذهبية الزائفة وتلك الملابس! سأعلنها عذراء!» وخاطبها قائلا: «إذا صرت عذراء، فستكون الأمور على ما يرام، ولن يضطر المسلم أن يطلق النار على أحد، ولكن يجب أن تقسمي على ألا ترافقي رجلا أبدا. يجب أن تقسمي في حضرة شهود. يجب أن تقسمي بالحجر والصليب. هل تفهمين ذلك؟ لن أدعهم يزوجونك لمسلم، لكنني لا أريد أن يستمر سفك الدماء على هذه الأرض.»
من بين الأمور التي كان القس يحاول جاهدا أن يمنعها بيع النساء إلى الرجال المسلمين، فقد كانت ثائرته تثور بسبب ذلك. كانت فكرة تنحية العقيدة جانبا بهذه السهولة تجعله يستشيط غضبا. كانوا يبيعون للرجال المسلمين فتيات، مثل لوتار، لا يتمكنون من بيعهن بأي طريق آخر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرامل اللائي لم ينجبن سوى الإناث.
على مهل وبحزن، نزع النسوة عنها كل الملابس الفاخرة، وجئن بسروال رجالي رث دون حزام، وقميص ووشاح للرأس ارتدتها لوتار، وقصت امرأة تحمل مقصا قبيح المنظر معظم ما تبقى من شعر لوتار الذي كان يصعب قصه بسبب ما ترتديه.
قلن لها: «كان من الممكن أن تكوني عروسا غدا.» وأبدى بعضهن حزنهن، بينما أبدى البعض الآخر احتقارهن: «لن تكون لك ذرية أبدا الآن.»
تسابقت الفتيات على اختطاف الشعر الذي سقط من رأسها، ووضعنه على رءوسهن، وأخذن يرتبنه على هيئة عقد وشرائط.
حلفت لوتار اليمين على مرأى ومسمع من اثني عشر شاهدا كانوا جميعهم - بطبيعة الحال - رجالا، وبدوا متجهمين شأنهم شأن النسوة تماما حيال التحول الذي طرأ على الأحداث. لم تر المسلم الذي تقدم للزواج منها قط. حقر القس الفرنسيسكاني من شأن الرجل، وهدد بأن هذه العادة إن لم تنته، فسوف يوصد أبواب مدفن الكنيسة، ويتركهم يدفنون موتاهم في أراض غير مقدسة. كانت لوتار على مسافة واحدة منهم جميعا بملابسها غير التقليدية. كان من الغريب وغير المريح أن تظل عاطلة عن العمل. عندما انتهى القس الفرنسيسكاني من نوبة التوبيخ هذه، تقدم نحوها وظل يرمقها واقفا، وكانت أنفاسه متلاحقة إما بسبب ثورة غضبه، وإما من فرط الجهود التي بذلها لإقناع حاضري عظته.
قال: «حسن.» ومد يده في طية في ملابسه وأخرج سيجارة وأعطاها إياها. كانت رائحة جلده تفوح منها. •••
أحضرت ممرضة عشاء شارلوت وكان يتكون من حساء خفيف وخوخ معلب. أزاحت شارلوت الغطاء عن الحساء وشمته وأشاحت بوجهها عنه. قالت: «ارحلي، ولا تنظري إلى هذا الحساء البشع. عودي غدا؛ فأنت تعلمين أن القصة لم تنته بعد.»
رافقتني الممرضة إلى الباب، وفور أن وصلنا إلى الممر قالت: «اللائي لا يشعرن بأن المكان بمنزلة بيت لهن هن الأكثر انتقادا للأوضاع؛ فهي ليست الأسهل مراسا على الإطلاق، لكن لا يسعك إلا أن تعجبي بها. لا تربطكما قرابة ما، أليس كذلك؟»
أجبتها أن بلى. «عندما جاءت كان الأمر مدهشا؛ كنا نخلع عنها أشياءها فأبدى أحدهم إعجابه بسوارها، فعرضته للبيع على الفور! أما زوجها فكان مختلفا. هل تعرفينه؟ ثمة فارق كبير بينه وبين زوجته.»
كان جوردي؛ زوج شارلوت، قد جاء إلى مكتبتي بنفسه في صبيحة يوم بارد، قبل ذلك بأقل من أسبوع؛ كان يجر عربة مليئة بالكتب التي لفها ببطانية. كان قد حاول أن يبيع لي بعض الكتب من قبل في شقتهما، وحسبت أن الكتب هذه المرة هي نفس كتب المرة السابقة. كنت قد شعرت بالارتباك حينذاك، ولكن الآن بعد أن صرت متحكمة في مصيري، أمسيت قادرة على الرفض القاطع والحاسم؛ قلت له: «لا.» فأنا لا أتعامل مع الكتب المستعملة، وهي لا تثير اهتمامي. أومأ جوردي إيماءة تفتقر إلى الكياسة وكأنني لم أكن بحاجة لأن أخبره بذلك، وكأن إجابتي لم تكن لها حيثية في حوارنا. أخذ يجمع الكتب واحدا تلو الآخر وهو يحثني على أن أتحسس أغلفة الكتب مصرا على أن ألاحظ جمال الصور، وأنبهر بتواريخ إصدار الكتب. اضطررت أن أكرر كلامي مرارا وتكرارا، واكتشفت أنني أردف كلامي باعتذارات رغما عني، وقرر أن يتعامل مع كل رفض من جهتي وكأنه موجه إلى كتاب واحد في كل مرة، فيأتيني بغيره بكل بساطة قائلا بسرعة: «وهذا أيضا! هذا كتاب جميل. ستلاحظين جماله. إنه عتيق جدا. انظري كم هو كتاب قديم وجميل!»
كانت كتب رحلات، وبعضها كان يرجع إلى بداية القرن. لم تكن قديمة جدا ولا جميلة جدا بصورها الباهتة غير واضحة المعالم؛ «رحلة عبر القمم المظلمة»، «ألبانيا الشاهقة»، «الأراضي الخفية لجنوب أوروبا».
قلت له: «سيتعين عليك الذهاب إلى مكتبة الكتب القديمة بشارع فورت. ليست بعيدة عن هنا.»
أصدر صوتا ينم عن الامتعاض، ربما أراد أن يبين لي من خلاله أنه يعرف مكان المكتبة خير المعرفة، أو أن يشير إلى أنه قام برحلة إلى هناك ولم تكلل رحلته بالنجاح، أو أن يوضح لي أن أغلب هذه الكتب اشتراها من هناك أساسا بطريقة أو بأخرى.
قلت برقة: «كيف حال شارلوت؟» لم أرها منذ فترة، ولو أنها اعتادت زيارة المكتبة كثيرا. كانت تجلب لي هدايا بسيطة؛ بن القهوة المغطى بالشيكولاتة ليمنحني طاقة، وقطعة من الصابون المصنوع كليا من الجلسرين لمكافحة آثار جفاف البشرة من فرط التعامل مع الورق، ومثقلة لتثبيت الورق بداخلها عينات من الصخور التي عثر عليها في مقاطعة كولومبيا البريطانية، ومزودة بقلم رصاص يضيء في الظلام (كي أستطيع تعبئة الفواتير حال انقطاع الكهرباء). كانت تحتسي القهوة بصحبتي، وتبادلني أطراف الحديث، وتجوب المكتبة، وتشغل حالها حين أنشغل عنها. خلال أيام الخريف الكئيبة العاصفة، اتشحت بعباءتها السوداء التي كانت المرة الأولى التي أراها ترتديها فيها، وحمت نفسها من المطر بمظلة سوداء عتيقة وصفتها بأنها خيمتها. ولما كانت تراني قد انشغلت مع زبون أكثر من اللازم، كانت تربت على كتفي برقة وتقول: «سأرحل في هدوء بخيمتي؛ سنواصل حديثنا في يوم آخر.»
ذات مرة، سألني زبون بصراحة: «من هذه المرأة؟ رأيتها في البلدة بصحبة زوجها. أعتقد أنه زوجها. ظننتهما بائعين جائلين.»
تساءلت ما إذا كانت شارلوت سمعت هذا الكلام. هل أحست ببرودة ولا مبالاة في سلوك موظفتي الجديدة؟ (بالتأكيد كانت شارلوت تعاملها بجفاء). ربما انشغلت عنها أكثر من اللازم. ولم أكن أظن فعلا أن زياراتها توقفت حقا؛ كنت أفضل الاعتقاد بأن الفترات الفاصلة بين زياراتها طالت لا أكثر ولا أقل، لسبب قد لا يمت لي بصلة. كنت مشغولة ومنهكة على أية حال عندما ظهرت شارلوت. كان عدد الكتب التي أبيعها مفاجأة سارة لي.
قالت الموظفة الجديدة لي: «لا أحب أن أشوه سمعة الناس، ولكن أعتقد أنه يجب أن تعلمي أن هذه المرأة وزوجها منعا من دخول الكثير من المحال في المدينة؛ فهما متهمان بالسرقة. لا أدري. إنه يرتدي معطفا مطاطيا طويل الكمين، وهي ترتدي عباءة، لكنني على يقين من أنهما يجوبان المدينة أثناء عيد الميلاد، وينزعان نبات الإيلكس من حدائق الناس، ثم يحاولان بيعه في البنايات السكنية.»
صباح ذاك اليوم البارد، وبعد أن رفضت شراء كل الكتب التي جلبها جوردي في عربته، سألته مجددا عن حال شارلوت، فأجابني بأنها مريضة، وتحدث بكآبة وكأن الأمر لا يعنيني.
قلت له: «خذ لها كتابا.» واخترت كتابا في الشعر من إصدارات دار نشر بينجوين. «خذ هذا الكتاب لها، وقل لها إني آمل أن يعجبها. وقل لها إني آمل أن تتعافى سريعا. وربما عرجت عليها لزيارتها.»
وضع الكتاب في كومة كتبه الموضوعة على العربة. ظننت أنه ربما سيحاول بيعه على الفور.
قال: «هي ليست بالبيت، بل بالمستشفى.»
لاحظت أنه كلما مال على العربة تدلى من عنقه صليب خشبي كبير خارجا من معطفه، وكان يعيده إلى داخله، وعندما تدلى من جديد قلت له دون تفكير في خضم حيرتي وندمي: «أليس هذا جميلا؟ يا له من خشب داكن جميل! يبدو من العصور الوسطى.»
رفعه عن صدره قائلا: «قديم جدا، وجميل جدا؛ فهو مصنوع من البلوط. نعم .»
قلت له: «خشب رائع.» ولما أعاده شعرت بالارتياح، ولو أنه ارتياح ممزوج بأسى شديد.
قلت: «أوه، آمل ألا تكون شارلوت في حالة مرض شديد!»
تبسم بازدراء ضاربا صدره برفق - ربما ليريني مصدر آلام شارلوت، أو ربما ليتحسس جلده الذي تعرى مؤخرا.
وبعدها أخذ صليبه وكتبه وعربته وغادر مكتبتي. شعرت بأن الإهانات كانت متبادلة بين الجانبين، وكذا الشعور بالخزي. •••
في الأعالي وراء حقل التبغ، كانت توجد غابة من أشجار الزان حيث تجمع لوتار عادة العصي لإشعال النار. ووراء تلك الغابة، كان ثمة منحدر عشبي - مرج عال - وعلى قمة المرج، ثمة مأوى حجري صغير يبعد عن «الكولا» مسافة نصف ساعة صعودا. كان مكانا بدائيا لا نوافذ له، ذا مدخل خفيض وبلا باب، وكان بأحد أركانه موقد بلا مدخنة. كانت الأغنام تحتمي بهذا المكان؛ ولذا لوث روثهم أرضيته.
هنالك ذهبت لتعيش بعد أن أمست عذراء.
حدثت واقعة الزواج من مسلم في الربيع، بعد حوالي عام من مجيئها لمقاطعة مالتسيا إي ماد، وحان الوقت لأن تساق الأغنام إلى مراعيها في الأعالي. كان يناط بلوتار أن تحصي القطيع، وأن تحرص على ألا تقع الأغنام في الوديان الضيقة، أو تشرد بعيدا جدا، وكان عليها أن تحلب النعاج كل ليلة. كان من المتوقع أن تطلق النار على الذئاب إذا حاولت الاقتراب من الأغنام. لكن لم يظهر أي ذئب قط، لم ير أحد ممن يعيشون في «الكولا» حينذاك الذئاب قط. الحيوانات البرية الوحيدة التي وقعت عينا لوتار عليها ذات مرة هي الثعلب الأحمر، وكان ذلك بجوار جدول الماء، والأرانب الغفيرة قليلة الحيطة؛ تعلمت كيف تصيدها وتسلخ جلدها وتطهوها، وتنظفها كما كانت ترى الفتيات المتخصصات في هذا الشأن تفعلن في «الكولا». كانت تطهو الأجزاء الأكثر لحما على نار هادئة في قدرها مع إضافة الثوم البري.
لم تود النوم داخل المأوى، فأقامت لنفسها سقفا من فروع الأشجار بالخارج إلى جوار الجدار؛ فكان هذا السقف بمنزلة امتداد لسقف البناء. كانت كومة السرخسيات تحتها، وكذلك بساط من اللباد أعطيت إياه لتبسطه على كومة السرخسيات كلما خلدت للنوم. ولم تعد تنتبه للحشرات. ثمة بعض المسامير في الجدار بين الأحجار الجافة. لم تعرف سبب وجود تلك المسامير، لكنها نفعتها في تعليق دلاء اللبن، والقدور القليلة التي أعطيت لها. كانت تجلب المياه من جدول الماء الذي غسلت فيه وشاح رأسها، واغتسلت فيه أحيانا حرصا منها على تخفيف وطأة الحرارة أكثر من عنايتها بنظافتها الشخصية.
تغير كل شيء؛ لم تعد ترى النساء، وفقدت عادات العمل المستمر التي اكتسبتها. كانت الفتيات الصغيرات تعرجن عليها مساء لجلب اللبن، ولما كن بعيدات هكذا عن «الكولا» وعن أمهاتهن، كن يتصرفن بطيش شديد، فكن يرتقين السقف، فيهشمن - في الأغلب - بعض تعريشات فروع الأشجار التي وضعتها لوتار. كن يقفزن على السرخسيات، وأحيانا كن ينتزعن ملء كفوفهن منه ويجعلنه على هيئة كرة بسيطة، وكن يقذف بعضهن بعضا بهذه الكرة إلى أن تتفكك. استمتعن بأوقاتهن كل المتعة، حتى إن لوتار اضطرت إلى أن تطاردهن في الغسق مذكرة إياهن كم شعرن بالذعر والخوف في غابة أشجار الزان بعد حلول الظلام. اعتقدت أنهن قطعن تلك الغابة عدوا، فسكبن نصف اللبن في طريق عودتهن.
بين الفينة والأخرى، كن يجلبن لها الدقيق الذي كانت تخلطه بالماء وتخبزه على معولها بتعريضه للنار. وذات مرة، جلبن لها هدية؛ رأس نعجة - تساءلت ما إذا كن سرقنه - لتغليه في قدرها. سمح لها بالاحتفاظ ببعض اللبن؛ وبدلا من احتسائه طازجا، عادة ما كانت تتركه حتى يفسد، فتقلبه لتصنع الزبادي الذي تغمس فيه خبزها. هكذا كانت تفضله حينذاك.
وكثيرا ما كان الرجال يأتون عبر الغابة بعد أن تقطعها الفتيات الصغيرات هرولة قبلهم في طريق نزولهن؛ وبدا أن هذه عادة من عاداتهم في الصيف. كانوا يحبون الجلوس على ضفاف جدول الماء، وإطلاق أعيرة فارغة، واحتساء «الراكي» والإنشاد، وأحيانا كانوا يكتفون بالتدخين وتبادل أطراف الحديث. لم تكن الغاية من رحلتهم الاطمئنان على حالها، لكن بما أنهم سيحضرون على أي حال، فقد جلبوا لها هدايا من القهوة والتبغ، وتنافسوا على إصلاح سقف مأواها كي لا يسقط عليها ، وأوضحوا لها كيف تبقي النيران مشتعلة طوال الليل، وكيف تستخدم بندقيتها.
بندقيتها كانت قديمة من نوع مارتيني الإيطالي، وأعطيت إياها عندما رحلت عن «الكولا». بعض الرجال قالوا: إن البندقية تجلب الحظ السيئ؛ لأنها كانت مملوكة لصبي قتل قبل أن يتمكن من قتل أحد، وقال البعض الآخر إن هذا النوع من البنادق - بصفة عامة - لا يحالفه الحظ؛ حيث نادرا ما كان يستخدم.
أنت بحاجة إلى بندقية من نوع ماوزر لضمان دقة التصويب وتتابع إطلاق النار.
لكن رصاصات هذا النوع أصغر من أن تحدث ضررا كافيا؛ فهناك رجال يعيشون وفي أجسادهم ثقوب ناتجة عن هذا النوع من الرصاص - ستسمعينهم يصدرون صفيرا بأفواههم وهم يمرون بك.
لا شيء يقارن حقا ببندقية ذات زناد قوي، لها خزانة تحمل كمية بارود كبيرة، ورصاصات قوية، ومسامير.
وكلما كانوا لا يتحدثون عن البنادق وأنواعها، كانوا يتناولون أحدث عمليات القتل، وينهالون عليها بالنكات. أحدهم أخبرها نكتة عن ساحر؛ ثمة ساحر أسره أحد الباشوات، ثم أطلق سراحه ليؤدي بعض الحيل أمام ضيوفه. طلب منهم الساحر أن يجلبوا له صحنا به الماء. الآن، هذا الماء يمثل البحر. أي ميناء سأريكم إياه على البحر؟ قالوا له: أرنا ميناء على جزيرة مالطة. وفجأة ظهر الميناء، وثمة بيوت وكنائس وباخرة على وشك أن تبحر. والآن، أتريدون أن تروني وأنا أصعد على متن هذه الباخرة؟ فضحك الباشا. هيا أرنا! فوضع الساحر قدمه في صحن الماء وصعد على متن الباخرة وسافر إلى أمريكا! ما رأيكم في هذا الأمر؟!
قال القس الفرنسيسكاني الذي كان قد تسلق بصحبة الرجال مساء ذلك اليوم كعادته: «لا يوجد سحرة على أية حال. لو كنت قلت قسا لكانت روايتك منطقية بعض الشيء.» تحدث بصرامة، لكن لوتار حسبته سعيدا شأنه شأنهم جميعا، وكذلك كانت هي، بقدر ما سمح لها، في وجودهم ووجوده، ولو أنه لم يعرها اهتمامه قط. التبغ القوي الذي أعطوها إياه لتدخنه جعلها تشعر بدوار، فكان عليها أن تستلقي على العشب. •••
حان الوقت لتفكر لوتار في الدخول إلى بيتها. كان الصباح باردا، والسرخسيات مبللة بالندى، وأوراق العنب تتحول إلى اللون الأصفر. أخذت المعول وأزالت روث الغنم المتناثر على الأرض استعدادا لتجهيز فراشها بالداخل، وبدأت بحشو العشب والأوراق والطين داخل الشقوق الفاصلة بين الأحجار.
عندما جاء الرجال سألوها لماذا تفعل ما تفعله، فأجابت استعدادا للشتاء؛ فضحكوا.
قالوا: «لا أحد يستطيع أن يصمد هنا في الشتاء.» بينوا لها كم كانت طبقة الثلج عميقة حيث وضعوا أيديهم على عظام صدرهم. علاوة على ذلك، كل الأغنام كانت ستساق إلى أسفل.
قالوا: «لن يكون ثمة عمل لك. ماذا ستأكلين؟ هل تعتقدين أن النساء سيدعونك لتناول الخبز واحتساء اللبن بلا مقابل؟»
سألت لوتار: «وكيف لي أن أرجع إلى «الكولا»؟ فأنا عذراء. أين يمكنني النوم؟ وأي عمل يمكن أن أقوم به؟» قالوا بلطف متحدثين إليها ثم بعضهم إلى بعض: «هذا صحيح! عندما يكون انتماء العذراء للكولا، فإنها تحصل على قطعة من الأرض عادة حيث يمكنها العيش فيها مستقلة، لكن هذه العذراء لا تنتمي إلى «الكولا» حقا، وليس لها أب ليعطيها شيئا. ماذا ستفعل؟»
بعد ذلك بفترة وجيزة، وفي منتصف النهار حيث لا يتردد عليها أحد مطلقا، تسلق القس الفرنسيسكاني المرج وحده.
قال لها: «لا أثق بهم. أعتقد أنهم سيحاولون بيعك إلى مسلم، حتى بالرغم من أنك حلفت اليمين. سيحاولون تحقيق أي مكاسب مادية من ورائك. إذا استطاعوا أن يجدوا لك مسيحيا، فلا بأس، لكنني متأكد من أنه سيكون كافرا بديننا.»
جلسا على العشب، واحتسيا القهوة. قال القس الفرنسيسكاني: «هل لديك أي متعلقات شخصية تجلبينها معك؟ سنرحل قريبا.»
سألت لوتار: «من سيحلب النعاج؟» كانت بعض النعاج قد بدأت رحلة الهبوط على المنحدر بالفعل؛ ستقف تلك النعاج وتنتظر حضورها.
أجابها الفرنسيسكاني: «اتركيها.»
وبهذه الطريقة رحلت، ولم تترك الأغنام فحسب، بل مأواها أيضا، والمرج، والعنب البري والسماق وشجرة السمن، وأشجار العرعر، وشجيرات البلوط التي كانت تتطلع إليها طوال الصيف، وجلود الأرانب التي استخدمتها كوسادة لها، والمقلاة التي كانت تحمص فيها القهوة، وكومة الأخشاب التي جمعتها لتوها صباح هذا اليوم، والأحجار المحيطة بالنار التي أشعلتها؛ كل حجر منها مميز بشكله ولونه. فهمت أنها سترحل؛ لأن القس الفرنسيسكاني كان صارما جدا، لكنها لم تستوعب الموقف بطريقة تجعلها تتطلع إلى ما حولها لتراه للمرة الأخيرة. لم يكن ذلك ضروريا على أية حال؛ فهي لن تنسى أيا من تلك الأشياء أبدا.
بينما دخلا غابة أشجار الزان، قال الفرنسيسكاني: «الآن يجب أن نلتزم الصمت الشديد. سأسلك دربا آخر بعيدا عن «الكولا». إذا سمعنا أحدا يسلك الدرب نفسه، فعلينا أن نتوارى عن الأنظار.»
ساعات من المشي في صمت مطبق بين أشجار الزان بلحائها الأملس الضخم، وأشجار البلوط ذات الأطراف السوداء، وأشجار الصنوبر الجافة. صعدا وهبطا، وعبرا سلاسل التلال، واختار القس دروبا لم تكن لوتار تعرف أنها موجودة أصلا. لم يتردد الفرنسيسكاني قط في مسيرته، ولم يقترح أي استراحة قط، وعندما خرجا من بين الأشجار أخيرا، ذهلت لوتار إذ اكتشفت أن الشمس ما زالت في كبد السماء.
أخرج الفرنسيسكاني رغيفا من الخبز وسكينا من جيب في ثيابه، وتناولا الطعام خلال رحلتهما.
وصلا إلى قاع نهر جاف وممهد بأحجار غير مسطحة يصعب على المرء السير عليها؛ سيل ساكن من الأحجار بين حقول الذرة والتبغ. تناهى إلى مسامعهما نباح الكلاب، وأحيانا أصوات الناس. كانت نباتات الذرة والتبغ التي لم تحصد بعد أعلى من رأسهما، فسارا بطول النهر الجاف مستترين بهذا الستار بينما زالت شمس النهار تماما، ولما لم يعد بإمكانهما متابعة المسير، وسترتهما ظلمة الليل، جلسا على الأحجار البيضاء لقاع النهر الجاف.
سألته لوتار أخيرا: «إلى أين ستأخذني؟» في البداية، ظنت أنهما يسيران لا محالة باتجاه الكنيسة وبيت القس، لكنها اكتشفت الآن أن هذه لا يمكن أن تكون وجهتهما؛ فقد كانا قد ابتعدا كثيرا.
أجابها الفرنسيسكاني: «سأصحبك إلى بيت الأسقف. سيعرف كيف يتصرف معك.»
قالت لوتار: «ولم لا تأخذني إلى بيتك؟ يمكنني أن أعمل خادمة في بيتك.» «هذا أمر محظور؛ فلا يسمح بتشغيل خادمة في بيتي، أو في بيت أي قس، وهذا الأسقف لن يسمح حتى لامرأة عجوز أن تعمل خادمة لديه. وهو على حق؛ فوجود امرأة بالبيت يثير المشكلات.»
بعد أن ارتفع القمر في كبد السماء، تابعا مسيرتهما، وطفقا يمشيان ويستريحان مرارا وتكرارا، لكنهما لم يخلدا للنوم قط، بل إنهما حتى لم يبحثا عن مكان مريح للاستلقاء. كانت أقدامهما قوية، ونعالهما بالية، لكنهما لم يصابا ببثور؛ فقد كانا معتادين على المشي لمسافات طويلة؛ الفرنسيسكاني في أبرشيته مترامية الأطراف، ولوتار في رعايتها للأغنام ومتابعتها.
أمسى الفرنسيسكاني أقل صرامة - وربما أقل قلقا - بعد فترة من الوقت، وتحدث إليها تقريبا كما كان يتحدث إليها خلال الأيام الأولى من تعارفهما. كان يتكلم الإيطالية، ولو أنها صارت بارعة الآن في التحدث بلغة الجيج.
قال: «ولدت في إيطاليا. كان والداي من الجيج، لكنني عشت في إيطاليا في فترة صباي، وهنالك أمسيت قسا. ذات مرة، سافرت لزيارة إيطاليا منذ سنوات، وحلقت شاربي، ولا أعرف لماذا فعلت. أوه، نعم أعرف! كان ذلك لأنهم كانوا يسخرون مني في القرية. وبعدها، عندما عدت لم أجرؤ على أن أريهم وجهي في ماد؛ فحلق الرجل شاربه يعد أمرا مخزيا. جلست في غرفة في سكودرا حتى نما شاربي مرة أخرى.»
سألت لوتار: «هل سكودرا هي المدينة التي نقصدها؟» «نعم، هنالك يعيش الأسقف. سوف يرسل رسالة مفادها أنه كان من الصائب إبعادك، حتى ولو كان ذلك دون علمك؛ فهناك برابرة في ماد؛ سيأتون ويشدونك من كميك في منتصف القداس، ويطلبون منك أن تكتبي رسالة لهم. هل رأيت ما يضعونه على قبورهم؟ الصلبان؟ إنهم يحيلون الصليب إلى هيئة رجل نحيل جدا يحمل بندقية على ذراعيه. ألم تري ذلك من قبل؟» ضحك وهز رأسه قائلا: «لا أعرف كيف أتعامل معهم، ولكنهم أناس طيبون على أية حال؛ فهم لن يخونوك مهما حدث.» «لكنك ظننت أنهم سيبيعونني على الرغم من اليمين الذي أقسمته؟» «أوه، نعم! ولكن بيع النساء وسيلة من وسائل كسب المال، وهم فقراء جدا.»
أدركت لوتار الآن أنها ستكون في وضع غير مألوف في سكودرا؛ أدركت أنها لن تكون مستضعفة. عندما يصلان إلى هناك ، يمكنها الفرار منه؛ يمكنها أن تجد شخصا يتحدث الإنجليزية، بل ويمكنها أن تعثر على القنصل الإنجليزي، أو الفرنسي إن لم تعثر على الإنجليزي.
كان العشب مبللا تماما قبل الفجر، وأمسى الليل شديد البرودة، لكن عندما أشرقت الشمس، لم تعد لوتار ترتعد، وفي غضون ساعة شعرت بالحر. سارا طوال اليوم، وتناولا بقية الخبز، وكانا يشربان من أي جدول ماء يعثران عليه في طريقهما، وصارت تفصلهما مسافة بعيدة عن النهر الجاف والجبال. نظرت لوتار إلى الوراء، ورأت جدارا من الصخور المسننة المحاطة بخضرة عند سفحها. كانت تلك الخضرة الغابات والمروج التي حسبتها عالية جدا. سلكا دروبا عبر الحقول الحارة، ولم يبعدا قط عن مجال نباح الكلاب، والتقيا بأناس في دروبهما.
في البداية قال الفرنسيسكاني: «لا تتحدثي مع أحد. سيتساءلون عن هويتك.» لكنه اضطر للرد على من يلقي عليه التحية.
فكان يقول لهم: «هل هذا هو الطريق إلى سكودرا؟ إننا في طريقنا إلى سكودرا، وتحديدا إلى بيت الأسقف. هذه خادمتي التي جاءت من الجبال.»
قال للوتار: «لا بأس؛ فأنت تبدين أشبه بخادمة بملابسك هذه، ولكن لا تتكلمي. سيعجبون إن تكلمت.» •••
كنت قد طليت جدران مكتبتي بالأصفر الفاتح؛ فالأصفر يرمز إلى الفضول الفكري. لا بد أن أحدهم أخبرني بذلك. افتتحت المكتبة في مارس 1964، وكان ذلك في مدينة فيكتوريا في مقاطعة كولومبيا البريطانية.
هنالك جلست إلى المكتب، وعروض الكتب خاصتي منثورة من ورائي. نصحني مندوبو دور النشر بجلب كتب عن الكلاب والجياد والإبحار وتنسيق الحدائق والطيور والأزهار؛ قالوا إن هذه هي كل الكتب التي يهتم سكان فيكتوريا بالاطلاع عليها، لكنني لم أعمل بنصيحتهم، فجلبت روايات وكتب أشعار وأخرى تتناول الصوفية والنسبية والكتابة الإغريقية المقدونية، ورتبت هذه الكتب عندما جاءوا بحيث يمكن لكتب العلوم السياسية أن تختلط بكتب الفلسفة، ولكتب الفلسفة أن تختلط بدورها بالكتب الدينية دون فواصل واضحة، فيتسنى حينئذ ضم مؤلفات الشعراء المتوافقين فكريا في مكان واحد، بحيث يعكس ترتيب أرفف الكتب - بحسب ظني - تدفقا طبيعيا للفكر. كنت أضع كنوز الكتب الجديدة أو المنسية على السطح. لقد أوليت الأمر كل هذا الاهتمام. وماذا بعد؟ الآن أصبحت أنتظر، وأشعر وكأنني امرأة تزينت وتأنقت لحضور حفل، وربما أيضا جلبت مجوهرات من محل الرهونات أو خزينة العائلة، لتكتشف في نهاية المطاف - بدلا من الحفل - عددا من الجيران يلعبون الورق، ولا يوجد في المطبخ سوى رغيف من اللحم والبطاطس المهروسة، وزجاجة من الخمر الوردي الفوار.
كانت المكتبة تخلو من الزوار لبضع ساعات في بعض الأحيان، وبعدها عندما يأتي أحدهم، كان يسأل عن كتاب تذكره من أيام مكتبة مدرسة الأحد، أو من خزانة كتب جدته، أو ربما تركه منذ عشرين عاما في فندق أجنبي. وعادة ما كان العنوان منسيا، لكن السائل كان يقص علي القصة. يحكي الكتاب قصة تلك الفتاة الصغيرة التي تسافر إلى أستراليا مع أبيها للتنقيب عن الذهب الذي يزعمان أنهما ورثاه، أو عن المرأة التي أنجبت طفلا بمفردها في ألاسكا، أو عن السباق بين واحدة من السفن الشراعية القديمة وأول سفينة بخارية في أربعينيات القرن التاسع عشر.
أوه، حسن! أردت أن أستفسر فحسب.
وكانوا يغادرون المكتبة دون أن يلقوا نظرة على ما تزخر به من كنوز.
عدد من الناس كانوا يهللون بامتنان قائلين لها: «يا لها من إضافة عظيمة للمدينة!» وكانوا يتصفحون الكتب لنصف الساعة، وربما لساعة، قبل أن يبادروا بإنفاق 75 سنتا.
الأمر يتطلب وقتا.
عثرت على شقة من غرفة واحدة تحتوي على مطبخ صغير ملحق بها، في بناية قديمة بزاوية تعرف باسم «داردينلز»، وكان الفراش يطوى في الجدار، لكنني لم أكن أجشم نفسي عناء طيه على أية حال؛ لأنني لا أستضيف أحدا. وبدا الكلاب غير آمن بالنسبة إلي، فكنت أخشى أن يقفز الفراش على حين غرة من الجدار أثناء تناولي وجبة العشاء المكونة من حساء معلب أو بطاطس مطهية في الفرن. قد يقتلني على الفور. كنت أيضا أترك النافذة مفتوحة دوما؛ لأنني ظننت أنني أشم نفحة من رائحة غاز مسرب حتى بعد إطفاء الشعلتين والفرن. ولما اضطررت إلى فتح النافذة بالبيت وباب المكتبة لإغراء الزبائن بالدخول، كان من الضروري أن أتشح بسترتي الصوفية السوداء دوما، أو مبذلي الأحمر القصير (وهو الثوب الذي ترك ذات مرة أثرا ورديا خفيفا على كل مناديل زوجي الذي هجرته وملابسه التحتية). كنت أجد صعوبة في خلع هذه الملابس، التي تسليني وتخفف من شعوري بالحزن، حتى يتسنى لي غسلها. في أغلب الأوقات كنت أشعر بالنعاس وعدم الشبع، وبرعشة في جسدي.
مع ذلك، لم يتمكن مني اليأس؛ فقد جاهدت نفسي لإدخال تعديل على حياتي، وعلى الرغم من كل الندم الذي كنت أشعر به كل يوم، كنت فخورة بهذا التعديل. شعرت وكأنني خرجت للعالم أخيرا بتغيير جديد وحقيقي. كنت أجلس إلى المكتب، وأستمر في احتساء قدح القهوة أو الحساء الأحمر الخفيف لساعة كاملة. كنت أستمر في مسك القدح بكلتا يدي ما دام أنه يكسبني شيئا من الدفء، وكنت أقرأ ولكن دون هدف أو استغراق. كنت أقرأ عبارات عشوائية متناثرة من الكتب التي كنت دوما أنوي الاطلاع عليها، وعادة ما كانت تبدو تلك العبارات مرضية بالنسبة إلي، أو مراوغة، أو محببة جدا، لدرجة أنني لم أستطع أن أتخلى عن كل الكلمات المحيطة بها، ولم أقدر على منع نفسي من الاستسلام لحالة غريبة. كنت أتقلب ما بين اليقظة والحلم، معزولة عن الناس جميعا، ولكن واعية طوال الوقت بالمدينة نفسها التي بدت مكانا غريبا.
هي مدينة صغيرة هنا على الحدود الغربية للبلاد؛ مناطق صغيرة للاحتيال على السياح. واجهات محل تيودور والحافلات ذات الطابقين وأوعية الزهور، والعربات التي تجرها الخيول؛ كلها أشياء تكاد تكون مهينة، إلا أنه كان هنالك أيضا ضوء القمر المنعكس على صفحة مياه البحر والممتد إلى الشارع، والمسنون الأصحاء القليلو العدد الذين يستمتعون بالنسيم وهم يمارسون رياضة المشي اليومية بطول المنحدرات التي يعتليها نبات الرتم، والبيوت الرثة الهيئة المكونة من طابق واحد والغريبة بعض الشيء بأشجار الأروكاريا وشجيرات الزينة في حدائقها. تزهر أشجار الكستناء بحلول الربيع، وتحمل أشجار الزعرور البري المزروعة بطول الشوارع أزهارا حمراء وبيضاء، والشجيرات ذات الأوراق الزيتية تنبت ثمارا وردية اللون لا يرى المرء مثيلا لها أبدا في المناطق النائية. حدثت نفسي أنها أشبه بمدينة في قصة خيالية، كالمدينة الساحلية في واحدة من القصص التي وقعت أحداثها في نيوزيلندا في تسمانيا، لكن ثمة طابعا أمريكيا شماليا ملحا في المشهد. كثير من الناس على أية حال وفدوا إلى المدينة من وينيبيج أو ساسكاتشوان. في فترة الظهيرة تفوح رائحة وجبات الغداء من البنايات السكنية الفقيرة؛ فهم يقلون اللحم ويسلقون الخضراوات؛ وجبات غداء من المزرعة تطهى في منتصف النهار في مطابخ صغيرة وضيقة.
كيف كان يتأتى لي أن أعرف ما أحبه كثيرا؟ لا شك أنه لم يكن ذلك الذي يسعى إليه أي تاجر جديد - أي الجلبة والنشاط اللذين يحييان الأمل في تحقيق النجاح التجاري. لكن الرسالة التي أرسلتها لي المدينة مفادها أنها «تخلو من النشاط والحركة». وعندما لا يمانع من يفتتح متجرا من سماع مثل هذه الرسالة، فالسؤال يطرح نفسه: ما الذي يحدث؟ فالناس يفتتحون المحلات بغية بيع بضاعتهم، ويعقدون الآمال على أن ينشغلوا بأعمالهم حتى يتسنى لهم توسعة محلاتهم، فتزداد مبيعاتهم، ويصيبون ثراء، وفي نهاية المطاف لا يضطرون إلى دخول المحل مطلقا. أليس هذا بصحيح؟ ولكن هل ثمة من يفتتح محلا على أمل أن يكون له ملاذا، فيحيط نفسه بالأشياء التي يقيم لها وزنا أكثر من غيرها - الحكايات الطويلة أو أقداح الشاي أو الكتب - ولا يفكر في شيء إلا أن يعلن إعلانا صريحا عن موقفه؟ سيمسي جزءا من البناية ومن الشارع، وجزءا من خريطة المدينة بالنسبة إلى الناس جميعا، وفي النهاية يصير جزءا من ذكريات الجميع. سيجلس ويحتسي القهوة في منتصف النهار، وسيخرج الحلي المبهرجة إبان عيد الميلاد، وسيغسل النوافذ في الربيع قبل عرض البضاعة الجديدة. المحلات بالنسبة إلى هؤلاء لا تختلف عن الأكواخ في الغابات بالنسبة إلى غيرهم؛ مجرد ملاذ ومبرر.
وبالطبع، يستوجب الأمر وجود بعض الزبائن؛ فالإيجار يحين موعد سداده، والبضاعة لن تكفي لتغطية تكلفتها. لقد ورثت ثروة صغيرة مكنتني من القدوم إلى المدينة هنا وافتتاح المكتبة، ولكن إذا لم يحقق الأمر رواجا تجاريا إلى حد ما، فلن أصمد إلى ما بعد الصيف. أعي ذلك تماما. شعرت بسعادة غامرة إذ شرع المزيد من الناس يتهافتون على المكتبة مع تحول الجو إلى الدفء أكثر فأكثر، وبيع المزيد من الكتب، وبدا أن بإمكاني الصمود. كان من المقرر منح جوائز في المدارس على هيئة كتب بنهاية الفصل الدراسي؛ مما جعل المدرسين يقصدون مكتبتي بقوائمهم من الكتب وثنائهم وتوقعاتهم اليائسة بالحصول على خصومات. كان الذين يزورون المكتبة لتصفح الكتب يشترون بانتظام، وما لبث بعضهم أن تحولوا إلى أصدقاء لي - مع اختلاف طبيعة صداقاتي هنا؛ حيث كان يسعدني تبادل أطراف الحديث يوما بعد يوم مع أناس لم أعرف أسماءهم قط. •••
عندما وقعت أعين لوتار والقس على بلدة سكودرا لأول وهلة، بدت وكأنها تطفو على المسطحات الطينية، وبدت قبابها وأبراج كنائسها لامعة وكأنها صنعت من السديم، ولكن عندما دخلاها والظلام قد بدأ يسدل أستاره، اختفى هذا السكون كله تماما. كانت الشوارع ممهدة بأحجار كبيرة وخشنة، وتعج بالناس والعربات التي تجرها الحمير، والكلاب الشاردة، والخنازير التي تساق إلى مكان ما، وتفوح منها رائحة النيران والطهي والروث وجلود الحيوانات العفنة. جاء رجل على كتفه ببغاء، وبدا أن ببغاءه يسب ويلعن بلغة غير مفهومة. أكثر من مرة، أوقف القس الفرنسيسكاني الناس في الشارع ليسألهم عن الطريق إلى بيت الأسقف، لكنهم كانوا إما يمرون به مسرعين دون أن يجيبوه، وإما يسخرون منه، وإما يتلفظون بألفاظ استعصى عليه فهمها. قال له صبي إنه سيدله على الطريق مقابل مبلغ من المال.
قال الفرنسيسكاني: «لا نملك مالا.» جذب لوتار إلى مدخل ما، وجلسا ليستريحا، قال لها: «في مالتسيا إي ماد، كثيرون ممن لديهم تقدير كبير لذواتهم يمكن أن يغيروا موقفهم سريعا.»
لم تعد لوتار تفكر في الفرار منه وتركه؛ فمن ناحية لم تكن ستتمكن من الاستفسار عن الطريق أفضل منه، ومن ناحية أخرى، راودها شعور بأنهما حليفان لا يقوى الواحد منهما على البقاء في مكان كهذا بمنأى عن الآخر. لم تكن تدرك كم كانت تعول على رائحة جلده، والإصرار المهموم في خطواته الواسعة، ونمو شاربه الأسود.
قفز القس الفرنسيسكاني من مكانه وقال إنه تذكر توا الطريق إلى بيت الأسقف. سبقها عبر الشوارع الخلفية الضيقة المحاطة بجدران عالية حيث تعذرت رؤية أي شيء داخل البيوت أو الساحات - مجرد جدران وبوابات. لم تكن الشوارع مرصوفة جيدا، وكان المشي عليها لا يختلف من حيث المشقة عن المشي في مجرى نهر جاف، لكنه كان على حق. أطلق صيحة انتصار عندما وصلا إلى بوابة بيت الأسقف.
فتح الخادم البوابة، ودعاهما للدخول، ولكن بعد نقاش محتدم، أمرت لوتار بالجلوس على الأرض بعد أن عبرت البوابة مباشرة، وسيق القس الفرنسيسكاني إلى البيت ليرى الأسقف، وسرعان ما أرسل أحدهم إلى القنصل البريطاني (ولم يخبر أحد لوتار بذلك)، وعاد وبصحبته خادم القنصل. كان الظلام قد حل حينئذ، وكان خادم القنصل يحمل مشكاة. سيقت لوتار بعيدا مرة أخرى حيث تبعت الخادم ومشكاته حتى القنصلية.
ثمة حوض استحمام به ماء ساخن كان بانتظارها في الساحة. أخذت ملابسها بعيدا، والأرجح أنها أحرقت، وقص شعرها الأسود الدهني المسكون بالقمل، وسكب الكيروسين على فروة رأسها. كان عليها أن تقص قصتها - قصة وصولها إلى مالتسيا إي ماد - الأمر الذي شق عليها؛ لأنها لم تكن اعتادت على تحدث الإنجليزية بطلاقة، ولأن تلك الفترة أيضا بدت بعيدة جدا وغير ذات أهمية. كان عليها أن تتعلم النوم على المرتبة، والجلوس على المقاعد، وتناول الطعام بالشوكة والسكين.
وضعوها على متن قارب بأسرع وقت ممكن.
توقفت شارلوت عن الحكي وقالت: «هذا الجزء ليس ذا أهمية.» •••
جئت إلى فيكتوريا لأنها أبعد مكان عن لندن وأونتاريو يمكنني الوصول إليه دون مغادرة البلاد؛ فزوجي دونالد يعيش في لندن، وكنت قد أجرت شقة بالطابق السفلي في بيتنا إلى الزوجين نيلسون وسيلفيا. كان نيلسون متخصصا في اللغة الإنجليزية بالجامعة، بينما كانت سيلفيا ممرضة. دونالد طبيب أمراض جلدية. وكنت بصدد إعداد أطروحة عن ماري شيلي ولو أنني كنت أتلكأ في إنجازها. التقيت دونالد عندما زرت عيادته إذ أصابني طفح جلدي في رقبتي. كان يكبرني بثماني سنوات، طويل القامة، يغطي النمش بشرته، ويتورد خجلا. كان بارعا أكثر مما كان يبدو عليه. طبيب الأمراض الجلدية يرى الحزن واليأس في أعين الناس، ولو أن المشكلات التي يأتيه الناس بها قد لا تنتمي إلى فئة الأورام وانسداد الشرايين؛ فهو يرى الانهيار الذي يصيب الناس من الداخل، والأقدار التعسة حقا؛ إنه يرى كيف أن أمورا كالحب والسعادة يمكن أن تتحكم فيها مجموعة من الخلايا المتهيجة. جعلت هذه التجربة دونالد طيب القلب بطريقة حذرة ومتجردة. قال إن الطفح الجلدي الذي كنت أعانيه ربما مرجعه التوتر، كما أخبرني بأنه يرى أنني سأمسي امرأة رائعة حالما أسيطر على القليل من المشكلات التي أعانيها.
دعونا سيلفيا ونيلسون لتناول العشاء بالطابق العلوي، وأخبرتنا سيلفيا عن المدينة الصغيرة التي ترعرعا فيها شمالي أونتاريو، وقالت إن نيلسون كان دائما أذكى الطلاب في صفهما وفي المدرسة كلها، وربما حتى في المدينة بأسرها. وعندما قالت ذلك، رمقها نيلسون بنظرة غير عابئة ولاذعة تماما، نظرة بدا بعدها وكأنه بانتظار تفسير على أحر من الجمر، وبشيء من الفضول، فضحكت سيلفيا وقالت: «إنني أمزح فحسب.»
عندما كانت سيلفيا تعمل لنوبات متأخرة بالمستشفى، كنت أدعو نيلسون أحيانا لمشاطرتنا الطعام بطريقة أقل رسمية. اعتدنا على صمته وميله إلى اللامبالاة أثناء الوجبات، وحقيقة هو لا يأكل الأرز أو النودلز أو الباذنجان أو الزيتون أو الجمبري أو الفلفل أو الأفوكادو، وغير ذلك من أطعمة كثيرة؛ لأنها ليست بالأطعمة الشائعة في بلدته بشمال أونتاريو.
بدا نيلسون أكبر سنا مما هو عليه في الواقع. كان قصير القامة، قوي البنية، شاحب البشرة، عابس الوجه، ينم محياه عن ازدراء الراشدين ومشاكسة جاهزة، لدرجة أنه بدا أشبه بمدرب هوكي، أو رئيس عمال ذكي وأمي ومنصف وبذيء اللسان، منه بطالب خجول يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما.
لكنه لم يكن خجولا متى تعلق الأمر بالحب؛ فقد اكتشفت أنه واسع الحيلة شديد الإصرار. كان الإغواء متبادلا بيننا، وكانت هذه أول علاقة غرامية لنا. سمعت أحدهم ذات مرة يقول في حفل من الحفلات إن أفضل ما في الزواج أن المرء يستطيع أن يقيم علاقات غرامية حقيقية خلاله؛ فالعلاقة الغرامية السابقة على الزواج قد يتبين أنها لا تزيد عن مجرد تودد. شعرت بالاشمئزاز من كلامه، والخوف من أن تكون الحياة بهذه الكآبة والعبث، ولكن ما لبثت أن بدأت علاقتي الغرامية بنيلسون، انتابني دوما شعور بالذهول؛ فلم تكن العلاقة كئيبة ولا عابثة، بل اتسمت بالجموح، ووضوح الرغبة، والإغواء الصريح.
كان نيلسون أول من كان عليه مواجهة تبعات العلاقة. ظهر يوم من الأيام، أشاح بوجهه عني وقال بخشونة وتحد: «سيتعين علينا الرحيل.»
حسبت أنه يعني أنه وسيلفيا سيتعين عليهما الرحيل، فمن غير المنطقي أن يواصلا العيش في هذا البيت، لكنه كان يقصد أنا وهو. «علينا» كانت تعني أنا وهو. لا شك أن كلينا تحدث عن اتفاقاتنا وتجاوزاتنا بصيغة «المثنى»، وها هو الآن يستخدم الصيغة نفسها إشارة إلى القرار الذي يتحدث عنه، وربما في إشارة إلى حياة نحياها معا.
من المفترض أن أطروحتي تتناول الروايات اللاحقة لماري شيلي؛ تلك التي لا يعرف عنها أحد شيئا. «لودور» و«بيركين وربيك» و«الرجل الأخير»، لكنني في حقيقة الأمر كنت أكثر اهتماما بحياة ماري قبل أن تتعلم دروسها القاسية، وتستقر لتربي ابنها وتؤهله ليكون بارونا. كنت أعشق القراءة عن النساء الأخريات اللائي كرهن ماري شيلي، أو حقدن عليها، أو تسكعن معها: هارييت الزوجة الأولى لشيلي زوج ماري، وفاني إملاي التي كانت أخت ماري غير الشقيقة، وربما كانت تهيم هي نفسها عشقا بشيلي، وماري جين كليرمونت؛ أخت ماري غير الشقيقة التي صادف أن اسمها على اسمي - كلير - ورافقت ماري وشيلي في رحلتهم لقضاء شهر العسل - التي قاما بها دون أن يتزوجا - كي تتمكن من مواصلة مطاردة بايرون. كثيرا ما كنت أقص على دونالد قصص ماري الطائشة، وشيلي المتزوج، ولقائهما أكثر من مرة عند قبر والدة ماري، كما كنت أتحدث عن انتحار هارييت وفاني، وإصرار كلير التي أنجبت طفلا من بايرون ومثابرتها، لكنني لم أذكر كل هذه الروايات لنيلسون؛ من ناحية لأنه لم يكن لدينا الوقت الكافي لتبادل أطراف الحديث، ومن ناحية أخرى كي لا يحسب أنني أجد شيئا من العزاء أو الإلهام في ذاك المزيج من الحب واليأس والخيانة والدراما المبالغ فيها. لم أرد أن أفكر أنا نفسي في ذلك. ولم يكن نيلسون من عشاق القرن التاسع عشر أو الرومانسيين. هذا ما صرح به؛ قال إنه يود أن ينجز بحثا عن كاشفي الفساد في المجتمع، ولعله كان يمزح بهذا الصدد.
لم تكن سيلفيا تتصرف كهارييت؛ فعقلها لم يؤثر فيه الأدب أو يعرقله، وعندما اكتشفت ما كان يجري، ثارت ثائرتها.
قالت لنيلسون: «أيها الأحمق الثرثار.»
وقالت لي: «أيتها العاهرة المخادعة.»
كان أربعتنا في غرفة المعيشة. بادر دونالد بتنظيف غليونه وملئه وضبطه وفحصه وإشعاله وتجريبه، ثم إعادة إشعاله من جديد، تماما مثلما يفعل ممثل في فيلم سينمائي، لدرجة أنني شعرت بالحرج له. وبعدها وضع بعض الكتب وأحدث إصدار من مجلة «ماكلينز» في حقيبته، وذهب إلى دورة المياه ليجلب شفرتي ماكينة الحلاقة خاصته، ومنها إلى غرفة النوم ليجلب منامته، ثم خرج.
واتجه مباشرة إلى شقة أرملة شابة كانت تعمل سكرتيرة بعيادته. وفي رسالة - كتبها لي لاحقا - قال إنه لم ينظر لهذه المرأة إلا من باب الصداقة فحسب إلى أن حلت تلك الليلة، حين خطر له فجأة كم سيكون من الممتع أن يقع في حب امرأة طيبة القلب، متزنة التفكير، و«متماسكة».
كان على سيلفيا أن تصل إلى المستشفى في تمام الحادية عشرة، وعادة ما كان نيلسون يصحبها إلى المستشفى سيرا على الأقدام؛ حيث لم تكن لديهما سيارة. في تلك الليلة، قالت له إنها لا ترغب في رفقته نهائيا.
وبذلك أمسينا أنا ونيلسون وحدنا معا. لقد استمر المشهد وقتا أقصر مما كنت أتخيل. بدا نيلسون مكتئبا وشاعرا بالارتياح في الوقت نفسه، ومع أني كنت قد شعرت بأن هذه كانت ضربة قاسية لفكرة الحب، وبمنزلة حدث عظيم ومفجع، كنت أعلم أنه من الحكمة ألا أظهر شعوري هذا.
استلقينا على السرير، وتحدثنا عن خططنا للمستقبل، وانتهى بنا الأمر بممارسة الجنس؛ لأن هذه كانت عادتنا. في وقت ما خلال الليل، استيقظ نيلسون، ورأى أنه من الأفضل أن ينزل إلى الطابق السفلي ويخلد إلى النوم في فراشه.
استيقظت في ظلمة الليل، وارتديت ملابسي، وحزمت أمتعتي، وتركت رسالة، واستدعيت سيارة أجرة هاتفيا. ركبت القطار المتجه إلى تورونتو في تمام السادسة، ومنه إلى القطار المتجه إلى فانكوفر. كان السفر بالقطار أرخص تكلفة إذا كان المرء على استعداد لأن يظل مستيقظا لثلاث ليال، وكانت هذه نيتي.
ها أنا ذا جالسة في الصباح البائس الذي يمر ببطء في كابينة القطار الذي يهبط منحدر فريزر المحاط بصخور شاهقة، ومنه إلى وادي فريزر حيث غطى الدخان البيوت الصغيرة المتناثرة، ونباتات الكروم البنية اللون، والآجام ذات الأشواك والأغنام المحتشدة. هذا الزلزال الذي ضرب حياتي كان في ديسمبر. ألغيت احتفالات عيد الميلاد بالنسبة إلي، وانتهى الشتاء بتراكماته وأمطاره الثلجية وعواصفه الجليدية العنيفة المنعشة بسبب هذا الموسم الضبابي من الطين والأمطار. كنت مصابة بإمساك، وكنت أعلم أن رائحة أنفاسي كريهة، وأطرافي مصابة بتشنجات عضلية، وروحي المعنوية في الحضيض. ألم أحدث نفسي حينئذ أنه من العبث الافتراض أن ثمة رجلا يختلف كل الاختلاف عن رجل آخر، في الوقت الذي يمكن أن تختزل فيه الحياة حقا في الحصول على قدح رائع من القهوة، وامتلاك غرفة يستطيع أن يستلقي المرء فيها؟ ألم أحدث نفسي أنه حتى لو كان نيلسون يجلس هنا إلى جواري، لتحول إلى شخص غريب ذي ملامح منهكة، ولم تكن عزلته واضطرابه إلا سيزيدان من عزلتي واضطرابي؟
لا، لا، سيظل نيلسون هو نيلسون بالنسبة إلي على أية حال. لم تتغير نظرتي إلى بشرته ورائحته وعينيه الزاجرتين. لا بد أن المظهر الخارجي لنيلسون هو الذي كان يحضرني أكثر من غيره، وأما بالنسبة إلى دونالد، فكانت اضطراباته الداخلية، ومشاعره العاطفية، وطيبته المبالغ فيها، وتلك الهواجس الخاصة التي اكتشفتها بالتزلف تارة والتحايل تارة أخرى؛ هي التي خطرت لي دوما. لو كان لي أن أجمع بين حبي للرجلين معا وأكرسه لرجل واحد، لأمسيت امرأة سعيدة. لو استطعت أن أهتم بالناس جميعا اهتمامي الشديد بنيلسون، وعنايتي المتروية الخالية من الشهوات بدونالد، لأمسيت قديسة. بدلا من ذلك، فقد وجهت ضربة مزدوجة طائشة في ظاهرها. •••
الزبائن المعتادون الذين أمسوا أشبه بأصدقاء لي كانوا امرأة في منتصف العمر تعمل محاسبة معتمدة، لكنها كانت تفضل قراءة كتب مثل «ستة مفكرين وجوديين» و«جوهر المعنى»؛ وموظفا رسميا يعمل بالبلدية ويطلب أعمالا إباحية رائعة وباهظة الثمن لم أسمع بها من قبل (فقد بدت ارتباطات هذه الأعمال بالشرق والحضارة الإترورية بالنسبة إلي بشعة وغير ذات أهمية لو قورنت بالطقوس البسيطة الفعالة المشوقة التي كنا نمارسها أنا ونيلسون)؛ وكاتب عدل كان يعيش خلف محل عمله على ناصية شارع جونسون (قال لي: أنا أعيش في المناطق العشوائية، وأتوقع أن يفاجئني في ليلة من الليالي رجل ضخم الجثة يترنح على ناصية الشارع ويصرخ: «ستيلا»)؛ والمرأة التي عرفتها لاحقا باسم شارلوت - كان كاتب العدل يسميها «الدوقة». لم يهتم أي من هؤلاء بالآخرين، وباءت بالفشل محاولة مبكرة قمت بها لبدء حوار بين المحاسبة وكاتب العدل.
قال كاتب العدل: «أعفيني من النساء الذابلات المحيا اللائي تملأ وجوههن مستحضرات التجميل.» وفي المرة التالية التي جاء فيها المكتبة قال: «آمل ألا تتسكع في المكان الليلة.»
صحيح أن المحاسبة بالغت في تجميل وجهها الناحل البالغ من العمر خمسين عاما، الذي يبدو عليه الذكاء، ورسمت حاجبيها فصارا أشبه بخطين مرسومين بالحبر الهندي، ولكن من هو كاتب العدل لينتقدها بأسنانه الصغيرة المصبوغة بالنيكوتين، ووجنتيه المليئتين بالبثور؟!
قالت المحاسبة وكأنها خمنت الانتقادات التي وجهت إليها وفندتها بشجاعة: «شعرت أنه شخص سطحي إلى حد ما.»
راسلت دونالد قائلة: «إنني أخفقت في محاولاتي التوفيق بين الناس. ومن أنا لأحاول على أية حال؟» اعتدت على مراسلة دونالد بانتظام واصفة بقدر الإمكان المكتبة والمدينة وحتى مشاعري التي لا تفسير لها. كان يعيش مع هيلين سكرتيرته. وراسلت نيلسون أيضا الذي ربما يعيش وحيدا، وربما لا، وربما عاد إلى سيلفيا. لا أحسبه عاد إليها؛ ظننت أنها ستؤمن بالسلوك الذي لا يغتفر والنهايات الحاسمة. أمسى له عنوان جديد. بحثت عنه في دليل هاتف لندن بالمكتبة العامة، وبعد بداية محملة بالسخط، استأنف دونالد الرد على رسائلي. كتب لي رسائل عادية بعيدة عن الأمور الشخصية، وممتعة نوعا ما عن أناس كنا نعرفهم، ومواقف وقعت في العيادة. ولم يراسلني نيلسون قط، فبدأت في إرسال خطابات مسجلة؛ حينئذ علمت أنه يستلمها على الأقل.
لا بد أن شارلوت وجوردي دلفا إلى المكتبة معا، لكنني لم أعلم أنهما زوجان حتى حان وقت رحيلهما. كانت شارلوت بدينة وغير متناسقة القوام، لكنها كانت سريعة الحركة، وردية البشرة، زرقاء العينين، يغطي رأسها كثير من الشعر الأبيض اللامع، وكانت تصففه كما تفعل الفتيات؛ حيث تدلى متموجا على كتفيها. وعلى الرغم من دفء الجو نوعا ما، كانت ترتدي رداء خارجيا رماديا داكنا بلا أكمام من القطيفة يحيط بحوافه فرو رمادي؛ رداء بدا وكأنه يستعمل أو كان يستعمل في فترة من الفترات كثوب مسرحي. تحت هذا الرداء، كانت ترتدي قميصا فضفاضا وبنطالا صوفيا مربع النقش، وفي قدميها العريضتين العاريتين المغبرتين كانت تنتعل صندلا مفتوحا. كان يصدر عنها صوت صليل كأنها ترتدي درعا مخبوءا. وعندما كانت تمد ذراعها لأعلى كي تجلب كتابا، كان يظهر هذا الشيء الذي يصدر الصليل. لقد كان ذلك صوت أساور كثيرة لا حصر لها، منها الثقيل ومنها الخفيف، منها اللامع ومنها ما فقد بريقه، وبعضها ازدان بمجموعة من الأحجار الكبيرة المربعة الملونة بلون حلوى الطوفي أو بلون الدم.
قالت لي وكأنها تستكمل حوارا عارضا وممتعا: «تخيلي ذلك المخلوق المحتال العجوز ما زال يتحرك.» التقطت كتابا لأناييز نين.
قالت: «لا تهتمي؛ فأنا أقول أشياء مريعة. إنني أحب هذه المرأة كثيرا، ولكن ذاك الرجل هو الذي لا أطيقه.» سألتها وقد بدأت تمسك بطرف الخيط: «هنري ميلر؟»
تابعت حديثها عن هنري ميلر وباريس وكاليفورنيا بنبرة تخللها التهكم والحماس ومسحة من التعاطف: «هذا صحيح.» بدا أنها كانت تعيش، على الأقل، إلى جوار الناس الذين كانت تتحدث عنهم. وأخيرا، وبسذاجة ، سألتها ما إذا كان هذا هو الحال.
فأجابتني قائلة: «لا، لا. أشعر وكأنني أعرفهم فحسب. ليس على المستوى الشخصي. حسن، بل على المستوى الشخصي. نعم، على المستوى الشخصي. هل هناك من مستوى آخر أعرفهم على أساسه؟ أعني أنني لم ألتق بهم وجها لوجه، ولكن في كتبهم؟ بالتأكيد هذا ما كانوا يقصدونه؟ أنا أعرفهم، أعرفهم لدرجة أنهم يصيبونني بالضجر؛ شأنهم شأن أي شخص تعرفينه. ألا تشعرين بذلك؟»
تحركت باتجاه الطاولة حيث وضعت مجموعة كتب أدبية صادرة عن مؤسسة «نيو دايريكشنز». قالت: «هذه هي المجموعة الجديدة إذن.» وأردفت وقد اتسعت عيناها إذ رأت صور جينزبرج وكورسو وفيرلينجتي: «يا للعجب!» وشرعت في القراءة باهتمام شديد جدا، لدرجة أنني حسبت أن أول شيء ستقوله سيكون جزءا من قصيدة ما.
قالت: «كنت مارة بالجوار ورأيتك هنا.» ثم وضعت الكتاب جانبا، وأدركت أنها تقصدني بكلامها. «رأيتك جالسة هنا، وحدثت نفسي أن أي امرأة شابة سيطيب لها - على الأرجح - أن تخرج لتقضي بعض الوقت في الخلاء، تحت ضوء الشمس. هل فكرت في تعييني هنا بحيث يتسنى لك الخروج؟»
قلت لها: «حسن، يسعدني أن ...» «إنني لست بلهاء بالمرة؛ فلدي قدر من المعرفة حقا. سليني عن مؤلف قصيدة «التحولات» للشاعر أوفيديوس. لا بأس، لا داعي للضحك.» «يسعدني ذلك حقا، ولكنني لا أستطيع أن أتحمل تكلفة تعيينك.» «آه، حسن! لعلك على حق؛ فأنا لست أنيقة بالقدر الكافي. الأرجح أنني سأتسبب في إحداث حالة من الفوضى هنا. الأرجح أنني سأجادل الناس إن أرادوا أن يشتروا كتبا أراها مخيفة.» لم يبد عليها الإحباط. أمسكت بنسخة من كتاب «نبتة الأفوكادو الفاسدة» وقالت: «ها هو! يجب أن أشتري هذا الكتاب لعنوانه المثير.»
أطلقت صفيرا خافتا، وأشاح الرجل الذي بدا مقصودا بالصفير بوجهه عن طاولة الكتب التي كان يحملق فيها بالقرب من الجزء الخلفي من المكتبة. كنت أعلم أنه هناك، لكنني لم أربط بينه وبينها؛ حسبته واحدا من الذين يتسكعون في الشارع وحدهم فحسب، ويقفون ويتطلعون إلى ما حولهم وكأنهم يحاولون التعرف على المكان المحيط بهم، أو تفسير العلة وراء وجود هذه الكتب. لم يكن مخمورا ولا متسولا، وبالتأكيد لم يكن بالشخص الذي يثير القلق أو الشبهات؛ كان واحدا من المسنين الرثي الهيئة الذين ليس بمقدورهم التواصل مع الآخرين، والذين يرتبطون بالمدينة ارتباط الحمام بها؛ حيث كانوا لا يكفون عن الحركة طوال اليوم في مساحة محدودة دون أن ينظروا إلى الناس وجها لوجه مطلقا. كان يرتدي معطفا يمتد إلى كاحليه؛ معطفا من مادة لامعة مطاطية بلون بني مائل إلى الحمرة، وقبعة مخملية بنية اللون تتدلى منها مجموعة من الخيوط المؤتلفة كتلك التي ربما يرتديها عالم كبير في السن أصابه الوهن، أو كاهن في فيلم إنجليزي. ثمة تشابه بينهما إذن؛ فقد كانا يرتديان أشياء ربما كانت مهملة في صندوق أزياء، ولكن عند تدقيق النظر فيه، سنجده يبدو أكبر منها سنا بسنوات بوجهه الكئيب الشاحب، وعينيه البنيتين الذابلتين، وشاربه الكريه المنظر غير المشذب. ولعل بعض آثار الوسامة أو القوة بقيت لديه. شراسة مكبوتة. جاء تلبية لصفيرها الذي بدا مزيجا من الجد والهزل، ووقف على مقربة منا ساكنا وطيعا ككلب أو حمار، بينما تأهبت المرأة لسداد ثمن الكتاب.
آنذاك، كانت حكومة كولومبيا البريطانية قد فرضت ضريبة مبيعات على الكتب؛ وفي حالتها، بلغت الضريبة أربعة سنتات. قالت: «لا يمكنني دفع هذا المبلغ ضريبة على الكتب. أعتقد أن في ذلك انعداما للأخلاق. أفضل أن أسجن على أن أدفع هذا المبلغ. ألا توافقينني الرأي؟»
كان رأيي من رأيها، ولم أوضح لها - كعادتي مع الآخرين - أن المكتبة لن تعفى من دفع الضرائب لإحجام المشترين عن سدادها.
قالت: «ألا أبدو بشعة؟ هل ترين ماذا يمكن أن تفعل هذه الحكومة بالناس؟ إنها تصنع منهم «خطباء يدافعون عن حقوقهم».»
وضعت الكتاب في حقيبتها دون أن تدفع السنتات الأربعة، ولم تدفع ضريبة المبيعات لاحقا قط.
وصفت هيئتهما لكاتب العدل، فعرف على الفور عمن كنت أتحدث.
قال: «أسميهما الدوقة والجزائري. لا أعرف ما الخلفية التي دعتني لتسميتهما هكذا. أعتقد أنه إرهابي متقاعد؛ فهما يجوبان المدينة ويجران عربة كعاملي النظافة.» •••
استلمت رسالة فيها دعوة لي على العشاء ليلة الأحد، وكانت ممهورة بتوقيع شارلوت دون لقب العائلة، لكن الكلمات والكتابة كانت رسمية جدا. «يسعدني أنا وزوجي جوردي أن ...»
حتى تلك اللحظة، لم أكن أعقد الآمال على تلقي دعوات كهذه قط، وكنت سأشعر بالإحراج والاضطراب لو جاءني مثلها؛ ولذلك فاجأني الشعور بالسعادة الذي غمرني. كانت علاقتي بشارلوت واعدة؛ فهي لم تكن كالآخرين الذين لم أود رؤيتهم إلا في المكتبة فحسب.
كانت البناية التي يعيشان فيها تقع في شارع باندورا، وكانت مغطاة بالجبس الأصفر، وتحوي دهليزا صغيرا ممهدا بالبلاط ذكرني بالمراحيض العامة، لكن لم تكن تفوح منه رائحة كريهة، والشقة لم تكن في واقع الأمر متسخة، كل ما هنالك أنها كانت غير مرتبة؛ فالكتب مكدسة عند الجدار، وثمة قصاصات من قماش ذي نقوش تدلت على الجدار لتخفي تحتها ورق الحائط، وثمة ستائر من الخيزران على النوافذ، وصفحات من الورق الملون - القابل للاشتعال بالتأكيد - معلق على اللمبات.
صاحت شارلوت: «كم هو لطيف منك أن تحضري! كنا نخشى أن تشغلك عن زيارتنا أمور أكثر أهمية. أين ترغبين في الجلوس؟ ما رأيك أن تجلسي هنا؟» أزاحت كومة من المجلات عن كرسي من الخيزران، وقالت: «أهذا الكرسي مريح؟ إنه يصدر أصواتا مثيرة، فهو من الخيزران. أحيانا أجلس هنا وحدي، وأسمعه يصدر صريرا وكأن أحدا يتحرك به من مكان إلى آخر. يمكنني أن أقول إن ثمة قوى خارقة للطبيعة هي التي تفعل ذلك، لكنني لا أؤمن بهذه الترهات؛ فقد جربت بنفسي.»
صب جوردي خمرا حلوا أصفر اللون لي في كأس طويلة لامعة، ولشارلوت في قدح، ولنفسه في كوب بلاستيكي. بدا أن من رابع المستحيلات إعداد عشاء في ذلك المطبخ المتناهي الصغر الذي تراكمت فيه الأطعمة والقدور والأطباق، لكن ثمة رائحة دجاج مشوي شهية تفوح في المكان. وبعد برهة جاء جوردي بالصنف الأول من الطعام؛ صحون صغيرة تحوي شرائح الخيار وأطباق الزبادي. جلست على الكرسي المصنوع من الخيزران، بينما جلست شارلوت على كرسي بذراعين، أما جوردي فجلس على الأرض. كانت شارلوت ترتدي بنطالها وقميصا قصير الكمين زهري اللون التصق بصدرها الذي لم تكن تحمله حمالة. كانت قد طلت أظافر قدميها بلون يتماشى مع قميصها. وكانت أساورها تصدر خشخشة كلما لامست الطبق وهي تتناول شرائح الخيار (كنا نأكل بأصابعنا). كان جوردي يعتمر قبعته ومبذله الحريري الأحمر القاني على بنطاله. اختلطت البقع مع الرسوم التي زينت مبذله.
بعد الخيار، تناولنا الدجاج المطهو مع الزبيب والتوابل الذهبية اللون، والخبز الحامضي، والأرز. حصل كل منا أنا وشارلوت على شوكة، لكن جوردي طفق يأكل الأرز بالخبز. ظللت أتذكر هذه الوجبة على مدار السنوات التالية عندما أصبح هذا النوع من الطعام، وهذه الطريقة غير الرسمية في الجلوس والأكل، وحتى شكل الغرفة وافتقارها إلى الترتيب؛ أمرا شائعا وعصريا. الذين أعرفهم - وأنا شخصيا كذلك - لا بأس عندهم من التخلي، لفترة، عن طاولات غرف الطعام، وكئوس الخمر المتطابقة، وإلى حد ما عن أدوات المائدة أو الكراسي. عندما يستضيفني الآخرون، أو أحاول أنا استضافة الناس بهذه الطريقة، تخطر شارلوت وزوجها على بالي، وأفكر في معنى الحرمان الحقيقي، والأصالة المحفوفة بالخطر التي تميزهما عن كل محاولات التقليد اللاحقة. كنت حديثة عهد بموقف كهذا آنذاك، وكنت أشعر بالاضطراب والسعادة في آن واحد. كنت آمل أن أكون جديرة بهذه الطريقة الغريبة في التعامل، ولكن دون أن يمتحن صبري أكثر من اللازم.
خطرت ماري شيلي ببالي بعد ذلك بوقت قصير، وأخذت أسرد عناوين الروايات الأخيرة لها، وقالت شارلوت بنبرة حالمة: «بيركن ووربيك. ألم يكن هو؟ ألم يكن هو الذي تظاهر بأنه أمير صغير قتل في البرج؟»
كانت الشخص الوحيد الذي قابلته - ولم يكن مؤرخا، لم يكن مؤرخا لعائلة تيودور - ويعرف هذه المعلومة.
قالت: «هذا الكتاب يستحق أن يتحول إلى فيلم، أليس كذلك؟ السؤال الذي دائما ما يلح علي بخصوص المطالبين بالعرش أمثاله هو: ماذا يظن «هؤلاء» بأنفسهم؟ هل يؤمنون بما يدعونه أم ماذا؟ لكن حياة ماري شيلي الخاصة هي الفيلم نفسه، أليس كذلك؟ أنا أتساءل لماذا لم يصنع فيلم كهذا من قبل! من ذا الذي سيلعب دور ماري في رأيك؟ لا، لا، لنبدأ بهارييت أولا. من سيلعب دور هارييت؟»
أردفت وهي تمزق قطعة ذهبية اللون من الدجاج: «لا بد أن تكون ممثلة بارعة في لعب دور الغارقة. إليزابيث تايلور؟ ليس بالدور الذي يشبع غرورها. سوزانا يورك؟»
تساءلت مشيرة إلى رضيع هارييت الذي لم يولد: «من كان والد الرضيع؟ لا أعتقد أنه كان شيلي. لم أظن ذلك قط. هل ظننت ذلك؟»
كان كل ذلك رائعا وممتعا جدا، ولكنني كنت أعقد الآمال على أن نصل إلى مرحلة التفسيرات - اعترافات شخصية إن لم تكن أسرارا بالفعل. هكذا يتوقع المرء في مناسبات كهذه. ألم تحك لنا سيلفيا وهي جالسة إلى طاولتي عن تلك المدينة في شمال أونتاريو، وعن نيلسون باعتباره أذكى طلاب المدرسة؟ ذهلت من فرط شعوري بالحماس لأن أقص قصتي. دونالد ونيلسون - كنت أتطلع إلى أن أقص الحقيقة أو جزءا منها، بكل ما فيها من تعقيدات جارحة، على شخص لم يكن ليصيبه الذهول منها، أو تثور ثائرته بسببها. كنت أود أن أحاول فهم سلوكي العجيب كلما كنت برفقة أناس طيبين. هل تعاملت مع دونالد باعتباره رمزا للأب - أو رمزا للوالد بصفة عامة - بما أن والدي لم يكونا على قيد الحياة؟ وهل هجرته لأنني كنت غضبى «منهما» إذ فارقاني؟ ماذا كان يعني صمت نيلسون؟ وهل صار صمته دائما؟ (لكنني لم أكن أحسب على أية حال أنني سأخبر أحدا أبدا عن الخطاب الذي أعيد لي الأسبوع الماضي مذيلا بعبارة: «لم يستدل على العنوان».)
لم يكن ذلك ما كانت شارلوت تفكر فيه، فلم تكن الفرصة سانحة، ولم يكن بيننا تبادل للأسرار. بعد أن انتهينا من تناول الدجاج، أزيل كأس الخمر والقدح والكوب وملئت بشربات وردي اللون حلو المذاق كان احتساؤه أسهل من تناوله بالملعقة. وأتبع ذلك بأقداح صغيرة من القهوة المركزة جدا. أشعل جوردي شمعتين بينما ازدادت الغرفة عتمة، وأخذت واحدة منهما معي إلى الحمام الذي اتضح أنه عبارة عن مرحاض ودش فحسب. قالت شارلوت إن المصابيح لا تعمل.
قالت: «ثمة إصلاحات تتم، أو ربما أن التيار الكهربي له تقلباته. أعتقد بالفعل أن له تقلباته، ولكن من حسن الطالع أن لدينا موقدا يعمل بالغاز الطبيعي، وما دام لدينا هذا الموقد، فإننا لا نعبأ كثيرا بتقلبات التيار الكهربي. جل ما يحزنني أننا لا نستطيع تشغيل الموسيقى. كنت أعتزم تشغيل بعض الأغاني السياسية القديمة - حلمت بأنني رأيت جو هيل ليلة أمس.» أنشدتها بصوت جهير ساخر وسألتني: «هل تعرفين هذه الأغنية؟»
كنت أعرفها بالتأكيد؛ كان دونالد ينشدها عادة كلما لعبت الخمر برأسه. عادة ما يتمتع الذين ينشدون أغنية «جو هيل» بميول سياسية غامضة لكنها مميزة، لكنني لم أكن أحسب أن الأمر سيكون كذلك بالنسبة إلى شارلوت؛ فهي لا تعول على الميول في حكمها على الأمور ولا على المبادئ؛ فقد كانت تتعامل بهزل مع ما يتعاطى معه الناس بجدية. لم أكن متأكدة من شعوري تجاهها؛ لم يكن الإعجاب أو الاحترام. كنت أشعر برغبة في أن أكون مكانها، وهي رغبة لم تكن تدهشني. كنت أود أن أكون مثلها؛ شخصية مبتهجة وساخرة من ذاتي، وخبيثة خبثا رفيقا، ولا شيء يشبع رغباتي.
في تلك الأثناء، كان جوردي يريني بعض الكتب. كيف بدأ ذلك النقاش؟ ربما انبثق من تعليق أبديته - ربما كان عن عدد الكتب التي يملكانها؛ شيء من هذا القبيل - عندما تعثرت في بعضها أثناء عودتي من الحمام. كان يجلب كتبا بأغلفة جلدية أو جلدية مقلدة - كيف لي أن أميز الفارق؟ - كتبا ذات أوراق أخيرة بها ألوان وخطوط تشبه الرخام، وأغلفة أمامية مزينة بألوان مائية ونقوش فولاذية. في البداية، ظننت أن الأمر لا يتطلب سوى الإعجاب، وأعجبت بالفعل بكل شيء، ولكن تناهت إلى مسامعي كلمة المال. هل هذا أول شيء مميز سمعت جوردي يقوله؟
قلت له: «لا أتعاطى إلا مع الكتب الجديدة. هذه كتب مذهلة، لكنني لا أعرف عنها شيئا في حقيقة الأمر. ثمة نشاط تجاري مختلف تماما يتعامل مع هذا النوع من الكتب.»
هز جوردي رأسه نافيا وكأنني لم أستوعب كلامه؛ لذا سيحاول الآن أن يفسر مجددا وبحسم هذه المرة. كرر على مسامعي السعر بنبرة أكثر إصرارا. أكان يعتقد أنني سأساومه؟ أم كان يخبرني عن السعر الذي دفعه لقاء الكتب؟ لعلنا نجري حوارا تنبئيا عن السعر الذي يمكن أن تباع به الكتب، لا عما إذا كان ينبغي لي شراؤها.
أخذت أجيبه تارة بالنفي وتارة بالإيجاب بما يتناسب مع السؤال؛ «لا» أستطيع أن آخذها إلى مكتبتي. «نعم»، إنها كتب رائعة. «لا»، أنا آسفة فعلا؛ فأنا لست مؤهلة للحكم على ذلك.
كانت شارلوت تقول: «لو كنا نعيش في دولة أخرى، لربما حققنا أنا وجوردي إنجازا، أو حتى لو كانت السينما في بلدنا هذا قد قامت لها قائمة، فهذا ما كنت أهوى القيام به حقا؛ العمل في السينما كممثلين ثانويين، أو ربما أننا لسنا عاديين بالقدر الكافي للتمثيل الثانوي. ربما عثروا لنا على أدوار صغيرة. أعتقد أن الممثلين الثانويين يجب ألا يكونوا بارزين بحيث يمكن استخدامهم مرارا وتكرارا. أنا وجوردي لا ننسى بسهولة هكذا، وتحديدا جوردي - يمكنك «استغلال» هذا الوجه سينمائيا.»
لم تعر انتباها للحوار الذي دار لاحقا، لكنها استمرت في توجيه كلامها لي، وهز رأسها بين الحين والآخر لجوردي؛ لتوحي له بأنه يتصرف بطريقة جذابة وإن كان من المحتمل أنها لحوحة. كان علي أن أتحدث إليه برفق ناظرة إليه بطرف عيني، ومومئة إليها في الوقت نفسه استجابة لها.
قلت: «ينبغي أن تعرضها حقا على مكتبة الكتب العتيقة. نعم، إنها كتب بديعة فعلا. كتب كهذه خارج نطاق عملي.»
لم يتذمر جوردي، ولم يكن متملقا بل حاسما. بدا وكأنه على استعداد لأن يملي علي أوامره، وأنه سيصاب بالغثيان الشديد إن لم أذعن له. في خضم حيرتي وارتباكي، أعددت لنفسي كأسا من الخمر الأصفر حيث صببت الخمر في كأس الشربات التي لم تغسل. ربما كانت هذه بادرة فيها إساءة شديدة؛ حيث بدا جوردي مستاء جدا.
قالت شارلوت بعد أن وافقت أخيرا على الربط بين الحوارين الجاريين: «هل يمكنك أن تتخيلي الصور في الروايات الحديثة؟ على سبيل المثال في روايات نورمان ميلر؟ يجب أن تكون صورا تجريدية. ألا تعتقدين ذلك؟ ربما تكون أسلاكا شائكة وبقعا!»
عدت إلى البيت وقد أصابني صداع فظيع، وشعور بالوهن الشديد. جل ما في الأمر أنني كنت متحفظة متى تعلق الأمر بالخلط ما بين البيع والشراء والحفاوة، وربما تصرفت على نحو أخرق لدرجة أنني أحبطتهما. لقد خيبا ظني هما أيضا؛ حيث جعلاني أتساءل عن سبب تركي للأمور تأخذ هذا المنحى.
شعرت بالحنين إلى دونالد على ذكر «جو هيل».
وشعرت باشتياق أيضا لنيلسون بسبب تعبير بدا على وجه شارلوت أثناء مغادرتي؛ نظرة إعجاب ورضا علمت أنها مرتبطة بجوردي، ولو أنه شق على نفسي أن أصدق ذلك. جعلني هذا التعبير على وجهها أعتقد أنه بعد أن أهبط الدرج وأغادر البناية وأقصد الشارع، ثمة وحش عجوز نحيل وهائج يميل لونه إلى الصفرة، ثمة نمر عجوز أجرب ولكن لحوح سينقض على الكتب والأطباق المتسخة ويحدث جلبة.
بعد هذه الزيارة بيوم تقريبا، استلمت رسالة من دونالد؛ يريد الحصول على الطلاق كي يتسنى له الزواج من هيلين. •••
عينت موظفة، فتاة جامعية، للعمل لبضع ساعات في فترة الظهيرة؛ بحيث يتسنى لي الذهاب إلى البنك وإنجاز بعض الأعمال الورقية. وفي المرة الأولى التي رأتها شارلوت، اتجهت إلى المكتب وربتت على كومة من الكتب موضوعة على المكتب كانت على وشك أن تباع إلى الجمهور.
سألتها: «أهذا هو الكتاب الذي يطلب مديرو المكاتب من موظفيهم شراءه؟» تبسمت الفتاة بحذر ولم ترد عليها.
كانت شارلوت على حق؛ كان الكتاب الذي أشارت إليه تحت عنوان «التحكم الآلي النفساني»، ويتناول تبني المرء لتصور إيجابي عن ذاته.
قالت شارلوت: «ذكاء منك أن استعنت بها بدلا مني؛ فهي أكثر أناقة، ولن تثرثر فتنفر الزبائن، ولن يكون لها رأي شخصي.»
قالت الموظفة الجديدة بعد أن رحلت شارلوت: «ثمة شيء يجب أن أخبرك إياه بشأن هذه المرأة.» ••• «هذا الجزء ليس مهما.»
سألتها: «ماذا تعنين؟» لكن عقلي كان شاردا ظهيرة اليوم الثالث بالمستشفى بالتزامن تحديدا مع الجزء الأخير من قصة شارلوت؛ حيث جال بخاطري كتاب لم يرسل بعد يتناول الرحلات البحرية في البحر المتوسط، وكنت أفكر أيضا في كاتب العدل الذي ضربه أحدهم على رأسه ليلة أمس في مكتبه بشارع جونسون. لم يلق حتفه، لكنه ربما أصيب بالعمى. أكانت عملية سرقة؟ أم عملا انتقاميا بدافع الغضب يرتبط بفترة من حياته لم أخمنها من قبل؟
جعلت الأحداث الدرامية المبالغ فيها والارتباك هذا المكان أكثر اعتيادا، ولكن أقل استيعابا بالنسبة إلي.
قلت لها: «بالطبع هو جزء مهم. كله مهم. إنها قصة مذهلة.»
رددت شارلوت بطريقة متكلفة: «مذهلة.» تجهمت فبدت أشبه برضيع يستفرغ ملء ملعقة من طعام الأطفال، وبدت عيناها اللتان لم تفارقاني وكأنهما تفقدان لونهما وزرقتهما الطفولية اللامعة الأنوفة، وتحولت شكاستهما إلى اشمئزاز، وبدا عليها تعبير ينم عن الاشمئزاز الخبيث، والإنهاك الذي لا يوصف كذلك، الذي يبديه الناس للمرآة ونادرا ما يبدونه للآخرين؛ ربما كان بسبب الأفكار التي كانت تجول في رأسي، خطر لي أن شارلوت قد تموت؛ قد تموت في أي لحظة، قد تموت توا؛ الآن.
أشارت إلى كأس الماء بشفاطتها البلاستيكية المعقوفة. أمسكت الكأس لها بحيث يمكنها أن تشرب، وسندت رأسها، وأمكنني أن أحس بحرارة فروة رأسها ونبضها أسفل جمجمتها. شربت وارتوت من ظمأ، وتبددت من وجهها النظرة المروعة.
قالت: «فكرة بالية.»
قلت بينما أعدتها برفق إلى وسادتها: «أعتقد أنها ستكون مادة ثرية لفيلم رائع.» أمسكت بمعصمي ثم تركته.
سألتها: «من أين أتيت بالفكرة؟»
قالت شارلوت بغموض: «من الحياة. انتظري لحظة.» أشاحت بوجهها على الوسادة وكأنها بصدد ترتيب شيء ما سرا، ثم عادت لوضعيتها وأخبرتني المزيد. •••
لم تمت شارلوت. على الأقل لم تمت في المستشفى. عندما وصلت متأخرة بعض الشيء ظهر اليوم التالي، كان فراشها خاليا وقد تم ترتيبه منذ لحظات، وكانت الممرضة التي تحدثت إليها من قبل تحاول قياس درجة حرارة امرأة مقيدة بكرسي متحرك، وضحكت من النظرة التي بدت على وجهي.
قالت: «أوه، لا! ليس الأمر كما تتخيلينه؛ لقد خرجت شارلوت صباح اليوم. جاء زوجها واستلمها. كنا بصدد نقلها إلى مستشفى رعاية ممتدة في مدينة سانيتش، ومن المفترض أن يصحبها إلى هناك. قال إن سيارة الأجرة بانتظاره بالخارج، وبعدها تلقينا مكالمة هاتفية بأنهما لم يصلا إلى المستشفى قط! كانا في حالة انتشاء عندما غادرا. جلب لها مبلغا كبيرا، وأخذت تلقي به في الهواء! لا أعرف. لعلها أوراق نقدية، لكننا لا نعرف من أين حصلا عليها.»
سرت حتى البناية السكنية الواقعة في شارع باندورا؛ حسبت أنهما ربما عادا إلى البيت، ولعلهما فقدا تعليمات الوصول إلى مستشفى الرعاية الممتدة، ولم تكن لديهما رغبة في الاستفسار، وربما قررا الإقامة معا في شقتهما مهما كلفهما الأمر، وربما شغلا الغاز.
في البداية، لم أتمكن من العثور على البناية، وحسبت أنني ربما ضللت الطريق، لكنني تذكرت متجرا على أحد جانبي الطريق، وبعض البيوت. تغيرت البناية - هذا ما حدث - فقد طلي الجص باللون الزهري، وتم تركيب نوافذ جديدة كبيرة وأبواب فرنسية، وألحقت بها شرفات صغيرة ذات حواجز حديدية مشغولة، وطليت الشرفات الفاخرة باللون الأبيض حتى بدا المكان بأسره وكأنه محل لبيع البوظة. لا شك أنه شهد تجديدات من الداخل أيضا، ولا مراء أن الإيجار قد زاد، فلم يعد في مقدور أناس على شاكلة شارلوت وجوردي الإقامة فيه بعد الآن. تحققت من الأسماء الموجودة على الأبواب، وبالطبع لم أجد اسميهما؛ لا بد أنهما تركا المكان منذ فترة من الزمن.
بدا أن التغير الطارئ على البناية السكنية يحمل في طياته رسالة ما لي؛ رسالة جوهرها الاختفاء. علمت أن شارلوت وجوردي لم يختفيا فعلا - فهما في مكان ما، سواء أكانا على قيد الحياة أم فارقاها - لكنهما اختفيا بالنسبة إلي. وبسبب هذه الحقيقة - لا بسبب فقداني لهما في واقع الأمر - غمرني شعور بالأسى أسوأ وأخطر أثرا بكثير من أي إحساس بالندم شعرت به على مدار العام الماضي كله. كنت قد فقدت اتزاني. يجب أن أرجع إلى المكتبة كي تستطيع موظفتي الجديدة أن تعود إلى بيتها، لكنني شعرت وكأنني أستطيع أن أسير في طريق آخر بنفس السهولة؛ أي طريق. صلتي بالعالم أصبحت في خطر؛ هذا كل ما في الأمر. أحيانا تضعف صلتنا بالعالم وتكون عرضة للخطر، وأحيانا نكاد نفقدها، وتنكر الاتجاهات والشوارع معرفتها بنا، ويمسي الهواء شحيحا. أليس من الأفضل أن يكون لنا قدر نسلم له ثم يتملكنا شيء ما؛ أي شيء بدلا من تلك الخيارات الواهية والأيام المستبدة؟
تركت نفسي تنسل مني إلى خيالات بحياة أعيشها مع نيلسون. لو كنت قد فعلت ذلك بدقة متناهية، لسارت الأمور على هذا النحو.
يأتي إلى فيكتوريا، لكنه لا يهوى فكرة العمل بالمكتبة في خدمة العامة، فيحصل على وظيفة مدرس بمدرسة للبنين؛ وهي مكان للطبقة الراقية سرعان ما تحيله فيه قسوته التي تميز الطبقة الفقيرة وطباعه الفظة إلى شخصية محبوبة.
ننتقل من الشقة الكائنة في شارع داردنالز إلى بيت فسيح من طابق واحد على بعد بنايات قليلة من البحر ونتزوج.
لكن هذه هي بداية فترة من الوحشة. أصبح حبلى، ويقع نيلسون في حب أم واحد من طلابه، بينما أهيم أنا عشقا بطبيب مقيم بالمستشفى أثناء المخاض.
نتجاوز أنا ونيلسون كل هذه التعقيدات وننجب طفلا آخر. نكتسب صداقات وأثاثا وطقوسا جديدة، ونتردد على عدد كبير جدا من الحفلات في مواسم بعينها من العام، ونتكلم بانتظام عن بدء حياة جديدة في مكان ما بعيد حيث لا نعرف أحدا ولا يعرفنا أحد.
ونتباعد ونتقارب مرارا وتكرارا.
بينما دلفت إلى المكتبة، أدركت أن ثمة رجلا يقف على مقربة من الباب يتطلع في النافذة وينظر إلى الشارع في آن واحد، ثم يرمقني بعينيه. كان رجلا قصير القامة يرتدي معطفا مضادا للمطر ويعتمر قبعة رجالية. وصلني انطباع بأنه متنكر. لكنه تنكر مازح. تحرك باتجاهي ووضع يده على كتفي، فصحت كأنني تلقيت صدمة حياتي كلها. وهو ما حدث بالفعل؛ لأن هذا الرجل كان نيلسون حقا؛ جاء ليطالب بي أو على الأقل ليتودد إلي ويرى كيف ستسير الأمور.
كنا في منتهى السعادة.
كثيرا ما كنت أشعر بالوحدة الشديدة.
ثمة شيء جديد دوما في هذه الحياة يمكننا اكتشافه.
مرت الأيام والسنون مرور الكرام وكأن على أبصارنا غشاوة.
في المجمل أنا راضية.
عندما كانت لوتار بصدد مغادرة ساحة بيت الأسقف، كانت متشحة بعباءة طويلة أعطوها إياها؛ ربما لستر ملابسها الرثة أو لاحتواء رائحتها الكريهة. خاطبها خادم القنصل بالإنجليزية شارحا لها إلى أين هما يتجهان. كانت تفهمه، لكنها عجزت عن الرد. لم يكن الظلام قد حل بالكامل. ما زال بإمكانها رؤية الأشكال الباهتة للزهور والبرتقال في حديقة الأسقف.
كان خادم الأسقف ممسكا بالبوابة كي لا توصد.
لم تر الأسقف قط، ولم تر القس الفرنسيسكاني منذ أن تبع خادم الأسقف إلى داخل البيت. نادته الآن بينما كانت تهم بالرحيل. لم تكن تعرف له اسما لتناديه به، فصاحت قائلة: «زوتي! زوتي! زوتي!» وهي كلمة تعني «قائد» أو «سيد» بلغة الجيج، لكنها لم تتلق جوابا، ولوح خادم القنصل بمشكاته بنفاد صبر مشيرا إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه. ومصادفة وقع ضوء المشكاة على الفرنسيسكاني واقفا يستتر نصف جسده وراء شجرة. كانت شجرة برتقال صغيرة تلك التي وقف خلفها. تطلع إلينا بوجهه الشاحب - الذي كان شاحب اللون شأنه شأن البرتقال في ضوء المشكاة - من بين الفروع وقد ذهبت عنه سمرته بالكامل. لقد كان وجها واهنا معلقا في الشجرة، وتعبيراته الحزينة محايدة وقنوعة شأنها شأن التعبيرات التي يمكن أن نراها على محيا حواري تقي، ولكن معتد بنفسه في نافذة كنيسة ما. وبعدها اختفى وجهه، فاحتبست أنفاسها حيث أدركت غيابه بعد فوات الأوان. •••
أخذت تناديه مرارا وتكرارا، وعندما رسا القارب في الميناء بمدينة تريستي، كان بانتظارها على رصيف الميناء.
أسرار معلنة
في صبيحة يوم سبت،
عد من أجمل الأيام،
خرجت سبع فتيات وقائدتهن الآنسة جونستون،
للتخييم ضمن برنامج الفتيات الكنديات المتدربات.
قالت فرانسيس: «كدن لا يذهبن بسبب الأمطار التي هطلت صباح السبت. كن ينتظرن لنصف الساعة في الطابق السفلي للكنيسة المتحدة، وقالت: أوه ستتوقف الأمطار. لم تعرقل الأمطار قط رحلاتي الخلوية! والآن أراهن على أنها تتمنى لو أعاقتها الأمطار؛ إذن لاختلفت القصة تماما عما حدث.»
توقفت الأمطار بالفعل، وخرجن في رحلتهن الخلوية، وأمسى الجو حارا جدا في جزء من الطريق لدرجة أن الآنسة جونستون سمحت لهن بالتوقف عند بيت بمزرعة، وجلبت لهن امرأة من البيت زجاجات المياه الغازية، بينما سمح لهن رجل باستعمال خرطوم الحديقة ليرششن أنفسهن به فتبرد أجسادهن. كن يتبادلن الخرطوم الواحدة تلو الأخرى ويلهون به، وقالت فرانسيس إن ماري كاي قالت إن هيذر بيل هي الأكثر عبثا وجرأة؛ حيث أمسكت بالخرطوم ورشت الأخريات بالمياه في كل الأماكن الحساسة.
قالت فرانسيس: «سيحاولن تفسير الأمر بأنها بريئة مسكينة، لكن الحقائق تفيد بخلاف ذلك تماما. كان من الممكن أن يكون الأمر برمته خطة مسبقة خططت لها للقاء شخص ما؛ أعني رجلا ما.»
قالت مورين: «ظني أن ذلك أمر مستبعد جدا.»
قالت فرانسيس: «حسن، لا أصدق أنها غرقت. لا أصدق ذلك مطلقا.»
الشلالات الواقعة على نهر بيريجرين لم تكن شيئا بالمقارنة بالشلالات التي نراها في الصور؛ فهي مجرد مياه تسقط على سلسلة من الصخور الجيرية التي لم يتجاوز ارتفاع أي منها ست أو سبع أقدام. ثمة بقعة رائعة للاستجمام حيث يستطيع المرء أن يقف وراء ستار من الماء يندفع بقوة، ومن حوله في منطقة الأحجار الجيرية ثمة حمامات ذات حواف ملساء، ولا تزيد على أحواض الاستحمام من حيث الحجم، حوصر فيها الماء وصار دافئا. وإن شئت أن تغرق فيها، فلا بد أن تكون حريصا كل الحرص على الغرق. لكنهن بحثن هناك - الفتيات الأخريات جرين في المكان ونادين اسم هيذر، وفحصن كل البرك، ومددن رءوسهن إلى ما وراء الستار المائي للشلال الصاخب - وجرين برشاقة حول الصخور العارية، وصرخن وبللن أنفسهن بالماء، وخضن الستار المائي، حتى نادت عليهن الآنسة جونستون وأمرتهن بالعودة.
ها هي بيتسي وإيفا ترويل،
ولوسيل تشامبرز أيضا،
وها هي جيني بوس وماري كاي تريفيليان،
وروبن ساندز والمسكينة هيذر بيل.
قالت فرانسيس: «سبع فقط هن اللائي استطاعت أن تجمعهن، وكل منهن لسبب محدد: روبن ساندز هي ابنة الطبيب، ولوسيل تشامبرز ابنة القس، لا يمكنهما الخروج من هذه العباءة؛ بلدة آل ترويل، يسعدهما المشاركة في أي شيء. وجيني بوس العابثة الرشيقة - رافقتنا لممارسة السباحة وركوب الخيل - وماري كاي تسكن إلى جوار الآنسة جونستون؛ كفاها تلك الجيرة. وهيذر بيل وافدة جديدة على المدينة، وأمها سافرت خلال عطلة نهاية الأسبوع؛ لقد استغلت الفرصة وقررت أن تنطلق في رحلة استكشافية خاصة بها.» •••
مضى حوالي 24 ساعة منذ اختفاء هيذر بيل خلال الرحلة الخلوية السنوية التي يقوم بها برنامج الفتيات الكنديات المتدربات، وصولا إلى الشلالات التي تصب في نهر بيريجرين. كانت ماري جونستون، التي أمست في أوائل الستينيات من عمرها، تقود هذه الرحلة منذ سنوات، من قبل الحرب، وجرى العرف على أن تشارك 24 فتاة تقريبا في تلك الرحلة على طريق كاونتي صباح السبت في شهر يونيو. كن يرتدين جميعا سراويل قصيرة زرقاء زرقة داكنة، وبلوزات بيضاء، وأوشحة حمراء حول أعناقهن، وكانت مورين من بينهن منذ عشرين سنة تقريبا.
وكانت الآنسة جونستون دوما تحثهم على إنشاد الأغنية نفسها:
تقديرا لجمال الأرض
وجمال السماوات
والحب الذي يحلق فوقنا منذ الميلاد
ويحيط بنا ...
ويتسلل إلى مسامعك طنين من كلمات مختلفة مصاحبة للأنشودة بحذر مشوب بالإصرار:
تقديرا لمشهد مقعدة الآنسة جونستون
وهي تتمايل على طول طريق كاونتي
نحن الحمقاوات اللائي ينشدن هذه الأنشودة
ألا تبدو أشبه بضفدع الطين؟
هل تذكر إحدى من هن في عمر مورين هذه الكلمات الآن؟ اللائي بقين في البلدة أمسوا أمهات - ولديهن فتيات في سن مناسبة للخروج في هذه الرحلة الخلوية، وفتيات أكبر سنا أيضا - وكانت تصيبهن النوبات التي تصيب الأمهات حيال استخدام ألفاظ نابية. إنجاب الأطفال يغير من طباع النساء؛ فهو يعطيك نصيبك الذي لا غنى عنه من النضج، فيمكن حينئذ استبعاد أجزاء محددة من حياتك - أجزاء قديمة - والتخلي عنها، ولا يكون للعمل والزواج الأثر نفسه؛ كل ما في الأمر أنهما يجعلان المرء يتصرف وكأن ثمة أشياء طواها النسيان.
لم يكن لدى مورين أطفال.
كانت مورين بصحبة فرانسيس وول يحتسيان القهوة ويدخنان حول طاولة الإفطار التي وضعت في غرفة تحتوي على خزانة طعام قديمة ودواليب عالية ذات واجهة زجاجية . كان هذا بيت مورين في مدينة كارستيرز عام 1965. مضى على عيش مورين في ذلك البيت ثماني سنوات، لكنها لا تزال تشعر وكأنها تتحرك فيه - في نطاق محدود نوعا ما - من جزء تشعر فيه بالألفة إلى جزء آخر. جهزت هذه الزاوية بحيث يتاح مكان لتناول الطعام بخلاف طاولة غرفة الطعام، وكانت قد وضعت أقمشة قطنية جديدة في الغرفة المشمسة لتغيير الستائر. استغرق الأمر منها وقتا طويلا لإقناع زوجها بالتعديلات الجديدة؛ فالغرف الأمامية كانت مملوءة عن آخرها بأثاث قيم ثقيل الوزن من خشب البلوط والجوز، وكانت الستائر مصنوعة من قماش ثقيل مطرز باللون الأخضر ولون التوت البري، كما هي الحال في الفنادق الفاخرة؛ فليس بمقدور المرء أن يبدأ في تغيير أي شيء هناك.
تعمل فرانسيس عند مورين بالبيت، لكنها لم تكن خادمة؛ كانتا بنات عم، ولو أن فرانسيس كانت تكبر مورين بجيل كامل. كانت فرانسيس تعمل في هذا البيت قبل أن تطأه مورين بفترة طويلة - كانت تعمل لدى الزوجة الأولى - وأحيانا ما كانت تنادي مورين «سيدتي» على سبيل السخرية، بنبرة فيها من الود ما فيها من النفور. كم دفعت لقاء هذا الفستان، سيدتي؟ أوه، لا بد أن البائع خدعك! وكانت تقول لمورين إنها تعاني ترهلا في منطقة الأرداف، وأن طريقة تصفيف شعرها والصبغة التي تستخدمها لم تكونا تناسبانها؛ كل هذا على الرغم من أن فرانسيس نفسها كانت امرأة سمينة غطى الشيب شعرها، وبدت على وجهها أمارات الوقاحة. لم تعتبر مورين نفسها هلوعة؛ فقد كانت تتمتع بهيئة مهيبة. وبالتأكيد لم تكن الكفاءة تعوزها؛ حيث كانت تدير مكتب المحاماة الخاص بزوجها قبل أن «تتأهل» (على حد تعبيرهما) لإدارة بيته وتدبير شئونه. كانت تحدث نفسها أحيانا بأنه ينبغي عليها أن تحاول أن تحظى بقدر أكبر من الاحترام من جانب فرانسيس، لكنها كانت بحاجة لمن تمزح وتتشاجر معه بالبيت. لم يكن لها أن تثرثر نظرا لحساسية موقف زوجها، وهي لم تعتقد أن الثرثرة من طبيعتها على أية حال، لكنها تسامحت مع فيض التعليقات الخبيثة والتخمينات الطائشة القاسية والواثقة التي كانت تصدر من فرانسيس. (على سبيل المثال: ما قالته فرانسيس عن والدة هيذر بيل، وعن ماري جونستون والرحلة الخلوية بصفة عامة. حسبت فرانسيس أنها خبيرة في هذا المضمار لأن ماري كاي تريفيليان كانت حفيدتها).
كان من الصعب أن يأتي أحد على ذكر ماري جونستون في مدينة كارستيرز دون أن يلحق بذكرها صفة «رائعة»؛ فقد أصيبت بمرض شلل الأطفال، وكادت تقضي نحبها تأثرا به في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها، وأفضى المرض إلى أن صارت ساقاها قصيرتين، وقوامها قصيرا ومكتنزا، وكتفاها مائلتين، وعنقها متقوسا بقدر طفيف؛ مما أدى إلى أن مال رأسها الكبير بعض الشيء إلى جانب واحد. درست ماري إدارة الحسابات، وحصلت على وظيفة مكتبية في مصنع آل دود، وكرست أوقات فراغها للفتيات، وغالبا ما كانت تقول إنها لم تلتق فتيات سيئات قط، بل بعض الفتيات اللائي كن مرتبكات. وكانت مورين كلما التقت ماري جونستون على قارعة الطريق أو في محل من المحلات يخفق قلبها من فرط الحزن والأسى. كانت ماري تلقاها أولا بتلك الابتسامة الفاحصة حيث تحملق في عينيها، وبإعلان سعادتها بحالة الجو أيا كانت - سواء أكانت عاصفة أم باردة أم مشمسة أم مطيرة - ثم بطرح السؤال المغلف بضحكة عذبة: «كيف حالك إذن سيدة ستيفنز؟!» كانت ماري جونستون دوما حريصة كل الحرص على تلقيبها ب «السيدة ستيفنز»، لكنها كانت تلفظه وكأنه عنوان مسرحية، وكانت تحدث نفسها طوال الوقت بأنها مورين كولتر فحسب. (كان آل كولتر شأنهم شأن آل ترويل تماما الذين علقت عليهم فرانسيس واصفة إياهم بأنهم معلم من معالم المدينة لا أكثر ولا أقل). سألتها ماري قائلة: «ما الأشياء المثيرة التي قمت بها مؤخرا، سيدة ستيفنز؟»
حينئذ شعرت مورين وكأن الأضواء سلطت عليها، ولم تستطع أن تفعل شيئا حيال ذلك، وكأنها في مواجهة تحد ما، وكان الأمر يتعلق بزواجها المبني على الحظ، وقوامها الممشوق الغض الذي كان الشيء الوحيد المعيب فيه خفيا - فقد ربطت قناتا فالوب لمنعها من الإنجاب - وبشرتها وردية اللون، وشعرها الكستنائي، والملابس التي أنفقت أموالا طائلة ووقتا طويلا عليها؛ وكأنها يجب أن تكون مدينة لماري جونستون بشيء ما؛ تعويض لا يمكن تحديده أبدا، أو كأن ماري جونستون بإمكانها أن ترى نوعا من القصور أكبر بكثير مما تواجهه مورين نفسها.
لم تعبأ فرانسيس بماري جونستون هي الأخرى بنفس الطريقة البسيطة المحضة التي لا تعبأ بها بأي شخص يبالغ في تقديره لذاته. •••
صحبتهم الآنسة جونستون في رحلة تسلق لمسافة نصف ميل قبل الإفطار كعادتها دوما لارتقاء الصخرة؛ كتلة الحجر الجيري التي برزت أعلى نهر بيريجرين، وكانت شيئا نادرا جدا في هذه البقعة من البلدة، لدرجة أنها لم يطلق عليها سوى «الصخرة». صباح الأحد، يتعين القيام برحلة التسلق هذه مهما كان المرء خدرا من فرط محاولة مغالبة النعاس طوال الليل، وشاعرا بشبه غثيان من فرط تدخين السجائر المهربة، ومرتعشا أيضا؛ لأن الشمس لم تكن تتخلل الغابات في تلك الساعة من النهار. كاد الطريق لا يوصف بأنه طريق؛ إذ كان يتعين على المرء أن يتسلق جذوع أشجار متعفنة، ويخوض عبر السراخس، وما بينت الآنسة جونستون أنه نبات اليبروح ونبات إبرة الراعي البري والزنجبيل البري. كانت تجذبه لأعلى وتقضمه برفق دون أن تتمكن من إزالة القذارة عنه بالكامل. انظروا بم تحبونا الطبيعة!
نسيت سترتي. هكذا قالت هيذر عندما قطعا نصف الطريق لأعلى. هل يمكنني العودة لجلبها؟
في الأيام الخوالي، كانت إجابة الآنسة جونستون على الأرجح هي النفي. أسرعي الخطى وستشعرين بالدفء من دونه. هكذا كانت تقول. لا بد أنها شعرت بعدم الارتياح هذه المرة؛ نظرا لأن شعبية رحلات التسلق خاصتها ما برحت تتضاءل، الأمر الذي ألقت باللائمة فيه على التليفزيون والأمهات العاملات والتكاسل في البيت. أجابت لها طلبها.
حسن، ولكن أسرعي. أسرعي والحقي بنا.
وهو ما لم تفعله هيذر قط. عند الصخرة، استمتعن بالمنظر (تذكرت مورين بحثها عن موانع الحمل بين زجاجات الجعة ولفافات الحلوى) ولم تلحق بهن هيذر، وفي طريق عودتهن لم يقابلنها. لم تكن في الخيمة الكبيرة ولا في الصغيرة؛ حيث كانت الآنسة جونستون تنام، أو حتى بين الخيام. لم تكن في أي ملاذ أو مخبأ من مخابئ العشاق بين أشجار الأرز المحيطة بأرض المعسكر. اختصرت الآنسة جونستون عملية البحث.
قالت: «الفطائر المحلاة. الفطائر المحلاة والقهوة. ترى هل ستقاوم الفتاة العابثة رائحة الفطائر والقهوة فتخرج من مخبئها؟»
تعين عليهن الجلوس وتناول الطعام - بعد أن تلت الآنسة جونستون صلاتها شاكرة الرب على كل شيء في الغابة وفي البيت - وبينما شرعن في تناول الطعام، صاحت الآنسة جونستون: «يا للطعم اللذيذ!» وتساءلت بأعلى صوتها: «ألا يفتح الهواء المنعش شهيتنا؟ أليست هذه ألذ فطائر محلاة تتناولنها؟ من الأفضل أن تسرع هيذر وإلا فلن يكون لها نصيب من الفطائر. هيذر؟ هل تسمعينني؟ لن يتبقى لك شيء!»
فور أن انتهوا، تساءلت روبن ساندز إن كان بإمكانهن الذهاب الآن للبحث عن هيذر؟
قالت الآنسة جونستون: «الصحون أولا يا سيدتي، حتى لو لم تكوني معتادة على غسل الصحون بالبيت.»
كادت روبن أن تجهش بالبكاء؛ لم يكلمها أحد من قبل بهذه الطريقة.
بعد أن انتهين من غسل الصحون، سمحت لهن الآنسة جونستون بالرحيل، وحينئذ عدن مرة أخرى إلى الشلالات، لكن سرعان ما استدعتهن جميعا وأمرتهن بالجلوس على شكل نصف دائرة مبللات كما هن، وجلست هي القرفصاء أمامهن، وصاحت أن مرحبا بأي شخص يسمعهن ويود الانضمام لهن، «مرحبا بأي شخص يختبئ هنا ويحاول أن يمارس علينا خدعة! فلتظهر الآن ولن نسألك عن شيء! وإلا فسيتعين علينا أن نمضي قدما من دونك!»
وبعدها بدأت حديثها بحماس، وألقت على مسامعهن عظتها التي عادة ما تلقيها صباح الأحد خلال رحلة التسلق دون تردد أو قلق. ظلت تسهب في عظتها وتطرح بين الحين والآخر بعض الأسئلة لتتأكد من إنصاتهن إليها. جففت حرارة الشمس سراويلهن القصيرة، ولم ترجع هيذر بيل. لم تخرج من بين الأشجار، وما برحت الآنسة جونستون تتكلم. لم تتركهن حتى وصل السيد ترويل بشاحنته إلى المعسكر محملا بالآيس كريم للغداء.
لم تعطهن الإذن حينئذ، لكنهن انطلقن من تلقاء أنفسهن على أية حال. قفزن وجرين باتجاه الشاحنة، وأخذن يقصصن عليه ما حصل على الفور. قفز جوبيتر؛ الكلب الخاص بترويل، على الجزء الخلفي للشاحنة، ولفت إيفا ترويل ذراعيها حوله وطفقت تنوح وكأنه هو الذي ضل الطريق.
نهضت الآنسة جونستون واتجهت نحو الشاحنة، ونادت على السيد ترويل بصوت عال يعلو على الضجيج الذي أحدثته الفتيات. «واحدة من الفتيات قررت أن تختفي!»
خرجت فرق البحث، وأغلق مصنع آل دود أبوابه بحيث يستطيع كل من يود المشاركة في البحث أن يشارك، وشاركت الكلاب أيضا في البحث. دار حوار عن البحث في النهر باتجاه سريانه من الشلالات.
عندما قصد الشرطي والدة هيذر بيل ليخبرها باختفاء ابنتها، وجدها قد رجعت توا من عطلة نهاية الأسبوع مرتدية لباسا صيفيا خفيفا كاشفا للظهر، وحذاء عالي الكعبين.
قالت له: «حسن، من الأفضل أن تجدوها؛ فهذه مهمتكم.» كانت تعمل ممرضة بالمستشفى. قالت فرانسيس: «إنها إما مطلقة وإما لم تتزوج من قبل قط. الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد؛ ذلك هو مبدؤها.» •••
كان زوج مورين يناديها، فأسرعت إلى الغرفة المشمسة. بعد السكتة الدماغية التي أصيب بها منذ عامين وهو في التاسعة والستين من عمره، ترك مهنة المحاماة، لكنه ما زال منكبا على بعض الرسائل التي يتعين عليه كتابتها، وبعض الأعمال المعلقة لوكلاء قدامى لم يعتادوا التعامل مع محام غيره. طبعت مورين كل مراسلاته، ومدت له يد المساعدة كل يوم فيما سماه مهامه.
سألها: «ماذا تفعلين هناك؟» كانت كلماته تخرج منه أحيانا بلا وضوح؛ لذا كان يتعين عليها ملازمته لتفسر كلامه لمن لا يعرفونه جيدا. وكلما اختلى بها، لم يكن يبذل جهدا كبيرا لتنقيح ألفاظه، وكانت نبرته متبرمة وفيها نزق.
أجابته مورين: «كنت أتكلم مع فرانسيس.» «عم تتكلمان؟»
قالت: «موضوعات عامة.» «حسن.»
أطال مقاطع الكلمة بكآبة وهو ينطقها وكأنه يقول إنه على دراية بمضمون حوارهما، وإنه لا يعبأ به؛ النميمة والشائعات، والاستمتاع دون مبالاة بما تحدثه كوارث الآخرين من إثارة. لم ينخرط في حوارات ممتدة، سواء في هذه المرحلة أم عندما كان باستطاعته أن يتحدث بطلاقة ، حتى تعنيفه كان مقتضبا؛ حيث يعول على نبرة صوته وتلميحاته. بدا وكأنه يدعو إلى مجموعة من المبادئ والقواعد المعلومة لكل المحترمين من الناس، بل ربما للناس جميعا أيضا، والمعروفة حتى للذين عاشوا حياتهم في حالة من القصور. بدا أنه يألم نوعا ما، وينتابه شعور بالحرج بعض الشيء لكل المعنيين بالأمر كلما اضطرته الظروف أن يتحدث عن الآخرين، وبدا مهيبا أيضا. وكانت توبيخاته فعالة على نحو مذهل.
كان الناس في كارستيرز يتحللون تدريجيا من عادة دعوة المحامين بالمحامي فلان الفلاني، تماما كما ننادي الأطباء بألقابهم. لم يعد أحد في المدينة ينادي محاميا بلقبه المهني، لكنهم دوما يشيرون إلى زوج مورين بالمحامي ستيفنز، والأدهى أن مورين نفسها كانت تفكر فيه من هذا المنطلق أيضا، ولو أنها كانت تدعوه «ألفين». كان يرتدي كل يوم نفس ملابس الخروج التي اعتاد أن يرتديها عند الذهاب إلى مكتبه - بذلة رمادية أو بنية اللون من ثلاث قطع - وبدا أن ملابسه، على الرغم من تكلفتها الباهظة، لا تناسبه تماما، أو تمتد بحيث تغطي جسمه الطويل المترهل، وبدا أنها لم تكن تخلو قط من آثار ولو طفيفة لرماد السجائر وفتات الطعام، بل ربما حتى شذرات من الجلد المنسلخ أيضا. وكان رأسه محنيا لأسفل، وشحومه متدلية من فرط استغراقه وانهماكه، وتعبيرات وجهه تنم عن الدهاء وشرود الذهن - لا يسع أحد أن يجزم أيهما الغالب على محياه. وراق ذلك للناس؛ فهم يحبون هيئته الرثة بعض الشيء، وشروده الذي يخرج بغتة منه بتفصيلة مخيفة. إنه ضليع بالقانون - هكذا يقولون - ولا يحتاج إلى الرجوع إلى كتاب قانون للاطلاع على مسألة معينة؛ فكل كتب القانون مطبوعة في ذاكرته. لم تهز سكتته الدماغية ثقتهم به، ولم تغير من مظهره أو سلوكه كثيرا؛ جل ما في الأمر أنها عززت من تلك الصفات.
آمن الجميع بأنه كان من الممكن أن يصبح قاضيا لو كان قد استغل الفرص التي سنحت له. كان يمكن أن يصبح عضوا بمجلس الشيوخ، لكنه كان أشرف من ذلك بكثير؛ لم يكن يعرف كيف يتزلف. كان رجلا فريدا من نوعه.
جلست مورين على مسند القدم على مقربة منه لتكتب بطريقة الاختزال. كان اسمها بالنسبة إليه، في المكتب، «الجوهرة»؛ لأنها كانت فطنة ويعول عليها، والواقع أنها كانت بارعة في وضع مسودات للمستندات وكتابة الرسائل بمفردها. وحتى في البيت، كانت زوجته وأبناؤه هيلينا وجوردون ينادونها بالاسم نفسه. وما زالت هيلينا وجوردون يستخدمان الاسم نفسه ولو أنهما شبا عن الطوق ويعيشان بعيدا الآن. هيلينا كانت تستخدمه بعطف واستفزاز، وأما جوردون فبلطف مشوب بالوقار والإطراء. كانت هيلينا عزباء مضطربة نادرا ما تزور البيت، وكثيرا ما تدخل في مجادلات كلما جاءت، أما جوردون فكان معلما بكلية عسكرية، وكان يطيب له اصطحاب زوجته وأولاده لزيارة كارستيرز مستعرضا المكان وأباه ومورين وفضائلهم الراسخة.
ما زال بإمكان مورين أن تستمتع بكونها «الجوهرة»، أو على الأقل وجدت تلك المكانة مريحة لها. بعض أفكارها كانت تشرد من تلقاء نفسها. كانت الآن تفكر في الطريقة التي بدأت بها المغامرة الليلية الطويلة بالمعسكر في ظل غطيط الآنسة جونستون المروع، والغاية منها مغالبة النوم حتى الفجر، وفي كل الاستراتيجيات والفقرات الترفيهية التي كان يعول عليها لتحقيق هذه الغاية، ولو أنها لم تسمع قط أنها آتت ثمارها.
الفتيات لعبن بورق اللعب، وتبادلن النكات، ودخن السجائر، وفي منتصف الليل تقريبا بدأن لعبة «الحقيقة أم التحدي»، ومن بين التحديات التي اقترحنها: اخلعي الجزء العلوي من منامتك واكشفي عن صدرك، كلي عقب السيجارة، ابتلعي الأوساخ، ضعي رأسك في سطل الماء وحاولي العد حتى مائة، اذهبي وتبولي أمام خيمة الآنسة جونستون، ومن بين الأسئلة التي استدعت قول الحقيقة: هل تكرهين أمك؟ أباك؟ أختك؟ أخاك؟ كم عدد الأعضاء التناسلية الذكورية التي رأيتها في حياتك؟ ولمن كانت؟ هل كذبت أو سرقت أو مسست شيئا ميتا في حياتك من قبل؟ وتذكرت أيضا مورين الإحساس بالغثيان والدوار الناجمين عن تدخين عدد كبير من السجائر بسرعة مبالغ فيها، وكذلك رائحة الدخان تحت القماش السميك الذي تشبع بشمس النهار، ورائحة الفتيات اللائي سبحن لساعات في النهر، وجرين واختبأن بين عيدان القصب على طول ضفتي النهر، وتعين عليهن أن يحرقن العلقات ليبعدنها عن أرجلهن.
تذكرت كم كانت مزعجة آنذاك، كم كانت صاخبة وميالة إلى قبول التحديات! قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانوية تحديدا، تمكنت منها حالة من الطيش، سواء أكانت حقيقية أم مزيفة أم وسطا بين الحقيقة والزيف، وسرعان ما تبددت تلك الحالة، واختفى جسدها الجريء داخل هذا الجسد الكبير، وأمست فتاة مولعة بالدراسة، خجولة، يتورد وجهها خجلا. اكتسبت الخصال التي سيراها زوج المستقبل ويقدرها كل التقدير عندما يتقدم لطلب يدها.
أتحداك أن «تهربي». هل كان ذلك ممكنا؟ أحيانا ما يهبط الإلهام على الفتيات عندما يردن للمخاطر أن تستمر دون توقف، فترى الواحدة منهن تتمنى لو كانت بطلة مهما كلفها الأمر. يتعاطين مع مزحة، فترى لديهن رغبة في حملها على محمل يتجاوز ما حملها عليه غيرهن من قبل. تجد لديهن رغبة في أن يكن طائشات جريئات ومدمرات. كان هذا الأمل الضائع لدى الفتيات.
من مسند القدم المغطى بنسيج قطني مطرز إلى جوار زوجها، تطلعت إلى أشجار الزان النحاسي، فتجلى لها عبرها، ليس العشب المشمس، بل الأشجار الجامحة بطول النهر؛ أشجار الأرز الوارفة، وأشجار البلوط ذات الأوراق النحيلة، وشجر الحور بأوراقه اللامعة. بدت الأشجار جدارا مخلخلا نوعا ما ببوابات خفية، ودروب مستترة خلفه؛ حيث كانت تمضي حيوانات، وبشر منعزلون أحيانا، أصبحوا مختلفين عما كانوا عليه بالخارج، ومحملين بمسئوليات وقناعات ونوايا مختلفة. كان بإمكانها أن تتخيل فكرة الاختفاء، لكن المرء - بالطبع - لا يختفي هكذا وحسب؛ فهناك دوما شخص آخر يقطع دربا يتقاطع مع دربك، وعقله يحفل بخطط لك حتى قبل أن يلتقي بك.
عندما قصدت مكتب البريد ظهر ذاك اليوم لإرسال خطابات زوجها، سمعت مورين روايتين جديدتين: ثمة فتاة شقراء شوهدت وهي تهم بركوب سيارة سوداء على طريق بلووتر السريع شمالي والي في تمام الواحدة تقريبا ظهر الأحد. ربما كانت تتطفل للركوب مع أحد أصحاب السيارات، أو ربما كانت تنتظر سيارة بعينها. كان ذلك على بعد 20 ميلا من الشلالات، وكان الطريق إلى هناك يستغرق سيرا على الأقدام حوالي خمس ساعات عبر البلدة. من الممكن القيام بذلك، أو ربما حصلت على توصيلة في سيارة أخرى.
لكن بعض الناس ممن يعكفون على تنظيف مدافن عائلاتهم في مقابر الكنيسة المهجورة بالبلدة في الجانب الشمالي الشرقي المليء بالمستنقعات؛ زعموا أنهم سمعوا صرخة في منتصف النهار. تذكروا أنهم تساءلوا عمن يمكن أن يكون صاحب الصرخة. ليس «ما»، ولكن «من»؟ «من كان ذلك الشخص؟» ولكن لاحقا، حسبوا أنه ربما كان ثعلبا.
كانت هناك مواطئ أقدام في بقعة على مقربة من المعسكر، وأعقاب سجائر مطفأة حديثا متناثرة في المكان، ولكن علام يمكن الاستدلال من ذلك كله؟ فالناس كثيرا ما يترددون على ذلك المكان؛ العشاق، والصبية الذين يدبرون مقالب.
وربما التقى بها رجل هناك
وكان بحوزته مسدس أو سكين
التقى بها هناك
ولم يعبأ بها
فقتل تلك الفتاة الصغيرة.
لكن البعض سيزعمون أن هذا ليس ما حدث
وأنها التقت غريبا أو صديقا
في السيارة السوداء الفارهة
التي حملتها إلى مكان بعيد
ولا أحد يعرف ما حل بها.
صباح الثلاثاء، بينما كانت فرانسيس تجهز الإفطار، ومورين تعين زوجها على ارتداء ملابسه، ثمة من كان يطرق الباب الأمامي متجاهلا الجرس أو غير واثق فيه. لم يكن غريبا أن يتزاور الناس في تلك الساعة المبكرة من النهار، لكن هذه الزيارات المبكرة كانت تمثل صعوبات؛ لأن المحامي ستيفنز كان يجد مشكلة أكبر في الصباح تتعلق بقدرته على الكلام بطلاقة، وعقله أيضا كان يستغرق بعض الوقت كي ينشط.
رأت مورين عبر الزجاج السميك أمام الباب ظلا مشوشا لرجل وامرأة؛ كانا متأنقين، على الأقل هكذا كانت المرأة بقبعتها التي تعتمرها. هيئتهما تدل على جدية الأمر الذي جاءا بشأنه، لكن الأمر الجاد بالنسبة إلى الشخص المعني قد يبدو على أية حال روتينا مملا للآخرين؛ فثمة تهديدات بالقتل بسبب ملكية خزانة ملابس، وصاحب عقار ثارت ثائرته على جور أحدهم على ست بوصات من ممره الخاص بالسيارات؛ أحطاب مفقودة، وكلاب نابحة، وخطابات بذيئة؛ كل هذه الأشياء يمكن أن تجعل الناس يطرقون بابهم، فتجد أحدهم يقول: «اذهب واسأل المحامي ستيفنز. عليك بالاستفسار عن الوضع القانوني.»
وهناك احتمال طفيف أن هذين الطارقين ربما يروجان لأفكار عقائدية.
لم يكونا كذلك.
قالت المرأة: «جئنا لمقابلة المحامي.»
قالت مورين: «حسن، ما زال الوقت مبكرا.»
لم تتعرف عليهما على الفور.
قالت المرأة وقد دلفت إلى الممر الأمامي بطريقة ما بينما تراجعت مورين لتفسح لها المجال: «معذرة، لكن لدينا شيء مهم جدا يجب أن نطلعه عليه.» هز الرجل رأسه وكأنه يعرب عن انزعاجه أو اعتذاره، ومشيرا إلى أنه لم يكن لديه خيار إلا أن يتبع زوجته.
عبقت الردهة برائحة صابون الحلاقة ومزيل العرق وكولونيا زهيدة الثمن؛ زنبق الوادي. الآن تعرفت مورين عليهما.
إنها ماريان هيوبرت. كل ما في الأمر أنها بدت مختلفة في حلتها الزرقاء - التي كانت ثقيلة بدرجة لا تحتمل مع المناخ في هذا الوقت من العام - وقفازيها القماشيين البنيين، وقبعتها البنية المصنوعة من الريش. عادة ما كانت تظهر في المدينة وهي ترتدي سروالا أو حتى ما يبدو وكأنه سروال عمل للرجال. كانت امرأة ضخمة البنية من عمر مورين تقريبا - فقد التحقتا بالمدرسة الثانوية معا، على الرغم من أنه فصل بينهما عام أو عامان. كانت ماريان تعوزها اللياقة، لكنها كانت سريعة الحركة مع ذلك، وكان شعرها الرمادي مقصوصا قصة قصيرة؛ مما سمح بظهور الشعر القصير الخشن الذي نما على عنقها، وكان صوتها جهوريا يصدر عنها أغلب الوقت بنبرة صاخبة نوعا ما؛ أما الآن، فقد تراجعت حدة نبرتها.
كان الرجل الذي بصحبتها هو نفسه الذي تزوجته منذ وقت ليس ببعيد؛ ربما منذ عامين. كان طويل القامة، صبياني الهيئة، يرتدي سترة رخيصة صفراء صفرة باهتة تحتوي على بطانة ضخمة على الكتفين، شعره بني مثبت بمشط مبلل. قال بصوت خافت - ربما بنبرة لم يكن ينوي أن تسمعها زوجته: «معذرة.» بينما صحبتهما مورين إلى غرفة الطعام. لم تكن عيناه عن قرب عيني شاب؛ ثمة إجهاد وجفاف أو حيرة فيهما. لعله لم يكن على قدر كبير من الذكاء. تذكرت مورين رواية ما عن أن ماريان تعرفت إليه من إعلان؛ كان الإعلان: «امرأة تملك مزرعة ملكية خالصة.» كان من الممكن أن يكون الإعلان: «سيدة أعمال تملك مزرعة.» وذلك لأن الاسم الآخر لماريان هيوبرت هو «بائعة المشد»؛ فلسنوات طويلة كانت تبيع المشدات المصنوعة خصوصا لزبائنها، ولعلها ما زالت تبيعها للسيدات القلائل اللائي ما برحن يرتدينها. تخيلتها مورين وهي تأخذ المقاسات وتملي أوامرها كالممرضات، وتتصرف بتعال وعلى نحو مهين، لكنها كانت تعامل والديها العجوزين بلطف وكرم؛ والديها اللذين يعيشان في مزرعة وبلغا من العمر أرذله، لدرجة أنهما أصيبا بكل ما يصاب به العجائز من علل. والآن، ثمة رواية جديدة شاعت عن زوجها، رواية أقل خبثا: كان زوجها يقود الحافلة التي تنقل المسنين إلى جلسة السباحة العلاجية التي يتلقونها في والي بحمام السباحة الداخلي، وهكذا التقيا. كانت لدى مورين صورة أخرى له في ذاكرتها أيضا؛ تذكرته وهو يحمل الأب العجوز بين ذراعيه إلى مكتب الدكتور ساندز. اندفعت ماريان مسرعة إلى الأمام وحقيبتها تهتز من سرعتها، وكانت على أهبة الاستعداد لفتح الباب.
راحت تخبر فرانسيس عن الإفطار في غرفة الطعام، وتطلب منها إحضار المزيد من أقداح القهوة، وبعدها ذهبت لتنذر زوجها.
قالت: «إنها ماريان هيوبرت، أو هكذا كان اسمها. وأيا كان اسم الرجل الذي تزوجت منه.»
قال زوجها بالطريقة نفسها التي يستحضر بها - دون مبالاة - تفاصيل صفقة بيع أو عقد إيجار لم يكن يخطر ببال أحد أنه يعرفه بهذه السهولة: «سليتر، ثيو.»
قالت مورين: «أنت مطلع على مستجدات الأمور أكثر مني.»
سألها عما إذا كان حساء الشعير جاهزا. قال: «تناولي الطعام وأنصتي.»
جلبت فرانسيس حساء الشعير، فانكب عليه على الفور. كان حساء الشعير المغطى بسخاء بالكريمة والسكر البني وجبته المفضلة شتاء وصيفا.
وعندما جلبت فرانسيس القهوة، حاولت أن تتسكع في المكان، بيد أن ماريان رمقتها بنظرة ثابتة جعلتها تشيح بوجهها وتنطلق إلى المطبخ.
حدثت مورين نفسها أن ماريان تستطيع أن تتدبر أمرها أكثر منها شخصيا.
لم تكن ثمة ميزة واحدة جلية تميز ماريان هيوبرت؛ فرأسها كبير، وخداها مترهلان، حتى إن مورين كانت تحضرها صورة كلب من نوع ما كلما وقعت عيناها عليها. ليس بالضرورة كلبا دميما؛ فلم يكن وجهها قبيحا حقا؛ كل ما في الأمر أنه كبير وصارم الملامح، ولكن في كل مكان كانت تطؤه ماريان، كما في غرفة طعام مورين الآن، كانت توحي للآخرين بأنها تتمتع بحقوق مطلقة، وعلى الآخرين أن يحسبوا لها ألف حساب.
كانت قد بالغت في مقدار المساحيق التي وضعتها على وجهها، وربما كان ذلك سببا آخر وراء عدم تعرف مورين عليها لأول وهلة. كان تبرجها شاحبا ومائلا إلى اللون الوردي، فلم يناسب بشرتها الزيتونية اللون وحاجبيها الأسودين الكثيفين. جعلها التبرج تبدو غريبة الشكل، لكنه لم يجعلها بائسة. وبدا أنها وضعت مساحيق التبرج مثلما تضع الحلة على جسدها والقبعة على رأسها؛ لتثبت أنها قادرة على مسايرة غيرها من النساء في اللباس والزينة؛ حيث كانت تعلم ما هو متوقع، ولكن لعلها كانت تريد أن تبدو جميلة فحسب. ربما رأت أن المسحوق الباهت العالق بوجنتيها، وأحمر الشفاه الوردي الكثيف يحدثان تحولا في هيئتها، ولعلها التفتت إلى زوجها بخجل بعد أن انتهت من تزينها. كاد يضحك ضحكة مكتومة وهو يجيب نيابة عن زوجته عندما سألتها مورين عن كمية السكر التي تفضلها في قهوتها؛ إذ قال: «قطعا كبيرة.»
كان كثيرا ما يردد «رجاء، وشكرا»، قال: «رجاء. شكرا جزيلا لك. شكرا لك. نفس الكمية لي. شكرا لك.»
كانت ماريان تقول: «لم نكن نعرف شيئا عن تلك الفتاة إلى أن بدا أن الجميع يعرفون قصتها؛ أعني أننا لم نكن نعرف، أيضا، أن ثمة شخصا مفقودا أو أي شيء من هذا القبيل. لم نكن نعرف إلى أن وصلنا إلى المدينة أمس. أمس؟ الإثنين؟ أمس كان الإثنين. التبست علي الأيام كلها لأنني أتعاطى مسكنات للألم منذ فترة.»
لم تكن ماريان ممن يصرحون بتعاطيهم حبوبا وكفى، بل كانت تحدد سبب تعاطيها.
قالت: «كنت أعاني من بثرة كبيرة وفظيعة على عنقي. هنا، أليس كذلك؟» أدارت رأسها إذ حاولت أن تريهم الضمادة التي تغطي البثرة، ثم استطردت قائلة: «كانت تؤلمني كثيرا، وشعرت بصداع أيضا، وأعتقد أن ثمة علاقة بينهما، فتدهورت حالتي يوم الأحد بشدة، لدرجة أنني أخذت خرقة ساخنة ووضعتها على عنقي، وابتلعت قرصين من مسكن الآلام، وذهبت للاستلقاء قليلا. كان زوجي عاطلا عن العمل ذاك اليوم، لكنه الآن يعمل، كما أن لديه الكثير من الأعمال التي ينجزها في البيت. إنه يعمل بمحطة الطاقة الذرية.»
تساءل المحامي ستيفنز رافعا عينيه عن حسائه: «دوجلاس بوينت؟» ثمة اهتمام أو احترام يبديه الرجال جميعا - بمن فيهم المحامي ستيفنز - على ذكر محطة الطاقة الذرية الجديدة الكائنة في دوجلاس بوينت.
أجابته ماريان: «هذا هو مقر عمله.» شأنها شأن الكثير من نساء الريف ونساء مدينة كارستيرز أيضا، كانت تفضل أن تشير إلى زوجها بالضمير الغائب - مع التشديد عليه تشديدا خاصا - بدلا من تسميته باسمه. واكتشفت مورين أنها تفعل الشيء نفسه بضع مرات، لكنها أسقطت هذه العادة من حساباتها دون أن يشير عليها أحد بذلك.
قالت ماريان: «تعين عليه أن يخرج قوالب الملح للأبقار كي تلعقها، وبعدها عاد وأصلح السياج. ولما كان يتوجب عليه أن يقطع مسافة نصف ميل تقريبا، فقد ركب الشاحنة، لكنه ترك باوندر. انطلق بالشاحنة من دونه. باوندر هو كلبنا الذي لا يستطيع أن يقطع أي مسافة إلا راكبا. تركه ليتولى الحراسة؛ لأنه كان يعلم أنني ذهبت واستلقيت؛ فقد تعاطيت قرصين مسكنين للألم، واستغرقت في نوم عميق، ثم سمعت نباح باوندر وأفقت مباشرة. كان باوندر ينبح.» •••
حينئذ نهضت من غفوتها، وارتدت مبذلها، ونزلت الدرج. كانت مستلقية بملابسها التحتية فحسب. تطلعت من الباب الأمامي على الطريق، ولم يكن ثمة أحد. لم تر باوندر أيضا، وكان آنذاك قد توقف عن النباح؛ عادته أن يتوقف عن النباح إذا كان الزائر معروفا له، أو إذا كان ثمة عابر سبيل يقطع الطريق مارا أمام البيت. لكنها كانت لا تزال على حالتها من عدم الرضا. تطلعت من نوافذ المطبخ المطلة على الباحة الجانبية لا على الباحة الخلفية من البيت، فلم تر أحدا أيضا. لم تستطع رؤية الباحة الخلفية من المطبخ؛ فحتى يتسنى لها رؤيتها، كان يتعين عليها المرور مباشرة إلى ما كانا يطلقان عليه المطبخ الخلفي؛ لم يكن سوى غرفة توضع فيها أغراض متنوعة، وكانت أشبه بسقيفة أعلى البيت تلقى فيها الأشياء بلا نظام. كانت بها نافذة تطل على الجزء الخلفي من البيت، لكن من الصعوبة بمكان أن يصل المرء إلى تلك النافذة أو يتطلع من خلالها، بسبب أكوام الصناديق المتراكمة، وليات الأريكة القديمة الملقاة هناك. كان على المرء أن يتجه نحو الباب الخلفي مباشرة ويفتحه ليرى ما بالخارج. والآن، تناهى إلى مسامعها صوت شيء ما عند ذاك الباب؛ صوت أشبه بصوت مخالب تنبش؛ ربما كان الكلب باوندر، وربما لا.
كان الجو شديد الحرارة في ذلك المطبخ الخلفي المغلق والمحتشد بالخردة، لدرجة أنها كادت لا تقوى على التنفس. تصبب العرق منها تحت مبذلها. حدثت نفسها أنها على الأقل لم تصب بالحمى، فهي تتصبب عرقا.
طغى حرصها على أن تتنفس بشكل طبيعي على خوفها مما قد يكون بالخارج؛ لذا فقد فتحت الباب بقوة على مصراعيه. فتح الباب للخارج دافعا الرجل الذي كان متكئا عليه إلى الوراء؛ ترنح لكنه لم يقع، وتعرفت هي عليه؛ السيد سيديكاب من البلدة.
بالطبع تعرف باوندر عليه؛ لأنه كثيرا ما كان يمر من أمام البيت، وأحيانا ما كان يقطع فناء البيت مباشرة اختصارا لطريقه خلال سيره، ولم يعترضا قط. كان يفعل ذلك لأنه لم يعد يعرف طريقا أفضل يقطعه فحسب. لم تصرخ في وجهه قط شأن بعض الناس، بل إنها دعته للجلوس على الدرج لينال قسطا من الراحة إن كان متعبا، وقدمت له سيجارة. كان يأخذ السيجارة، لكنه لم يكن يقبل دعوتها قط للجلوس على الدرج.
كل ما كان يفعله باوندر أنه كان يتشمم المكان من حوله ويتزلف له. لم يكن باوندر نيقا.
عرفت مورين السيد سيديكاب شأنها شأن جميع الناس. اعتاد على العمل ضابطا لنغمات البيانو بمصنع آل دود. كان رجلا إنجليزيا يعلوه الوقار ويميل إلى السخرية، وكانت زوجته امرأة رائعة. كانا يعشقان قراءة الكتب من المكتبة، واشتهرا بحديقتهما، لا سيما لما يزرع فيها من فراولة وورود. وبعدها، منذ سنوات قلائل، بدأت الكوارث تنهال عليهما؛ خضع السيد سيديكاب لعملية جراحية في حنجرته - لا بد أن السبب إصابته بالسرطان - وبعدها عجز عن الكلام، ولم يصدر منه سوى صوت أزيز وهمهمة. وكان قد تقاعد بالفعل من عمله بمصنع آل دود؛ حيث أمست لديهم طريقة إلكترونية لضبط نغمات البيانو تتفوق على الأذن البشرية في دقتها. وفجأة توفيت زوجته، وبعدها حلت به سلسلة من التغيرات السريعة، فتدهور حاله من عجوز يعلوه الوقار إلى متشرد كالح الوجه مثير للاشمئزاز في غضون أشهر؛ لحية متسخة، ولعاب يسيل على ملابسه، ورائحة عفنة دخانية تفوح منه، ونظرة ريبة مستديمة في عينيه تتحول أحيانا إلى نظرة سخط. إذا لم يجد ما يبحث عنه في محل البقالة، أو إذا بدل أصحاب محل البقالة أماكن الأغراض، كان يطيح بالمعلبات وعلب الحبوب على الأرض عن عمد منه، ولم يعد محل ترحيب في المقهى، ولم يعد يقرب المكتبة مطلقا. واظب نسوة من رفقة زوجته بالكنيسة على زيارته لفترة؛ منهن من كانت تحمل له وجبة من اللحم، ومنهن من حملت بعض المخبوزات، لكن رائحة البيت كانت مؤسفة، والفوضى فيه عارمة - حتى بالنسبة إلى رجل يعيش بمفرده، لم يكن ثمة ما يبرر تلك الفوضى - ولم يكن يبدي أي امتنان لهن. كان يلقي ببقايا الفطائر وأطباق الطعام على الممشى الأمامي لبيته، فيكسر الأطباق. لم ترد أي امرأة أن يتندر الناس بأن السيد سيديكاب يأنف أن يتناول طعامها، فتركنه وشأنه. أو حتى ربما أثناء القيادة على الطريق، يمكن للمرء أن تقع عيناه عليه واقفا لا يحرك ساكنا في قناة الري، مختفيا بكامل جسمه تقريبا بين الأعشاب والحشائش الطويلة بينما تمر السيارات من أمامه مسرعة، ويحتمل أيضا أن يصادفه المرء في بلدة ما على بعد أميال من البيت، وحينئذ ثمة شيء غريب يحدث؛ كان وجهه يكتسي بمسحة من تعبيراته القديمة، جاهزا لمفاجأة ودية، فيلقي التحية على من يعيشون في مكان ويلقاهم في مكان آخر. وبدا أنه كان يعقد الآمال على أن تفتح له اللحظة ذراعيها، وأن تخترق الكلمات جدار العجز، بل ربما انمحت أيضا كل التغيرات التي طرأت عليه، هنا في مكان مختلف قد يسترد صوته وزوجته واستقراره القديم في الحياة.
كان الناس ودودين عادة، وصبورين إلى حد ما. قالت ماريان إنها لم تكن لتجبره على الابتعاد أبدا. قالت إنه بدا جامحا جدا هذه المرة، على عكس ما بدا عليه؛ إذ كان يحاول بيان ما يود أن يقوله فلا تخرج الألفاظ من فيه، أو عندما تثور ثائرته بسبب بعض الأطفال الذين كانوا يضايقونه. كان رأسه يتمايل للأمام والخلف، وبدا وجهه منتفخا كرضيع ينوح بصوت عال.
قالت له: «ما الخطب الآن، سيد سيديكاب؟ ما الذي تحاول أن تقوله لي؟ هل تريد سيجارة؟ هل تريد أن تقول إن اليوم الأحد، وإن السجائر نفدت منك؟»
ظل يهز رأسه للخلف والأمام، ثم لأعلى ولأسفل، ثم للخلف وللأمام مرة أخرى.
قالت ماريان: «هيا، احزم أمرك الآن.»
كل ما قاله هو: «آه، آه!» ووضع كفيه على رأسه فأطاح بقبعته، ثم ابتعد أكثر وطفق يمشي في مسار متعرج في الساحة بين المضخة وحبل الغسيل، مصدرا الأصوات نفسها: «آه، آه!» التي لم تستحل إلى كلمات مفهومة قط.
وهنالك دفعت ماريان كرسيها على حين غرة لدرجة أنه كاد يسقط. وقفت وبدأت تريهم كيف كان السيد سيديكاب يتصرف، فترنحت وربضت وضربت رأسها بكفيها، ولو أنهما لم يطيحا بقبعتها. هنالك استعرضت هذا المشهد أمام البوفيه، أمام طقم الشاي الفضي الذي أهدي للمحامي ستيفنز تقديرا لسنوات عمله الطويلة في مهنة المحاماة. أمسك زوجها قدح القهوة بكلتا يديه، وظل يراقبها بعينيه مراعاة لمشاعرها بكل ما أوتي من قوة إرادة. ثمة شيء ظهر على وجهه؛ تقلص لا إرادي أو عصب نفر في إحدى وجنتيه. كانت تراقبه هي الأخرى على الرغم من تصرفاتها الغريبة، وبدا أن نظرتها تملي عليه أن يتمهل وألا يحرك ساكنا.
لم يرفع المحامي ستيفنز عينيه قط حسبما تجلى لمورين.
قالت ماريان: «هكذا تصرف.» ثم جلست مجددا. هكذا تصرف، ولأنها كانت تشعر بتوعك حينئذ، خطر لها أنه ربما يعاني من ألم ما. «سيد سيديكاب، سيد سيديكاب، هل تحاول أن تخبرني أن رأسك يؤلمك؟ هل تريد أن أحضر لك قرصا مسكنا؟ هل تريد أن أصحبك إلى الطبيب؟»
لم يجبها ولم يتوقف لأجلها، بل واصل كلماته: «آه، آه!»
أثناء تخبطه في أرجاء المكان، وجد نفسه عند المضخة. المياه الجارية تصل إلى البيت الآن، لكنهما ما برحا يستعملان المضخة خارج البيت، ويضعان لباوندر الطعام إلى جوارها، وعندما أدرك السيد سيديكاب ماهيتها انشغل بها، وأخذ يحرك ذراع المضخة لأعلى ولأسفل بسرعة جنونية. لم يكن ثمة كأس يشرب منها كالعادة، ولكن فور انبثاق الماء وضع رأسه تحت المضخة. تدفق الماء ثم توقف عندما أوقف الضخ، وبعدها عاد ليضخ مجددا، ووضع رأسه تحتها مجددا وأعاد الكرة. طفق يضخ ويغمر نفسه بالماء تاركا إياه يتدفق على رأسه ووجهه وكتفيه وصدره دون أن يتوقف عن إصدار أصوات كلما أمكنه ذلك. شعر باوندر بالحماس وشرع يجري في المكان ويصطدم به متعاطفا معه بنباحه وأنينه.
صرخت ماريان أن كفاكما! دعا هذه المضخة! دعاها واهدآ!
رضخ لها باوندر وحده، أما السيد سيديكاب فظل على ما هو عليه حتى أغرق نفسه وحجبت رؤيته مؤقتا من شدة المياه، وحينئذ تعذر عليه أن يجد ذراع المضخة. بعدها توقف. رفع إحدى ذراعيه لأعلى وأشار باتجاه الغابة والنهر؛ كان يشير بهذا الاتجاه ويصدر الأصوات المزعجة نفسها. آنذاك لم يكن كل ما يفعله منطقيا بالنسبة إليها، ولم تفكر في الأمر إلا لاحقا. بعدها هدأ تماما، وجلس فحسب على غطاء البئر مبللا بالكامل وجسده يرتعد ويداه على رأسه.
حدثت نفسها بأن الأمر ربما كان بسيطا على أية حال؛ لعله يتذمر لأنه لا يوجد كأس تحت المضخة.
إذا كان مرادك كأس فسأذهب وأجلبها لك. لا حاجة لأن تتصرف كالأطفال. لا تبرح مكانك، سأذهب وآتي لك بكأس.
عادت إلى المطبخ وأحضرت كأسا. خطرت لها فكرة أخرى. جهزت له طبقا من المكسرات الممزوجة بالزبد والمربى. كانت هذه الوجبة المفضلة لدى الأطفال، لكن الكبار يعشقونها أيضا؛ هكذا قال أبواها.
رجعت إلى الباب، ودفعته ويداها مشغولتان بالوجبة التي جهزتها، لكن لم تجد له أثرا؛ لم يكن في الساحة سوى باوندر الذي بدا على وجهه التعبير نفسه كلما جعل من نفسه أضحوكة.
إلى أين ذهب يا باوندر؟ في أي اتجاه ذهب؟
كان باوندر يشعر بالخجل والضجر، ولم يبد أي ردة فعل؛ جل ما فعله أن انسل إلى مكانه المعتاد تحت ظلة البيت في الوحل إلى جوار الأساسات.
سيد سيديكاب، سيد سيديكاب، تعال وانظر ما جلبت لك!
خيم الصمت على المكان، وكان رأسها يؤلمها بشدة. بدأت تتناول المكسرات التي أعدتها، لكن لم يكن يجب أن تتناولها؛ فبعد حفنتين شعرت بالغثيان وبرغبة في التقيؤ.
تعاطت قرصين آخرين، وصعدت إلى الطابق العلوي. النوافذ مفتوحة والستائر منسدلة. تمنت أن لو كانت اشترت مروحة خلال فترة التخفيضات بمحل كاناديان تاير، لكنها نامت دون مروحة، وعندما استيقظت كان الظلام قد حل تقريبا. تناهى إلى مسامعها صوت جزازة العشب؛ لا بد أن زوجها يقلم العشب بجانب البيت. نزلت إلى المطبخ ورأت أنه قطع بعض ثمار البطاطس الباردة، وسلق بيضة، وأخرج البصل الأخضر ليصنع سلاطة. لم يكن شأن غيره من الرجال الميئوس منهم، الذين ينتظرون زوجاتهم السقيمات لينهضن من السرير ويجهزن لهم وجبة. حاولت أن تتناول السلاطة، لكنها لم تستطع. ستتناول قرصا آخر، وتصعد الدرج، وتلقي ببدنها على السرير وتنعزل عن العالم حتى الصباح.
حينئذ قال زوجها إنها لا بد أن تعرض على الطبيب. اتصل برب عمله وقال إنه لا بد أن يصحب زوجته إلى الطبيب.
قالت ماريان ماذا لو غلت إبرة فيحقنها هو بها؟ لكنه لم يكن ليتحمل إيلامها، وعلى أية حال كان يخشى ألا تسير الأمور على ما يرام. ركبا الشاحنة، وقصدا الطبيب ساندز. كان الطبيب بالخارج، فاضطرا لانتظاره. غيرهما ممن كانوا بانتظار الطبيب أطلعوهما على الأخبار. ذهل الجميع لأنهما لا يعرفان. لكنهما لم يشغلا المذياع. كانت هي التي تشغله دوما، لكنها لم تستطع أن تتحمل الضجيج وهي سقيمة هكذا، ولم يلاحظا أي حشد للناس في طريقهما أو أي شيء يسترعي الانتباه.
عالج د. ساندز البثرة دون أن يحقنها بأي إبر؛ كان أسلوب تعامله مع البثرات يتمثل في ضربها ضربة سريعة قوية على قمتها في الوقت الذي يظن فيه المريض أنه يفحصها فحسب. قال: «ها قد انتهينا! هذه الطريقة أسهل من استخدام الإبر، وليست مؤلمة جدا في المجمل؛ لأنني لم أمهلك كثيرا، فوفرت عليك التوتر.» نظف مكان البثرة ووضع ضمادة عليها، وقال إنها سرعان ما ستشعر بتحسن.
وبالفعل شعرت بتحسن، لكنها كانت تشعر بالنعاس. كانت تشعر بأنها عديمة الجدوى ومشوشة جدا، لدرجة أنها خلدت إلى النوم حتى عاد زوجها في الرابعة، تقريبا، حاملا قدحا من الشاي. حينئذ تذكرت الفتيات اللائي رافقن الآنسة جونستون صباح السبت وطلبن شرابا. كانت لديها كميات كبيرة من مشروب كوكاكولا، فأهدتهن إياه في كئوس مزخرفة بالأزهار مع مكعبات الثلج. لم تطلب الآنسة جونستون سوى الماء. تركهن يعبثن بالخرطوم، فأخذن يقفزن، وأخذت كل واحدة منهن ترش الأخريات بالماء، وأمضين وقتا ممتعا. كن يحاولن تفادي سيل الماء فجنحن إلى الجنون بعض الشيء كلما غفلت عنهن الآنسة جونستون. كان عليه فعليا أن ينتزع خرطوم المياه من بين أيديهن، ويرشهن بالماء ليحسن التصرف ويتأدبن.
حاولت أن تتذكر أي فتاة كانت تلك الفتاة. كانت تعرف ابنة القس وابنة د. ساندز وبنات آل ترويل؛ حيث كان يسهل التعرف عليهن أينما كن بأعينهن الشبيهة بأعين الأغنام، ولكن أيهن كانت من بين الأخريات؟ تذكرت واحدة منهن كانت صاخبة جدا؛ حيث كانت تقفز في محاولة لانتزاع الخرطوم حتى بعد أن أبعده عن أيديهن، وأخرى كانت في حالة من النشوة والسعادة، وثالثة فاتنة ونحيلة وشقراء، ولكن لعلها كانت تفكر في روبن ساندز - كانت روبن شقراء. ليلتها سألت زوجها إن كان يعرف أيهن هي، لكنه كان أجهل منها؛ فهو لم يعرف الناس الذين يعيشون هنا، ولم يكن يستطيع أن يفرق بينهم.
وأخبرته أيضا بموقف السيد سيديكاب. استرجعت المشهد كله الآن؛ كم كان منزعجا! وكيف كان يعبث بالمضخة، والاتجاه الذي كان يشير إليه. استاءت من عجزها عن تفسير ما يعنيه. ناقشا الأمر، وتساءلا عما كان يعنيه، وانشغلا بتساؤلاتهما كثيرا لدرجة أنهما بالكاد حصلا على قسط من النوم. وأخيرا، قالت له إنها تعرف ما يتعين عليهما فعله؛ يجب أن نذهب ونتحدث إلى المحامي ستيفنز.
فنهضا وجاءا بأسرع ما يمكن. •••
قال المحامي ستيفنز: «الشرطة. مخفر الشرطة هو الذي كان يجب أن تقصداه.»
تكلم الزوج وقال: «لم نكن نعرف ما إذا كان يتعين علينا فعل ذلك أم لا.» وضع كلتا يديه على الطاولة، وأصابعه ممدودة تضغط على الطاولة وتشد مفرشها.
قال المحامي ستيفنز: «ليس اتهاما. مجرد معلومات.»
جرت عادته على التحدث بهذه الطريقة المقتضبة حتى قبل إصابته بالسكتة الدماغية، ولاحظت مورين منذ وقت طويل كم أن بضع كلمات ينطق بها زوجها بنبرة تكاد تخلو من المودة؛ نبرة تكاد تنم عن التأنيب الفظ، من شأنها رفع الروح المعنوية للناس وإزالة عبء ثقيل عن كاهلهم.
كانت تفكر في السبب الآخر الذي دعا النساء إلى الإعراض عن زيارة السيد سيديكاب. لم تعجبهن الملابس؛ ملابس النساء، الملابس التحتية - اللباسات النسوية التحتية، وحمالات الصدر القديمة المهترئة، والسراويل التحتية الرثة، والجوارب الخشنة الملمس المتدلية من ظهور الكراسي، أو من حبل الغسيل المعلق أعلى المدفأة، أو المكومة فحسب على الطاولة. لا بد أن كل هذه الأشياء كانت لزوجته بالطبع، وبدا لأول وهلة أنه ربما يغسلها ويجففها ويفرزها قبل أن يتخلص منها، لكنها لم تبرح مكانها أسبوعا تلو الآخر، وبدأ النساء يتساءلن: هل تركها ملقاة هناك هكذا ليوحي بأشياء معينة؟ وهل كان يرتديها هو نفسه؟ هل كان منحرفا؟
كل هذه التكهنات ستطفو على السطح الآن، وسيكون كل ذلك قرينة ضده. «منحرف.» لعلهن على حق، وربما سيقودهن إلى حيث انهال على هيذر ضربا حتى الموت خلال نوبة هياج جنسي، أو ربما عثرن على شيء يخصها في بيته. وسيقول الناس بأصوات خافتة بغيضة إن ذلك لم يكن بمنزلة المفاجأة بالنسبة إليهم؛ سيقول بعضهم لبعض: «لم أفاجأ البتة. هل فوجئت؟»
طرح المحامي ستيفنز بعض الأسئلة عن طبيعة العمل بمحطة دوجلاس بوينت للطاقة الذرية، وأجابته ماريان: «إنه يعمل بقسم الصيانة. كل يوم عندما يهم بالرحيل، يجب أن يخضع لفحص بالأشعة السينية، وحتى الخرق التي يمسح بها حذاءه يجب دفنها تحت الأرض.»
عندما أغلقت مورين الباب بعد رحيلهما ورأت شبحهما من وراء الزجاج المعتم، لم تكن مقتنعة تماما، فصعدت ثلاث درجات وصولا إلى بسطة الدرج؛ حيث كانت ثمة نافذة مقوسة، وراقبتهما منها.
لم تكن في الأفق أي سيارة أو شاحنة أو غيرهما من العربات التي ادعيا امتلاكها. لا بد أنهما أوقفاها بالشارع الرئيسي، أو في ساحة الانتظار خلف دار البلدية. من المحتمل أنهما لم تكن لديهما رغبة في أن يراها أحد أمام بيت المحامي ستيفنز.
كانت دار البلدية ومخفر الشرطة في المكان نفسه. انعطفا بهذا الاتجاه، لكنهما عبرا الشارع بزاوية وجلسا، دون أن يغادرا مرمى بصر مورين، على الجدار الحجري الخفيض المحيط بالمدافن القديمة وتلك البقعة الغناء الوافرة الأزهار المعروفة باسم متنزه بايونير.
ما الذي يدفعهما إلى الجلوس بعد أن جلسا في غرفة الطعام لمدة ساعة على الأقل؟ لم يتكلم أو ينظر أحدهما إلى الآخر، لكن بدا أنهما متحدان وكأنهما يأخذان قسطا من الراحة في خضم أعمال شاقة يضطلعان بها معا.
عندما يميل مزاج المحامي ستيفنز إلى استرجاع الماضي، كان يتحدث عن هذا الجدار وكم كان الناس يلجئون إليه طلبا للراحة؛ المزارعات اللائي كن يزرن المدينة لبيع الدجاج أو الزبد، والفتيات الريفيات في طريقهن إلى المدرسة الثانوية، قبل وجود ما يعرف باسم حافلة المدرسة، كن يتوقفن ويخبئن أحذيتهن الفوقية، ثم يستعدنها في طريق عودتهن إلى البيت.
في أوقات أخرى، لم يكن يحتمل استرجاع الماضي. «الأيام الخوالي. من ذا الذي يتمنى عودتها؟»
نزعت ماريان بعض الدبابيس من شعرها ورفعت قبعتها بحرص. كان هذا هو السبب إذن؛ كانت قبعتها تؤلمها. وضعتها في حجرها، ومد زوجها يده وأبعدها، وكأنه كان حريصا كل الحرص على أن ينزع عنها كل ما يمثل عبئا عليها. وضعها في حجره، ثم مال وأخذ يمرر يده عليها بلطف ورقة. أخذ يمسد تلك القبعة المصنوعة من الريش البني البشع وكأنه يهدئ من روع دجاجة مرتعبة.
لكن ماريان أوقفته، قالت له شيئا ما، وثبتت يده بيدها كأم تقاطع عبث طفلها الأبله بنوبة من الغضب، أو بحرمانه للحظة من حبها الذي تغدقه عليه. •••
شعرت مورين بصدمة؛ شعرت بتقلص في عظامها.
جاء زوجها من غرفة الطعام. لم ترد أن يراها وهي تراقبهما؛ فأدارت مزهرية الأعشاب المجففة المستقرة على حافة النافذة وقالت: «حسبتها لن تفرغ من الكلام.»
لم يلاحظ هو ذلك؛ كان ذهنه شاردا في شيء آخر.
قال: «تعالي هنا.»
في بداية زواجهما، قال زوج مورين لها إنه وزوجته الأولى قررا الانقطاع عن العلاقة الحميمية بعد ميلاد هيلينا الابنة الصغرى. قال: «لقد أنجبنا صبيا وفتاة.» وكان مراده أنه لا داعي لمحاولة إنجاب المزيد؛ لم تفهم مورين حينئذ أنه ربما كان يرمي لانقطاع شبيه عنها. كانت واقعة في حبه عندما تزوجته. صحيح أنه عندما طوق خصرها بذراعه لأول مرة في المكتب، حسبت أنه اعتقد لا محالة أنها متجهة إلى الباب الخاطئ وأنه يعيد توجيهها، لكنها خلصت إلى هذا الاستنتاج بسبب تحفظه وحشمته، لا لأنها لم تكن تتوق للإحساس بذراعه وهو يطوقها. لكن لا بد أن الناس الذين حسبوا أنها مقدمة على زواج لأغراض المصلحة قد أصابهم الذهول من فرط سعادتها أثناء شهر العسل، على الرغم من أنها اضطرت لتعلم لعبة البريدج. كانت تعلم مواطن قوته، وكيف كان يستغلها، وكيف كان يكبحها. كانت تراه جذابا، بغض النظر عن عمره وحمقه وآثار النيكوتين على أسنانه وأصابعه. كانت بشرته دافئة. بعد الزواج بعامين، فقدت جنينه، وأصيبت بنزيف شديد، لدرجة أن الحاجة استدعت ربط قناتي فالوب لديها لمنع تكرار النزيف. وبعد هذه الواقعة، انتهى الجزء الحميم في علاقتها مع زوجها، وبدا أنه كان يجاريها فحسب؛ لأنه شعر أنه من الإجحاف حرمان أي امرأة من فرصة الإنجاب.
أحيانا ما كانت تضايقه بعض الشيء، فيقول لها: «مورين، علام كل هذه الجلبة؟» أو يخبرها بأن تحسن التصرف، قائلا: «تصرفي بنضج.» كانت عبارة يراد بها الزجر اقتبسها من طفليه، وظل يستخدمها بعد أن توقفا هما عن استخدامها لفترة طويلة. في واقع الأمر، لفترة طويلة منذ رحيلهما عن البيت.
كانت تشعر بالإهانة من قوله هذا، وتغرورق عيناها بالدموع. كان أكثر ما يكرهه الدموع.
حدثت نفسها الآن قائلة: ألم يكن من الأفضل أن يعود الحال إلى ما كان عليه من جديد؟! ذلك لأن شهوة زوجها عاودته، أو ظهرت لديه شهوة جديدة تماما. لم يكن هناك أثر الآن للطقوس الخرقاء بعض الشيء، والولع الرسمي الذي تميزت به الأيام الخوالي؛ الآن أصبحت عيناه مكفهرتين، ويبدو وجهه مثقلا. كان يتحدث إليها بطريقة مقتضبة ومخيفة، وأحيانا كان يدفعها ويلكزها ويجذبها نحوه بشدة. لم تكن بحاجة إلى أي من ذلك لتتعجل؛ فقد كانت تشتاق لأن تدعوه لمعاشرتها خشية أن يسيء التصرف في مكان آخر. استحال مكتبه القديم إلى غرفة نوم بالطابق السفلي ملحق بها حمام كي لا يضطر إلى صعود الدرج. على الأقل كان لهذه الغرفة قفل فلا تقتحم خلوتهما فرانسيس، لكن يحتمل أن يرن جرس الهاتف، وقد تضطر فرانسيس إلى البحث عنهما. قد تقف خارج الباب فتسمع أصوات علاقتهما الحميمة؛ أنفاس المحامي ستيفنز المتلاحقة ونخيره واستئساده عليها، وهسهسته وهو يملي عليها أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، وضربه لها في النهاية، والأمر الذي يصدره حينئذ؛ الأمر الذي ربما لم يكن لأحد أن يفهمه سوى مورين، الأمر الذي ينم، على الرغم من ذلك، عن الكثير من تطرفه. «قولي ألفاظا بذيئة! قولي ألفاظا بذيئة!»
صدر هذا الأمر من الرجل الذي حبس ذات مرة ابنته هيلينا في غرفتها عقابا لها على سب أخيها بعبارة: «ابن سفاح لعين.»
تعرف مورين الكثير من الألفاظ البذيئة، لكن كان من الصعب عليها في حالتها المرتبكة هذه أن تميز أيها الأنسب، وأن تنطقها بنبرة مقنعة. حاولت على أية حال؛ فقد كانت تريد أن تساعده أكثر من أي شيء آخر .
بعدها غط في نوم عميق بدا وكأنه يمحو الواقعة من ذاكرته. تسللت مورين إلى الحمام، واغتسلت أولا، ثم أسرعت إلى الطابق العلوي لتغير بعض ملابسها. كثيرا ما كانت تضطر إلى التعلق بالدرابزين؛ حيث كان يخالجها شعور بالخواء والضعف، وكان عليها أن تلتزم الصمت، ليس خشية أن تصدر منها صرخات احتجاجية، بل خشية أن يفلت من بين شفتيها أنين الشكوى الذي يجعلها تبدو أشبه بكلب انهال عليه أحدهم ضربا.
تدبرت أمرها اليوم بقدر أفضل من المعتاد؛ استطاعت أن تتطلع إلى مرآة الحمام، وتحرك حاجبيها وشفتيها وفكها، بحيث تستعيد تعبير وجهها المعتاد. بدا أنها تحدث نفسها أن كفاها تفكيرا فيما حدث. حتى أثناء العلاقة الحميمة كان باستطاعتها أن تفكر في أشياء أخرى؛ فكرت في إعداد الكاسترد، وما إذا كان لديهم ما يكفي من الحليب والبيض. وفي خضم هياج زوجها، فكرت في الأصابع التي كانت تتخلل الريش؛ يد الزوجة الموضوعة على يد زوجها وتضغط عليها.
سننشد إذن أنشودتنا عن هيذر بيل
وسنظل ننشدها حتى نهاية اليوم.
وسط الغابة الخضراء اختفت عن الأنظار
ولو أن حياتها لم تكد تبدأ.
قالت فرانسيس: «ثمة قصيدة ألفها أحدهم بالفعل وكتبها. حصلت عليها الآن مطبوعة.»
قالت مورين: «خطر لي أن أصنع الكاسترد.»
ترى ما مقدار ما استطاعت فرانسيس أن تسمعه من حديث ماريان هيوبرت؟ الأرجح أنها سمعته كله. بدت أنفاسها متلاحقة من فرط ما اجتهدت لإخفاء كل ذلك. مدت يدها الممسكة بالأشعار إلى مورين، وقالت الأخيرة: «إنها قصيدة طويلة جدا، وليس لدي وقت لقراءتها.» وشرعت في فصل البيض.
قالت فرانسيس: «إنها قصيدة جميلة؛ جميلة بما يكفي لتأليف لحن يتماشى مع كلماتها.»
قرأتها بصوت عال، فقالت مورين: «أنا بحاجة إلى التركيز.»
قالت فرانسيس وهي متجهة إلى الغرفة المشمسة: «أعتقد إذن أن هذا أمر لي بالانصراف.»
وبعدها استمتعت مورين بالهدوء والسكينة في المطبخ؛ البلاط الأبيض العتيق، والجدران الصفراء العالية، والقدور والصحون وأدوات المطبخ المألوفة التي أشعرتها بالارتياح، كما أشعرت سيدة البيت التي سبقتها على الأرجح. •••
لم تأت ماري جونستون بجديد في حديثها إلى الفتيات دوما، وأغلبهن كن يتوقعن ما ستقوله. كان باستطاعتهن أن يرسمن تعبيرات مسبقة على وجوههن يغمز بها بعضهن بعضا عندما تتحدث. كانت تخبرهن كيف جاء المسيح وتحدث إليها عندما كانت مستلقية في جهاز الرئة الاصطناعية؛ لم تكن تعني أنه جاءها في الحلم، أو في رؤيا، أو عندما كانت تهلوس؛ كانت تعني أنه جاءها وتعرفت عليه، لكنها لم تكن ترى عجبا في ذلك. تعرفت عليه على الفور، ولو أنه كان يرتدي معطف طبيب أبيض. فكرت أن ارتداءه معطف طبيب أمر منطقي، وإلا فلم يكن ليسمح له بالدخول؛ هكذا تقبلت الأمر. وبينما كانت مستلقية هناك في جهاز الرئة الاصطناعية، كانت في حالة وسط بين العقل والسذاجة، كحال البشر عندما يطرأ عليهم حدث كهذا (كانت تعني زيارة المسيح، لا الإصابة بشلل الأطفال). قال المسيح: «يجب أن تعودي لممارسة البيسبول يا ماري.» كان هذا كل ما قاله. كانت لاعبة بيسبول بارعة، واستخدم المسيح لغة كان يدري أنها ستفهمها، وبعدها تركها ورحل. وتشبثت بالحياة كما قال لها.
كان هناك بقية لحديثها عن تفرد وخصوصية أجسادهن وحياتهن؛ الأمر الذي أفضى بطبيعة الحال إلى ما سمته ماري جونستون «حديثا صريحا» عن الصبية والشهوات (وهنالك اصطنعن تعبيرات بوجوههن؛ كن في غاية الحرج إذ كانت تتحدث عن المسيح). تحدثت عن الخمر، وعن السجائر، وكيف أن إحداهما تفضي إلى الأخرى. حسبنها مجنونة. ولم تستطع حتى أن تميز ما عكفن على تدخينه، لدرجة أنهن أصبن بشيء من الإعياء ليلة أمس. كانت رائحة الدخان الكريهة تفوح منهن، لكنها لم تعلق على هذا الأمر قط.
إذن كانت مجنونة، لكنهن جميعا تركنها تتحدث عن المسيح ولقائها به في المستشفى؛ لأنهن ظنن أن من حقها أن تؤمن بما تؤمن به.
ولكن لنفترض أن عينيك وقعتا على شيء بالفعل، لا على غرار المسيح، ولكن شيء ما. هذا ما حدث لمورين؛ فأحيانا وهي على وشك أن تخلد إلى النوم، وقبل أن تستغرق فيه وتداهمها الأحلام، كانت ترى أشياء، أو حتى خلال النهار وأثناء ما تعتبره حياتها العادية، قد ترى نفسها جالسة على درجات حجرية تتناول الكرز وتراقب رجلا يصعد الدرج حاملا رزمة. لم تقع عيناها قط على تلك الدرجات أو ذاك الرجل، ولكن، لوهلة، بدت الدرجات والرجل جزءا من حياة أخرى تحياها؛ حياة طويلة ومعقدة وغريبة ومملة كحياتها هذه. وهي لم تفاجأ؛ فإحاطتها علما بالحياتين في الوقت نفسه مجرد ضربة حظ، خطأ سرعان ما جرى تصحيحه. حدثت نفسها فيما بعد بأن الأمر يبدو عاديا جدا؛ الكرز، والرزمة.
ما تراه الآن لا وجود له في حياتها. ترى يدا من هاتين اليدين غليظتي الأصابع اللتين قبضتا على مفرش طاولتها، ومسدتا على الريش، ترى تلك اليد وهي مثبتة في مكانها دون مقاومة، ولكن بفعل إرادة شخص آخر؛ تراها مثبتة على مشعل الموقد حيث تعكف على تقليب الكاسترد في القدر المزدوج، واستقرت هناك لثانية أو ثانيتين بما يكفي فحسب لتلفح النار اللحم الموجود على مشعل الموقد الملتهب، لتلفحه لا لتشوهه. كل ذلك يحدث في صمت وباتفاق سابق؛ فعل عارض وبربري وضروري. هكذا بدا الأمر. اليد التي أنزل بها العقاب داكنة كقفاز أو كظل يد، والأصابع مبسوطة. ما زالت ترتدي الملابس نفسها؛ الكم الأصفر الفاتح والأزرق الباهت. •••
سمعت مورين أصوات حركة زوجها في الردهة الأمامية، فأطفأت الموقد ووضعت الملعقة وذهبت إليه؛ كان قد هندم ثيابه وأعد نفسه للخروج. كانت تعلم دون أن تسأله إلى أين هو ذاهب؛ سيقصد مخفر الشرطة ليبحث عن البلاغات المقدمة والإجراءات التي اتخذت.
قالت: «ربما من الأفضل أن أقلك؛ فالجو حار بالخارج.»
هز رأسه رافضا وتمتم بشيء غير مفهوم. «أو يمكنني أن أسير إلى جوارك.»
لا؛ فهو سيخرج في مهمة جادة، وسيقلل من شأنه أن تصحبه زوجته أو تقله.
فتحت له الباب الأمامي وقال لها: «أشكرك.» بنبرته القاسية النادمة على نحو غريب. وبينما يمر من أمامها، يميل بجسده نحوها ويزم شفتيه على مقربة من وجنتها دون أن يمسها.
لقد رحلا، ولم يعد ثمة أحد يجلس على الجدار الآن. •••
لن يعثر أحد على هيذر بيل. لا وجود لجثتها، ولا أثر لها. اختفت كالرماد. صورتها التي انتشرت في الأماكن العامة ستذوي وتمسي باهتة، وستبدو ابتسامتها الصامتة بشفتيها المزمومتين وكأنها تحاول كتم ضحكة عديمة الاحترام، ستبدو مرتبطة باختفائها أكثر من ارتباطها بسخريتها من مصورة المدرسة، وسيظل في صورتها دوما إيحاء طفيف بإرادتها الحرة وروحها الوثابة.
ولن يجدي السيد سيديكاب نفعا أبدا؛ سيظل مذبذبا بين حيرته ونوباته، ولن يجدوا شيئا عندما يفتشون بيته، إلا إذا وضعت في الحسبان تلك الملابس الداخلية القديمة لزوجته، وعندما ينقبون في حديقته، لن يعثروا إلا على عظام قديمة دفنتها الكلاب، وسيظل كثيرون يعتقدون أنه أقدم على شيء ما أو رأى شيئا ما. «كان له علاقة بما حدث.» وعندما سيودع مستشفى الأمراض العقلية الإقليمي، الذي سمي فيما بعد مركز الصحة العقلية، ستتلقى الصحيفة المحلية رسائل من القراء عن الاحتجاز الوقائي، والتحرك بعد فوات الأوان.
وستتلقى الصحيفة أيضا رسائل من ماري جونستون تفسر فيها لم كانت تتصرف هكذا، وستشرح لم كانت تتصرف هكذا يوم الأحد المشئوم. وفي نهاية المطاف، سيتعين على رئيس التحرير أن يخبرها بأن هيذر بيل طواها النسيان، وأن المدينة لا تود فحسب أن يعلق ذكرها بهذه القصة، وأنه إذا قدر لرحلات التسلق أن تنتهي، فهذه لن تكون نهاية العالم، وأنه لا يسعنا أن نجتر القصة إلى الأبد.
ما زالت مورين شابة، ولو أنها لا تعتقد ذلك، وما زالت الحياة تفتح لها ذراعيها. ستشهد وفاة زوجها أولا - التي باتت وشيكة - وستتبع وفاته زيجة أخرى، وأماكن وبيوت جديدة. في مطابخ على بعد مئات وآلاف الأميال، سترى انعكاس صورة بشرتها الناعمة على ظهر ملعقة خشبية، وستتذبذب ذاكرتها، لكنها لن تكشف لها عن تلك اللحظة التي تبدو فيها وكأنها تطلع على سر علني؛ شيء لا يدعو إلى الذهول إلا عندما تفكر في إطلاع الآخرين عليه.
فندق جاك راندا
أبطأت الطائرة من سرعتها على المدرج في هونولولو، وترنحت وانحرفت إلى العشب وتعثرت بعض الشيء حتى توقفت تماما. بدا أنها توقفت على بعد بضع ياردات من المحيط. بداخلها ضحك الركاب جميعا. في البداية خيم الصمت، ثم تبعته الضحكات. انفجرت جيل في الضحك، وبعدها أخذ الجميع يتعارفون. إلى جوار جيل، جلس لاري وفيليس من سبوكين.
لاري وفيليس سيشاركان في بطولة الجولف للاعبين الذين يستخدمون يدهم اليسرى، والتي كانت ستقام في فيجي، شأنهما شأن غيرهما من الأزواج على متن هذه الطائرة. لاري هو لاعب الجولف الأعسر، وفيليس زوجته التي ترافقه لمشاهدة البطولة وتشجيعه والاستمتاع بوقتها.
يجلس ركاب الطائرة - جيل ولاعبو الجولف العسر - ويقدم إليهم الغداء في علب أشبه بعلب أطعمة الرحلات الخلوية. لا مشروبات. الحر شديد. إعلانات مازحة ومربكة تصدر من مقصورة الطائرة: «نعتذر عن المشكلة الحالية. لا شيء يستدعي القلق، ولكن يبدو أننا سنعاني من الحر لفترة أطول.» تعاني فيليس صداعا بشعا بينما يحاول لاري التخفيف من وطأة ما تشعر به من خلال الضغط بأصابعه على نقاط محددة على رسغها وكفها.
تقول فيليس: «لا جدوى، كان من الممكن أن أكون بصحبة سوزي الآن في نيو أورلاينز.»
يقول لاري: «يا للمسكينة!»
يلفت انتباه جيل البريق الأخاذ للخواتم الماسية بينما أبعدت فيليس يدها. حدثت جيل نفسها؛ زوجات يرتدين خواتم ماسية ويعانين من الصداع. ما زالت هذه عادتهن؛ الناجحات منهن تلك عادتهن. لديهن أزواج بدناء. ولاعبو جولف عسر مصرون على أن يسلكوا مسارا دائما من الإشباع والإمتاع.
في نهاية المطاف، تم إنزال الركاب المتجهين إلى سيدني - لا إلى فيجي - من الطائرة، وسيقوا إلى مبنى الركاب حيث تركهم مرشد رحلتهم الجوية، فجالوا في المكان يبحثون عن أمتعتهم ويمرون عبر الجمارك في محاولة لإيجاد مكان شركة الطيران التي من المفترض أن تحترم اتفاقها معهم. في مرحلة ما، بادرتهم بالترحيب لجنة من أحد فنادق الجزيرة لا يكف أعضاؤها عن الغناء بلغة أهل هاواي وإلقاء الزهور حولهم. ولكن، أخيرا، وجدوا أنفسهم على متن طائرة أخرى. تناولوا الطعام، واحتسوا المشروبات، وخلدوا إلى النوم. امتدت الطوابير المتجهة إلى المراحيض، وامتلأت الممرات بالبقايا، وتوارت المضيفات عن الأنظار في حجيراتهن وطفقن يثرثرن عن الأطفال والعشاق. وبعدها تسلل ضوء النهار المزعج، وتجلى الساحل الرملي الأصفر لأستراليا على مسافة بعيدة أسفل الطائرة، واختلفت المنطقة الزمنية، وحتى أكثر الركاب أناقة وأحسنهم مظهرا، بدا عليهم الإنهاك والتراخي والخمول بسبب الرحلة الطويلة في أرخص مكان بالطائرة. وقبل أن يتمكنوا من مغادرة الطائرة، تعرضوا لهجوم جديد؛ رجال مشعرون يرتدون سراويل قصيرة تدفقوا إلى الطائرة، وطفقوا يرشون كل شيء بمبيدات الحشرات.
تخيلت جيل نفسها تتحدث إلى ويل قائلة: «أعتقد إذن أن هذه هي الطريقة التي سنصل بها إلى الجنة. سيلقي الناس عليك أكاليل الزهور التي لا رغبة لك فيها، وسيعاني الجميع من حالات صداع وإمساك، وسيتطلب الأمر رشا بالمبيدات للتخلص من الجراثيم الأرضية.»
كانت عادتها التفكير في أمور بارعة ومرحة لتلقيها على مسامع ويل. •••
بعد رحيل ويل، بدا لجيل أن محلها يحتشد بالنساء؛ لسن بالضرورة ممن يشترين الملابس. لم تكن تمانع بهذا. كان الأمر أشبه بالأيام الخوالي قبل ويل. النسوة كن يجلسن على كراسي عتيقة ذات ذراعين إلى جوار طاولة الكي وطاولة التفصيل اللتين تخصان جيل وراء الستائر المزخرفة الباهتة، وكن يحتسين القهوة. شرعت جيل في طحن حبوب القهوة بنفسها كعادتها دائما، وسرعان ما ازدان تمثال عرض الملابس بالخرز، إضافة إلى بعض الرسوم الفاضحة المتفرقة. ثمة قصص تروى عن الرجال، وعادة عن رجال رحلوا؛ عن أكاذيب وظلم ومواجهات، وخيانات بشعة جدا - ومبتذلة جدا في الوقت نفسه - لدرجة أن من يسمعها ينفجر ضحكا. كان الرجال يلقون أعذارا سخيفة واهية (آسف، لم أعد أشعر بالالتزام نحو هذه العلاقة الزوجية). عرضوا على زوجاتهن بيع السيارات والأثاث الذي دفع الزوجات ثمنه أساسا. كانوا يتفاخرون لمجرد أنهم جعلوا ساقطة أصغر سنا من أبنائهم حاملا. كانوا قساة القلب طفوليين. ماذا يمكنك أن تفعلي سوى الكف عن الثقة؛ الكف عن الثقة بهم وعن تصديقهم بشرف وكبرياء ولمصلحتك الشخصية؟
سرعان ما ذوت متعة جيل بكل ذلك؛ فالكثير من القهوة يمكن أن يجعل بشرتك تبدو أشبه بلون الكبد. ثمة شجار نشب في الخفاء بين النساء عندما اتضح أن واحدة منهن نشرت إعلانا في عمود الإعلانات الشخصية. انتقلت جيل من احتساء القهوة مع الأصدقاء إلى احتساء المشروبات برفقة كليتا؛ والدة ويل، ومن العجيب أنها عندما أحدثت هذا التغيير في حياتها، أصبحت تصرفاتها أكثر رصانة. ما زالت الملاحظات التي تعلقها على بابها كي يتسنى لها الرحيل مبكرا خلال فترة الظهيرة في الصيف تتسم بشيء من التخبط. (كانت دونالدا - الموظفة التي تعمل لديها - في إجازة، وكان من الصعب بمكان تعيين غيرها.)
ذهبت إلى الأوبرا.
ذهبت إلى المصحة.
ذهبت لأجلب الخيش والرماد تعبيرا عن ندمي (كما في العهد القديم).
حقيقة الأمر أن هذه العبارات لم تكن من بنات أفكارها، لكنها أشياء اعتاد ويل أن يكتبها ويلصقها على بابها في الأيام الخوالي عندما أرادا الارتقاء إلى مستوى أعلى. سمعت أن مثل هذا الأسلوب التهكمي لم يكن محل تقدير عند الذين قطعوا مسافة طويلة لشراء فستان لحفل زفاف، أو الفتيات اللائي خرجن لشراء ملابس الجامعة. لم تكن تكترث.
شعرت جيل بارتياح في شرفة كليتا، وأمست متفائلة بغير سبب واضح. شأنها شأن أغلب السكيرين، التزمت كليتا بشراب واحد - الخمر الاسكتلندية - وبدا أنها تستمتع بتنويعات منه، لكنها كانت تعد خمر الجين بالتونيك وشراب الرم الأبيض بالصودا، وعرفتها على الخمر المكسيكية الذي يعرف باسم «تيكيلا». قالت جيل بين الحين والآخر: «هذه هي الجنة.» ولم تقصد الخمر فحسب، بل أيضا الشرفة المغطاة بالزجاج، والساحة الخلفية المسيجة، والمنزل العتيق وراءهما بنوافذه الموصدة، وأرضياته المطلية بطلاء لامع، وخزانات المطبخ العالية على نحو مبالغ فيه، وستائره القديمة المزدانة بالأزهار (كانت كليتا تمقت أعمال الديكور). هذا هو البيت الذي ولد فيه ويل وكليتا أيضا، وعندما دعا ويل جيل للعيش فيه لأول مرة، حدثت جيل نفسها أن هذه هي حياة المتمدنين حقا؛ مزيج من خلو البال والخصوصية، واحترام الكتب القديمة والصحون العتيقة؛ الأمور السخيفة التي ظن ويل وكليتا أنه من الطبيعي الحديث عنها. أما الأمور التي لم تتطرق إليها هي وكليتا في حديثهما، فهي انحراف ويل الحالي، والمرض الذي جعل أطراف كليتا تبدو كفروع الأشجار المطلية نتيجة اسمرارها الشديد، والذي جوف وجنتيها المحاطتين بشعرها الأشيب المعقوص إلى الوراء. هي وويل يمتلكان وجها أشبه إلى حد ما بوجوه القردة بأعينها الداكنة الحالمة الساخرة.
بدلا من ذلك، تحدثت كليتا عن الكتاب الذي كانت تطالعه؛ «التاريخ الأنجلوسكسوني». قالت إن السبب وراء تسمية عصور الظلام بهذا الاسم ليس أننا لم نستطع أن نتعلم شيئا منها؛ بل لأننا لم نستطع تذكر أي شيء تعلمناه عنها؛ وذلك بسبب الأسماء.
قالت: «كايدوالا. إيجفريث. هذه لم تعد من الأسماء المتداولة اليوم.»
كانت جيل تحاول أن تتذكر أي العصور أو القرون كانت مظلمة، لكن جهلها لم يسبب لها حرجا. كليتا كانت تسخر من كل هذه الأشياء على أية حال.
قالت كليتا وتهجت الاسم: «أيلفلاييد.» ثم قالت: «أي بطلة تدعى أيلفلاييد؟»
عندما راسلت كليتا ويل، الأرجح أنها كتبت عن أيلفلاييد وإيجفريث، لا عن جيل. لم تقل: «جيل هنا، وتبدو رائعة الجمال في منامتها الصيفية الرمادية الحريرية، وهي غاية في اللباقة»، وتبادر بالكثير من التعليقات التي تنم عن سرعة البديهة. ولا يختلف ذلك عما تصرح به لجيل نفسها إذ تقول: «تساورني الشكوك حيال العاشقين. عندما أقرأ ما بين السطور، لا يسعني إلا أن أتساءل ما إذا كانت خيبة الأمل بدأت تتسلل إليكما ...»
عندما التقت جيل كلا من ويل وكليتا، حسبتهما أشبه بشخصيتين خياليتين في كتاب؛ ابن يعيش مع أمه راضيا بهذا العيش، كما هو واضح، وهو في منتصف العمر. شهدت جيل حياة حافلة بالطقوس؛ حياة عابثة وجديرة بالغبطة، أقل ما فيها نعمة العزوبية والأمان. ما زالت ترى بعض هذه الأشياء حتى الآن، ولو أن ويل لم يستقر بالبيت دوما؛ فهو ليس عازبا ولا يخفي مثلية جنسية. سافر لسنوات طوال، وانشغل بحياته الخاصة - حيث كان يعمل بالمجلس الوطني للأفلام ومؤسسة الإذاعة الكندية - ولم يتخل عن تلك الحياة إلا مؤخرا ليعود إلى مدينة والي، ويعمل بالتدريس. ما الذي جعله يتخلى عن حياته تلك؟ قال: أسباب عادية؛ انتهازيون هنا وهناك، بناء الإمبراطوريات، الإرهاق.
زارت جيل مدينة والي صيفا في السبعينيات، وكان عشيقها الذي كانت بصحبته آنذاك متخصصا في بناء القوارب، وكانت هي تبيع الملابس التي تحيكها بنفسها؛ عباءات مزخرفة، وقمصانا ذات أكمام منتفخة، وتنانير طويلة ذات ألوان براقة. حصلت على مكان مخصص لها في الجزء الخلفي من محل الهدايا المصنوعة يدويا عندما حل الشتاء، وتعرفت على إجراءات استيراد العباءات الجنوب أمريكية، والجوارب السميكة من بوليفيا وجواتيمالا، وعثرت على نساء محليات يساعدنها في حياكة السترات. وذات يوم، استوقفها ويل على قارعة الطريق، وطلب منها أن تساعده في تصميم الملابس للمسرحية التي يعدها - «النجاة بشق الأنفس». انتقل عشيقها إلى فانكوفر.
صرحت لويل ببعض الأمور المتعلقة بها في بداية علاقتهما؛ خشية أن يحسب أنها الاختيار المثالي لبناء أسرة نظرا لقوامها القوي وبشرتها الوردية وجبينها الرقيق العريض. قالت له إنها أنجبت من قبل، وبينما شرعت هي وعشيقها في نقل بعض الأثاث في شاحنة مستأجرة، من خليج ثاندر إلى تورونتو، تسربت أبخرة أول أكسيد الكربون بما يكفي لإصابتهم بالدوار، والقضاء على الرضيع الذي لم يزد عمره على سبعة أسابيع، وبعدها أقعد جيل المرض؛ حيث أصيبت بالتهاب في الحوض، وقررت ألا تنجب في المستقبل. كان الإنجاب صعبا بالنسبة إليها على أية حال؛ لذا فقد خضعت لعملية استئصال الرحم.
أعجب ويل بها، وأبدى لها إعجابه. لم يجد في نفسه رغبة في أن يقول: «يا للمأساة!» ولم يوح - حتى ولو على نحو عارض - أن وفاة الرضيع جاءت نتيجة القرارات التي اختارتها جيل. كان مفتونا بها آنذاك؛ فقد رآها شجاعة وسخية وواسعة الحيلة وموهوبة. كانت الملابس المسرحية التي صممتها وصنعتها لأجله مثالية، بل عجيبة أيضا. كانت جيل تعتقد أن رأيه فيها وفي حياتها ينطوي على براءة تمس القلب، وبدا لها أنها بعيدا عن كونها منطلقة وسخية، كثيرا ما كانت قلقة ويائسة، وأنها أمضت فترة طويلة منشغلة بغسل الملابس، والقلق بشأن المال، وتسرب إليها شعور بأنها تدين بالكثير لأي رجل يرتبط بها. لم تظن أنها واقعة في حب ويل آنذاك، لكنها كانت معجبة بوسامته؛ بقوامه المفعم بالحيوية، المنتصب لدرجة توحي للناظر بأنه أطول مما هو عليه فعلا، ورأسه الشامخ، وجبهته العريضة اللامعة، وشعره الرمادي الأجعد. كانت تروق لها مشاهدته أثناء البروفات، أو أثناء حواره مع طلابه فحسب. كم بدا بارعا ومقداما كمخرج! وكم بدا قوي الشخصية وهو يسير في ردهات المدرسة الثانوية أو يقطع شوارع مدينة والي! إضافة إلى ذلك، مشاعر الإعجاب المستترة التي كان يكنها لها، واحترامه لها كعاشق، والجمال الأخاذ لبيته وحياته مع كليتا، كل ذلك جعل جيل تشعر وكأنها تلقى ترحابا فريدا من نوعه في مكان ربما لم يكن لها الحق في التواجد فيه أصلا. لم يكن ذلك مهما آنذاك؛ فقد كانت لها اليد العليا.
متى إذن فقدت سيطرتها على الأمور؟ عندما اعتاد معاشرتها؟ عندما انتقلا للعيش معا؟ عندما أنجزا أعمالا كثيرة بالكوخ المتاخم للنهر، واتضح أنها تفوقه براعة بكثير في هذا الضرب من الأعمال؟
هل كانت من نوعية الأشخاص الذين يؤمنون بأن شخصا ما يجب أن يمتلك زمام الأمور؟
جاء عليها وقت كانت تمتلئ فيه إحباطا وقنوطا من مجرد سماع نبرة صوته وهو يقول: «رباط حذائك مفكوك.» بينما تسير أمامه. كانت نبرة صوته بمنزلة تحذير لها من أنهما انتقلا إلى عالم كئيب لا حدود فيه لخيبة الأمل، وازدراؤه يستحيل التصدي له. في نهاية المطاف كانت تتعثر، وتثور ثائرتها. كانا يعيشان أياما وليالي في قنوط شديد. ثم تنكسر الحواجز، ويلتئم الشمل، وتتعالى الضحكات، ويسود إحساس بالارتياح الحائر. هكذا كانت حياتهما. لم تستطع أن تفهم تلك الحياة حقا، أو تجزم بما إذا كانت كأي حياة يعيشها غيرها، لكن بدا أن فترات الهدوء تزداد طولا، والمخاطر تتراجع، ولم يخطر لها قط أنه كان بانتظار أن يلتقي شخصا كهذه المرأة الجديدة؛ ساندي، التي بدت له مختلفة ومرحة، تماما كما كانت جيل في فترة من الفترات. ولعل ذلك لم يخطر على بال ويل أيضا.
لم يكن لديه الكثير ليصرح به عن ساندي - ساندرا - التي جاءت إلى مدينة والي العام الماضي ضمن برنامج لتبادل الطلبة؛ لبحث كيفية تدريس مادة الدراما بالمدارس الكندية. قال إنها تنتمي إلى حركة «تركيا الفتاة» أو «الأتراك الشباب»، وبعدها قال إنها ربما حتى لم تسمع بهذا المسمى من قبل. وسرعان ما حدثت ضجة كبيرة بشأنها، وارتبط اسمها بالخطر. حصلت جيل على بعض المعلومات من مصادر أخرى؛ فقد علمت أن ساندي تحدت ويل على مرأى ومسمع من طلابه؛ قالت ساندي إن المسرحيات التي يريد تقديمها «ليست مناسبة»، أو ربما أنها «ليست ثورية الطابع».
قال أحد طلابه: «لكنها تروق له. لا شك أنها تروق له.»
لم تبق ساندي في المكان طويلا؛ فقد انطلقت لمتابعة طريقة تدريس مادة الدراما في مدارس أخرى، لكنها راسلت ويل، وربما رد ويل على رسائلها؛ لأنه اتضح أنهما وقعا في الحب. ويل وساندي ذابا عشقا، وبنهاية العام الدراسي تبعها ويل إلى أستراليا.
ذابا عشقا. عندما صرح لها ويل بذلك، كانت جيل تدخن الماريجوانا. عادت إلى تعاطي الماريجوانا مجددا؛ لأن حياتها مع ويل جعلتها عصبية جدا.
سألته جيل: «هل تعني أنني لست المسئولة؟ أتعني أنني لست سبب المشكلة؟»
تعاملت جيل مع الأمر باستهتار من فرط الارتياح الذي شعرت به، وهيمن عليها مزاج جريء وصاخب، فأربكت ويل فعاشرها.
في الصباح، حاولا أن يتجنبا التواجد في الغرفة نفسها معا، واتفقا على ألا يتراسلا. قال ويل ربما سيراسلها لاحقا، فأجابته أن «افعل ما يحلو لك.»
ولكن ذات يوم في بيت كليتا، رأت جيل خط يده على مظروف ترك لا محالة عن عمد في مكان تستطيع رؤيته. تركته كليتا؛ كليتا التي لم تنبس ببنت شفة عن الهاربين. كتبت جيل عنوان الرد: 16 طريق آير، توونج، بريسبين، كوينزلاند، أستراليا.
عندما رأت خط يد ويل أدركت كم أمسى كل شيء عبثا بالنسبة إليها؛ هذا البيت الذي يرجع إلى ما قبل العصر الفيكتوري في مدينة والي، والذي يفتقر إلى مساحة أمامية لائقة، والشرفة التي يحويها، والمشروبات، وشجرة كاتالبا التي طالما تطلعت إليها في الساحة الخلفية لبيت كليتا؛ كل الأشجار والشوارع في مدينة والي، وكل مناظر البحيرة التي تشعر المرء بالحرية، والسلوى التي تجدها في المحل؛ قصاصات لا قيمة لها، أشياء مستعارة وأدوات مساعدة. المشهد الحقيقي كان خفيا عليها، في أستراليا.
لذا، وجدت نفسها جالسة على متن الطائرة إلى جوار تلك المرأة ذات الخواتم الماسية. خلت يدا جيل من الخواتم وطلاء الأظافر، وبشرتها كانت جافة بسبب الأعمال التي تزاولها باستخدام الأقمشة. كانت تصف الملابس التي تحيكها بالملابس «المصنوعة يدويا» حتى جعلها ويل تخجل من هذا الوصف، وما زالت لا تدري ما العيب في وصفها.
باعت المحل؛ باعته إلى دونالدا التي لطالما كانت لديها رغبة في شرائه. أخذت المال، وانطلقت على متن الطائرة إلى أستراليا، ولم تخبر أحدا بوجهتها. كذبت إذ تحدثت عن إجازة طويلة ستقضيها في إنجلترا، ثم ستنتقل إلى مكان ما في اليونان شتاء، وبعدها من يدري؟
في الليلة السابقة لرحيلها، أحدثت تغييرا كليا في هيئتها؛ فقصت شعرها الأشيب المائل إلى الحمرة، وخضبت ما بقي منه بلون بني داكن، لكن اللون الذي نتج عن ذلك كان غريبا؛ أحمر قانيا، صناعيا في ظاهره، لكنه أكثر دكنة من أن يلفت الانتباه. واختارت من محلها - ولو أن محتوياته لم تعد في حيازتها بعد - ثوبا لم تكن لترتدي مثله أبدا؛ فستانا بسترة من البوليستر الأزرق الداكن الذي يبدو أشبه بالكتان، والمزدان بخطوط لامعة باللونين الأحمر والأصفر. جيل طويلة القامة عريضة الأرداف، وعادة ما ترتدي ملابس فضفاضة وجميلة. يجعل هذا الثوب منكبيها كبيرين، وينحسر على رجليها عند نقطة أعلى ركبتيها. أي امرأة كانت تتقمص؟ المرأة التي يمكن أن تلعب فيليس معها لعبة البريدج؟ إذا كان هذا هو قصدها، فقد جانبها الصواب. خرجت وهي أقرب شبها بامرأة أمضت أغلب حياتها أسيرة حلة رسمية، تمتهن وظيفة نبيلة وزهيدة الأجر (ربما في كافيتريا أحد المستشفيات). وقد أنفقت الآن أموالا طائلة على ثوب مبهرج جدا سيتبين لها أنه غير لائق وغير مريح ولا يناسب رحلة العمر.
هذا لا يهم؛ فهو ضرب من التنكر.
في مرحاض المطار، في قارة جديدة، اكتشفت أن صبغة شعرها الداكنة، التي لم تغسل بالقدر الكافي ليلة أمس، امتزجت بعرقها، فأخذت تقطر على عنقها. •••
حطت طائرة جيل في بريسبين، ولم تكن قد اعتادت التوقيت الجديد بعد، وأزعجتها حرارة الشمس القاسية. ما زالت ترتدي ثوبها البشع، لكنها غسلت شعرها فلم يعد لون صبغته يقطر عليها.
استقلت سيارة أجرة، وعلى الرغم من الإرهاق الشديد الذي أحست به، لم تكن لتستقر أو تجد الراحة إليها سبيلا إلا بعد أن تعرف أين يعيشان. كانت قد ابتاعت بالفعل خريطة وعثرت على طريق آير. كان طريقا قصيرا ومنحنيا. طلبت من السائق أن تترجل عند زاوية الشارع حيث يوجد محل بقالة صغير. الأرجح أن هذا هو المكان الذين يمكن أن يشتريا منه الحليب أو غيره من الأغراض التي ربما تنفد من عندهما؛ المنظفات، والأسبرين، والفوط الصحية.
بطبيعة الحال، كانت حقيقة أن جيل لم تلتق ساندي قط نذير شؤم؛ لا بد أنها كانت تعني أن ويل عرف شيئا ما بسرعة البرق، ولم تثمر أي محاولات لاحقة للبحث عن وصف واف عن الكثير. أهي طويلة القامة أم قصيرة؟ نحيلة أم سمينة؟ شقراء أم داكنة الشعر؟ كانت في مخيلة جيل صورة لواحدة من هؤلاء الفتيات الطويلات الساقين، القصيرات الشعر، المفعمات بالحيوية والنشاط، والفاتنات فتنة الصبية. نساء. لكنها لم تكن لتتعرف على ساندي لو صادفتها على قارعة الطريق.
هل يمكن أن يتعرف أحد على جيل؟ تشعر جيل بنظارتها السوداء وقصة شعرها غير المتوقعة أنها تبدلت تماما لدرجة أنه يصعب ألا تلفت الانتباه. وحقيقة أنها في بلد أجنبي أيضا هي التي بدلتها تماما. لم تألف المكان بعد. فور أن تألفه، ربما لن تتمكن من الإقدام على الأفعال الجريئة التي تقدم عليها الآن. يجب أن تقطع هذا الشارع، وتلقي نظرة على البيت فورا، وإلا فقد لا تتمكن من ذلك أبدا.
كان الدرب الذي صعدته سيارة الأجرة وعرا عند نهر براون. يمتد طريق آير بطول سلسلة جبلية، ولا يوجد رصيف، بل مسار ترابي فحسب. لا وجود للمشاة ولا السيارات ولا الظل. ثمة حواجز من ألواح خشبية أو أغصان متشابكة - ربما كانت تعريشة! - أو في بعض الحالات أسيجة عالية مغطاة بالأزهار. لا ، الأزهار في حقيقة الأمر مجرد أوراق أشجار لونها وردي مائل إلى الأرجواني أو القرمزي، وثمة أشجار تجهلها جيل تتجلى أعلى الأسيجة. لتلك الأشجار أوراق مغبرة قاسية المظهر، ولحاء قشري أو ليفي، ومظهر رديء. ثمة لا مبالاة أو عداء غامض يشوب تلك الأشجار، ربطت جيل بينه وبين المناطق الاستوائية. أمامها على الدرب رأت زوجا من الدجاج الحبشي يتهادى بتفاخر وكبرياء.
يستتر البيت الذي يعيش فيه ويل وساندي وراء سياج خشبي مطلي بلون أخضر باهت. تسارعت ضربات قلب جيل وخفق قلبها إذ رأت هذا السياج بلونه الأخضر.
الطريق مسدود. يتعين عليها إذن أن تعود أدراجها. مرت من أمام البيت مجددا. في السياج، ثمة بوابات تسمح بدخول السيارة وخروجها، وثمة فتحة للبريد أيضا. لاحظت واحدة كهذه من قبل في سياج أمام بيت آخر، والسبب الذي جعلها تلاحظ تلك الفتحة أن ثمة مجلة كانت بارزة منها، وهذا يعني أن صندوق البريد ليس عميقا، وإذا وضع أحدهم يده فيه ربما أمكنه العثور على مظروف يستقر في نهايته؛ هذا إن لم يكن قد أخرج أحد سكان البيت البريد بالفعل. وضعت جيل يدها في فتحة البريد - لم تستطع أن تمنع نفسها - وعثرت على خطاب هناك، تماما كما ظنت، ووضعته في حقيبتها.
استدعت سيارة أجرة من المتجر الكائن عند زاوية الشارع. سألها الرجل الذي يعمل بالمتجر: «من أي الولايات الأمريكية أنت؟»
قالت: «تكساس.» خطر لها أن الناس يروق لهم انتماؤك إلى ولاية تكساس، وبالفعل رفع الرجل حاجبيه وأطلق صفيرا.
قال: «هكذا ظننت.»
إنه خط ويل نفسه على الخطاب. لم يكن خطابا مرسلا لويل، بل خطابا منه شخصيا؛ خطابا أرسله إلى السيدة كاثرين ثورنابي، القاطنة في 491 شارع هوتر. تعيش في بريسبين أيضا. ثمة يد أخرى خطت عبارة على الخطاب «يرجى إعادته إلى الراسل. المرسل إليه توفي في 13 سبتمبر.» لوهلة، فكرت جيل في خضم الاضطراب الذهني الذي كانت تعاني منه أن ويل هو الذي توفي.
يجب أن تهدأ، وتستجمع قواها، وتبعد عن حرارة الشمس لبعض الوقت.
ومع ذلك، فور أن قرأت الخطاب في غرفتها بالفندق، ورتبت نفسها، استقلت سيارة أجرة أخرى، ولكنها قصدت شارع هوتر هذه المرة، وعثرت - كما توقعت - على لافتة في النافذة: «شقة للإيجار.» •••
ولكن ماذا كان يحوي الخطاب الذي أرسله ويل إلى الآنسة كاثرين ثورنابي القاطنة في شارع هوتر؟
عزيزتي الآنسة ثورنابي
أنت لا تعرفينني، لكنني آمل بعد أن أعرفك بنفسي أن نلتقي ونتكلم. أعتقد أنني ربما أكون ابن عمك الكندي؛ حيث وفد جدي إلى كندا من هولندا في فترة ما خلال القرن السابع عشر، وفي الفترة نفسها هاجر أخ له إلى أستراليا. اسم جدي ويليام، وهو اسمي أيضا، واسم أخيه توماس. بالطبع ليس لدي دليل على أنك سليلة توماس الذي أعنيه؛ كل ما في الأمر أنني تحققت من دليل هاتف مدينة بريسبين، وسعدت إذ عثرت على اسم ثورنابي بنفس الترتيب الهجائي. كنت أحسب من قبل أن مسألة اقتفاء أثر شجرة العائلة هذه من أكثر الأمور التي يمكن أن يتخيلها المرء سخافة ورتابة، لكن ها أنا ذا منشغل بها، واكتشفت أنها تحمل في طياتها إثارة عجيبة. ربما يكون عمري هو السبب - أبلغ من العمر 56 عاما - وهذا يدفعني إلى البحث عن أواصر. ولدي وقت فراغ طويل على غير العادة؛ فزوجتي تعمل في أحد المسارح هنا؛ ولذا فهي منشغلة طوال الوقت. إنها شابة ذكية جدا ومفعمة بالحيوية (إنها تعنفني إذا ما وصفت أية أنثى تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها بالفتاة، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها).
كنت مدرسا لمادة الدراما في مدرسة ثانوية في كندا، لكنني لم أعثر على وظيفة بعد في أستراليا.
زوجة. إنه يحاول أن يبدو محترما في عين ابنة عمه.
عزيزي السيد ثورنابي
الاسم المشترك بيننا قد يكون أكثر شيوعا مما تفترض، ولو أنني الوحيدة التي أحمله في دليل هواتف مدينة بريسبين. وربما قد يخفى عليك أن الاسم مستخلص من كنيسة ثورن آبي التي ما زالت أطلالها موجودة في مدينة نورث أمبرلاند. ويختلف هجاء الكلمة ثورنابي، وثورنبي، وثورنآبي، وثورنأبي. في العصور الوسطى، كان اسم صاحب المزرعة يستخدم من قبل كل العاملين بالمزرعة باعتباره لقبا، بمن فيهم العمال والحدادون والنجارون وغيرهم؛ ومن ثم فهناك أناس كثر منتشرون في جميع أنحاء العالم يحملون اسما لا يحق لهم الارتباط به أساسا. فقط الذين يستطيعون اقتفاء أثر أجدادهم وصولا إلى العائلات التي عاشت في القرن الثاني عشر الميلادي، هم المنتسبون حقا لعائلة ثورنابي، وأعني أن لديهم الحق في إظهار شعار النبالة، وأنا واحدة من هؤلاء. أما أنك لم تذكر أي شيء عن شعار النبالة، ولم تقتف أثر أجدادك إلى ما يتجاوز جدك ويليام، فظني أنك لست من العائلة نفسها. كان جدي يدعى جوناثان.
هذا ما كتبته جيل على آلة كاتبة عتيقة محمولة ابتاعتها من محل للأغراض المستعملة موجود بالشارع. آنذاك كانت جيل تعيش في 491 شارع هوتر، في بناية سكنية تعرف باسم «ميرامار»؛ وهي بناية من طابقين يغطيها الجص الداكن، ويدعمها عمودان مقوسان على جانبي المدخل المحمي بحاجز من القضبان. وتتمتع البناية بطابع مغربي أو إسباني أو كاليفورني أشبه بالمسارح القديمة التي تظهر في الأفلام السينمائية؛ ومع ذلك، قال لها مدير البناية إن شقتها عصرية جدا. «كانت تسكنها سيدة عجوز، لكنها اضطرت أن تدخل المستشفى، ثم جاء أحدهم بعد أن توفيت وأخرج أغراضها، لكن الشقة ما زالت تحتفظ بأثاثها الرئيسي. من أي ولاية أنت؟»
أجابته جيل: «أوكلاهوما.» السيدة ماسي من أوكلاهوما.
يبدو مدير البناية في السبعين من عمره تقريبا، ويرتدي نظارة تضخم حجم عينيه، ويمشي مسرعا، ولكن بشيء من الترنح حيث يميل بقده إلى الأمام، ويتحدث عن مشاق الحياة؛ زيادة شريحة الأجانب في البلاد مما يجعل من الصعب العثور على عمال الصيانة والإصلاحات، وإهمال بعض المستأجرين، والتصرفات الخبيثة للمارة الذين لا يكفون عن إلقاء القمامة على العشب. سألته جيل ما إذا كان قد أرسل إشعارا بعد إلى مكتب البريد. قال إنه كان يعتزم ذلك، لكن السيدة لم تتلق أي بريد بعد، فيما خلا خطابا واحدا. من العجيب أن الخطاب وصل في اليوم التالي لوفاتها. أعاده إلى الراسل. قالت جيل: «سأتولى أنا المهمة. سأخطر مكتب البريد.» «ولكن سيتعين علي التوقيع على الإشعار. أعطني واحدة من تلك الاستمارات التي لديهم، وسأوقع عليها، وحينئذ يمكنك تسليمها. سأكون ممتنا لك.» جدران الشقة مطلية باللون الأبيض. لا بد أن هذا ما يعنيه بالطابع العصري. تحتوي الشقة على ستائر من الخيزران، ومطبخ صغير، وأريكة خضراء تصلح لأن تكون فراشا، وطاولة، ودولاب، ومقعدين. ثمة صورة على الجدار، ربما كانت لوحة فنية أو صورة فوتوغرافية طبعت على ورق ملون، منظر طبيعي لصحراء خضراء مائلة إلى الصفرة، وصخور، وسلسلة من الجبال النائية المهيبة المعتمة. كانت جيل على يقين من أنها رأت هذا المنظر من قبل.
دفعت الإيجار نقدا وعدا، وانشغلت رغما عنها لفترة بشراء الملاءات والمناشف والبقالة، والقليل من القدور والصحون، والآلة الكاتبة. وتعين عليها أن تفتح حسابا في البنك، وتتحول إلى شخص مقيم بالمدينة لا مجرد سائحة. ثمة متاجر على بعد بناية واحدة تقريبا؛ محل للبقالة، وآخر للأغراض المستعملة، وصيدلية، ومقهى؛ وكلها محلات متواضعة علق أصحابها شرائط من الورق الملون على أبوابها، ولكل منها ظلة خشبية أمامية أعلى الرصيف، وعروض تلك المتاجر محدودة. المقهى يحتوي على طاولتين فحسب، ويكاد لا يحوي متجر الأغراض المستعملة سوى كومة من الأغراض المأخوذة من بيت عادي واحد. وعلب الحبوب في محل البقالة، وزجاجات الشراب المهدئ للسعال وعبوات الأقراص في الصيدلية؛ موجودة وحدها على الأرفف وكأن لها قيمة أو أهمية خاصة.
لكنها عثرت على ما يلبي حاجتها؛ ففي محل الأغراض المستعملة، عثرت على بعض الملابس القطنية الفضفاضة المزدانة بالأزهار، وسلة مصنوعة من القش تصلح لشراء البقالة. تبدو الآن أقرب شبها بالنساء الأخريات اللائي تراهن في الشارع. ربات البيوت اللائي بلغن منتصف العمر بأذرعهن وأرجلهن العارية الشاحبة، يتسوقن في الصباح الباكر أو في وقت متأخر بعد الظهر. ابتاعت قبعة عريضة من القش لتستظل بها على عادة النساء هناك. وجوه باهتة ناعمة يغطيها النمش وتسترق النظرات.
يسدل الليل أستاره فجأة في حوالي الساعة السادسة، ولا بد أن تجد ما يشغلها ليلا. لا يوجد تليفزيون بالشقة، لكن ثمة مكتبة على بعد مسافة بسيطة من المحلات تقدم خدمات الاستعارة، وتديرها امرأة عجوز من خارج الغرفة الأمامية لبيتها. ترتدي هذه العجوز شبكة لتثبيت الشعر، وجوارب قطنية رمادية اللون على الرغم من حرارة الجو. (أين يمكننا الآن العثور على مثل هذه الجوارب؟) يبدو من قوامها أنها تعاني سوء التغذية، وشفتاها دقيقتان وشاحبتان ومتجهمتان؛ إنها المرأة التي خطرت على بال جيل عندما كتبت خطاب الرد على ويل نيابة عن كاثرين ثورنابي. وكلما كانت جيل ترى سيدة المكتبة هذه تتخيل وكأنها تحمل هذا الاسم، وهو ما كان يحدث على نحو شبه يومي؛ لأنه كان من غير المسموح به أن يقرأ المرء أكثر من كتاب في كل مرة، وعادة ما كانت جيل تقرأ كتابا كل ليلة. كانت تحدث نفسها بأن هذه هي كاثرين ثورنابي التي توفيت وانتقلت إلى حياة أخرى على بعد بضع بنايات.
كل القصة التي ألفتها عن آل ثورنابي الذين يملكون شعار النبالة وهؤلاء الذين لا يملكونه اقتبستها من كتاب. لم يكن من بين الكتب التي تطالعها جيل حاليا، بل من كتاب قرأته في أيام الصبا. كان بطل القصة ممن لا يملكون شعار النبالة، لكنه كان الوريث الشرعي لممتلكات ضخمة. لم تكن تستطيع تذكر عنوان الكتاب. كانت تعيش آنذاك مع أناس دائما ما يطالعون رواية «شتيبينوولف»، أو رواية «ديون»، أو أعمال كريشنامورتي، وقرأت بتأثر روايات رومانسية تاريخية. لم تكن تعتقد أن ويل قرأ كتابا كهذا أو توصل إلى هذه المعلومة من أي طريق، وهي متأكدة أنه سيرد على خطابها ليعنف كاثرين.
انتظرت وعكفت على مطالعة الكتب المستعارة من المكتبة، والتي يبدو أنها ترجع إلى عصر سابق للروايات الرومانسية التي قرأتها منذ عشرين عاما. بعضها استعارته من المكتبة العامة في وينيبيج قبل أن تغادر البيت. كانت تلك الكتب تبدو عتيقة حتى آنذاك؛ «فتاة ليمبرلوست»، «القلعة الزرقاء»، «ماريا تشابديلين»، تذكرها هذه الكتب بحياتها قبل ويل. ما زالت هذه الحياة موجودة، وبإمكانها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه منها إن شاءت. لديها أخت تعيش في وينيبيج، ولديها خالة أيضا تسكن في دار للمسنين ما برحت تطالع كتبا بالروسية. يتحدر جد جيل وجدتها من روسيا، ووالداها ما زال بإمكانهما أن يتحدثا الروسية، واسمها الحقيقي ليس جيل، بل جاليا. عزلت نفسها عن عائلتها - أو ربما عائلتها هي التي نبذتها - عندما غادرت البيت في الثامنة عشرة من عمرها؛ لتهيم على وجهها في البلاد كما كانت عادة المراهقين في تلك الأيام. في البداية برفقة أصدقاء، ثم برفقة عشيق، ثم برفقة عشيق آخر. كانت تصنع الخرز والأوشحة المصبوغة وتبيعها.
عزيزتي الآنسة ثورنابي
أتقدم إليك بخالص الشكر لتفسيرك للفارق المهم بين آل ثورنابي الجديرين بشعار النبالة ومن هم غير جديرين به، وظني أنك تعتقدين بشدة أنني ربما أنتمي إلى الفريق الثاني.
أستميحك عذرا. لست أنتوي الخوض في هذه المنطقة المقدسة، ولا أنتوي ارتداء شعار نبالة آل ثورنابي على قميصي؛ فنحن لا نقيم وزنا لهذه الأشياء في بلدنا، ولم أكن أحسب أنكم تفعلون الشيء نفسه هنا في أستراليا، لكنني أدركت الآن أنني كنت مخطئا.
ربما بلغت من الكبر عتيا فلم تلحظي التغير الذي طرأ على قيمة الأشياء. الأمر مختلف تماما بالنسبة إلي؛ فأنا أعمل في مجال التدريس، وأحمل طوال الوقت على الدخول في نقاشات جدلية مع زوجتي الشابة.
هدفي البريء كان ببساطة أن أتواصل مع شخص في هذا البلد خارج الوسط المسرحي الأكاديمي الذي وجدت نفسي وزوجتي أسيرين له. لدي أم في كندا أشتاق إليها كثيرا، وحقيقة الأمر أن خطابك ذكرني بها بعض الشيء؛ فهي تستطيع أن تكتب خطابا كهذا على سبيل المزاح واللهو، لكنني أشك أنك تمزحين. يبدو لي كنسب كريم.
عندما يشعر ويل بالاستياء والاضطراب بطريقة معينة - طريقة يصعب التنبؤ بها ويصعب على أغلب الناس إدراكها - فإنه يميل إلى التهكم الشديد؛ فهو يعجز عن مواراة تضايقه، ويتخبط فيشعر الناس بالحرج، لا من أنفسهم كما يريد، بل من أجله هو. نادرا ما يحدث ذلك، وعادة عندما يحدث فإن ذلك يكون معناه أن لديه شعورا قويا بعدم تقدير الآخرين له، بل إن ذلك يكون معناه أنه حتى لم يعد يقدر نفسه.
هذا ما حدث إذن. هكذا تعتقد جيل؛ لا بد أن ساندي وأصدقاءها الشباب بثقتهم الشديدة واعتدادهم المحض بأنفسهم يشعرونه بالبؤس. لم يلحظ أحد سرعة بديهته، وبدت الأشياء التي يتحمس لها عتيقة الطراز وعفا عليها الزمان. لم يكن هناك من سبيل ليوحي لنفسه بالانتماء إليهم، وفخره بارتباطه بساندي ينحسر تدريجيا.
هكذا تعتقد. إنه مضطرب وتعيس، ويحاول قدر إمكانه التعرف على شخص آخر. لقد فكرض في الأواصر العائلية هنا في هذا البلد الذي يشهد ازدهارا مستمرا، وفي خضم حياة المرح والانطلاق الماجنة، والأيام الشديدة القيظ والليالي التي تمسي خانقة على حين غرة.
عزيزي السيد ثورنابي
هل كنت تتوقع لمجرد أن لنا اسم العائلة نفسه أن أفتح باب بيتي على مصراعيه وأستقبلك عندي؛ كما تقولون في أمريكا، على حد علمي، وفي كندا أيضا؟ لعلك تبحث عن أم أخرى لك هنا، لكن هذا لا يفرض علي أن أكون هي. بالمناسبة، أنت مخطئ تماما بشأن عمري؛ فأنا أصغر منك بعدة سنوات، فلا تتخيلني عجوزا عانسا تعتمر شبكة فوق رأسها، وترتدي جوارب رمادية قطنية في قدميها. إن درايتي بالعالم لا تقل عن درايتك به، على الأرجح؛ فأنا كثيرا ما أسافر؛ لأنني أشتري أحدث الصيحات لمحل ضخم؛ ولذا فإن أفكاري ليست عتيقة كما قد يتراءى لك.
لم تذكر ما إذا كانت زوجتك الشابة المفعمة بالنشاط ستكون جزءا من هذه الصداقة العائلية. يدهشني أنك في حاجة إلى التعرف على أشخاص جدد. يبدو لي أنني أقرأ أو أسمع دوما في وسائل الإعلام عن تلك العلاقات التي تنشأ بين طرفين بينهما فجوة عمرية، وكم هي ممتعة تلك العلاقات، وكيف يرضى الرجال في سعادة بحياة الاستقرار في أسرة والقيام بدورهم كآباء (فضلا عن «التجارب» التي تعيشها النساء الأقرب إليهم سنا، أو كيف أن هؤلاء النساء يركن إلى حياة الوحدة التي يعشنها)؛ لذا فلعلك تريد أن تصبح أبا كي تعيش «الإحساس الأسري».
ذهلت جيل من براعتها في الكتابة؛ فجيل كانت تجد دوما صعوبة في كتابة الخطابات، وتمخضت محاولاتها عن رسائل مملة لا ملامح لها يتخللها الكثير من الخطوط الفاصلة والعبارات غير المكتملة، ومزاعم الوقت غير الكافي. من أين أتت بهذا الأسلوب الرائع؟ ربما اكتسبته من أحد كتبها! شأنه شأن الهراء المتعلق بشعار النبالة. تخرج في جنح الظلام لترسل خطابها شاعرة بالجرأة والرضا، لكنها تستيقظ في صباح اليوم التالي مبكرا، ويباغتها شعور بأنها شطحت أكثر من اللازم. لن يرد على هذا الخطاب أبدا، ولن تسمع أخباره مجددا.
تنهض وتغادر البناية وتخرج في نزهة صباحية. ما زالت المحلات مغلقة، وما برحت الستائر الفينيسية مسدلة على منافذ مكتبة الغرفة الأمامية. تمشي إلى أن تصل إلى النهر حيث يوجد متنزه صغير إلى جوار الفندق. لم تكن تستطيع المشي أو الجلوس هناك في وقت لاحق من النهار؛ لأن شرفات الفندق عادة ما تحتشد بالسكيرين الصاخبين، وكان المتنزه في مجال أصواتهم أو حتى في نطاق إلقاء زجاجات خمرهم؛ أما الآن، فالشرفات خاوية والأبواب موصدة. ها هي تمشي مستظلة بظل الأشجار. تمتد مياه النهر البنية اللون على مهل بين جذوع أشجار المانجروف، والطيور تحلق فوق المياه، والإنارة تضيء سطح الفندق. إنها ليست طيور النورس، كما حسبت لأول وهلة؛ فهي أصغر حجما، وأجنحتها وصدورها البيضاء اللامعة مخضبة بمسحة من اللون الوردي.
ثمة رجلان جالسان في المتنزه؛ أحدهما على المقعد، والآخر على كرسي متحرك إلى جوار المقعد. إنها تعرفهما؛ فهما يعيشان في البناية نفسها التي تقطنها، ويخرجان للتنزه كل يوم. ذات مرة، فتحت لهما البوابة الحديدية ليتمكنا من المرور، وصادفتهما في المحلات، ورأتهما جالسين إلى الطاولة من نافذة المقهى.
يبدو القعيد عجوزا وسقيما جدا؛ فتجاعيد وجهه أشبه بطلاء قديم مهترئ، يرتدي نظارة قاتمة، وشعرا مستعارا أسود متفحما، ويعتمر قلنسوة سوداء، يلف جسمه كله في بطانية، وحتى في وقت لاحق من النهار عندما تزداد حرارة الشمس - كلما صادفتهما - كانت تراه متشحا ببطانيته المنقوشة. أما الرجل الذي يدفع الكرسي المتحرك والجالس الآن على المقعد، فهو شاب يافع بالقدر الذي يجعله يبدو كصبي شب عن الطوق مبكرا؛ فهو طويل القامة ضخم الأطراف، لكنه يفتقر إلى الطابع الرجولي. هو شاب عملاق مرتبك بفعل حجمه، قوي البنية لكنه ليس رياضيا، يعاني من تيبس - ربما ناجم عن خجله - في ذراعيه ورجليه السميكتين وعنقه الثخين، ويكتسي بالشعر الأحمر، لا على رأسه فحسب، بل على ذراعيه العاريتين وأعلى أزرار قميصه أيضا.
تتوقف جيل بعد أن تتجاوزهما وتلقي عليهما تحية الصباح. يرد عليها الشاب التحية بنبرة تكاد لا تسمع. يبدو أن من عادته أن يتطلع إلى العالم بنوع مهيب من اللامبالاة، لكنها تعتقد أن تحيتها جعلته يشعر بالإحراج أو الرهبة للحظة. ومع ذلك، فقد تابعت حديثها قائلة: «ما هذه الطيور التي أراها في كل مكان؟»
أجابها الشاب: «طيور الجالا.» وهو ما جعل اسم الطيور أشبه باسمها في فترة الطفولة. كانت على وشك أن تطلب منه أن يعيد على مسامعها اسم الطيور، وإذ فجأة تثور ثائرة العجوز وينطلق لسانه بالسباب. بدت كلماته معقدة وعصية على الفهم بسبب اللكنة الأسترالية، إضافة إلى مسحة من اللكنة الأوروبية، لكن القسوة المتعمدة في كلماته لم يكن فيها أدنى شك. وهذه الكلمات موجهة إليها - فهو يميل إلى الأمام محاولا، في حقيقة الأمر، أن يتحرر من القيود التي تثبته بالكرسي المتحرك. يريد أن ينقض عليها ويندفع نحوها ويطاردها إلى أن تختفي من أمامه. لم يعتذر الشاب مطلقا، ولم يلتفت إلى جيل قط، لكنه مال نحو العجوز ودفعه برفق إلى الوراء مرددا كلمات لم تستطع جيل أن تسمعها. رأت أنها لن تحصل على تفسير لما حدث، فمشت مبتعدة عنهما.
لعشرة أيام كاملة لم تتلق أي خطاب، ولا كلمة واحدة. لم تستطع أن تفكر في خطوتها التالية. كانت تسير كل يوم؛ هذا هو ما تفعله على الأغلب. تبعد بناية «ميرامار» السكنية مسافة نحو ميل واحد عن الشارع الذي يسكن فيه ويل. لم تطأ قدماها هذا الشارع مجددا، ولم تدخل إلى المحل الذي قالت لصاحبه إنها من تكساس. لم تستطع أن تتخيل من أين واتتها الجرأة التي أحست بها في أول يوم لها هنا. سارت جيل في الشوارع القريبة؛ تمتد هذه الشوارع كلها إلى جوار سلاسل جبلية، وبين هذه السلاسل الجبلية التي تلتصق بها البيوت، ثمة أودية ذات جوانب شديدة الانحدار تملؤها الطيور والأشجار. وحتى عندما تزداد حرارة الشمس، لا تهدأ تلك الطيور أبدا. تواصل طيور العقعق حوارها الصاخب، وأحيانا تظهر لتطير على ارتفاعات خطرة على مقربة من قبعتها ذات الألوان الفاتحة. تصيح الطيور التي يشاكل اسمها اسم جيل بعبث وهي ترتقي في السماء، وتحوم في شكل دوامة، ثم تهبط على أوراق الأشجار. تواصل مسيرتها إلى أن يصيبها الدوار وتتصبب عرقا، وتخشى أن ينتهي بها الحال إلى الإصابة بضربة شمس. ترتعش في حر الشمس. أكثر ما تخشاه وترغب فيه أكثر من أي شيء هو أن ترى قوام ويل المألوف جدا؛ ذاك القوام النحيل نوعا ما، الواثق الخطى، أكثر من أي شيء يمكن أن يؤلمها أو يرضيها في العالم بأسره.
عزيزي السيد ثورنابي
أكتب إليك رسالة مقتضبة فحسب لأعتذر لك إن كنت قد أسأت الأدب وتسرعت في ردي عليك. أظن أنني تصرفت على هذا النحو بالفعل. هذا بسبب ضغوط تعرضت لها مؤخرا، واستأذنت للتغيب عن العمل والتعافي. في ظل هذه الظروف، لا يتصرف الإنسان كما يأمل، ولا يرى الأشياء بعقلانية ...
في يوم من الأيام، كانت تسير مارة بالفندق والمتنزه؛ الشرفات صاخبة بأصوات الشراب والعربدة مساء، وكل أشجار المتنزه في أوج ازدهارها. كانت قد رأت لون الأزهار من قبل، بيد أنها لم تتخيل أن تراه على الأشجار من قبل؛ درجة من الأزرق الفضي أو القرمزي الفضي، لون رقيق وجميل جدا، لدرجة تجعلك تظن أنه سيذهل العالم من حوله فيلزمه الصمت والتأمل، لكن من الواضح أن ذلك لم يحدث.
عندما عادت إلى بناية ميرامار، وجدت الشاب ذا الشعر الأحمر واقفا في قاعة الطابق السفلي خارج باب الشقة التي يعيش فيها برفقة العجوز، ومن وراء باب الشقة المغلق يصدر صوت تعنيف مطول.
يبادرها الشاب بابتسامة هذه المرة. تتوقف جيل ويقفان معا ينصتان لصوت الغضب.
تقول جيل: «إذا كنت تبحث عن مكان للجلوس أثناء انتظارك، فمرحبا بك بالطابق العلوي.» هز رأسه نافيا دون أن تزول ابتسامته عن وجهه وكأنها مزحة بينهما. تعتقد أنها يجب أن تقول شيئا قبل أن تتركه هناك، فسألته عن الأشجار الموجودة في المتنزه: «تلك الأشجار المجاورة للفندق حيث رأيتك ذاك اليوم؟ إنها مزهرة كلها الآن. ما اسمها؟»
قال كلمة لم تستطع أن تفهمها، فطلبت منه أن يعيدها على مسامعها. قال: «جاك راندا. هذا هو فندق جاك راندا.»
عزيزتي الآنسة ثورنابي
كنت مسافرا، وعندما رجعت وجدت خطابيك بانتظاري، وفتحتهما بالترتيب الخطأ، ولو أن ذلك ليس بالأمر المهم على أية حال.
توفيت أمي، فعدت إلى «وطني» كندا لحضور جنازتها. الجو بارد هناك في فصل الخريف. أشياء كثيرة تغيرت؛ ببساطة لا أعرف لم أقول لك ذلك! لا شك أن علاقتنا بدأت بسوء تفاهم، وحتى لو لم أتلق خطابك التفسيري بعد خطابك الأول، أعتقد أنني كنت سأشعر بالسعادة بطريقة ما لحصولي على الخطاب الأول؛ فقد كتبت لك خطابا فظا وبغيضا للغاية، فكان ردك مماثلا. تبدو لي الفظاظة والبغض والتأهب للاستياء خصالا مألوفة. هل أخاطر بإثارة غضبك النبيل لو اقترحت أننا أقرباء على أية حال؟
أشعر بالحيرة هنا. إنني معجب بزوجتي وأصدقائها من المسرح؛ بحماسهم والتزامهم، وآمالهم باستغلال مواهبهم من أجل خلق عالم أفضل (لكنني أعترف على الرغم من ذلك أن آمالهم وحماسهم كثيرا ما يبدوان لي متجاوزين لمواهبهم). لا أستطيع أن أكون واحدا منهم، وأعترف أنهم أدركوا هذه الحقيقة قبل أن تتجلى لي. لا بد أنه بسبب تشوش ذهني بفعل اضطرابات السفر لمسافات طويلة. بعد هذه الرحلة البشعة، صار بإمكاني مواجهة هذه الحقيقة، والتصريح بها في خطاب لشخص مثلك عنده مشكلاته الخاصة، وسبق أن صرح بأنه لا يود أن يسمع شيئا عن مشكلاتي. الواقع أنني أفضل أن أختتم خطابي قبل أن أثقلك بالمزيد من هرائي النفساني، ولا ألومك إن كنت قد عزفت عن القراءة قبل أن تصل عيناك إلى هذا السطر ...
تستلقي جيل على الأريكة وتمسك بالخطاب بكفيها وتضمه إلى بطنها. أشياء كثيرة تغيرت. كان في زيارة إلى مدينة والي؛ لا بد إذن أنه علم ببيعها للمحل وانطلاقها في رحلة عظيمة لتجوب العالم، ولكن أليس من المحتمل أن تكون كليتا قد أخبرته بذلك فعلا؟ ربما لا؛ فكليتا كانت كتومة. وعندما دخلت المستشفى، قبل أن ترحل جيل مباشرة، قالت: «لا أريد أن أرى أحدا أو أسمع أخبار أحد لفترة من الوقت، ولا أريد أن يزعجني أحد بخطاباته؛ فهذه العلاجات التي سأتلقاها من المتوقع أن تكون مأساوية بعض الشيء.»
ماتت كليتا.
كانت جيل تعرف أن كليتا ستموت، لكنها - بشكل أو بآخر - حسبت أن الحال لن يتغير في شيء. لا شيء يمكن أن يحدث هناك وجيل ماكثة هنا. توفيت كليتا، وأمسى ويل وحيدا، فيما عدا ساندي، وربما أن ساندي لم تعد تنفعه كثيرا.
ثمة طرق على الباب. قفزت جيل منزعجة بشدة، وطفقت تبحث عن وشاح لتغطي شعرها. كان مدير البناية ينادي اسمها المزيف. «كنت أريد أن أخبرك بأن أحدهم جاء ليسأل عنك. سألني عن الآنسة ثورنابي، فقلت له إنها ماتت، فسألني: أحقا ماتت؟ فقلت: نعم. فقال: هذا أمر عجيب.»
سألته جيل: «هل أوضح السبب؟ هل قال لماذا هو يستغرب هذا الأمر؟» «لا، قلت له إنها ماتت في المستشفى، وإن امرأة أمريكية تسكن شقتها الآن. نسيت من أي ولاية أنت في أمريكا. هذا الرجل كان يبدو أمريكيا هو نفسه؛ ولذا ربما كان الأمر يعنيه في شيء. قلت له إن ثمة خطابا للآنسة ثورنابي جاءها بعد أن توفيت، وسألته إن كان هو من أرسله. قلت له إنني أعدت الخطاب، قال نعم، إنه هو الذي كتب الخطاب، لكنه لم يتسلمه قط حين رددته. قال لا بد أن هناك سوء تفاهم.»
قالت جيل إنه لا بد أن يكون هناك سوء تفاهم، وأضافت: «كما في حالات الهوية المغلوطة. نعم، كما في حالات كهذه.»
عزيزتي الآنسة ثورنابي
لقد بلغني أنك قضيت نحبك. أعرف أن الحياة غريبة، لكنني لم أشهد كهذا الموقف غرابة من قبل. من أنت؟ وما الذي يحدث؟ يبدو لي أن هذا الحديث عن آل ثورنابي لم يكن إلا محض هراء. لا بد أنك إنسانة خالية البال، لديك وقت فراغ قاتل، وتتمتعين بخيال خصب. يسوءني أن يخدعني أحد بهذه الطريقة، لكن أعتقد أنني أتفهم الإغراء الذي ينطوي عليه الموقف. أعتقد أنك مدينة لي بتوضيح ما إذا كان تفسيري للوقائع صحيحا أم لا، وما إذا كان تصرفك هذا محض مزاح لا أكثر، أم أنني أتعامل مع «خبيرة موضة» من العالم الآخر (من أين حصلت على هذه اللمسة، أم أن هذه هي الحقيقة)؟
عندما تخرج جيل لشراء الطعام، فإنها تخرج من الباب الخلفي للبناية، وتسلك دربا ملتويا وصولا إلى المحلات، وعند عودتها من الطريق الخلفي نفسه، تصادف الشاب ذا الشعر الأحمر واقفا بين صناديق القمامة. لو لم يكن طويل القامة على هذا النحو، لظنته متواريا هناك. تتحدث إليه لكنه لا يرد عليها. يتطلع إليها عبر الدموع التي تنهمر في عينيه وكأنها ليست سوى زجاج مموج؛ شيء معتاد.
سألته جيل: «هل والدك مريض؟» استنتجت أن هذه هي العلاقة التي تربطهما لا محالة، ولو أن الفجوة العمرية بينهما تبدو أكبر من الفجوة التي عادة ما تفصل الآباء عن الأبناء، كما أن أحدهما لا يشبه الآخر في شكله، وأناة الشاب وإخلاصه يتجاوزان - وفي أيامنا هذه يناقضان أيضا - ما يمكن أن يكنه الولد لأبيه في المعتاد، لكنهما يتجاوزان أيضا ما يمكن أن يكنه له خادم أجير.
أجابها الشاب أن لا، وعلى الرغم من أن تعبيرات وجهه ما زالت هادئة، فإن حمرة شديدة تسللت إلى وجهه تحت فروة رأسه الحمراء الرقيقة.
ظنت جيل أنهما عاشقان، وفجأة تأكد لها إحساسها. أحست بقشعريرة تعاطف ورضا غريب.
عاشقان.
نزلت الدرج لتلقي نظرة على صندوق بريدها بعد أن حل الظلام، وعثرت على خطاب آخر.
ربما ظننت أنك خارج البلدة في واحدة من جولاتك لشراء الملابس العصرية، لكن مدير البناية قال لي إنك لم تبرحي المكان منذ أن استأجرت الشقة؛ ولذا فظني أن «غيابك» مستمر. قال لي مدير البناية أيضا إنك سمراء. أفترض أننا يمكن أن نتبادل الأوصاف، ثم الصور - على استحياء - بنفس الطريقة الجافة التي يلتقي بها الناس بعضهم بعضا عبر إعلانات الصحف. يبدو لي أنه خلال محاولتي التعرف عليك، أجد نفسي على استعداد لأن أجعل من نفسي أحمق، وهذا ليس بالأمر الجديد بالطبع ...
لم تغادر جيل الشقة ليومين كاملين. نفد الحليب عندها، فشربت قهوتها سادة. ماذا ستفعل عندما تنفد قهوتها؟ تتناول وجبات غريبة؛ التونة المبسوطة على البسكويت الهش عندما ينفد الخبز، والطرف الجاف للجبن، وثمرتي مانجو. تخرج إلى ردهة الطابق العلوي ببناية ميرامار - كانت توارب الباب في البداية لترى إن كان هناك أحد بالجوار - وتمشي حتى النافذة المقوسة المطلة على الشارع. يعاودها إحساس من الماضي السحيق. تحس برغبة في مراقبة الشارع، الجزء البادي منه؛ حيث من المتوقع أن تظهر سيارة ما، أو ربما لا تظهر. بل إنها تتذكر الآن السيارات نفسها؛ سيارة أوستن زرقاء صغيرة، وشيفروليه حمراء داكنة، وسيارة عائلية كبيرة لأغراض السفر؛ سيارات قطعت بها مسافات قصيرة على نحو غير قانوني، وبجرأة أغشت منطقها وسداد رأيها، قبل أن تلتقي ويل بفترة طويلة.
لم تكن تعرف طبيعة الملابس التي سيرتديها ويل، أو كيف سيصفف شعره، أو ما إذا كان هناك تغيير سيطرأ على مشيته أو تعبيرات وجهه؛ تغيير يتناسب مع حياته هنا. يستحيل أن يكون قد تغير أكثر مما تغيرت هي. ليست لديها مرآة في الشقة فيما خلا المرآة الصغيرة المعلقة على خزانة الحمام، لكن حتى هذه المرآة الصغيرة استطاعت أن تظهر لها كم أمست أكثر نحولا، وكيف باتت بشرتها الشاحبة قاسية. بدلا من أن تذوي بشرتها الشاحبة وتصيبها التجاعيد كعادة البشرة الشاحبة في هذا المناخ، اكتسبت بشرتها شكلا أشبه بنسيج باهت. يمكن أن تصلح ما أصابها من وهن؛ هكذا يتراءى لها. في وجود الأنواع المناسبة من مساحيق التبرج، بالإمكان إخفاء نظرة التجهم التي تغلب على محياها. المشكلة الأكبر تكمن في شعرها؛ فاللون الأحمر يتجلى عند الجذور مع بعض الخصل الرمادية اللامعة، وهي في أغلب الأحيان تبقيه مستورا بوشاح.
عندما طرق مدير البناية باب شقتها مرة أخرى، اكتنفتها حالة من الترقب الجنوني لثانية أو ثانيتين. بدأ ينادي اسمها: «سيدة ماسي، سيدة ماسي، أوه! كنت آمل أن تكوني بالغرفة. أتساءل إن كان بإمكانك النزول ومساعدتي. إنه العجوز بالطابق السفلي؛ سقط عن فراشه.»
سبقها إلى الطابق السفلي ممسكا بالدرابزين وهابطا الدرج وقدماه ترتعشان مع كل خطوة. «صديقه ليس هنا؟ تساءلت. لم أره أمس. أحاول أن أتتبع الناس، لكنني لا أحب أن أتدخل في شئونهم. حسبت أنه ربما سيرجع مساء. كنت أمسح البهو وإذا بي أسمع صوت ارتطام قوي، فعدت إلى الغرفة. تساءلت: ترى ماذا كان يحدث؟ فوجدت العجوز وحده تماما مطروحا على الأرض.»
الشقة ليست أكبر من شقة جيل، ومصممة بالطريقة نفسها. بها ستائر عادية تنسدل على الستائر الخشبية المصنوعة من الخيزران؛ مما يجعل الشقة معتمة جدا، وتفوح منها رائحة السجائر، ورائحة الطعام المطهي منذ فترة طويلة، ومسحة من معطر جو برائحة الصنوبر. كان الفراش المطوي على شكل أريكة مبسوطا على هيئة فراش مزدوج، والعجوز راقدا على الأرض إلى جواره، بعد أن جر معه بعض مفارش الفراش. بدا رأسه دون الشعر المستعار أملس كقطعة من الصابون المتسخ، وعيناه كانتا نصف مغمضتين، وثمة ضجيج يصدر من أحشائه أشبه بهدير محرك يحاول يائسا أن يدور.
سألت جيل: «هل اتصلت بالإسعاف؟»
أجابها المدير: «ليتك تستطيعين فحسب الإمساك بأحد طرفيه؛ فظهري يؤلمني، وأخشى إن ملت عليه ألا أقيم ظهري مجددا.»
سألته جيل: «أين الهاتف؟ ربما تعرض لسكتة دماغية، وربما تعرض لكسر في الحوض. يجب أن ينقل إلى المستشفى.»
سألها المدير: «أتعتقدين هذا؟ صديقه يستطيع أن يحمله بسهولة ويسر؛ فهو قوي، لكنه الآن محبط.» قالت جيل: «سأجري أنا المكالمة.»
فرد قائلا: «أوه! لا. لدي الرقم مسجلا على الهاتف في مكتبي. لا أسمح لأحد بالدخول إلى مكتبي.» ولما تركها وحدها مع العجوز الذي لا يستطيع أن يسمعها على الأرجح، قالت جيل بنبرة بدت اجتماعية على نحو سخيف: «لا بأس، لا بأس. سنجلب لك العون الآن.» مالت لتسحب الدثار على كتفيه، ولدهشتها تحركت يده باحثة عن يدها وممسكة بها. يده نحيلة وعظامها بارزة، لكنها كانت دافئة بالقدر الكافي، وقوية بطريقة مخيفة. قالت له: «أنا هنا، أنا هنا.» وهي تتساءل ترى هل تتقمص دور الشاب ذي الشعر الأحمر، أم دور شاب آخر، أم دور امرأة ما، أو حتى أمه؟
جاءت سيارة الإسعاف سريعا بصوتها المزعج، وسرعان ما دلف رجال الإسعاف بمحفتهم إلى الغرفة، وتبعهم المدير قائلا: «لم نستطع أن نقيمه من مكانه. هذه هي السيدة ماسي، نزلت من الطابق العلوي لتساعدني في هذا الظرف الطارئ.»
وبينما انشغلوا بوضعه على المحفة، كان على جيل أن تسحب يدها من يده، فبدأ يتذمر، أو هكذا حسبت. هذا الضجيج المستمر اللاإرادي في ظاهره يكتسب تأوهات إضافية. أمسكت بيده مرة أخرى بأسرع ما أمكنها، وسارت إلى جواره بينما أخرجوه على كرسي متحرك. كانت قبضته قوية على يدها لدرجة أنها أحست كأنه يجرها وراءه.
يقول المدير: «لقد كان يملك فندق جاك راندا منذ سنوات طوال. كان يملكه بالفعل.»
عدد من المارة في الشارع، لكن أحدا لا يود أن يتوقف، لا يريد أحد أن يراه الناس محدقا في المصاب. يريدون النظر، ويحجمون عنه.
قالت جيل: «هل أركب معه؟ من الواضح أنه لا يود أن يترك يدي.»
قال أحد المسعفين: «الأمر راجع إليك.» فركبت معه (حقيقة الأمر أنها جرت جرا إلى داخل السيارة بفعل قبضته القوية تلك). يضع المسعف كرسيا صغيرا لها. تغلق بوابة السيارة وتنطلق صافرة إنذارها بينما تبتعد عن البناية.
عبر نافذة الباب الخلفي، ترى ويل. كانت بناية واحدة تفصله عن ميرامار التي كان يقصدها؛ يرتدي سترة ذات لون فاتح وأكمام قصيرة، وسروالا يتماشى مع لون سترته - على الأرجح بذلة سفاري. تفشى الشيب في شعره أكثر، أو لعل الشمس هي التي أفقدته لونه، لكنها تعرفت عليه على الفور. ستظل تعرفه، وستظل دوما تنادي عليه كلما وقعت عيناها عليه، كحالها الآن؛ حيث حاولت حتى أن تقفز عن كرسيها، حاولت أن تفلت يدها من قبضة العجوز.
قالت للمسعف: «إنه ويل. آسفة، إنه زوجي.»
قال المسعف: «حسنا، من الأفضل ألا يراك وأنت تقفزين من سيارة إسعاف مسرعة.» وبعدها قال: «يا إلهي، ماذا حدث هنا؟» لدقيقة تقريبا تفحص العجوز، وسرعان ما رفع رأسه وقال: «مات!» قالت جيل: «ما زال ممسكا بيدي.» لكنها أدركت وهي تنطق عبارتها أن ذلك ليس بصحيح. منذ لحظة كان قابضا على يدها بقوة شديدة؛ بقوة تكفي لمنعها من القفز باتجاه ويل؛ والآن، هي التي تتشبث به. ما زالت أصابعه دافئة.
عندما رجعت من المستشفى، عثرت على الرسالة التي كانت تترقبها. «جيل، أعرف أنك هي.» •••
أسرعي، أسرعي. دفع إيجارها. يتعين عليها أن تترك رسالة للمدير. لا بد أن تسحب أموالها من البنك، وتنطلق إلى المطار، وتبحث عن طائرة. لا بأس إن تركت ملابسها؛ فساتينها المتواضعة المزخرفة زخارف باهتة، وقبعتها العريضة، ولا بأس إن ظل الكتاب الأخير الذي استعارته على الطاولة تحت صورة نبات الميرمية. لا بأس أن يظل مكانه، وتتراكم غرامات إعادته إلى المكتبة.
خلاف ذلك، ماذا سيحدث؟
ما أرادته حتما. ما تشعر برغبة قوية في الهروب منه فجأة وبلا شك.
جيل، أعرف أنك هنا! أعرف أنك وراء الباب.
جيل! جاليا!
تحدثي إلي، جيل. ردي علي. أعرف أنك هنا.
يمكنني سماعك؛ يمكنني سماع دقات قلبك عبر فتحة المفتاح، يمكنني سماع هدير بطنك، يمكنني سماع صوت عقلك المتردد.
يمكنني أن أشم رائحتك عبر فتحة المفتاح. أنت ... جيل.
الكلمات التي يتمناها المرء أكثر من غيرها يمكن أن تتبدل. يمكن أن يطرأ عليها طارئ بينما أنت بانتظارها؛ «الحب»، «الاحتياج»، «الغفران». «الحب»، «الاحتياج»، «إلى الأبد». يمكن أن يمسي وقع مثل هذه الكلمات صوت جلبة، أو طرق مطارق في الشارع، وجل ما يمكنك فعله هو أن تفر كي لا تحترم تلك الأصوات بفعل العادة. •••
في متجر المطار، وقعت عيناها على عدد من العلب الصغيرة التي صنعتها أياد أسترالية؛ دائرية الشكل وخفيفة خفة العملات المعدنية. تختار واحدة عليها نقش من نقاط صفراء متناثرة بلا انتظام على خلفية حمراء داكنة، وعليها شكل أسود منتفخ؛ ربما كانت سلحفاة ذات أقدام قصيرة متباعدة، ومستقرة على ظهرها بلا حول ولا قوة.
فكرت فيها جيل كهدية لكليتا، وكأن الفترة التي أمضتها هنا كانت حلما؛ شيئا باستطاعتها تجاهله، والعودة إلى نقطة مختارة، العودة إلى نقطة البداية.
ليست الهدية لكليتا. أهي لويل؟
هدية لويل إذن. أترسلها الآن؟ لا، سآخذها معي إلى كندا، وأرسلها من هناك.
النقاط الصفراء المتناثرة بهذا الشكل تذكر جيل بشيء وقعت عيناها عليه الخريف الماضي. هي وويل شاهداه. انطلقا في نزهة ظهر يوم من الأيام المشمسة سيرا على الأقدام، وسارا من بيتهما إلى جوار النهر وصولا إلى الضفة المليئة بالأحراش، وهنالك وقعت أعينهما على مشهد سمعا به لكنهما لم يرياه من قبل قط.
مئات الفراشات، وربما آلاف، متدلية من الأشجار، تستريح قبل رحلتها الطويلة هبوطا إلى شاطئ بحيرة هيورون، مرورا ببحيرة إيري، ومنها جنوبا إلى المكسيك. تدلت الفراشات من الأشجار كأوراق معدنية، كذهب مطروق، كرقائق من الذهب التي تلقى عاليا فتعلق بين الفروع.
قالت جيل: «كزخة الذهب في الكتاب المقدس.»
قال لها ويل إنها تخلط ما بين جوبيتر ويهوه.
في ذاك اليوم، بدأ الموت يتسلل إلى كليتا، وكان ويل قد التقى ساندي بالفعل. بدأ هذا الحلم بالفعل؛ رحلة جيل وحيلها، ثم الكلمات التي تخيلت - بل صدقت أيضا - أنها سمعتها عبر الباب.
حب - غفران
حب - نسيان
حب - إلى الأبد.
مطارق تدوي في الشارع.
ماذا يمكن أن تضع في علبة كهذه قبل أن تغلفها وترسلها؟
خرزة؟ ريشة؟ قرص قوي المفعول؟ أم رسالة مطوية بقوة بحيث يطابق حجمها حجم كرة متكتلة من الورق. «لك الخيار الآن في أن تتبعني.»
مكان في البرية
1
السيدة مارجريت كريسويل؛ المديرة، دار هاوس أوف إندستري، تورونتو، إلى السيد سايمون هيرون، نورث هورون، 15 يناير 1852.
بما أن خطابك مشفوع باعتماد من القس، فيسعدني الرد عليه. ترد إلينا طلبات من هذا النوع بصفة مستمرة، لكن ما لم يكن الطلب معتمدا من القس، فلا يسعنا الوثوق في أنه حسن النية.
ليس لدينا أي فتيات بالدار في سن الزواج، فنحن نرسل الفتيات إلى الخارج ليكسبن قوت يومهن في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة في العادة، لكننا نظل بالفعل على اتصال بهن لبضع سنوات أو حتى يتزوجن عادة. في حالات كهذه نزكي واحدة من أولئك الفتيات ونرتب للقاء، وبعد ذلك بالطبع يعود الأمر إلى الطرفين المعنيين فيما إذا كان يلائمهما الأمر أم لا.
ثمة فتاتان في الثامنة عشرة من عمرهما لا نزال على اتصال بهما. كلتاهما تتدربان لدى صانع قبعات نسائية، وهما خياطتان بارعتان، لكن الزواج برجل مناسب هو - على الأرجح - الأفضل لهما من قضاء حياتهما في ذلك العمل. لا يمكننا ذكر أكثر من ذلك، ولا بد أن يترك الأمر للفتاة نفسها، وبالطبع لإعجابك بها، أو العكس.
الفتاتان هما الآنسة سادي جونستون والآنسة آني ماكيلوب، وهما فتاتان شرعيتان لآباء مسيحيين، أودعتا في الدار من جراء وفاة آبائهما. لم يكن الثمل أو الفسوق سببا في الوفاة. في حالة الآنسة جونستون، كان السبب هو الإصابة بالدرن. وعلى الرغم من أنها أجمل من الفتاة الأخرى، وهي فتاة ممتلئة القوام متوردة البشرة، أشعر أن علي تحذيرك من أنها ربما لا تتكيف مع مشقة الحياة في الأدغال. الفتاة الأخرى؛ الآنسة ماكيلوب، تتمتع ببنية أقوى، على الرغم من أنها أنحف وبشرتها أقل جمالا، ولديها ضعف في إحدى العينين، لكنه لا يؤثر على رؤيتها، وهي تحيك الملابس ببراعة. إن عينيها السوداوين وشعرها الأسود والمسحة البنية ببشرتها ليست بإشارة على أنها مختلطة العرق؛ إذ إن والديها كانا من مقاطعة فايف. هي فتاة قوية وأعتقد أنها ستتكيف مع طبيعة الحياة التي يمكنك أن توفرها لها، لكونها أيضا لا تتسم بالخجل السخيف الذي نراه - في أغلب الأحيان - في الفتيات اللائي في عمرها. سأتحدث معها وأطلعها على الفكرة، وسأنتظر خطابك الذي ستطلعني فيه على الموعد المقترح للقائها.
2
كارستيرز آرجوس، إصدار العيد السنوي الخمسين، 3 فبراير 1907. ذكريات السيد جورج هيرون.
في اليوم الأول من شهر سبتمبر، حملت أنا وأخي سايمون صندوقا به أغطية أسرة وأواني منزلية، ووضعناه في عربة يجرها حصان، وانطلقنا من مقاطعة هالتون لنجرب حظنا في براري هورون وبروس، مثلما كان يطلق عليهما الناس حينذاك. كانت هذه الأشياء من آرتشي فريم الذي يعمل سايمون لحسابه، وحسبت كجزء من أجره. اضطررنا أيضا إلى استئجار المنزل منه، وحضر معنا خادمه الذي كان في مثل عمري تقريبا لاسترداد المنزل والعربة.
علي أن أوضح في البداية أنني وأخي تركنا وحدنا، بعد أن مات أبي أولا ثم أمي بسبب إصابتهما بالحمى في غضون خمسة أسابيع من وصولنا هذه البلاد، عندما كنت في الثالثة من عمري وسايمون في الثامنة. عمل سايمون لدى آرتشي فريم؛ وهو ابن عم أمي، وذهبت أنا للعيش مع معلم وزوجته، ليس لديهما أبناء. كان ذلك في هالتون، وكنت سأرضى بالعيش هناك لبقية حياتي، لكن سايمون الذي لا يبعد عني سوى بضعة أميال استمر في زيارتي وظل يخبرني أنه بمجرد أن نصل إلى السن المناسبة سنرحل ونحصل على أرض لنا، ونعتمد على أنفسنا، ولن نعمل لحساب أحد؛ حيث إن ذلك ما كان ينويه أبي. لم يرسل آرتشي فريم سايمون إلى المدرسة مثلما حدث معي؛ لذا عزم سايمون دائما على الفرار. عندما بلغت الرابعة عشرة من عمري وأصبحت صبيا قوي البنية، مثلما كان أخي، أخبرني أنه ينبغي علينا الرحيل والاستحواذ على أرض من أراضي التاج الملكي شمال هورون.
في اليوم الأول لم نستطع الوصول إلى أبعد من بريستون؛ إذ كانت الطرقات وعرة وسيئة عبر بلدتي ناساجاويا وبوسلينش. في اليوم التالي، وصلنا إلى بلدة شكسبير، وفي اليوم الثالث إلى ستراتفورد. كانت الطرقات تزداد سوءا مع اتجاهنا غربا؛ لذا فكرنا أنه من الأفضل إرسال الصندوق إلى مدينة كلينتون عبر عربة النقل، لكنها كانت قد توقفت عن السير نظرا لهطول الأمطار، وكانت تنتظر تجمد المياه فوق الطرق؛ لذا أخبرنا خادم آرتشي فريم أن يستدير ويعود أدراجه بالعربة والحصان والصندوق إلى هالتون، ثم حملنا فئوسنا فوق أكتافنا، وسرنا باتجاه كارستيرز.
لم نر أحدا أمامنا. أضحت كارستيرز على مقربة منا؛ حيث ظهرت منها بناية متهدمة تجمع بين متجر ونزل، وكان هناك رجل ألماني يدعى روم يصنع ماكينة لنشر الأخشاب. كما وصل قبلنا رجل يدعى هنري تريس وصنع بالفعل كوخا ذا حجم مناسب، وقد أصبح فيما بعد والد زوجتي.
نزلنا بالنزل حيث نمنا فوق أرضية جرداء ببطانية أو لحاف واحد نتقاسمه. جاء الشتاء مبكرا بأمطار باردة، وكان كل شيء نديا، لكننا كنا نتوقع مواجهة الصعاب، أو على الأقل توقع سايمون ذلك؛ فقد أتيت من مكان أكثر اعتدالا. قال إن علينا التكيف مع الأمر، ففعلت ذلك.
شرعنا في زراعة الطريق الموصل إلى قطعة الأرض الخاصة بنا بالشجيرات، ثم ميزناها واستخدمنا قطع الأخشاب التي أتينا بها من الأشجار لبناء كوخنا وتشييد السقف. تمكنا من اقتراض ثور من هنري تريس لجر قطع الأخشاب هذه، لكن لم يكن سايمون ميالا إلى اقتراض أي شيء أو الاعتماد على أي شخص؛ كان عازما على محاولة بناء الكوخ بأنفسنا، لكن عندما تبينا أنه ليس في استطاعتنا فعل ذلك، توجهت إلى منزل تريس وأنجزنا بناء الكوخ بمساعدة هنري واثنين من أولاده، ورجل من الطاحونة. بدأنا في اليوم التالي في ملء الشقوق بين جذوع الأشجار بالطين، وجئنا ببعض أغصان نبات الشوكران، بحيث لا تنفد أموالنا بالمكوث في النزل ونتمكن من النوم في منزلنا الخاص. وضعنا لوحا ضخما من خشب الدردار كباب للكوخ. سمع أخي من بعض الرفاق الكنديين ذوي الأصول الفرنسية؛ ممن كانوا يعملون لدى آرتشي فريم، أنه في مخيمات الأكواخ الخشبية لا بد أن تكون نيران التدفئة في منتصف الكوخ الخشبي؛ لذا قال إنه يجب أن نشعل النيران بتلك الطريقة، فأقمنا أربع ركائز وبنينا المدخنة فوقها، على غرار المنازل، وعزمنا على لصق أجزائها بواسطة الطين من الداخل والخارج. أوينا إلى فراشنا المصنوع من الدردار بعد أن أوقدنا نيران جيدة بغرض التدفئة، لكننا استيقظنا في منتصف الليل لنجد الأخشاب التي استخدمناها في بناء الكوخ والسقف بدأت في الاحتراق بسرعة، فهدمنا المدخنة. ولم يكن من الصعب إخماد النار التي اشتعلت بالسقف؛ لأنه كان مصنوعا من خشب الزيزفون. ما إن حل النهار حتى شرعنا في بناء المدخنة بالطريقة العادية في نهاية المنزل، وظننت أنه من الأفضل ألا أبدي أي ملاحظات.
بعد أن أخلينا الأرض لحد ما من الشجيرات والأفرع المتكسرة، شرعنا في قطع الأشجار الضخمة. قطعنا شجرة دردار ضخمة وقسمناها إلى شرائح كبيرة لاستخدامها في صنع الأرضية. لم يكن الصندوق الخاص بنا قد وصل بعد، وقد كان من المفترض إرساله من هالتون؛ لذا أرسل لنا هنري تريس قطعة ضخمة ووثيرة من جلد الدب كي نستخدمها غطاء لنا، لكن أخي لم يقبل المعروف وأعاده له وقال: إننا لسنا بحاجة إليه. بعد ذلك بعدة أسابيع وصل إلينا الصندوق، واضطررنا إلى طلب الثور لإحضاره من مدينة كلينتون، لكن أخي قال: إن هذا سيكون آخر شيء نحتاج إلى طلبه من أي شخص.
سرنا حتى مدينة والي وأحضرنا طحينا وسمكا مملحا على ظهورنا. جدف بنا رجل عبر النهر بمانشستر مقابل أجر مرتفع. لم يكن ثمة جسور حينئذ ولم يجمد الشتاء الأنهار بحيث يسهل العبور فوقها.
بحلول عيد الميلاد قال أخي إنه يرى أن المنزل أضحى بهيئة جيدة الآن، وأصبح يلائم إحضار زوجة له؛ بحيث يكون معنا شخص يطهو ويخدمنا ويحلب البقرة عندما نتمكن من شراء واحدة. كانت هذه المرة الأولى التي سمعته يتحدث فيها عن زوجة، وأخبرته أنني لا أدري إن كان يعرف فتاة معينة. أخبرني أنه لا يعرف أي فتاة، لكنه سمع أنه من الممكن مخاطبة دار الأيتام وسؤالهم ما إذا كانت لديهم فتاة راغبة في التفكير في الأمر يزكونها له، وإن كان الأمر كذلك سيذهب لمقابلتها. أراد فتاة ما بين الثامنة عشرة والعشرين من عمرها، تتمتع بصحة جيدة، ولا تخشى العمل، ونشأت في دار أيتام، ولم تلتحق بالدار حديثا؛ حتى لا تتوقع أي ترف أو أن يقوم أحد على خدمتها، وحتى لا تراودها ذكريات أيام كانت فيها أيسر حالا. من المؤكد أن من يسمع هذا الكلام في هذه الأيام يشعر بأن ذلك أسلوب غريب في التعامل مع الأمور. لم تكن المشكلة في أن أخي لا يستطيع التودد إلى فتاة، والحصول على زوجة بنفسه، لأنه كان شابا وسيما، لكن لم يكن لديه الوقت أو المال أو الميل، كان ذهنه منشغلا بتأسيس مزرعتنا. وإن كان للفتاة أبوان فلن يرغبا - على الأرجح - في إرسال ابنتهما بعيدا؛ حيث لا يتوافر سوى القليل من وسائل الراحة والكثير من العمل.
ومما يبين أن ذلك كان أسلوبا مهذبا في التعامل مع الأمور، حقيقة أن القس السيد ماكبين، الذي حضر مؤخرا إلى الضاحية، ساعد سايمون في كتابة الخطاب وأرسل خطابا بنفسه داعما إياه.
ورد خطاب يفيد بأن ثمة فتاة ربما تكون مناسبة، وغادر سايمون إلى تورونتو وأحضرها. كان اسمها آني، لكنني نسيت لقبها قبل الزواج. اضطرا إلى الخوض في الجداول النهرية في هيوليت واجتياز الثلوج الرخوة العميقة بعد أن ترجلا من المركبة في مدينة كلينتون، وعندما عادا كانت منهكة ومندهشة للغاية لما رأته؛ حيث قالت إنها لم تكن تتخيل وجود كل هذه الأدغال. كان تحمل في صندوقها بعض الملاءات والأواني والصحون التي أعطتها إياها صديقاتها؛ مما جعل المكان أكثر راحة.
في أوائل شهر أبريل، خرجت أنا وأخي لقطع بعض الأشجار في الأدغال في أبعد ركن من ملكيتنا. وأثناء غياب سايمون للزواج، كنت قد قطعت بعض الأشجار في الاتجاه الآخر ناحية آل تريس، لكن سايمون أراد إخلاء حدود ملكيتنا من الأشجار، وأراد ألا نذهب لقطع الأشجار في المكان الذي كنت فيه. كان الجو معتدلا في بداية النهار، وكان لا يزال الثلج الرقيق بالأدغال. كنا نقطع الأشجار حيث أراد سايمون، وبطريقة ما لا أستطيع وصفها، سقط غصن حيث لم نكن نتوقع. سمعنا فقط الأغصان الصغيرة وهي تتكسر في المكان الذي سقط فيه، فرفعنا رءوسنا لنراه. وقد اصطدم برأس سايمون وقتله على الفور.
اضطررت إلى جر جسده حينئذ إلى الكوخ عبر الجليد. كان شابا وسيما وإن لم يكن ممتلئ الجسم، وكان الأمر مربكا ومرهقا للغاية. أصبح الجو أكثر برودة بحلول ذلك الوقت، وعندما وصلت إلى قطعة أرض فضاء تبينت ثلوجا في الرياح وكأنها بداية لعاصفة ما. امتلأت الآثار التي صنعتها أقدامنا بالثلوج من ورائنا. كان سايمون مكسوا تماما بالثلج الذي لم يكن قد ذاب فوقه بحلول ذلك الوقت، وحضرت زوجته عند الباب وتملكتها الحيرة كثيرا، وظنت أنني كنت أجر جذع شجرة.
غسلته آني داخل الكوخ، وجلسنا في سكون لا ندري ماذا ينبغي لنا فعله. كان الواعظ يمكث بالنزل؛ إذ لم تكن له كنيسة أو منزل بعد. وكان النزل يبعد عنا أربعة أميال تقريبا، لكن العاصفة هبت بضراوة بحيث لا يستطيع المرء حتى رؤية الأشجار عند حافة الأرض الفضاء. بدت العاصفة من ذلك النوع الذي يستمر ليومين أو ثلاثة، لكون الرياح قادمة من الشمال الغربي. علمنا أنه ليس بمقدورنا الاحتفاظ بالجثمان في الكوخ، ولا نستطيع وضعه في الثلوج في الخارج خشية أن تلتهمه القطط البرية؛ لذا اضطررنا إلى الحفر لدفنه. لم تكن الأرض متجمدة أسفل الثلوج؛ لذا حفرت قبرا بالقرب من الكوخ، وحاكت آني ملاءة من حوله، ووضعناه في القبر. لم نطل الوقوف في الرياح، لكننا تلونا الصلاة الربية، وأنشدنا مزمورا واحدا من الإنجيل. لست متأكدا أي مزمور أنشدنا، لكنني أذكر أنه كان قرب نهاية كتاب المزامير، وكان قصيرا للغاية.
حدث ذلك في اليوم الثالث من شهر أبريل عام 1852.
كانت تلك آخر ثلوج العام، وفي وقت لاحق حضر القس وأقام القداس، ووضعت علامة خشبية عند قبره. بعد حين أخذنا قطعة أرض خاصة بنا في المقابر، ووضعنا شاهد قبر له هناك، لكنه لم يكن تحته؛ إذ إنني أرى أنه من الحماقة وعدم الجدوى أن أنقل عظام شخص ميت من مكان لآخر، في حين أنها ليست سوى عظام، وروحه قد صعدت إلى السماء.
أصبحت وحدي أقطع الأشجار وأخلي الأرض، وسرعان ما بدأت أعمل جنبا إلى جنب مع آل تريس، الذين عاملوني بلطف بالغ. عملنا معا في أرضي أو في أرضهم، دون أن نعبأ بما إذا كان العمل بأرضي أم بأرضهم. بدأت في تناول وجباتي عندهم، بل حتى النوم في منزلهم أيضا، وتعرفت إلى ابنتهم جيني التي كانت في مثل عمري تقريبا، وخططنا للزواج، وتزوجنا بالفعل في الوقت المحدد. عشنا معا حياة طويلة تخللها الكثير من الصعاب، لكن الحظ ابتسم لنا في النهاية، وأنجبنا ثمانية أطفال وتولينا تربيتهم. شاهدت أبنائي وهم يستملكون أرض والد زوجتي وأرضي بعد أن رحل خالاهم وحققا ثراء في الغرب.
لم تستمر زوجة أخي في العيش بهذا المكان وشقت طريقها إلى مدينة والي.
الآن توجد طرق مفروشة بالحصى تجاه الشمال والجنوب والشرق والغرب، وسكة حديدية لا تبعد أكثر من نصف ميل عن مزرعتي، وباستثناء المزارع الشجرية، لم يعد للأدغال وجود، وكثيرا ما أفكر في الأشجار التي قطعتها وأقول لنفسي: لو أنها كانت موجودة اليوم لقطعتها وأصبحت رجلا ثريا. •••
من الموقر والتر ماكبين؛ قس الكنيسة المشيخية الحرة بنورث هورون، إلى السيد جيمس مالن؛ كاتب المحكمة، مدينة والي، مقاطعتا هورون وبروس المتحدتان، 10 سبتمبر 1852.
أكتب إليك سيدي لإبلاغك بالوصول المحتمل لسيدة شابة من هذه الضاحية إلى بلدتكم، تحمل اسم آني هيرون، وهي أرملة وأحد أعضاء أبرشيتي. هذه الشابة تركت منزلها هنا في المنطقة المحيطة بكارستيرز ببلدة هولوواي، وأعتقد أنها تنوي التوجه إلى مدينة والي. ربما تذهب إلى السجن طالبة احتجازها بها؛ لذا أظن أنه من واجبي أن أطلعك بهويتها وقصتها؛ حيث إنني أعرفها.
حضرت إلى هذه المنطقة في نوفمبر العام الماضي، وكنت أول قس على الإطلاق يقدم على ذلك. لا تزال أبرشيتي دغلا في أغلبها، ولم يكن ثمة مكان لي لأمكث به سوى نزل كارستيرز. ولدت في غرب اسكتلندا وحضرت إلى هذا البلد في كنف إرسالية جلاسكو. بعد أن اجتهدت لمعرفة مشيئة الرب، أرشدني الرب إلى الذهاب وإلقاء الوعظ في أي مكان بحاجة ماسة إلى قس. أخبرك بهذا كي يتسنى لك معرفة شخصية من سيسرد لك القصة، ووجهة نظري في شأن هذه المرأة.
حضرت هذه المرأة إلى البلاد في أواخر شتاء العام الماضي كعروس للشاب سايمون هيرون. كان سايمون قد خاطب - عملا بنصيحتي - دار هاوس أوف إندستري بتورونتو ليرشحوا له فتاة مسيحية، تابعة للكنيسة المشيخية على الأفضل، تفي بمتطلباته، وكانت هي الفتاة التي رشحوها له. تزوجها على الفور وأحضرها إلى الكوخ الذي بناه هو وشقيقه. حضر هذان الشابان الصغيران إلى البلاد ليخليا لنفسيهما قطعة أرض من الأشجار ويستحوذان عليها؛ إذ إنهما كانا يتيمين وبلا أي تطلعات. خرجا إلى العمل في أحد الأيام في نهاية الشتاء فوقعت لهما حادثة؛ إذ سقط غصن فوق الأخ الأكبر أثناء قطع شجرة ما؛ مما تسبب في وفاته على الفور. تمكن الشقيق الأصغر من إحضار الجثمان إلى الكوخ، ونظرا لأنهما احتجزاه داخله من جراء العاصفة الثلجية القوية أقاما مراسم الجنازة والدفن.
إن الرب رحيم للغاية، ونحن نتلقى ابتلاءاته كأمارات على عنايته وجوده؛ لأنه سيتبين لنا أنها كذلك بالفعل.
عثر الفتى، بعد أن حرم من عون شقيقه، على مكان له بين عائلة في الجوار؛ وهم أناس ذوو منزلة طيبة في أبرشيتي، قبلوا به كابن لهم، ومع ذلك عمل على اكتساب ملكية أرض خاصة به. أرادت تلك العائلة الاعتناء بالأرملة الشابة أيضا، لكنها لم تقبل عرضهم، وبدا أنه يتنامى لديها شعور بالمقت تجاه جميع الأشخاص الذين يودون مساعدتها، وعلى وجه الخصوص بدت كذلك تجاه شقيق زوجها، الذي قال إنه لم ينشب بينهما أي شجار على الإطلاق من قبل، وتجاهي أنا أيضا. عندما تحدثت إليها، رفضت إبداء أي إجابة أو إعطاء أي أمارة تظهر رضوخها. إنه عيب بشخصي؛ لأنني لست مؤهلا على نحو جيد للحديث مع النساء؛ لا أتمتع بالمرونة التي تخولني كسب ثقتهن، فعنادهن مختلف عن عناد الرجال.
قصدت فقط أن أقول إنني لم أستطع ترك أي تأثير إيجابي عليها. توقفت عن حضور القداس، وعكس تدهور أرضها ومنزلها تدهور حالتها الذهنية والنفسية. لم تزرع البازلاء والبطاطا على الرغم من إعطائها إياها كي تزرعها بين جذول الأشجار، ولم تقطع أوراق العنب البري النامية حول بابها. وفي كثير من الأحيان، لم تشعل النيران بحيث تصنع كعك الشوفان أو العصيدة. وبعد أن أبعد شقيق زوجها، لم يعد ثمة نظام يحكم أيامها. عندما ذهبت لزيارتها كان الباب مفتوحا، وكان واضحا أن الحيوانات كانت تدخل المنزل وتخرج منه. إن كانت بداخله، فإنها كانت تختبئ لتسخر مني. ذكر الناس الذين رأوها أن ثيابها كانت متسخة وممزقة نتيجة لتجولها في الأدغال، وظهر عليها آثار خدوش الأشواك ولدغات البعوض، وتركت شعرها غير ممشط أو معقوص. أظن أنها عاشت على تناول السمك المملح وخبز الشوفان اللذين كانا يتركهما لها الجيران أو شقيق زوجها.
وبينما كنت لا أزال في حيرة من البحث عن سبيل لحماية جسدها خلال فصل الشتاء والتعامل مع الخطر الأهم المحدق بها، انتشر خبر رحيلها. تركت الباب مفتوحا ورحلت دون أن ترتدي عباءة أو قلنسوة، وكتبت فوق أرضية الكوخ بعود محترق كلمتين: «والي، السجن.» فهمت من هذا أنها تنوي الذهاب إلى هناك لتسلم نفسها. لا يرى شقيق زوجها جدوى من ذهابه وراءها بسبب موقفها العدائي منه، وأنا لا أستطيع المغادرة؛ إذ علي الوقوف بجانب شخص يحتضر؛ ومن ثم، أطلب منك إخطاري ما إذا كانت قد وصلت إليكم، وكيف حالها، وكيف ستتعامل معها. لا أزال أعتبرها نفسا أتحمل مسئوليتها، وسأحاول زيارتها قبل الشتاء إذا أبقيتها هناك. إنها ابنة من أبناء الكنيسة الحرة والعهد؛ ومن ثم لها الحق في أن يتعامل معها قس ينتمي لعقيدتها، ويجب ألا تفكر في أنه يكفي إرسال قس من الكنيسة الإنجليزية أو المعمدانية أو الميثودية إليها.
في حال عدم ذهابها إلى السجن وتجولها في الشوارع، يتعين علي أن أخبرك بأنها ذات شعر داكن اللون، وأنها طويلة القامة، وهزيلة القوام. ليست جميلة، ولكنها ليست قبيحة فيما عدا أن لها عينا حولاء. •••
من السيد جيمس مالن؛ كاتب المحكمة، والي، إلى الموقر والتر ماكبين، كارستيرز، نورث هورون، 30 سبتمبر 1852.
وافر التقدير لخطابك الذي وصلني في الوقت المناسب، والمتعلق بالشابة آني هيرون. لقد أكملت رحلتها إلى مدينة والي سالمة ودون أن يلحق بها ضرر بالغ، على الرغم من أنها كانت واهنة وجائعة عندما سلمت نفسها إلى السجن. لدى سؤالها عما فعلته هناك، قالت إنها أتت للاعتراف بارتكابها جريمة قتل، ولكي تودع في السجن. وبعد مشاورات هنا وهناك أرسلت من أجلها، وافقت على ضرورة إبقائها في السجن؛ حيث إن الوقت كان يقترب من منتصف الليل، وفي اليوم التالي زرتها وحصلت على تفاصيل قدر استطاعتي.
إن قصتها حول نشأتها في دار أيتام وتدربها لدى صانع قبعات، وزواجها، وذهابها إلى نورث هورون، تتفق كثيرا مع ما أخبرتني به، لكن الأحداث في روايتها تختلف فقط فيما يتعلق بوفاة زوجها. في هذا الصدد، إليك ما أخبرتني به:
في أحد الأيام الأولى من شهر أبريل، عندما خرج زوجها وشقيقه لقطع الأشجار، طلب منها أن تعد الطعام لهما من أجل وجبة الظهيرة، وحيث إنها لم تكن قد انتهت بعد من إعداد الطعام عندما هما بالخروج، وافقت على إحضار الوجبة إليهما في الغابة؛ وبناء عليه، خبزت بعض كعك الشوفان وأخذت بعض السمك المملح واقتفت آثارهما، ووجدتهما يعملان على مسافة منها، لكن عندما فتح زوجها كيس الطعام استاء كثيرا؛ لأنها غلفت الطعام بطريقة جعلت كعك الشوفان يتشرب بالزيت المملح من السمك، وكان الطعام مفتتا وكريه المنظر؛ وفي غمرة شعوره بالإحباط ثارت ثائرته، وتوعدها بالضرب عندما تسنح الفرصة لذلك. أدار لها ظهره بعد ذلك وهو جالس فوق جذع شجرة، فالتقطت حجرا وقذفته به، فارتطم برأسه؛ ومن ثم سقط فاقدا الوعي. في واقع الأمر، فارق الحياة. بعد ذلك حملته مع شقيقه وجرت جثمانه إلى المنزل. بحلول ذلك الوقت، هبت عاصفة ثلجية واحتجزا في الداخل. قال شقيقه إنه ينبغي عدم كشف الحقيقة؛ لأنها لم تكن تنوي قتله، ووافقت. بعد ذلك دفناه - وهنا تتفق روايتها ثانية مع روايتك - وكان من الممكن أن تكون هذه هي نهاية الأمر، لكنها ازدادت اضطرابا لاقتناعها أنها نوت قتله قطعا. قالت لو أنها لم تقتله، فهذا كان سيعني تعرضها لمزيد من الضرب المبرح. ولماذا تخاطر بذلك؟ لذا قررت في النهاية الاعتراف بجريمتها، وكما لو كانت تريد إثبات شيء ما، أعطتني خصلة من الشعر متيبسة بالدماء.
هذه روايتها، ولا أصدقها على الإطلاق. ليس ثمة حجر تستطيع هذه الفتاة حمله فيؤدي إلى قتل رجل، فضلا عن القوة التي تستجمعها لإلقائه. استجوبتها في هذه النقطة، فغيرت قصتها وقالت إنه كان حجرا كبيرا استطاعت حمله بيديها الاثنتين، وإنها لم تقذفه بل حطمته فوق رأسه من الخلف. قلت: لماذا لم يمنعك شقيقه؟ فقالت إنه كان ينظر إلى الجهة الأخرى، ثم قلت: لا بد من وجود حجر مخضب بالدماء في مكان ما في الغابة، فقالت إنها أزالت آثار الدماء بالثلوج (في واقع الأمر ليس من المحتمل أن يصل حجر إلى يدها بهذه السهولة، مع عمق الثلوج ذاك). طلبت منها أن تشمر عن ساعديها كي يتسنى لي معرفة مدى قوة عضلاتها التي مكنتها من فعل ذلك الأمر، فقالت إنها كانت قوية العضلات منذ عدة شهور.
استنتجت أنها تكذب، أو متوهمة، لكنني لا أرى شيئا آخر أفعله الآن سوى إيداعها السجن. سألتها ماذا تتوقع أن يحدث لها الآن؟ فقالت: إننا سنحاكمها ثم سنعدمها شنقا. وأضافت: إننا لا نعدم الناس في الشتاء؛ لذا فهي تتوقع أن تمكث هنا حتى الربيع. قالت إننا إذا سمحنا لها بالعمل هنا، فربما ستتولد لدينا رغبة بعد ذلك في استمرارها في العمل وعدم إعدامها. لا أدري من أين أتت بفكرة أن الناس لا يعدمون في فصل الشتاء! لقد أصابتني بالحيرة. ربما نما إلى علمك أن لدينا هنا سجنا جديدا وجيدا جدا، يوفر مستوى جيدا من التدفئة والتهوية للسجناء، ويقدم لهم الطعام والمعاملة اللائقة بكل إنسانية. وترددت شكوى أن بعضهم لا يشعرون بالندم على دخولهم السجن، بل يشعرون أيضا بالسعادة في هذا الوقت من العام، لكن من الواضح أنها لا تستطيع التسكع أكثر من ذلك، وبناء على روايتك فهي غير راغبة في المكوث لدى الأصدقاء، وغير قادرة على توفير منزل لائق لنفسها. إن السجن في الوقت الحالي يمثل مكانا لاحتجاز المختلين عقليا مثلما هو تماما مكان لاحتجاز المجرمين. وإذا اتهمت باختلال عقلي، فإنني أستطيع الإبقاء عليها هنا فترة الشتاء، وربما ترحيلها إلى تورونتو في الربيع. لقد طلبت من طبيب المجيء لزيارتها، تحدثت معها بشأن خطابك وبشأن رغبتك في أن تأتي لرؤيتها، لكنني وجدتها لا تحبذ الأمر على الإطلاق. طلبت ألا يسمح لأي شخص بزيارتها باستثناء السيدة سادي جونستون، وهي غير موجودة في هذه الناحية من البلاد.
سأرفق خطابا كتبته لشقيق زوجها كي ترسله إليه، بحيث يعلم ما قالته ويخبرني عن رأيه في هذا الأمر. أتوجه إليك بالشكر سلفا عن إرسال الخطاب له، وكذلك على ما تكبدته من عناء لإحاطتي علما بالأمر كله مثلما فعلت. أنا عضو بالكنيسة الإنجليزية، لكنني أكن احتراما كبيرا للعمل الذي تقوم به الطوائف البروتستانتية الأخرى في سبيل تحقيق الاستقرار في هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه. لك أن تعلم أنني سأبذل ما في وسعي كي تتمكن من التعامل مع هذه الشابة، لكن ربما يكون من الأفضل الانتظار حتى تتولد لديها الرغبة في ذلك. •••
من الموقر والتر ماكبين إلى السيد جيمس مالن، 18 نوفمبر 1852.
لقد حملت خطابك على الفور إلى السيد جورج هيرون، وأعتقد أنه رد بخطاب يطلعك فيه على ذكرياته عن تلك الأحداث. لقد أصابته الدهشة من ادعاء زوجة شقيقه؛ نظرا لأنها لم تذكر أي شيء من هذا القبيل أمامه أو أمام أي شخص آخر. يقول إن هذا كله من نسج خيالها؛ حيث إنها لم تذهب قط إلى الغابة عندما وقع الحادث، ولم يكن ثمة ما يتطلب وجودها هناك؛ فقد حملا الطعام معهما عندما غادرا المنزل. قال إنه رأى شقيقه يوبخها في وقت آخر عندما أفسدت الكعك؛ عندما وضعته بالقرب من السمك، لكن ذلك لم يحدث في تلك المرة، وكذلك لم تكن ثمة أي أحجار في المكان لارتكاب تلك الفعلة بتهور لو افترض أنها كانت هناك ورغبت في فعل ذلك.
إن تأخري في الرد على خطابك - وهو الأمر الذي أستمحيك عذرا فيه - يرجع إلى إصابتي بوعكة صحية. منيت بنوبة من آلام حصوات الكلى وروماتيزم المعدة أسوأ من أي مأساة حلت بي من قبل. لقد تعافيت نوعا ما الآن، وسأتمكن من ممارسة حياتي الطبيعية بحلول الأسبوع المقبل إذا استمرت الأمور في التحسن.
بخصوص مسألة السلامة العقلية لهذه الشابة، لا أدري ماذا سيقول طبيبك، لكنني فكرت في هذا الأمر واستشرت الرب، وإليك وجهة نظري: ربما أنه في مرحلة مبكرة للغاية من الزواج لم يكن خضوعها لزوجها تاما، وربما كان هناك إهمال من جانبها فيما يتعلق براحته، وربما كانت تستعمل كلمات بذيئة، وتصدر عنها تصرفات مشاكسة، إضافة إلى التجهم والصمت المؤلم الذي يميل إليه جنسها. ونتيجة لحدوث الوفاة قبل تصحيح أي من هذه الأمور، شعرت بندم طبيعي ومكدر، ولا بد أن هذا الشعور استحوذ عليها بشدة لدرجة جعلتها ترى نفسها مسئولة في الواقع عن موته. وبهذه الطريقة، أعتقد أن الكثير من الناس يصابون بالجنون. إن الجنون يؤخذ في البداية من قبل البعض على أنه نوع من العبث، وهذا التفكير السطحي والجريء يعاقبون عليه لاحقا، بعدما يكتشفون أنه لم يعد عبثا، بعدما يكون الشيطان قد سد منافذ الهروب جميعها.
ما زلت آمل في الحديث معها لإقناعها بهذا الأمر. ثمة صعوبات أمامي الآن ليس فقط بسبب جسدي البائس، لكن أيضا لنزولي بمكان قبيح وصاخب أضطر فيه إلى سماع تلك الجلبة التي تفسد نومي وتأملي، وتكدر حتى صلواتي. تهب الريح بضراوة بين جذوع الأشجار، وإن توجهت إلى المدفأة بالأسفل، أرى من يتجرعون المشروبات الكحولية بشراهة وأسمع أقذع الوقاحات، وبالخارج لا يوجد شيء سوى أشجار تسد كل المنافذ، ومستنقع جليدي يمكن أن يبتلع رجلا على صهوة جواده. وعدت بأن تبنى لي كنيسة وسكن، لكن أولئك الذين أعطوني ذلك الوعد زاد انشغالهم بشئونهم الخاصة، ويبدو أن الأمر أرجئ، إلا أنني على الرغم من ذلك لم أتوقف عن إلقاء الوعظ حتى في مرضي وفي أماكن مثل الحظائر والمنازل حسبما يتاح. أشعر بالسعادة كلما تذكرت رجلا عظيما يدعى توماس بوسطن. إنه واعظ عظيم ومفسر لمشيئة الرب؛ في الأيام الأخيرة من مرضه، ألقى موعظة عن عظمة الرب من نافذة حجرته على مسامع جمع يضم ألفي شخص تقريبا تجمعوا في الفناء بالأسفل؛ لذا أنوي أن أستمر في الوعظ حتى النهاية على الرغم من أن رعيتي ستكون أقل عددا. «أي منعطف نجده في طريقنا فهو من صنع الرب.» توماس بوسطن. «إن هذا العالم كالبرية، ربما نغير موقعنا فيه، لكن تحركنا سيكون من موقع في البرية إلى آخر.» توماس بوسطن. •••
من السيد جيمس مالن إلى الموقر والتر ماكبين، 17 يناير 1853.
أكتب إليك لإحاطتك بأن صحة الشابة التي نتحدث عنها تبدو جيدة، ولم تعد تبدو كالفزاعة في الحقول؛ فهي تأكل جيدا وتحافظ على نظافتها وهندامها، كما أنها تبدو أكثر هدوءا من الناحية النفسية؛ فقد اعتادت إصلاح البياضات في السجن، وهو ما تجيد فعله، لكن يتحتم علي إخبارك بأنها لا تزال ثابتة على موقفها فيما يتعلق بالزيارات، كما في السابق، ولا أستطيع نصحك بالمجيء لزيارتها هنا؛ لأنني أظن أن عناءك سيضيع هباء. إن الرحلة قاسية للغاية في الشتاء ولن تكون مفيدة لحالتك الصحية.
لقد بعث لي شقيق زوجها خطابا رقيقا للغاية يؤكد فيه أن روايتها ليست صادقة؛ لذا أشعر بالرضا حيال ذلك.
ربما ترغب في سماع ما قاله الطبيب الذي زارها عن حالتها. يرى الطبيب أنها رهن نوع من الوهم خاص بالنساء، والدافع وراءه هو رغبة في الاعتداد بالنفس، وكذلك رغبة في الفرار من رتابة الحياة، أو حالة الكدح التي كتبت عليهن. ربما يتخيلن أنفسهن وقد استحوذت عليهن قوى الشر لدفعهن لارتكاب جرائم متنوعة وبشعة، وغير ذلك. في بعض الأحيان يقلن إن لهن عشاقا كثرا، لكن هؤلاء العشاق وهميون، والمرأة التي ترى نفسها آية في الرذيلة تكون في الحقيقة عفيفة تماما ولم تمس. وفي هذا، يلقي الطبيب باللوم على نوع القراءات المتاحة لهؤلاء النساء، سواء أكانت تلك القراءات عن الأشباح، أم الشياطين، أم مغامرات العشق بين الملوك والأدواق وما شابه. بالنسبة إلى كثير منهن، يمثل ميلهن لهذه الحكايات ميلا عابرا يعزفن عنه عندما تطرأ الواجبات الحقيقية للحياة، وبالنسبة إلى أخريات، يكون ثمة انغماس من جانبهن في تلك الحكايات بين الحين والآخر، كما لو كانت حلوى أو شرابا مسكرا. أما الفريق الثالث منهن، فيستسلمن استسلاما تاما لها ، ويعشن داخل تلك الحكايات كما لو كانت حلما. لم يستطع استخلاص معلومات منها عن قراءاتها، لكنه يرى أنها ربما تكون نسيت في الوقت الحالي ما قرأته، أو تخفي الأمر بدافع الخداع والمراوغة.
لدى حديثه معها اتضح بالفعل شيء آخر لم نكن نعلمه. عندما سألها: هل هي لا تخشى الموت شنقا؟ أجابت قائلة: «كلا، سوف يوجد سبب يحول دون شنقي.» سألها ما إذا كانت تقصد أنهم سيعفون عنها لاختلالها عقليا، فقالت: «ربما يحدث ذلك، لكن أليس من الصحيح أيضا أنهم لا يقدمون أبدا على شنق امرأة تحمل طفلا؟» بعد ذلك فحصها الطبيب ليكتشف ما إذا كانت صادقة في كلامها - ووافقت على الفحص - فلا بد أنها قالت هذا الادعاء بحسن نية. لكنه اكتشف مع ذلك أنها خدعت نفسها؛ فالأعراض التي استندت إليها لم تكن سوى نتيجة لعدم حصولها على التغذية الكافية لفترة طويلة وبقائها في تلك الحالة الواهنة، وفيما بعد - على الأرجح - نتيجة لإصابتها بالاضطراب العصبي. أبلغها الطبيب بنتائج فحصه، لكن من الصعب تقرير ما إذا كانت صدقته أم لا.
لا بد من الاعتراف بأن هذه البلاد تقسو بالفعل على النساء؛ فقد دخلت مؤخرا امرأة أخرى مختلة عقليا إلى هنا، وحالتها أكثر إثارة للشفقة؛ إذ مسها الجنون بعد حادث اغتصاب. حبس الشخصان اللذان اعتديا عليها هنا. هما في واقع الأمر في قسم الرجال. لا يفصل بينها وبينهما سوى جدار. أحيانا ما يدوي صراخ الضحية لساعات بلا توقف؛ ونتيجة لذلك أضحى السجن مأوى أقل إمتاعا بكثير، لكن هل هذا سيقنع قاتلتنا المدعية على نفسها بالتراجع عن أقوالها والرحيل. لا أدري. إنها خياطة بارعة وتستطيع الحصول على وظيفة إذا أرادت.
يؤسفني سماع أنباء عن سوء حالتك الصحية ومسكنك البائس. لقد أضحت البلدة هنا أكثر تحضرا للغاية، حتى إننا نسينا مشقات المناطق النائية. إن أمثالك من الناس الذين يختارون تحمل المشقة هناك جديرون بالإعجاب، لكن أظنك تسمح لي أن أقول إنه يبدو من المؤكد - إلى حد كبير - أن رجلا لا يتمتع بصحة جيدة لن يكون قادرا على الصمود طويلا في مثل موقفك. من المؤكد أن كنيستك لن تعتبر الأمر ارتدادا عن العقيدة إذا اخترت تأدية خدمتك لها لوقت أطول بنقلك إلى مكان أكثر راحة.
أرفقت خطابا كتبته الشابة وأرسلته إلى الآنسة سادي جونستون، القاطنة بكينج ستريت، في تورونتو. اطلعنا على الخطاب بحيث يتسنى لنا معرفة المزيد حول سلامتها العقلية، ثم أرسلناه، لكنه عاد إلينا وعليه علامة «لم يستدل عليه.» لم نطلع كاتبة الخطاب على الأمر أملا في أن تكتب ثانية وعلى نحو واف؛ ومن ثم تكشف لنا شيئا يساعدنا في تقرير ما إذا كانت كاذبة تتعمد الكذب أم لا. •••
من السيدة آني هيرون، سجن والي، مقاطعتا هورون وبروس المتحدتان، إلى الآنسة سادي جونستون، 49 كينج ستريت، تورونتو، 20 ديسمبر 1852.
سادي، أنا هنا في حالة جيدة للغاية وآمنة، ولا يوجد شيء أشكو منه، سواء أكان يتعلق بالطعام أم الغطاء. إنه مبنى حجري جميل يشبه دور الرعاية. إذا استطعت المجيء لزيارتي فسأسعد كثيرا. كثيرا ما أتحدث إليك في مخيلتي، وهو ما لا أود أن أكتبه خشية أن يتجسسوا على خطابي. أمارس الخياطة هنا. لم تكن الأمور بحالة جيدة عندما أتيت، لكنها الآن جيدة جدا. كذلك أصنع الستائر لدار الأوبرا، وقد أرسلت تلك المهمة. أتمنى رؤيتك. بإمكانك ركوب العربة التي تجرها الخيول إلى هذا المكان مباشرة. ربما لا تودين المجيء في الشتاء، لكن قد ترغبين في المجيء في فصل الربيع. •••
من السيد جيمس مالن إلى الموقر والتر ماكبين، 7 أبريل 1853.
لم أتلق أي رد منك على خطابي الأخير! أرجو أن تكون بخير ولا تزال مهتما بقضية آني هيرون. هي لا تزال هنا وتشغل وقتها في إنجاز مهام حياكة توليت جلبها إليها من خارج السجن. لم تذكر شيئا آخر عن حملها أو شنقها أو روايتها. كتبت مرة أخرى للآنسة سادي جونستون، لكنه كان خطابا موجزا للغاية، وأرفق خطابها هنا. هل لديك فكرة من تكون سادي جونستون هذه؟ •••
لم أتلق ردا منك، يا سادي! لا أظن أنهم أرسلوا خطابي. اليوم هو الأول من أبريل من عام 1853، لكنها ليست كذبة أبريل كما اعتادت إحدانا خداع الأخرى. رجاء تعالي لزيارتي إن استطعت. أنا في سجن والي، لكنني آمنة وبحالة جيدة. •••
إلى السيد جيمس مالن من إدوارد هوي؛ مالك نزل كارستيرز، 19 أبريل 1853.
لقد أعيد إليك خطابك الذي أرسلت إلى السيد ماكبين؛ فقد مات هنا في النزل في 25 فبراير. ثمة بعض الكتب هنا لا يرغب أحد فيها.
3
من آني هيرون، سجن والي، إلى سادي جونستون، تورونتو. رجاء ممن يعثر على الخطاب أن يرسله إلى وجهته.
جاء جورج وهو يجره بين الثلوج. ظننت أنه يجر جذع شجرة. لم أكن أعلم أنه كان الشيء الذي يجره. قال جورج إنه هو. قال إن غصن شجرة سقط وارتطم به. لم يقل إنه مات. انتظرته حتى يتحدث. كان فمه مفتوحا بعض الشيء والثلج بداخله. كذلك كانت عيناه شبه مفتوحتين. اضطررنا إلى الدخول إلى المنزل؛ إذ بدأت العاصفة تهب بقوة هائلة. جذبناه إلى المنزل وأمسك كل منا بإحدى ساقيه. تظاهرت أمام نفسي حين أمسكت بساقه أنني أمسك بجذع الشجرة. كان المنزل دافئا من الداخل حيث كنت قد أشعلت المدفأة، وبدأت الثلوج تذوب من فوقه. تحرك الدم قليلا في عروقه في المنطقة المحيطة بأذنه. لم أدر ماذا أفعل. كنت أخشى الاقتراب منه. ظننت أن عينيه ترقباني.
جلس جورج بجانب النار وهو يرتدي معطفه الثقيل الضخم، وحذاءه كذلك، واستدار بعيدا. جلست عند الطاولة المصنوعة من كتل خشبية اقتطعت من الأشجار. قلت له: «كيف عرفت أنه مات؟» قال جورج: «المسيه إن أردت أن تعرفي.» لكنني لم أفعل ذلك. هبت عاصفة عنيفة بالخارج، وعصفت الرياح بين الأشجار وفوق سطح المنزل. صليت بصلاة «أبانا الذي في السماوات»، وهكذا استجمعت شجاعتي. أخذت أردد صلاتي هذه مع كل تحرك لي. قلت لنفسي يجب أن أغسله، وطلبت المساعدة. وضعت الدلو في مكان ذوبان الثلج. بدأت بقدميه وتعين علي خلع حذائه، كان أمرا شاقا. لم يستدر جورج أو ينتبه إلي أو يساعدني عندما طلبت منه المساعدة. لم أخلع بنطاله أو معطفه؛ لم أتمكن من ذلك، لكنني نظفت يديه ورسغيه. دائما ما كنت أضع قماشة التنظيف بين يدي وبشرته. عندما ذابت الثلوج من فوقه أضحت الأرض مبتلة بالماء والدماء من أسفل رأسه وكتفيه؛ لذا أردت أن أقلبه وأنظفه، لكنني لم أتمكن من ذلك؛ لذا سرت وجذبت جورج من ذراعه. قلت له إنني بحاجة إلى مساعدته، فرد قائلا: «ماذا؟» أخبرته أن علينا قلبه، فجاء وساعدني وأدرناه بحيث أصبح مواجها للأرض. بعد ذلك رأيت ... رأيت الجرح الذي صنعه الفأس.
لم ينبس أي منا ببنت شفة. نظفت الجرح من الدم وغيره. أخبرت جورج بأن يذهب ويحضر لي ملاءة من الصندوق الخاص بي؛ حيث احتفظت بالملاءة الجميلة التي لم أضعها فوق الفراش. لم أر جدوى من محاولة نزع ثيابه على الرغم من أنها كانت ثيابا جيدة. اضطررنا إلى تمزيقها في المواضع التي يلتصق بها الدم، وبعدها لم يكن لدينا سوى قطع مهلهلة. قصصت خصلة صغيرة من شعره؛ لأنني أذكر حين ماتت «ليلا» في الدار فعلوا ذلك، ثم طلبت من جورج مساعدتي في دحرجته فوق الملاءة، ثم بدأت في خياطة الملاءة من فوقه. بينما كنت أخيط الملاءة، قلت لجورج: اذهب إلى الجزء الجانبي المظلل من المنزل حيث يتكدس الحطب، فربما تجد فيه ملاذا جيدا كي تحفر قبرا. حرك الحطب بعيدا وعلى الأرجح ستجد الأرض من تحته رخوة أكثر.
اضطررت إلى الجثوم أثناء الخياطة؛ لذا تمددت تقريبا إلى جانبه فوق الأرض. خيطت حول رأسه أولا بعد أن ثنيت الملاءة فوقه؛ لأنني كنت أنظر إلى عينيه وفمه. خرج جورج، وأدركت من الصوت الذي تخلل أصوات العاصفة أنه كان يفعل ما أخبرته به، وأحيانا ما كانت تقذف قطعا من الأخشاب بفعل الرياح وترتطم بجدار المنزل. واصلت الخياطة، وعند كل جزء منه يتوارى داخل الملاءة أقول بصوت عال: أوشك الأمر على الانتهاء، أوشك الأمر على الانتهاء. طويت الملاءة فوق رأسه جيدا، لكن عند قدميه لم يتبق جزء كاف من الملاءة لتغطيته؛ لذا خيطت التنورة الداخلية المغزولة التي صنعتها بالدار كي أتعلم الحياكة ، وهكذا غطي تماما.
خرجت لمساعدة جورج. كان قد أزاح الحطب كله بعيدا، وكان يحفر. كانت الأرض رخوة بدرجة ملائمة، كما توقعت. كان يمسك بالمعول؛ لذا أمسكت بالجاروف العريض وأخذنا نعمل في جد؛ تولى هو الحفر وقلقلة التربة، وأنا توليت العمل بالجاروف.
بعد ذلك أخرجناه من المنزل. لم نستطع آنئذ حمله معا من ساقيه؛ لذا أمسك به جورج من عند الرأس، وأنا أمسكت به من عند كاحله حيث وضعت التنورة الداخلية، ثم دحرجناه داخل الأرض وشرعنا مرة أخرى في مواراته. أمسك جورج بالجاروف وبدا أنني لا أستطيع دفع الكثير من الثرى بالمعول، فأخذت في دفع الثرى بيدي وركله بقدمي بأية طريقة ممكنة. عندما أعدنا الثرى داخل الحفرة مرة أخرى، أخذ جورج يدكها لتصير مستوية، باستخدام الجاروف، قدر استطاعته، ثم نقلنا الحطب مرة أخرى إلى مكانه بعد أن فتشنا عن مكانه بين الثلوج، ثم كدسناه على النحو الصحيح بحيث لم يبد أن أحدا حركه. لا أظن أننا كنا نرتدي قبعة أو وشاحا، لكن الجهد أشعرنا بالدفء.
أخذنا معنا إلى الداخل مزيدا من الحطب من أجل المدفأة وأغلقنا الباب بالعارضة. مسحت الأرض وقلت لجورج: انزع حذاءك ثم اخلع معطفك. فعل جورج ما أخبرته به. جلس بجانب المدفأة. أعددت الشاي من أوراق النعناع البري بالطريقة التي علمتنا إياها السيدة تريس، ووضعت فيه قطعة من السكر. لم يرغب جورج في احتساء الشاي. قلت له: أهو شديد السخونة؟ سأتركه حتى يبرد، لكنه رفض احتساءه عندما برد أيضا، فبدأت أنا الحديث وقلت له: أنت لم تقصد فعل ذلك.
حدث ذلك في ثورة غضبك. لم تقصد ما تفعله.
شاهدت في أوقات أخرى ما كان يفعله بك؛ رأيته وهو يطرحك أرضا نظير أمور تافهة وأنت تنهض فحسب ولا تنطق بكلمة واحدة. وهذا ما فعله معي أيضا.
لو أنك لم تفعل ذلك، في يوم ما كان سيفعل ذلك بك.
أصغ إلي يا جورج، أصغ إلي.
إذا اعترفت بجريمتك ماذا سيحدث في اعتقادك؟ ستعدم شنقا؛ ستموت ولن يجني أحد نفعا من ذلك. ماذا سيكون مصير أرضك؟ الأرجح أنها ستعود إلى حيازة التاج الملكي وسيحصل عليها شخص آخر، وكل ما بذلته من عمل بها سيذهب لذلك الشخص.
ماذا سيكون مصيري هنا إذا أمسكوا بك؟
أحضرت بعض كعك الشوفان الباردة وسخنتها. وضعت واحدة فوق ركبته. أخذها وقضمها ومضغ، لكنه لم يستطع ابتلاعها فبصقها في النار.
قلت له: استمع إلي. أنا على دراية بالأمور. أنا أكبر منك سنا. أنا متدينة أيضا؛ أصلي في كل ليلة ويجيب الله صلواتي. أعلم مشيئة الرب جيدا كما يعلمها أي واعظ، وأعلم أنه لا يريد أن يشنق شاب طيب مثلك؛ كل ما عليك فعله هو أن تقول إنك تشعر بالأسف. قل إنك تشعر بالأسف بصدق وسيغفر لك الرب. سأقول الشيء نفسه؛ سأقول إنني أشعر بالأسف أيضا؛ لأنني عندما رأيته ميتا لم أتمن، للحظة واحدة، أن يكون على قيد الحياة. سأقول ربي اغفر لي. افعل الشيء نفسه. اجثم على ركبتيك.
لكنه لم يجثم، لم يتحرك من مقعده، فقلت: حسنا، عندي فكرة؛ سأذهب لإحضار الإنجيل. سألته: هل تؤمن بالإنجيل؟ قل أجل، أومئ برأسك.
لم أر إن كان أومأ برأسه أم لا، لكنني قلت: ها أنت ذا، ها أنت ذا. الآن سأفعل ما اعتدنا فعله جميعا في الدار عندما أردنا معرفة ماذا سيحل بنا، أو ماذا ينبغي لنا فعله في الحياة. كنا نفتح الإنجيل على أي موضع ونضع إصبعنا فوق الصفحة، ثم نفتح أعيننا ونقرأ الآية حيث يقف إصبعنا، وهذا يخبرك بما تحتاج إلى معرفته. إمعانا في التأكيد قل فقط حين تغمض عينيك: ربي أرشد إصبعي.
لم يرفع يده من فوق ركبته؛ لذا قلت: لا بأس، لا بأس. سأفعل ذلك نيابة عنك. فعلت الأمر، وقرأت حيث وقف إصبعي. أمسكت الإنجيل بالقرب من النار كي أتمكن من القراءة.
كانت آية عن الشيخوخة والشيب: «يا الله لا تتركني.» قلت: هذا يعني أنه من المفترض أن تعيش حتى تشيخ ويشيب شعر رأسك، وليس من المفترض أن يحدث لك شيء قبل ذلك. هذا ما تقوله الآية في الإنجيل.
ثم كانت الآية التالية «فذهب وأخذ (فلانة) فحبلت وولدت له ابنا.»
قلت له: تقول الآية إنك سترزق بولد. ستعيش وتتقدم في العمر وتتزوج وترزق بولد.
لكن الآية التالية أذكرها جيدا، وبإمكاني كتابتها كاملة: «ولا يستطيعون أن يثبتوا ما يشتكون به الآن علي.»
قلت: جورج، أتسمع ذلك؟ «ولا يستطيعون أن يثبتوا ما يشتكون به الآن علي.» هذا يعني أنك في أمان.
أنت في أمان. انهض الآن، اذهب واستلق في فراشك واستغرق في النوم.
لم يستطع فعل ذلك بنفسه، فساعدته. شرعت في جذبه حتى وقف، ثم دفعته باتجاه الغرفة، ثم إلى الفراش الذي لم يكن فراشه الموجود بالزاوية، بل الفراش الأكبر، ثم أجلسته فوقه، ثم جعلته يستلقي. دفعته للأمام والخلف حتى نزعت له ملابسه وأصبح مرتديا القميص فقط. اصطكت أسنانه بعضها ببعض وخشيت أن يصاب ببرد أو حمى. سخنت المكاوي ودثرتها بالقماش ووضعتها بجانبه؛ واحدة عند كل جانب من جانبيه، بالقرب من جلده. لم يكن يوجد بالمنزل ويسكي أو كونياك، فقط شاي النعناع البري. أضفت المزيد من السكر إليه وأجبرته على احتسائه بملعقة. دلكت قدميه بيدي، ثم ذراعيه وساقيه، ثم عصرت الملابس بالماء الساخن ووضعتها فوق بطنه وقلبه، ثم تحدثت معه حينها بطريقة مختلفة رقيقة للغاية، وأخبرته أن ينام وعندما يستيقظ سيكون ذهنه صافيا وستزول عنه جميع مخاوفه.
سقط غصن شجرة فوقه. هذا ما أخبرتني به تماما، أستطيع رؤية الغصن وهو يسقط، أستطيع رؤيته وهو يهبط بسرعة هائلة كالبرق والأغصان الصغيرة تتهشم محدثة صوتا أثناء سقوطها، في وقت يضاهي وقت إطلاق نار من بندقية وأنت تقول ما هذا؟ حتى ارتطم الغصن به وفارق الحياة.
عندما أنمته رقدت بجانبه على الفراش. خلعت ثوبي ورأيت آثار الرضوض الزرقاء على ذراعي. جذبت تنورتي كي أرى إن كانت لا تزال على ساقي من أعلى، وكانت موجودة بالفعل. كان ظهر يدي داكنا أيضا ويؤلمني.
لم يقع شيء سيئ بعد أن تمددت، ولم أنم طوال الليل، بل استمعت إلى أنفاسه، وكنت ألمسه لأرى ما إذا كان استدفأ أم لا. نهضت في أولى ساعات الصباح الباكر وأشعلت النار. عندما سمعني، استيقظ وكان أفضل حالا.
لم ينس ما حدث، لكنه تحدث كما لو أن الأمور على ما يرام. قال: يجب أن نصلي ونقرأ شيئا من الإنجيل. فتح الباب ورأينا تراكما كبيرا للثلوج، لكن السماء كانت صافية. كانت آخر ثلوج الشتاء.
توجهنا إلى الخارج وقرأنا الصلاة الربية، ثم قال: أين الإنجيل؟ لماذا لا أجده فوق الرف؟ عندما جئت به من جانب النار قال: ماذا كان يفعل هناك؟ لم أذكره بأي شيء. لم يدر ماذا سيقرأ فانتقيت له مزمور 131 الذي تعلمناه في الدار: «يا رب، لم يرتفع قلبي، ولم تستعل عيناي. بل هدأت وسكت نفسي كفطيم نحو أمه. نفسي نحوي كفطيم.» قرأه، وقال بعدها أنه سيشق ممرا بالجاروف ويذهب إلى آل تريس ويخبرهم. قلت سأطهو له بعض الطعام. خرج وعمل بالجاروف دون أن يتملكه التعب أو يدخل إلى المنزل لتناول الطعام مثلما انتظرت منه أن يفعل. أخذ يجرف الثلوج حتى شق ممرا طويلا لم أر نهايته ثم ذهب ولم يعد. لم يعد حتى قرب حلول الظلام ثم قال إنه تناول الطعام. قلت له: هل أخبرتهم بشأن الشجرة؟ فنظر إلي لأول مرة نظرة مزرية. كانت النظرة المزرية نفسها التي اعتاد شقيقه النظر بها إلي. لم أذكر أمامه شيئا آخر على الإطلاق بشأن ما حدث أو ألمح إليه بأية طريقة، وهو لم يذكر أي شيء لي، فيما عدا ما قاله لي عندما يظهر بأحلامي، لكنني أدركت دوما الاختلاف بين أحلامي وبين أوقات يقظتي، فحين أكون يقظة لم أكن أجد شيئا سوى النظرة المزرية.
حضرت السيدة تريس وحاولت إقناعي بالذهاب والعيش معهم مثلما فعل جورج. قالت إن باستطاعتي تناول الطعام والنوم هناك، كما أوضحت أن لديهم ما يكفي من الأسرة، لكنني رفضت الذهاب. ظنوا أنني أرفض الذهاب بسبب شعوري بالحزن، لكنني رفضت الذهاب لأنه من الممكن أن يرى أحدهم الرضوض الداكنة بجسدي، إلى جانب أنهم سينتظرون مني البكاء. قلت إنني لا أشعر بالخوف من المكوث وحدي.
حلمت كل ليلة تقريبا أن أحدهما جاء وطاردني بفأس؛ جورج أو هو، واحد منهما، وأحيانا لم يكن يحمل فأسا، بل صخرة ضخمة يرفعها بيديه الاثنتين وينتظر بها خلف الباب. إن الأحلام تأتي لتحذيرنا.
لم أمكث في المنزل؛ حيث بإمكانه العثور علي، وعندما توقفت عن النوم بالداخل ونمت بالخارج لم تراودني تلك الأحلام كثيرا. حل الدفء سريعا وجاء الذباب والبعوض، لكن قلما أزعجاني. كنت أرى لدغاتهما دون أن أشعر بها، وهي إشارة أخرى على أنني محمية بالخارج. كنت أختبئ لدى سماعي قدوم أي شخص. أكلت ثمار العليق الحمراء والسوداء على حد سواء، وحماني الرب من أي سوء بها.
بعد برهة راودتني أحلام مختلفة؛ حلمت بأن جورج حضر وتحدث معي ولا تزال النظرة المزرية تعلو وجهه، لكنه حاول إخفاءها والتظاهر بأنه حنون. استمر في الظهور بأحلامي واستمر في الكذب. زادت برودة الطقس بالخارج ولم أرغب في العودة مرة أخرى إلى الكوخ، وكان الندى كثيفا للغاية حتى إنه كان يصيبني البلل كثيرا حين كنت أنام فوق العشب. ذهبت وفتحت الإنجيل كي أكتشف ما ينبغي لي فعله.
وحينها نلت عقابي لقاء الخداع؛ لأن الإنجيل لم يخبرني بأي شيء أتمكن من تفسيره لأفعله؛ إذ مارست الخداع حين كنت أبحث عن آيات أقرؤها لجورج، ولم أقرأ الآيات التي وقف عندها إصبعي تحديدا، لكن جلت بناظري سريعا وعثرت على شيء آخر أقرب إلى ما أردته. اعتدت فعل ذلك أيضا حين كنا نبحث عن آيات في الدار، ودائما ما وقفت عند أمور جيدة ولم يضبطني أحد أو يشك في الأمر قط. وأنت لم يساورك الشك أيضا يا سادي.
لذا، الآن نلت عقابي عندما لم أعثر على أي شيء يساعدني أينما نظرت، لكن ثمة ما جعلني أفكر في القدوم إلى هنا ففعلت ذلك. كنت قد سمعتهم يتحدثون عن مدى دفء المكان هنا، وكيف أن المتسولين يرغبون في المجيء إلى هنا والدخول إلى السجن؛ لذا فكرت أن أفعل هذا أيضا، وكذلك ثمة ما أدخل في رأسي فكرة أن أخبرهم بما فعلته. أخبرتهم بالكذبة نفسها التي كثيرا ما أخبرني بها جورج في أحلامي في محاولة لإقناعي بأنني من قتله وليس هو. إن شعوري بالأمان هنا بعيدا عن جورج هو ما يهم. إذا ظنوا أنني مختلة العقل وأنا أعي الفارق فأنا آمنة. لا أرغب إلا في قدومك إلى هنا وزيارتي.
كما أرغب أن يتوقف ذلك الصراخ.
عندما أنتهي من كتابة هذا الخطاب، سأضعه بين الستائر التي أحيكها من أجل دار الأوبرا، وسأكتب عليها: رجاء ممن يعثر على الخطاب أن يرسله إلى وجهته. أثق في هذه الطريقة أكثر من إعطاء الخطاب إليهم مثل الخطابين السابقين اللذين أعطيتهم إياهما بالفعل ولم يرسلوهما قط.
4
من الآنسة كريستينا مالن، مدينة والي، إلى السيد ليوبولد هنري، قسم التاريخ، جامعة كوينز، كينجستون، 8 يوليو 1959.
أجل، أنا الآنسة مالن التي تذكر شقيقة تريس هيرون حضورها إلى المزرعة، وهو لطف بالغ منها أن تقول عني إنني كنت سيدة شابة جميلة ترتدي قبعة ووشاحا. كان ذلك وشاحا مخصصا للقيادة، والسيدة العجوز التي ذكرتها هي زوجة شقيق جد السيد هيرون، إن كان ما تبينته صحيحا. وحيث إنك تكتب السيرة الذاتية، فلا بد أن صلات القرابة ستتضح لديك. لم أصوت قط لتريس هيرون؛ إذ إنني من مؤيدي حزب المحافظين، لكنه كان سياسيا لامعا، وكما تقول فإن سيرة ذاتية عنه ستلفت الأنظار إلى هذا الجزء من البلاد الذي كثيرا ما ينظر إليه على أنه «ممل إلى أبعد حد».
أشعر بالدهشة - إلى حد ما - من أن شقيقته لم تذكر السيارة على وجه الخصوص. كانت سيارة بخارية من طراز ستانلي ستيمر، اشتريتها لنفسي في عيد ميلادي الخامس والعشرين عام 1907. كلفتني ألفا ومائتي دولار؛ اشتريتها بجزء من إرثي عن جدي جيمس مالن؛ الذي ينتمي إلى الرعيل الأول من كتاب المحكمة في والي، وجنى ثروته من بيع المزارع وشرائها.
بعد موت والدي في شبابه، انتقلت أمي للعيش في منزل جدي بصحبتنا نحن الفتيات الخمس جميعا. كان منزلا حجريا كبيرا يدعى تراكوير، وهو الآن دارا للمجرمين الأحداث . أحيانا ما أقول مازحة إنه طالما كان كذلك!
عندما كنت في سن صغيرة، وظفنا بستانيا وطاهيا وخياطة؛ جميعهم كانوا «غريبي الأطوار»، وميالين إلى التقاتل بعضهم مع بعض. كانوا جميعهم يدينون بالفضل في وظائفهم لحقيقة أنهم حظوا باهتمام جدي عندما كانوا نزلاء في سجن المقاطعة، وأحضرهم في نهاية المطاف إلى المنزل.
عندما اشتريت السيارة البخارية، كنت الوحيدة بين شقيقاتي التي لا تزال تعيش في المنزل، وكانت الخياطة الخادمة الوحيدة المتبقية من بين الخدم. كانت تدعى «العجوز آني»، ولم تعترض على ذلك الاسم، بل كانت تستخدمه بنفسها فتكتب رسائل إلى الطاهي تقول فيها: «لم يكن الشاي ساخنا، هل سخنت الإبريق؟ العجوز آني.» كان الطابق الثالث بأكمله مخصصا للعجوز آني، وكانت إحدى شقيقاتي - دولي - تقول: إنها في أي وقت تحلم بمنزل تراكوير، تحلم بالعجوز آني في الطابق الثالث بالأعلى تلوح بعصا القياس الخاصة بها، وترتدي ثوبا أسود بذراعين سوداوين طويلتين مخمليتين، مما يجعلها أشبه بعنكبوت.
كانت إحدى عينيها منحرفة نحو الجانب، مما يعطي انطباعا بأنها تستوعب معلومات أكثر من الشخص العادي.
لم يفترض بنا مضايقة الخدم بأسئلة عن حياتهم الشخصية، لا سيما أولئك الذين كانوا في السجن، لكن بالطبع كنا نسألهم. أحيانا ما كانت تطلق على السجن «الدار». ذكرت أنه كانت هناك فتاة في الفراش المقابل تصرخ بلا انقطاع، ولهذا السبب فرت - آني - لتعيش في البرية. لقد ذكرت أن الفتاة ضربت لأنها تركت النار تنطفئ. سألناها: لماذا ذهبت إلى السجن؟ فكانت تقول: «كذبت!» لذا، لبرهة من الوقت، ترسخ لدينا انطباع مفاده أن الناس يذهبون إلى السجن إذا كذبوا!
في بعض الأيام تكون في حالة مزاجية جيدة، وتلعب معنا لعبة «فتش عن الكشتبان»، وأحيانا تكون في حالة مزاجية سيئة، وتلدغنا بالإبر أثناء تعديلها أطراف الثوب إذا استدرنا أسرع من اللازم، أو توقفنا أسرع من اللازم. قالت: إنها تعرف مكانا يوجد به طوب يوضع على رءوس الأطفال يوقف نموهم. كان تكره صنع فساتين العرس (لم تضطر لصنع واحد لي قط)، ولم تعجب بأي من أزواج شقيقاتي. مقتت عشيق «دولي» للغاية، لدرجة أنها صنعت عيبا متعمدا بالأكمام جعلها تتمزق، وبكت دولي، لكنها صنعت لنا ثياب سهرة جميلة لارتدائها حين قدم الحاكم العام والسيدة مينتو إلى مدينة والي.
أما عن زواجها، فكانت تقول أحيانا إنها تزوجت، وأحيانا أخرى إنها لم تتزوج. قالت إن رجلا أتى إلى الدار واصطفت جميع الفتيات أمامه وقال: «سوف أتخير الفتاة ذات الشعر الحالك السواد.» وكانت تلك الفتاة هي العجوز آني، لكنها رفضت الذهاب معه، على الرغم من أنه كان ثريا وحضر في عربة. شيء من قبيل قصة سندريلا لكن بنهاية مختلفة. ثم قالت: إن دبا قتل زوجها في البرية، وإن جدي قتل الدب، ولفها في جلد هذا الدب واصطحبها إلى المنزل من السجن.
اعتادت أمي أن تقول لنا: «الآن، يا فتياتي، لا تشجعن العجوز آني على الحديث، ولا تصدقن كلمة واحدة مما تقول.»
أنا أسهب في الحديث عن الماضي، لكنك ذكرت بالفعل أنك مهتم بتفاصيل تلك الفترة الزمنية. أنا مثل كثر في سني ممن ينسى شراء شيء ضروري في حياته اليومية، لكنه يذكر لون المعطف الذي كان لديه يوما ما في سن الثامنة.
لذا عندما اشتريت السيارة البخارية، طلبت مني العجوز آني أن أصحبها في جولة. تبين لي أن ما أرادته هو أقرب إلى رحلة بالسيارة. فاجأني الأمر إذ إنها لم ترد قط الخروج في رحلات من قبل، ورفضت الذهاب إلى شلالات نياجرا، ولم ترغب حتى في الذهاب إلى المرفأ لمشاهدة الألعاب النارية في احتفالات العيد القومي في الأول من يوليو. كذلك كانت تخشى السيارات وترتاب في قيادتي، لكن المفاجأة الكبرى أنها كانت تعرف شخصا ما تود الذهاب لزيارته. أرادت مني الذهاب إلى كارستيرز لزيارة آل هيرون، الذين قالت عنهم إنهم أقاربها. لم تتلق أي زيارات أو خطابات من أولئك الناس، وعندما سألتها هل أرسلت خطابا تسأل فيه إن كان بإمكاننا زيارتهم أم لا، قالت: «لا أستطيع الكتابة.» كان جوابها سخيفا؛ فقد كتبت رسائل للطاهي وقوائم طويلة بالأشياء التي تريدني أن أشتريها من الميدان أو من المدينة؛ شريطة، وقماش باكرام، وقماش التفتا. كان بإمكانها تهجي كل هذه الكلمات.
قالت: «وهم ليسوا بحاجة إلى معرفة سابقة؛ في الريف الأمور مختلفة.»
حسنا، أحببت الذهاب في رحلات بالسيارة البخارية. اعتدت القيادة منذ أن كنت في الخامسة عشرة من عمري، لكن هذه كانت أول سيارة أتملكها بصفة شخصية، وعلى الأرجح السيارة البخارية الوحيدة في مقاطعة هورون. كان الجميع يهرعون لمشاهدة السيارة أثناء مرورها. لم تصدر ضجة عالية وصليلا وجلجلة، بل كانت تسير في هدوء إلى حد ما كسفينة بشراع عال تسير فوق مياه البحيرة، كما أنها لم تعكر الهواء، بل خلفت وراءها سحابة من البخار. حظرت سيارات ستانلي ستيمر في بوسطن؛ نظرا لأن البخار لبد الهواء بالغيوم. لطالما أحببت أن أخبر الناس: «قدت سيارة كانت محظورة في بوسطن.»
بدأنا الرحلة في ساعة مبكرة إلى حد ما في يوم أحد من شهر يونيو. استغرقت نحو خمسة وعشرين دقيقة لتشغيل محرك السيارة، وطوال ذلك الوقت جلست العجوز آني في المقعد الأمامي كما لو أن العرض سيبدأ بالفعل. ارتدينا نحن الاثنتين وشاح القيادة ومئزرين طويلين، لكن الثوب الذي ارتدته العجوز آني أسفل السترة كان حريريا وبلون أرجواني داكن. في واقع الأمر، كانت قد أعادت صنعه من الثوب الذي ارتدته جدتي عند مقابلة أمير ويلز.
قطعت السيارة البخارية الأميال بسرعة كبيرة؛ كانت تقطع خمسين ميلا في الساعة - كان ذلك رائعا حينذاك - لكنني لم أزد السرعة. كنت أحاول ألا أتسبب في أي توتر للعجوز آني. كان الناس لا يزالون في الكنائس حين بدأنا رحلتنا، لكن فيما بعد امتلأت الطرق بالخيول والعربات التي تجرها الخيول التي تشق طريقها إلى بيوتهم. التزمت الكياسة بأكبر قدر ممكن وأنا أسير ببطء مارة بهم، لكن تبين أن العجوز آني لم تحبذ هذه الرصانة وأخذت تقول: «فلتضغطي عليه.» قاصدة البوق الذي كان يعمل بمصباح أسفل رفرف السيارة بجانبي.
لا بد أنها لم تخرج من مدينة والي لسنوات تتجاوز السنوات التي عشتها. عندما عبرنا الجسر بسولتفورد (ذلك الجسر الحديدي الذي شهد الكثير من الحوادث بسبب الانعطاف من الطرفين)، قالت إنه لم يكن يوجد جسر هناك، وكان على المرء أن يدفع المال لرجل كي يجدف به عبر النهر.
قالت: «لم يكن باستطاعتي دفع المال، فعبرت فوق الأحجار ورفعت تنورتي وخضت في الماء. كان الطقس بهذه الدرجة من الجفاف في الصيف.»
بالطبع لم أعرف عن أي صيف كانت تتحدث.
بعد ذلك، قالت: «انظري إلى تلك الحقول الشاسعة، أين ذهبت جذوع الأشجار؟ أين الأدغال؟ انظري كيف يمتد الطريق في خط مستقيم. إنهم يبنون منازلهم من القرميد! وما هذه المباني التي تضاهي الكنائس حجما؟»
قلت: «إنها حظائر.»
كنت أعرف الطريق إلى كارستيرز جيدا، لكنني انتظرت من العجوز آني أن تساعدني بمجرد أن نصل إلى هناك؛ لكن لم تلح في الأفق أي مساعدة. قدت السيارة في الشارع الرئيسي جيئة وذهابا في انتظار أن ترى شيئا مألوفا. قالت: «ليتني أرى النزل فقط؛ سأعرف حينها المسار خلفه.»
كانت بلدة مقامة حول مصنع ما، ولم تكن بلدة جميلة، في رأيي. بالتأكيد لفتت السيارة البخارية الأنظار، واستطعت السؤال عن الاتجاهات المؤدية إلى مزرعة هيرون دون إيقاف المحرك، وبعد صيحات وإشارات تمكنت في النهاية من الوصول إلى الطريق الصحيح. أخبرت العجوز آني أن تنتبه إلى صناديق البريد، لكنها كانت منشغلة بالبحث عن الجدول المائي. عثرت على الاسم بنفسي، وانعطفت إلى ممر طويل يؤدي إلى منزل من القرميد الأحمر في نهايته، ملحقة به حظيرتان أثارتا ذهول العجوز آني. كانت المنازل القرميدية الحمراء ذات الشرفات والنوافذ الكبيرة هي الطراز المعتاد حينئذ، وكانت منتشرة في جميع الأنحاء.
قالت العجوز آني: «انظري إلى هذا!» ظننت أنها تقصد قطيع الأبقار الذي كان يفر بعيدا عنا في المرعى المتاخم للممر، بيد أنها كانت تشير إلى ركام غطي معظمه بعنب بري، تبرز منه بضع أحطاب، قالت إنه الكوخ. قلت: «حسنا، آمل أن تتعرفي على شخص أو اثنين من الناس.»
كان ثمة عدد كاف من الناس من حولنا. وقفت عربتان زائرتان في الظل، والخيول مقيدة وتأكل الحشائش. عندما أوقفت السيارة عند الشرفة الجانبية، اصطف جمع من الناس وأخذوا ينظرون إليها. لم يتقدموا نحونا - ولم يندفع الأطفال إلى الخارج ليتفحصوا السيارة عن قرب كما يفعل الأطفال بالبلدة - بل وقفوا جميعا فحسب في صف ينظرون إليها وهم يعضون على شفاههم.
حدقت العجوز آني في اتجاه مختلف.
أخبرتني أن أترجل من السيارة، قالت: انزلي وسليهم هل السيد جورج هيرون يعيش هنا، وهل هو على قيد الحياة أم مات؟
فعلت ما طلب مني، وقال أحد الرجال: «هذا صحيح، إنه أبي.»
أخبرتهم: «حسنا، أحضرت شخصا ما. أحضرت السيدة آني هيرون.»
قال الرجل: «هكذا إذن؟» (هنا حدث توقف مؤقت في كتابة الخطاب نتيجة لإصابتي بنوبات إغماء وذهابي إلى المستشفى. وبعد إجراء الكثير من الفحوصات التي دفعت مقابلها أموالا طائلة، الآن عدت من المستشفى وقرأت ما كتبته، اندهشت من الإطالة والتشتت، لكن أشعر بكسل شديد للبدء من جديد. لم أصل حتى إلى الجزء الخاص بتريس هيرون، وهو محل اهتمامك، لكن انتظر، أوشكت على بلوغه.)
اجتاحهم الذهول بشأن العجوز آني، أو هكذا استنتجت. لم يكونوا يعرفون مكانها، أو ماذا كانت تفعل، أو ما إذا كانت على قيد الحياة، لكن لا يجعلك هذا تعتقد أنهم اندفعوا إلى الخارج ورحبوا بها في ابتهاج؛ إذ لم يخرج سوى شاب، مهذب للغاية، وساعدها أولا في النزول من السيارة ثم ساعدني بعدها. أخبرني أن العجوز آني هي زوجة شقيق جده. قال إنه من المؤسف للغاية أننا لم نأت قبل بضعة أشهر؛ فقد كان جده بصحة جيدة وذهنه صافيا تماما، حتى إنه كتب مقالا لصحيفة ما يحكي فيها عن أيامه الأولى؛ لكنه مرض بعد ذلك. وعلى الرغم من أنه تعافى، فإنه لم يعد إلى طبيعته مجددا؛ فلم يعد بوسعه التحدث، سوى بضع كلمات بين الحين والآخر.
كان ذلك الشاب المهذب هو تريس هيرون.
لا بد أننا وصلنا بعد أن انتهوا من تناول العشاء بالضبط. خرجت ربة المنزل وطلبت من تريس هيرون أن يسألنا ما إذا كنا قد تناولنا الطعام. قد تظن أن ربة المنزل أو أننا لم نكن نتحدث الإنجليزية. كانوا جميعا في منتهى الخجل؛ النساء بشعرهن المصفف للخلف، والرجال ببذلاتهم الزرقاء الداكنة، والأطفال المعقودي اللسان. أرجو ألا تظن أنني أسخر منهم؛ كل ما في الأمر أنني لا أستطيع فهم سبب أن يكون المرء خجولا للغاية، بالضرورة.
اصطحبنا إلى حجرة تناول الطعام التي بدت غير مستخدمة - لا بد أنهم تناولوا طعامهم في مكان آخر - وقدمت لنا أصناف كثيرة من الطعام؛ أذكر منها الفجل المملح، وأوراق الخس، والدجاج المشوي، والفراولة والقشدة. كانت الأطباق من خزانة حفظ الأواني الخزفية؛ لم تكن صحونهم العادية. شجرة هندية عتيقة وجميلة. لديهم أطقم من كل شيء. جناح حجرة المعيشة المخملي. جناح حجرة الطعام من خشب الجوز. فكرت في أنهم سيستغرقون برهة من الوقت حتى يعتادوا على حياة الترف.
استمتعت العجوز آني بشعور أن أحدا يقوم على خدمتها، وتناولت الكثير من الطعام، وأمسكت بعظام الدجاج لتنزع منها الفتات الأخير من اللحم. تسلل الأطفال خفية عند المداخل وتحدثت النساء بأصوات خافتة ومخجلة إلى حد ما في المطبخ. كان تريس هيرون يتسم باللياقة، وجلس معنا، واحتسى كوبا من الشاي أثناء تناولنا الطعام. ثرثر عن نفسه طوعا بقدر كاف وأخبرني أنه درس علم اللاهوت بكلية نوكس كوليدج. أخبرني أنه أحب العيش في تورونتو؛ تملكني شعور بأنه يسعى إلى إقناعي بأن طلاب اللاهوت ليسوا جميعا على هذه الدرجة من النحافة على الإطلاق، كما كنت أظن، أو يعيشون حياة متزمتة. أخبرني أنه مارس التزلج على الجليد في هاي بارك، وأنه كان يذهب في نزهات خلوية بهانلانز بوينت، وأنه شاهد الزرافة في حديقة حيوان ريفرديل. أثناء حديثه، تشجع الأطفال قليلا وبدءوا في الدخول إلى الغرفة واحدا تلو الآخر. طرحت عليهم الأسئلة الحمقاء المعتادة: كم أعماركم؟ ماذا تدرسون في المدرسة حاليا؟ هل تحبون المعلم؟ كان تريس يحثهم على الإجابة أو يجيب عنهم بنفسه، وأخبرني أيهم أشقاؤه وشقيقاته، وأيهم أبناء وبنات عمومته.
قالت العجوز آني: «هل يحب بعضكم بعضا إذن؟» مما استدعى التطلع بنظرات تعلوها الدهشة.
حضرت سيدة المنزل مرة أخرى وتحدثت إلي مجددا من خلال طالب اللاهوت. أخبرته أن الجد استيقظ الآن ويجلس بالشرفة الأمامية. نظرت إلى الأطفال وقالت: «لماذا سمحت لهم جميعا بالدخول إلى هنا؟»
سرنا نحو الشرفة الأمامية؛ حيث وضع مقعدان بمتكأ مستقيم، وجلس رجل عجوز على واحد منهما؛ كانت له لحية بيضاء جميلة تصل إلى طرف الصدرية التي يرتديها. لم يبد أنه مهتم بنا. كان له وجه عجوز طويل وشاحب ومذعن.
قالت العجوز آني: «حسنا يا جورج.» كما لو أن هذا ما كانت تتوقعه. جلست على المقعد الآخر وأخبرت إحدى الفتيات الصغيرات: «احضري لي الآن وسادة. احضري وسادة رفيعة وضعيها عند ظهري.» •••
أمضيت فترة ما بعد الظهيرة في تقديم خدمات توصيل بسيارتي البخارية. علمت ما يكفي عنهم الآن بما لا يجعلني أشرع في سؤالهم عمن يرغب في توصيلة، أو إمطارهم بوابل من الأسئلة من قبيل: هل يهتمون بالسيارات؟ خرجت فحسب وربت على السيارة في أماكن مختلفة كما لو أنها حصان، وتفحصت المرجل البخاري. تتبعني طالب اللاهوت وقرأ اسم السيارة البخارية على الجانب «مركبة الرجل النبيل السريعة». سألني إن كانت لأبي.
أخبرته بأنها تخصني. شرحت له كيف يسخن الماء داخل المرجل، وقدر الضغط البخاري الذي يحتمله المرجل. لطالما تساءل الناس حول ذلك؛ حول حدوث انفجارات. اقترب الأطفال مني عندئذ، وفجأة لاحظت أن المرجل كان خاويا تقريبا. سألت هل من سبيل أحصل به على بعض الماء.
ركضوا لإحضار الدلاء وتشغيل المضخة! اتجهت نحو الشرفة وسألت الرجال هناك: هل من مانع في ذلك؟ وشكرتهم حين أخبروني بأن لي ما أشاء. بمجرد أن امتلأ المرجل كان من الطبيعي - بالنسبة إلي - أن أسألهم إن كانوا لا يمانعون في تشغيل المحرك البخاري، وقال متحدث: لا بأس. لم يضق صدر أحد أثناء الانتظار. حدق الرجال في المرجل بتركيز. لم تكن، بالطبع، هذه أول سيارة يرونها، لكنها - على الأرجح - السيارة البخارية الأولى.
عرضت على الرجال توصيلهم أولا، من باب اللياقة. أخذوا يراقبونني في ارتياب بينما كنت أعبث في المقابض والأذرع لتشغيل السيارة. ثلاثة عشر جزءا مختلفا يدفع أو يجذب! تأرجحنا فوق الممر أثناء ذهابنا في الخامسة، ثم سرنا بسرعة عشرة أميال في الساعة. علمت أنهم يشعرون بالضيق بعض الشيء؛ لأن سيدة تقود بهم، لكن حداثة التجربة جعلتهم يتحملون. بعد ذلك، صعد مجموعة من الأطفال، ساعدهم في الركوب طالب اللاهوت وهو يخبرهم بأن يجلسوا بلا حراك ويتشبثوا جيدا، وألا يشعروا بالذعر أو يسقطوا خارج السيارة. زدت السرعة قليلا، بعد أن أصبحت على دراية الآن بالأخاديد وحفر الوحل، كما أن صيحات الخوف والبهجة لم يكن من الممكن إيقافها.
لقد أغفلت ذكر أمر يتعلق بحالتي، لكنني لن أغفل ذكره الآن، نتيجة لآثار كأس المارتيني الذي أحتسيه الآن، وهو لذة آخر الظهيرة بالنسبة إلي. كنت أعاني مشكلات حينئذ لم أبح بها لك بعد؛ لأنها كانت مشكلات عاطفية، لكن عندما شرعت في الرحلة ذاك اليوم مع العجوز آني، قررت أن أستمتع بوقتي قدر استطاعتي. بدا أنه من الإهانة لسيارتي البخارية ألا أفعل ذلك. طوال حياتي وجدت في هذا قاعدة جيدة ينبغي علي اتباعها؛ على المرء الاستمتاع بالأشياء إلى أقصى درجة ممكنة، حتى عندما لا يكون ميالا إلى الشعور بالسعادة.
أخبرت أحد الصبية بأن يركض إلى الشرفة الأمامية ويسأل هل يرغب جده في جولة بالسيارة، لكنه عاد وقال: «إنهما نائمان.»
تعين ملء المرجل قبل أن نبدأ في رحلة العودة، وأثناء ذلك، جاء تريس هيرون ووقف بالقرب مني.
قال: «لقد منحتنا جميعا يوما لا ينسى.»
لم أترفع عن مغازلته. في حقيقة الأمر، كان لي باع كبير في المغازلة. إنه سلوك طبيعي للغاية؛ بمجرد أن تجعلك خسارة الحبيب تتخلى عن أفكارك المتعلقة بالزواج.
أخبرته أنه سينسى كل هذا بمجرد أن يعود إلى أصدقائه في تورونتو. قال كلا بالطبع، لن ينسى أبدا، وسألني هل من الممكن أن يراسلني، قلت إن أحدا لن يمنعه.
في طريق عودتنا إلى المنزل فكرت في المحادثة التي دارت بيننا، وكيف أنه سيكون من السخف أن ينمو لديه انجذاب جدي تجاهي. طالب اللاهوت! لم تكن لدي أي فكرة حينئذ، بالطبع سيترك اللاهوت ويتجه إلى السياسة.
قلت للعجوز آني: «من المؤسف حقا أن السيد هيرون العجوز لم يكن باستطاعته التحدث معك.»
قالت: «حسنا، استطعت أنا التحدث معه.»
في واقع الأمر، راسلني تريس هيرون، لكن لا بد أنه خالجته الظنون أيضا؛ لأنه أرفق بضعة منشورات عن المدارس التبشيرية؛ شيء عن جمع المال للمدارس التبشيرية. أحبطني ذلك الأمر ولم أرد عليه بخطاب (بعد مرور سنوات كنت أمزح وأقول إنه كان من الممكن أن أتزوج به إذا جاريته على النحو الذي يجب).
سألت العجوز آني: «هل استطاع السيد هيرون فهمها عندما تحدثت معه؟» فقالت: «إلى حد كاف.» سألتها: «هل ستشعر بالسعادة لدى رؤيته مرة أخرى؟» فقالت: «أنا سعيدة من أجله لأنه رآني.» بأسلوب لا يخلو من الارتياح الماكر، بالتلميح - على الأرجح - إلى ما ترتديه والمركبة التي حضرت بها.
لذا انطلقنا فحسب في السيارة البخارية أدنى الأشجار العالية المقوسة التي اصطفت على جوانب الطرق في تلك الأيام. ومن مسافة بعيدة استطعنا رؤية البحيرة؛ لمحات فقط منها، ولمحات من الضوء، الذي يتخلل الأشجار والتلال؛ لذا سألتني العجوز آني: «هل من الممكن أن تكون هي البحيرة نفسها؛ نفس البحيرة التي كانت مدينة والي على ضفافها؟»
كان ثمة الكثير من كبار السن حينئذ تجول في أذهانهم أفكار غير منطقية، وإن كنت أظن أن العجوز آني كان لديها من تلك الأفكار أكثر من أغلبيتهم. أذكر أنها أخبرتني في وقت آخر أن فتاة في الدار وضعت طفلا من بثرة ضخمة انفجرت من بطنها، وكان في حجم فأر، ولم يكن حيا، لكنهم وضعوه داخل فرن فانتفخ حتى صار في حجم مناسب، وتحمص حتى أصبح لونه مقبولا وبدأ في تحريك ساقيه. (لا بد أن ما تفكر فيه الآن هو المقولة الشهيرة: اطلب من امرأة عجوز أن تستغرق في الذكريات وستسمع مزيجا من أشياء غير مترابطة.)
أخبرتها أن هذا غير معقول؛ لا بد أنه كان حلما.
قالت: «ربما كان كذلك.» واتفقت معي في الرأي لمرة واحدة: «كانت تراودني بالفعل أفظع الأحلام.»
وهبطت سفن الفضاء
في ليلة اختفاء يوني مورجان، جلست ريا في منزل لبيع الخمور بكارستيرز؛ حانة مانك، وهي عبارة عن منزل خشبي ضيق وأجرد بجدران متسخة حتى منتصفها بفعل فيضان النهر المتكرر. أحضرها بيلي دود إلى هناك. كان يلعب الورق عند أحد طرفي الطاولة الكبيرة ودار الحديث عند الطرف الآخر. جلست ريا جانبا فوق كرسي هزاز، عند زاوية بالجهة الأخرى بجانب الموقد الذي يعمل بالكيروسين.
قال رجل: «نداء الطبيعة. لنقل نداء الطبيعة.» وقد قال في السابق شيئا عن التغوط. أخبره رجل آخر بأن ينتبه إلى ألفاظه. لم يلتفت أحد إلى ريا، لكنها علمت أنها كانت السبب. «ذهب عند الصخور ليلبي نداء الطبيعة، وكان يفكر أنه سيود العثور على شيء ما؛ شيء مفيد. على الرغم من ذلك لم يتوقع بالطبع أنه سيعثر عليه هناك. ماذا رأى هناك؟ رأى ذلك الشيء مبسوطا فوق الأرض؛ ثمة ألواح منه مطروحة. ليته لم يكن الشيء عينه! مبسوطا هناك في ألواح؛ لذا التقطه وحشره في جيوبه وفكر؛ هذا يكفي حتى المرة المقبلة. لم يفكر فيه بعد ذلك، وعاد إلى المعسكر.»
قال رجل عرفته ريا؛ الرجل الذي جرف الثلوج بعيدا عن أرصفة المدرسة، خلال الشتاء: «أكان في الجيش؟» «ما الذي جعلك تعتقد ذلك؟ لم أقل ذلك قط!»
قال جارف الثلوج: «قلت معسكرا؛ معسكرا للجيش.» كان اسمه دينت ماسون. «لم أذكر قط معسكر الجيش؛ أتحدث عن معسكر لقطع الأخشاب، في الشمال بعيدا بمقاطعة كيبيك. ماذا سيفعل معسكر للجيش هناك؟» «ظننت أنك قلت معسكرا للجيش.» «رأى أحدهم ما بحوزته. ما هذا الذي تخبئه؟ فقال: حسنا، لا أدري. من أين حصلت عليه؟ كان مبسوطا فوق الأرض فحسب. حسنا، ما هذا الشيء في اعتقادك؟ حسنا، لا أدري.»
قال رجل آخر عرفته ريا بالنظر إليه - كان مدرسا سابقا، ويعمل الآن في بيع الأواني والمقالي للطهي الجاف: «يشبه الحرير الصخري كثيرا.» كان مريضا بالسكري، ومن المفترض أن حالته خطيرة للغاية لدرجة أنه كانت توجد دائما بطرف قضيبه قطرة من السكر الخالص المتبلور.
قال الرجل الذي يروي القصة، باستياء: «الحرير الصخري! وقد أسسوا في ذلك الموقع أضخم منجم للحرير الصخري في العالم بأسره، ومن ذاك المنجم صنعت الثروة!»
تحدث دينت ماسون مجددا: «لكن ليس للرجل الذي عثر عليه. أؤكد لك هذا. لا يحدث هذا أبدا. لم يصنع الشخص الذي عثر عليه ثروة.»
قال راوي القصة: «أحيانا ما يحدث.»
قال دينت: «كلا البتة.»
أصر راوي القصة: «عثر البعض على الذهب واستفادوا منه. أشخاص كثر فعلوا ذلك! عثروا على الذهب وأصبحوا مليونيرات، مليارديرات؛ كالسير هاري أوكس مثلا؛ عثر على الذهب وأصبح مليونيرا!»
قال رجل لم يشترك حتى اللحظة في المحادثة: «أودى بحياته.» ضحك دينت ماسون وضحك آخرون، وقال بائع الأواني والمقالي: «مليونيرات؟ مليارديرات؟ وماذا استتبع ذلك؟»
صاح دينت ماسون وهو يضحك بأعلى صوته: «أودى بحياته. وهكذا استفاد من الذهب!» بسط راوي القصة يديه وهز الطاولة. «لم أقل مطلقا ذلك! لم أقل مطلقا إنه لم يقتل! نحن لا نتحدث هنا عما إذا قتل أم لا! قلت إنه عثر على الذهب، واستفاد منه، وأضحى مليونيرا!»
أمسك الجميع بزجاجاتهم وكئوسهم كي لا تسقط من فوق الطاولة، حتى الرجال الذين كانوا يلعبون الورق توقفوا عن الضحك. جلس بيلي مديرا ظهره لريا. تألقت كتفاه العريضتان في القميص الأبيض، بينما وقف صديقه وين بالجانب الآخر من الطاولة يشاهد اللعبة. كان وين ابن كاهن الكنيسة المتحدة، من بوندي؛ وهي قرية غير بعيدة عن كارستيرز. ارتاد الكلية مع بيلي، كان سيصير صحافيا؛ لديه بالفعل وظيفة بصحيفة في مدينة كالجاري. مع استمرار الحديث المتعلق بالحرير الصخري، رفع وين بصره فالتقت عيناه بعيني ريا، ومن تلك اللحظة فصاعدا أخذ يراقبها بابتسامة طفيفة متوترة ومتواصلة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تلتقي فيها أعينهما، لكنه في العادة لم يكن يبتسم. كان ينظر إليها ثم يشيح بنظره عنها، في بعض الأحيان أثناء حديث بيلي.
ساعد السيد مانك نفسه في النهوض؛ فقد أقعده مرض أو حادث ما فصار كسيحا. كان يسير متكئا على عصا، وينحني إلى الأمام، في زاوية قائمة تقريبا، من عند خصره. في جلوسه، يبدو طبيعيا إلى حد بعيد، ولدى نهوضه، كان يسير مائلا فوق الطاولة، وسط الضحكات.
نهض الرجل الذي كان يروي القصة في الوقت نفسه، وربما دون قصد منه ألقى الكأس على الأرض فتحطمت، فصاح الرجال: «ادفع ثمنها! ادفع ثمنها!»
قال السيد مانك: «ادفع المرة القادمة.» بصوت يهدف إلى تهدئة الجميع؛ صوت عريض وودود لرجل ضعيف ومتلاش.
وطأ الرجل الذي أخبر بالقصة فوق الزجاج، وأزاحه جانبا بقدمه، وأسرع - من جانب الكرسي الذي تجلس فوقه ريا - نحو الباب الخلفي وهو يصيح: «إن عدد الحمقى في هذا المكان يفوق عدد العاقلين.» كان يشد قبضته ويرخيها وعيناه تترقرقان بالدموع.
أحضرت السيدة مانك المكنسة.
في العادة، لم تكن ريا ستتواجد في هذا المنزل على الإطلاق، بل كانت ستجلس بالخارج مع لوسيل؛ رفيقة وين، إما في سيارة وين وإما في سيارة بيلي. من الممكن أن يدخل بيلي ووين لتناول شراب واحد، مع وعد بأن يخرجا في غضون نصف ساعة (لا يؤخذ ذلك الوعد على محمل الجد)، لكن في هذه الليلة - في أوائل شهر أغسطس - مكثت لوسيل في المنزل لمرضها، وذهب بيلي وريا إلى الحفل الراقص بمدينة والي وحدهما، وبعد ذلك لم يوقفا السيارة، بل ذهبا مباشرة إلى حانة مانك على الجهة الأخرى. تقع حانة مانك عند أطراف كارستيرز؛ حيث يسكن بيلي وريا. سكن بيلي في البلدة، أما ريا فقد سكنت في مزرعة الدواجن شمال الجسر الذي يمتد من صف المنازل على امتداد النهر.
عندما رأى بيلي سيارة وين واقفة خارج حانة مانك، حياها كما لو أنها وين نفسه؛ إذ صاح: «أوه أوه أوه! أيها الفتى وين!» ثم قال: «لنذهب إليها!» وضغط بيده على كتف ريا. قال: «سندخل إلى هناك، وأنت أيضا.»
فتحت السيدة مانك الباب الخلفي لهما وقال بيلي: «أترين؛ أحضرت معي جارتك.» رمقت السيدة مانك ريا بنظرة كما لو أنها حجر على الطريق. كانت لدى بيلي دود أفكار غريبة بشأن الأشخاص. كان يجمعهم معا في فئة واحدة إذا كانوا فقراء - وهو ما كان ليطلق عليه فئة الفقراء - أو «الطبقة العاملة» (عرفت ريا هذا المصطلح من الكتب فقط). لقد جمع ريا مع آل مانك في فئة واحدة؛ لأنها عاشت أعلى التلة في مزرعة الدواجن، غير مدرك لحقيقة أن أسرتها لم تعتبر نفسها جيرانا لهؤلاء الذين يقطنون بهذه المنازل، أو أن أباها لم يجلس طوال حياته قط في هذا المنزل لاحتساء الخمر.
قابلت ريا السيدة مانك على الطريق في اتجاه البلدة، لكن السيدة مانك لم تتحدث إليها مطلقا. لقد لفت شعرها الداكن الأشيب إلى الخلف، ولم تضع مساحيق التجميل. حافظت على قوامها النحيل، بعكس نساء كثيرات في كارستيرز. كانت ملابسها نظيفة وبسيطة؛ لم تكن شبابية، على وجه التحديد، لكن من وجهة نظر ريا لم تكن ملائمة لربات البيوت. ارتدت في هذه الليلة تنورة مربعة النقوش وبلوزة صفراء بأكمام قصيرة. يعلو وجهها التعبير نفسه؛ تعبير غير عدائي، لكنه جدي ويدل على الانشغال، كما لو أنها تحمل عبئا مألوفا من خيبة الأمل والقلق.
قادت بيلي وريا إلى هذه الحجرة التي تتوسط المنزل. لم ينظر إليهما الرجال الجالسون عند الطاولة أو ينتبهوا إلى بيلي حتى جذب كرسيا؛ ربما كان ثمة شيء من قبيل القواعد بشأن هذا الأمر. تجاهل الجميع ريا. رفعت السيدة مانك شيئا ما من فوق الكرسي الهزاز وأشارت إليها كي تجلس عليه.
قالت: «أحضر لك كوكاكولا؟»
أحدث قماش البطانة الخشن أسفل فستان الرقص الأخضر المائل إلى الصفرة ضوضاء كصوت قش يتهشم أثناء جلوسها. ضحكت على سبيل الاعتذار، لكن السيدة مانك كانت قد استدارت بعيدا عنها بالفعل. كان وين الشخص الوحيد الذي لاحظ هذه الضوضاء، والذي دخل الحجرة توا قادما من الردهة الأمامية. رفع حاجبيه الأسودين بطريقة ودودة لكن اتهامية. لم تعرف قط ما إذا كان وين يحبها أم لا. حتى عندما رقص معها، بمعرض والي (قرر هو وبيلي أن يتبادلا إجباريا رفيقتيهما في الرقص لليلة واحدة)، أمسك بها دون اكتراث كما لو أنها طرد غير مسئول عنه. كان راقصا فاترا يفتقر إلى الحس والحيوية.
لم يرحب وين وبيلي أحدهما بالآخر - كما اعتادا - بصيحة ولكمة في الهواء؛ فقد توخيا الحذر والتحفظ أمام هؤلاء الرجال الأكبر سنا.
إلى جانب دينت ماسون والرجل الذي يبيع الأواني والمقالي، عرفت ريا أيضا السيد مارتن من متجر التنظيف الجاف، والسيد بولز الحانوتي. كانت للبعض وجوه مألوفة، وللبعض الآخر وجوه غير مألوفة لها. لن يشعر أي من هؤلاء الرجال بالخزي لوجوده هنا؛ فحانة مانك ليست بمكان مخجل. مع ذلك، فإن الحانة تترك وصمة طفيفة. ذكر ذلك وكأنه أريد به توضيح شيء ما؛ حتى إذا كان رجلا ناجحا، فإنه «يرتاد حان مانك».
أحضرت السيدة مانك زجاجة كوكاكولا لريا ولم تحضر كوبا. لم تكن مثلجة.
ما أزاحته السيدة مانك عن الكرسي كي تجلس ريا كان كومة من الملابس التي بللتها وطوتها بغرض كيها؛ ومن ثم كانت تكوي الملابس هنا، وتؤدي غير ذلك من الأعمال المنزلية العادية. ربما تفرد عجين الفطائر فوق هذه الطاولة، وتعد الوجبات كذلك. كان ثمة موقد خشبي، لكنه بارد الآن ووضعت فوقه الصحف، أما الموقد الذي يعمل بالكيروسين فيستخدم فترة الصيف. انتشرت في المكان رائحة الكيروسين والجص الرطب. ظهرت آثار المطر الغزير على ورق الحائط. كانت قطع الأثاث قليلة، وكانت الستائر المعتمة ذات اللون الأخضر الداكن منسدلة على أعتاب النوافذ. كذلك كانت هناك ستارة معدنية في إحدى الزوايا، لعلها تخفي وراءها طاولة تقديم عتيقة.
بالنسبة إلى ريا، كانت السيدة مانك هي أكثر الأشخاص الموجودين في الحجرة إثارة للاهتمام. كانت ساقاها عاريتين، لكنها ارتدت حذاء بكعب عال. كان صوت طرقات الكعب يسمع طوال الوقت فوق الأرضية الخشبية. سارت حول الطاولة جيئة وذهابا من البوفيه وإليه؛ حيث وضعت زجاجات الخمر (متى توقفت تدون أشياء فوق بطاقة ورقية؛ كوكاكولا لريا، الكأس المكسور). انطلقت عبر الردهة الخلفية إلى قبو تخزين لتعود منه حاملة مجموعة من زجاجات الجعة في كل يد. كانت حذرة كشخص أصم وأبكم، وصامتة، تنتبه إلى كل إشارة حول الطاولة، وتلبي بإذعان كل طلب، دون أن تبتسم. استدعى هذا إلى ذهن ريا الشائعات التي دارت حول السيدة مانك، وفكرت في نوع آخر من الإشارات التي من الممكن أن تصدر من أحد الرجال، فتضع السيدة مانك سترتها جانبا، وتسبقه خارج الحجرة باتجاه الردهة الأمامية؛ حيث يوجد درج يؤدي إلى غرف النوم، ويتظاهر الرجال الآخرون، بمن فيهم زوجها، بأنهم لم يلحظوا شيئا. تصعد الدرج دون أن تنظر خلفها، وتدع الرجل يتتبع بعينيه مؤخرتها الجميلة في تنورة معلمة المدرسة. وبعد ذلك، وفوق سرير في غرفة الانتظار، تهيئ نفسها دون أدنى تردد أو حماسة. هذا الاستعداد الممزوج باللامبالاة، وهذا المسكن المثير، وفكرة مثل هذا اللقاء السريع المدفوع الثمن؛ رأته ريا أمرا مشوقا على نحو مخجل.
راق لها أن تنسطح على السرير وتستغل وهي تكاد لا تعرف من يفعل بها ذلك، وتأتى لها أن تستوعب الأمر برمته بتلك القدرة الخفية مرارا وتكرارا.
تذكرت وين وهو قادم من الردهة الأمامية فور دخولها إلى الحجرة برفقة بيلي. فكرت؛ ماذا لو أنه كان قادما من الحجرة بأعلى؟ (لكنه أخبرها فيما بعد أنه كان يجري مكالمة هاتفية، كان يهاتف لوسيل، كما وعدها. أدركت لاحقا أن تلك الشائعات خاطئة.)
سمعت رجلا يقول: «انتبه إلى ألفاظك.» «نداء الطبيعة إذن. لا بأس، نداء الطبيعة.» •••
كان منزل يوني مورجان هو ثالث منزل بعد منزل مانك، وهو المنزل الأخير على الطريق. قالت والدة يوني إنها في منتصف الليل تقريبا سمعت صوت إغلاق الباب السلك. سمعت هذا الصوت ولم تلق له بالا. فكرت بالطبع أن يوني خرجت للذهاب إلى المرحاض. حتى في عام 1953، لم يكن لدى آل مورجان صرف صحي داخل المنزل.
لا شك أنه لا أحد منهم يخرج إلى المرحاض في ساعة متأخرة من الليل. جثمت يوني والسيدة العجوز فوق العشب. روى الرجل العجوز الأشجار المزهرة الموجودة عند مدخل المنزل.
قالت والدة يوني لا بد أنني قد خلدت إلى النوم بعد ذلك، لكنني استيقظت فيما بعد وظننت أنني لم أسمعها وهي تدخل إلى المنزل.
ذهبت إلى الطابق السفلي وتجولت في المنزل. كانت حجرة يوني تقع خلف المطبخ، لكن ربما تكون نائمة في أي مكان آخر في ليلة حارة كهذه؛ ربما تكون راقدة فوق الأريكة في الحجرة الأمامية، أو مستلقية فوق أرضية الردهة لتشعر بنسيم الهواء المتسلل من بين الأبواب، وربما خرجت إلى الشرفة حيث يوجد مقعد سيارة رائع عثر عليه أبوها منذ سنوات؛ حيث كان ملقى بعيدا على الطريق، لكن لم تستطع أمها العثور عليها في أي مكان. كانت ساعة المطبخ تشير إلى الثانية والعشرين دقيقة.
عادت والدة يوني إلى أعلى وهزت والد يوني حتى استيقظ.
قالت: «يوني ليست بالأسفل.»
قال زوجها: «أين هي إذن؟» كما لو أنه منوط بها معرفة ذلك. أخذت تهزه وتهزه لتمنعه من أن يعود مجددا إلى النوم. كان غير مكترث تماما بالأخبار، ومحجما عن الإصغاء لما يقوله أي أحد، حتى عندما يكون مستيقظا.
قالت: «انهض. انهض. علينا العثور عليها.» في نهاية المطاف رضخ لها، ونهض وارتدى بنطاله وحذاءه. أخبرته: «أحضر المصباح اليدوي.» وهبط خلفها الدرج مرة أخرى، وخرجا إلى الشرفة ثم نحو الفناء. كانت مهمته أن يضيء المصباح ويسلطه على الأماكن التي أخبرته بها. قادته على امتداد الطريق إلى المرحاض، الذي كان موجودا وسط مجموعة من نبات الليلك وشجيرات التوت في نهاية حدود منزلهم. أشعلا الضوء داخل المبنى ولم يجدا شيئا، فحدقا النظر بين جذوع الليلك المتينة وعلى امتداد الطريق، الذي فقدا أثره الآن تقريبا، والذي يؤدي عبر جزء متراخ من السياج إلى النباتات البرية بمحاذاة ضفاف النهر. لم يكن ثمة شيء أو شخص.
عادا عبر حديقة الخضراوات والضوء ينعكس فوق نباتات البطاطا التي تراكم فوقها الثرى، ونبات الراوند الذي نما كثيرا وأصبح محملا بالبذور الآن. رفع الرجل العجوز ورقة الراوند بحذائه، وأضاء المصباح أسفلها. سألته زوجته إن كان قد فقد عقله.
تذكرت أن يوني اعتادت السير أثناء النوم، لكن كان ذلك منذ سنوات مضت.
لاحظت شيئا يلمع في زاوية المنزل؛ كالسكاكين أو رجلا يرتدي درعا، قالت: «انظر هناك. انظر هناك. شيء يلمع هناك. ما هذا؟» لم تكن سوى دراجة يوني التي كانت تذهب بها كل يوم إلى العمل.
ثم نادت الأم اسم يوني، صاحت به في مقدمة المنزل ومؤخرته. كانت أشجار البرقوق قد نمت بارتفاع المنزل وأمامه ولم يكن ثمة ممشى جانبي، فقط ممر طيني بينها. تكدست جذوعها كالمتفرجين، وبدت كحيوانات سوداء منحنية. بينما كانت تنتظر ردا على ندائها، سمعت صوت ضفدع قريب منها كأنه يجلس فوق هذه الأغصان. على بعد نصف ميل، كان هذا الطريق يؤدي إلى حقل مليء بالمستنقعات ولا يصلح لأي استخدام، وشجر الحور الكثير الأعشاب النامي بين أجمة الصفصاف والبلسان. وفي الاتجاه الآخر، يلتقي بالطريق القادم من البلدة، ثم يعبر النهر ويتجه صعودا نحو التل إلى مزرعة الدواجن. وعند المسطحات النهرية كانت توجد الأماكن المخصصة للمعارض، وهي عبارة عن بضعة مدرجات مسقوفة مهجورة منذ الفترة السابقة على الحرب، فيما استحوذ المعرض الكبير بمدينة والي على المعرض هنا. لا يزال مضمار السباق مميزا بين الحشائش.
في هذا المكان تأسست البلدة، منذ مئات الأعوام. وقفت الطواحين والنزل الريفية القديمة، لكن فيضانات النهر دفعت الناس إلى الانتقال إلى أراض مرتفعة. ظلت قطع الأراضي الخاصة بالمنازل موضحة على الخريطة، ومدت الطرق، لكن لا يزال صف وحيد من المنازل يقطنه أناس هنا؛ أناس معدمون للغاية أو يقاومون التغيير مقاومة شديدة بطريقة أو بأخرى؛ أو يسكنون، من ناحية أخرى، هذه المنازل بصفة مؤقتة للغاية تجعلهم لا يمانعون في دخول الماء إليها.
استسلم والدا يوني. جلسا في المطبخ دون إشعال أي ضوء. كانت الساعة بين الثالثة والرابعة؛ لا بد أن الأمر بدا وكأنهما جلسا في انتظار عودة يوني كي تخبرهما بما عليهما فعله. كانت يوني هي المسئولة عن ذلك المنزل، وكان يصعب عليهما أن يتذكرا وقتا كان الحال فيه خلاف ذلك. قبل تسعة عشر عاما، اقتحمت يوني، حرفيا، حياتهما. اعتقدت السيدة مورجان أنها تمر بمرحلة انقطاع الطمث وتزداد بدانة. كانت بدينة بالفعل بدرجة كبيرة بحيث لم يحدث ذلك فارقا كبيرا. ظنت أن اضطراب معدتها هو ما يدعوه الناس عسر الهضم. عرفت كيف ينجب الناس الأطفال. لم تكن خرقاء، بل كل ما في الأمر أنها عاشت طويلا دون أن يحدث شيء كهذا لها. وفي أحد الأيام، في مكتب البريد، اضطرت إلى طلب كرسي. شعرت بالوهن واستبدت بها انقباضات في رحمها. بعد ذلك، انفجر كيس السائل الأمنيوسي وأخذت على عجل إلى المستشفى، وخرجت يوني برأس أبيض الشعر بالكامل. لقد استرعت يوني الانتباه منذ لحظة ولادتها. •••
على مدار صيف بأكمله، لعبت يوني وريا معا، لكنهما لم يعتبرا نشاطهما معا لعبا؛ أطلقتا عليه لعبا لإرضاء الآخرين. كان لعبهما أكثر الجوانب جدية في حياتهما، أما ما فعلته كلتاهما بقية الوقت فقد بدا تافها وجديرا بالنسيان؛ فعندما كانتا تنطلقان من فناء يوني تجاه ضفة النهر، كانتا تتحولان إلى شخصين مختلفين، كل منهما تدعى توم. توم وتوم. كان توم لقبا لهما، وليس مجرد اسم. لم يكن مذكرا أو مؤنثا. كان يعني شخصا شجاعا وذكيا على نحو خارق، لكن لا يحالفه الحظ دائما، ويكاد لا يقهر. خاضت توم وتوم معركة لا تنتهي مع البانرشيز (ربما سمعت ريا ويوني بجنيات البانرشيز اللائي ينذرن بالشؤم وسوء الطالع). تسلل البانرشيز خفية حول النهر وتجسدوا في صورة لصوص أو ألمان أو هياكل عظمية. كانت حيلهم وميولهم لا حصر لها. نصبوا الفخاخ والكمائن وعذبوا الأطفال الذين اختطفوهم. أحيانا كانت يوني وريا تحضران أطفالا حقيقيين - أطفال آل ماكيز الذين عاشوا لفترة وجيزة في أحد المنازل الواقعة على ضفة النهر - وتقنعانهم بأن يسمحوا لهما بتقييدهم وجلدهم بنبات البوط، لكن أطفال ماكيز لم يستطيعوا أو رفضوا الإذعان للخطة، وسرعان ما شرعوا في البكاء أو هربوا وعادوا إلى المنزل، وهكذا أصبحت توم وتوم وحدهما مرة أخرى.
بنت توم وتوم مدينة من الطمي بجانب ضفة النهر، جدرانها من الصخور لصد هجمات البانرشيز. ضمت المدينة قصرا ملكيا، وحوض سباحة، وعلما، لكن بعد ذلك انطلقت توم وتوم في رحلة وهدم البانرشيز المدينة بأسرها (بالطبع اضطرت يوني وريا إلى تحويل نفسيهما إلى بانرشيز غالبا). ظهر قائد جديد؛ ملكة بانرشية، اسمها جويليندا، ومخططاتها كانت شيطانية؛ فقد دست السم في ثمار العليق التي نمت عند ضفة النهر، وأكلت توم وتوم بعضا منها لشعورهما بالجوع وعدم اكتراثهما بما تأكلان بعد رحلتهما. رقدتا تتلويان من الألم وتتعرقان بين الحشائش المبتلة من أثر السم. ضغطتا بطنيهما فوق الطين الذي كان رخوا على نحو طفيف، ودافئا كحلوى الفدج المصنوعة توا. شعرتا بأحشائهما تتقلص، وأخذ جسداهما يرتجفان، لكن تعين عليهما النهوض والترنح للبحث عن ترياق. جربتا مضغ عشب السيف - الذي كما يوحي اسمه يمكن أن يؤدي إلى تشريح جلدك - كذلك لطختا فمهما بالطين، وفكرتا في قضم ضفدع حي إذا استطاعتا الإمساك بواحد، لكن قررتا في النهاية أن الكرز المر هو ما يمكن أن ينقذهما من الموت. تناولتا مجموعة من الكرز المر الصغير، وشعرتا بلسعات داخل فمهما على نحو مؤلم، فاضطرتا إلى الركض نحو النهر لشرب الماء. ألقيتا بنفسيهما في النهر، في جزء مليء بالطمي بين نباتات زنبق الماء حيث يتعذر رؤية القاع. أخذتا تشربان الكثير من الماء بينما حلق الذباب الأزرق فوق رأسيهما مباشرة كالسهام، ونجيا من الموت.
عندما خرجتا من هذا العالم في أواخر الظهيرة، وجدتا نفسيهما في فناء منزل يوني حيث كان أبواهما لا يزالان يعملان، في عزق الأرض أو حرثها أو في إزالة الأعشاب الضارة من حول الخضراوات مجددا. كانتا تتمددان في ظل المنزل، وقد أنهكهما التعب كأنهما اجتازتا البحيرات سباحة أو تسلقتا الجبال، تفوح منهما رائحة النعناع والثوم البري الذي سحقتاه تحت أقدامهما، وكذلك الأعشاب النتنة الساخنة والطين الكريه الرائحة الموجود بمكان تفريغ الصرف. في بعض الأحيان، تدخل يوني إلى المنزل وتحضر شيئا لتناوله؛ شرائح الخبز بدبس الذرة أو العسل الأسود. لم تضطر قط إلى السؤال إن كان بوسعها فعل هذا؛ كانت دائما تحتفظ بالجزء الأكبر لنفسها.
لم تكونا صديقتين، بمعنى الصداقة الذي دار بخلد ريا فيما بعد. لم تحاول إحداهما إرضاء الأخرى أو مواساتها قط. لم تتشاطرا الأسرار، فيما عدا سر اللعبة، وحتى هذا لم يكن سرا لأنهما سمحا للآخرين بالمشاركة فيها، لكنهما لم تسمحا للآخرين بتقمص دور توم؛ لذا ربما كان ذلك ما تقاسماه في تعاونهما اليومي المكثف؛ طبيعة وخطر كونهما توم وتوم. •••
لم تبد يوني قط خاضعة لوالديها، أو حتى مرتبطة بهما، كحال الأطفال الآخرين. ذهلت ريا من الطريقة التي تسيطر بها يوني على حياتها، والنفوذ الطائش الذي تحظى به في المنزل. عندما قالت ريا إنه يتعين عليها أن تكون في المنزل في موعد محدد، أو إن عليها إنجاز أعمال منزلية، أو تغيير ثيابها؛ شعرت يوني بالاستياء، واعترتها حالة من عدم التصديق. لا بد أن كل قرار اتخذته يوني كان من تلقاء نفسها. عندما كانت في الخامسة عشرة، امتنعت عن الذهاب إلى المدرسة وحصلت على وظيفة في مصنع القفازات. تخيلت ريا يوني وهي تعود إلى المنزل وتخبر والديها بأن هذا ما قد فعلته. كلا، بل إنها لم تكن تخبرهما؛ فهما كانا سيعلمان بالأمر بطريقة تفتقر إلى الكياسة، ربما عندما تشرع في العودة إلى المنزل في أواخر الظهيرة. وبعد أن أضحت تكسب المال اشترت دراجة، واشترت مذياعا واستمعت إليه في غرفتها آخر الليل. ربما أصغى والداها إلى أصوات الطلقات تتردد في الخارج وقتئذ، والمركبات تدوي في الشوارع. من الممكن أن تخبر والديها بالأشياء التي سمعتها؛ أخبار الجرائم والحوادث والأعاصير والانهيارات الثلجية. لم تعتقد ريا أنهما اهتما كثيرا بهذه الأخبار؛ فقد كانا منشغلين وحياتهما حافلة بالأحداث، على الرغم من أن الأحداث بها كانت موسمية ومرتبطة بالخضراوات التي كانا يبيعانها في البلدة لكسب قوت يومهما؛ الخضراوات وتوت العليق والراوند. لم يكن لديهما متسع من الوقت لشيء آخر.
فيما كانت يوني لا تزال في المدرسة كانت ريا تقود دراجتها؛ لذا لم تكونا تسيران معا على الرغم من أنهما كانتا تسلكان الطريق نفسها. عندما كانت ريا تمر بدراجتها من جانب يوني، عادة ما كانت يوني تصيح فيها بشيء ينطوي على التحدي والسخرية: «هاي، يا صاحبة الدراجة الفضية!» والآن وبعد أن امتلكت يوني دراجة، بدأت ريا في السير على قدميها. ذاعت فكرة في المرحلة الثانوية أن أي فتاة تقود دراجة بعد الصف التاسع تبدو خرقاء ومثارا للسخرية، لكن يوني كانت تنزل عن الدراجة وتسير بجانب ريا كما لو أنها تسدي إليها معروفا.
لم يكن معروفا على الإطلاق؛ فريا لم تكن ترغب في صحبتها؛ فلطالما كانت يوني محط الأنظار على نحو غريب؛ فقد كانت طويلة القامة مقارنة بعمرها، وكان لديها كتفان صغيرتان مدببتان، وقمة رأس يكسوها شعر أبيض أشعث، وتعبير واثق يعلو وجهها، وفك طويل وضخم؛ ذلك الفك أضفى سمكا على الجزء السفلي من وجهها الذي بدا أنه انعكس في غلاظة صوتها وخشونته. عندما كانت أصغر سنا، لم يكن يهم أي من ذلك؛ فقناعتها بأن كل شيء منها هو الشيء الملائم هالت الكثيرين، لكنها الآن خمس أقدام وتسع أو عشر بوصات، شاحبة اللون، وتبدو كالرجال في بنطالها الفضفاض وعصابة الرأس. إنها تحظى بقدم كبيرة داخل ما بدا أنه حذاء رجالي، وصوت مخيف، ومشية خرقاء؛ فقد انتقلت مباشرة من كونها طفلة إلى شخص غريب الأطوار. تحدثت مع ريا بأسلوب تملكي أزعجها، سائلة إياها ألم تسأم من الذهاب إلى المدرسة، أو ما إذا كانت دراجتها معطلة ولم يستطع والدها تحمل تكلفة إصلاحها. عندما حصلت ريا على تصفيفة شعر ثابتة، أرادت يوني معرفة ما حدث لشعرها؛ ظنت أن بوسعها فعل كل ذلك لحقيقة أنها وريا تعيشان على الجانب نفسه من البلدة ولعبتا معا. في فترة من الزمن بدا لريا أنها بعيدة للغاية ويمكن نسيانها، والأسوأ من ذلك عندما كانت يوني تشرع في قص روايات رأتها ريا مثيرة للضجر والحنق على حد سواء، عن حوادث القتل والكوارث وأحداث غريبة سمعت بها في المذياع. شعرت ريا بالحنق لأنها لم تستطع حمل يوني على إخبارها عما إذا كانت هذه الأمور قد حدثت بالفعل، أو حتى التمييز بينها بنفسها بقدر ما تعلم ريا. «هل سمعت ذلك في الأخبار، يا يوني؟ أهذه قصة؟ هل كان ذلك مسلسلا إذاعيا أم تقريرا؟ يوني، هل كان هذا حقيقيا أم كان مجرد مسرحية؟»
كانت ريا - وليس يوني على الإطلاق - هي من أرهقتها هذه التساؤلات. كانت يوني تركب دراجتها فحسب وتنطلق بعيدا. «تودلي، أودلي! أراك في حديقة الحيوانات!»
من المؤكد أن وظيفة يوني لاءمتها. شغل مصنع القفازات الطابقين الثاني والثالث من بناية بالشارع الرئيسي، وفي الأجواء الدافئة، عندما كانت النوافذ مفتوحة، لم تكن تستطيع أن تسمع ماكينات الخياطة فحسب، بل أيضا النكات العالية، والشجار، والإهانات، واللغة الفظة التي تشتهر العاملات هناك باستخدامها. كان من المفترض أنهن من طبقة أدنى من النادلات، وأدنى كثيرا من البائعات بالمتاجر. كن يعملن لساعات طويلة ويكسبن مالا أقل، لكن ذلك لم يجعلهن متواضعات. كن بعيدات تمام البعد عن ذلك؛ فكن يتزاحمن عبر الدرج وهن يطلقن النكات ويندفعن نحو الشارع. يصرخن في السيارات سواء أكان بها أشخاص يعرفونهن أم أشخاص لا يعرفونهن. كن ينشرن الفوضى كما لو أن لهن الحق في ذلك.
أظهر الأشخاص القريبون من القاع؛ مثل يوني مورجان، أو الذين يعتلون القمة؛ مثل بيلي دود، طيشا مماثلا وفهما متبلدا. •••
أثناء السنة النهائية بالمدرسة الثانوية، حصلت ريا على وظيفة هي الأخرى. عملت في متجر الأحذية أيام السبت، فترة ما بعد الظهيرة. حضر بيلي دود إلى المتجر، في أوائل الربيع، وقال إنه يرغب في شراء حذاء مطاطي كالحذاء المعلق بالخارج.
كان قد أنهى الدراسة بالكلية أخيرا، ويدرس بالمنزل كيف يدير مصنع آل دود للبيانو.
خلع بيلي حذاءه وكشف عن قدميه اللذين كان يرتدي فيهما جوربا أسود جميلا. أخبرته ريا أنه من الأفضل ارتداء جورب صوف مع الحذاء المطاطي كي لا تنزلق قدمه؛ لأنه سيكون جوربا سميكا وعمليا. سألها هل يبيعون مثل هذه الجوارب، وقال إنه سيشتري زوجا منها أيضا، إذا أحضرتها ريا، ثم سألها إن كان بإمكانها أن تساعده في ارتدائه.
أخبرها فيما بعد أن كل ذلك كان حيلة؛ لم يكن يحتاج إلى الحذاء أو الجورب.
كانت قدمه طويلة وبيضاء وطيبة الرائحة على نحو رائع؛ انبعثت منها رائحة الصابون الجميلة، ونفحة من مسحوق التلك. اتكأ بظهره فوق مقعد ما. كان طويلا وأشقر، جميلا ونظيفا ؛ هو نفسه ربما يكون منحوتا من الصابون. جبهة محدبة عالية، وصدغ يخلو من الشعر، وشعر بلمعة أشرطة الزينة، وجفون عاجية ناعسة.
قال: «هذا لطف منك.» وطلب منها مرافقته إلى حفل راقص في تلك الليلة؛ الليلة الافتتاحية لموسم الرقص في معرض والي.
بعد ذلك، اعتادا الذهاب معا إلى الحفل الراقص بوالي في كل ليلة سبت. لم يخرجا معا خلال الأسبوع؛ إذ تعين على بيلي الاستيقاظ مبكرا للذهاب إلى المصنع وتعلم المهنة - من أمه؛ التي تعرف بالمرأة الحديدية - وتعين على ريا القيام ببعض الأعمال المنزلية لأبيها وأشقائها. كانت أمها ترقد بالمستشفى في هاميلتون.
كانت الفتيات تصحن: «ها هو معشوقك الجذاب.» إذا مر بيلي بسيارته أمام المدرسة عندما يكن بالخارج للعب لعبة الكرة الطائرة، أو إذا مر بالشارع. وفي حقيقة الأمر، كان قلب ريا يخفق بالفعل لدى رؤيته، بشعره اللامع الذي لا تغطيه قبعة، وبيديه النضتين، لكن القويتين بالتأكيد، الممسكتين بعجلة القيادة، لكن كان قلبها يخفق أيضا لفكرة أنها انتقيت بغتة، واختيرت على نحو غير متوقع تماما، وأصبح يعلوها بريق الفائز، وهو بريق كان مختفيا في السابق. أضحت سيدات كبيرات في السن لا تعرفهن يبتسمن لها بالشارع، وفتيات يرتدين خاتم الخطوبة يتحدثن معها باسمها الأول، وفي الصباح تستيقظ ولديها شعور بأنها وهبت هدية كبيرة، لكن عقلها وضعها في علبة وأرسلها أثناء الليل، ولا تستطيع مطلقا تذكر ماذا كانت تلك الهدية.
جلب لها بيلي الاحترام في كل مكان باستثناء المنزل. كان ذلك متوقعا؛ فالمنزل، على حد علم ريا، هو المكان الذي يحطون فيه من شأنك. حاكى أشقاؤها الصغار بيلي وهو يقدم لأبيها سيجارة: «تفضل سيجارة بال مال يا سيد سلرز.» ويلوحون أمامه بعلبة وهمية من السجائر الجاهزة. بدا بيلي دود أمام صوتهم المتملق وإيماءاتهم الراضية كالأبله. أطلقوا عليه «بوتي»؛ في البداية أطلقوا عليه «بيلي السخيف»، ثم «بوتي السخيف»، ثم «بوتي» فقط.
قال والد ريا: «توقفوا عن مضايقة أختكم.» ثم تولى الأمر بنفسه، بسؤال جدي: «أتنوين الاستمرار في العمل بمتجر الأحذية؟»
قالت ريا: «لماذا؟» «اعتقدت فحسب أنك ربما تحتاجين إلى الوظيفة.» «لماذا؟» «لإعالة ذلك الشاب؛ فبمجرد أن تموت أمه العجوز فإنه سوف يقود المصنع إلى الهاوية.»
طوال الوقت أبدى بيلي إعجابه الشديد بوالد ريا؛ قال: «رجال كأبيك، ممن يكدون في العمل، كي يتمكنوا بالكاد من تدبير أمورهم، دون توقع حدوث اختلاف على الإطلاق، ويتمتعون باللياقة ورباطة الجأش وطيبة القلب؛ إن العالم مدين بالكثير لرجال كهؤلاء.»
اعتاد بيلي دود وريا ووين ولوسيل الذهاب إلى الحفل الراقص قرب منتصف الليل. كانوا يقودون السيارة إلى مكان انتظار السيارات، في نهاية طريق موحل عند المنحدر الموجود أعلى بحيرة هورون. شغل بيلي مذياع السيارة بصوت منخفض. دائما ما كان المذياع يعمل، حتى إن كان يخبر ريا بقصة معقدة. ارتبطت قصصه بحياته في الكلية، بالحفلات والمقالب المضحكة والمغامرات الكارثية التي استدعت تدخل الشرطة في بعض الأحيان. دائما ما كانت مرتبطة بالثمل. ذات مرة، تقيأ شخص ثمل خارج نافذة السيارة، ولما كان الشراب الذي تناوله بغيضا للغاية أتلف طلاء السيارة من الجانب. لم تكن ريا تعرف من أطراف هذه القصة سوى وين، أما الفتيات، فكانت أسماؤهن تطرأ بين الحين والآخر، وحينئذ ربما تضطر إلى مقاطعته. رأت ريا بيلي دود أثناء عودته إلى المنزل من الكلية على مدار سنوات، بصحبة فتيات، فتنت للغاية بمظهرهن أو ملابسهن، أو بأناقتهن أو سلوكياتهن الرقيقة، والآن اضطرت إلى سؤاله ما إذا كانت كلير هي الفتاة التي ارتدت قبعة صغيرة بغطاء على الوجه وقفازا أرجوانيا في الكنيسة، كما سألته عن الفتاة ذات الشعر الأحمر الطويل والمعطف الوبري، والأخرى التي كانت مرتدية الحذاء المخملي بجزئه العلوي المصنوع من الفراء.
عادة، لم يستطع بيلي أن يتذكر، وإذا استطرد بالفعل في إخبارها بالمزيد عن أولئك الفتيات، فربما قال أشياء لا تنطوي على شيء من المجاملة.
عندما يوقفان السيارة، بل أحيانا أثناء قيادة السيارة، يلف بيلي ذراعه حول كتفي ريا، ويضمها بقوة كأنه يقطع لها وعدا. كان يقطع لها وعودا أيضا أثناء رقصهما معا. لم يأنف أن يحك أنفه بوجنتيها، أو يطبع سيلا من القبلات على شعرها. كانت قبلاته لها بالسيارة أسرع، فسرعتها وإيقاعها، والأصوات الصغيرة التي يمكن أن تتخللها أظهرت لها أن تلك القبلات غير جدية، أو غير جدية جزئيا. يربت بأصابعه عليها، فوق ركبتيها، وأعلى نهديها مباشرة، ويهمس بكلمات ثناء ثم يوبخ نفسه، أو يوبخ ريا قائلا إنه كان عليه إخفاء مشاعره عنها.
يقول: «يا لك من شريرة!» يضغط بشفتيه بقوة على شفتيها كما لو أن مهمته هي إبقاء فمهما مغلقا.
قال: «كيف أغويتني؟» بصوت ليس كصوته، صوت ممثل سينمائي معسول اللسان ومتذلل، ويدخل يده بخفة بين ساقيها، ويتحسس جسدها فوق الجورب الطويل، ثم يثب ويضحك كما لو أن ذلك الجزء كان ساخنا للغاية أو باردا للغاية.
قال: «ترى إلى متى سيمكث وين هناك؟»
كانت القاعدة أنه بعد برهة من الوقت يطلق هو أو وين بوق السيارة، وبعدها يتعين على الآخر الرد عليه. هذه اللعبة - لم تدرك ريا أنها كانت سباقا بينهما، أو أي نوع من السباق كان على أية حال - أخذت في نهاية المطاف تستحوذ على اهتمامه أكثر وأكثر. يقول لها وهو يحدق في الظلام في السيارة المعتمة لوين: «ما رأيك؟ ما رأيك؛ هل أطلق البوق لذلك الفتى؟»
أثناء العودة بالسيارة إلى كارستيرز أو الحانة، تشعر ريا برغبة في البكاء، بلا سبب، وتشعر بأن ذراعيها وساقيها كما لو أن أسمنتا صب فوقها؛ فلو كانت تركت وحدها فإنها كانت ستستغرق - على الأرجح - في النوم، لكن لم يكن بوسعها أن تبقى بمفردها؛ لأن لوسيل كانت تخشى الظلام، وعندما يدخل بيلي ووين إلى حانة مانك تضطر إلى البقاء برفقة لوسيل.
كانت لوسيل فتاة نحيفة وشقراء، بشهية يصعب إرضاؤها، وطمث غير منتظم، وبشرة حساسة. أعجبت بتقلبات جسدها وتعاملت معه كما لو أنه حيوان مدلل مزعج لكنه ثمين. كانت تحمل معها دوما زيت أطفال في حقيبتها وتربت به فوق وجهها، الذي كان من الممكن أن يصير خشنا، منذ فترة طويلة؛ بسبب شعر لحية وين؛ لذا انبعثت من السيارة رائحة زيت الأطفال وثمة رائحة أخرى ، كانت تبدو كرائحة عجين الخبز.
قالت لوسيل: «سأجعله يحلق لحيته بمجرد أن نتزوج، أو قبل الزواج مباشرة.»
أخبر بيلي دود ريا أن وين أخبره بأنه معجب بلوسيل طوال الوقت، وأنه سيتزوجها؛ لأنها ستكون زوجة صالحة. قال إنها لم تكن أجمل فتاة في العالم، ومن المؤكد أنها لم تكن أشدهن ذكاء؛ ولهذا السبب سينعم بالطمأنينة دائما في الزواج. لن تكون لديها قدرة كبيرة على الجدال، ولم تكن معتادة على أن يكون معها الكثير من المال.
قال بيلي: «ربما يرى بعض الناس أنه يسلك نهجا ساخرا، لكن ربما يعتبره البعض الآخر نهجا واقعيا. لا بد أن يكون ابن القس واقعيا، لا بد أن يشق طريقه لنفسه في الحياة. على أية حال، وين لن يتغير.» «وين لن يتغير.» رددها بيلي بحبور كبير.
ذات مرة، استخبرت لوسيل ريا: «ماذا عنك؟ أتعتادين على الأمر؟»
قالت ريا: «أوه! أجل.» «يقولون إن الأمر يكون أفضل في حال عدم ارتداء قفاز. أظن أنني سأكتشف ذلك بمجرد أن أتزوج.»
شعرت ريا بالحرج الشديد؛ مما منعها من الإقرار بأنها لم تفهم على الفور ما كانتا تتحدثان عنه.
قالت لوسيل إنها عندما تتزوج ستستخدم الإسفنجات والجيلاتين. ظنت ريا أن هذا يبدو كالحلوى، لكنها لم تضحك؛ فقد علمت أن لوسيل ستعتبر مزاحها إهانة. بدأت لوسيل في الحديث عن الصراع الدائر حول زواجها، حول ما إذا كانت وصيفات العروس سترتدين قبعات عريضة أم أكاليل الزهور. أرادت لوسيل أن يضعن أكاليل الزهور، وظنت أن الأمر حسم، بعد ذلك حصلت شقيقة وين على تصفيفة شعر ثابتة تبين أنها قبيحة للغاية، وأرادت الآن ارتداء قبعة لإخفاء شعرها. «ليست صديقتي حتى. ستحضر العرس فقط لأنها شقيقة وين، ولا أستطيع استبعادها. إنها أنانية.»
أصابت أنانية شقيقة وين لوسيل بالبثور.
فتحت ريا ولوسيل زجاج السيارة لاستنشاق الهواء. بالخارج خيم الظلام وسمع صوت النهر البعيد عن مرمى البصر، وهو في أدنى انحسار له، بين الصخور البيضاء الضخمة، والضفادع وصراصير الليل تغني، والطرق الموحلة تلمع على نحو خافت في امتدادها في الظلام، والمدرج المسقوف المتهدم في أراضي المعارض القديمة بارز كبرج متداع. أدركت ريا أن كل هذا يحيط بها، لكنها لم تستطع أن تعيره انتباهها؛ منعها من ذلك حديث لوسيل، وكذلك قبعات العرس. كانت فتاة محظوظة؛ فقد اختارها بيلي دود، كما أسرت إليها فتاة مخطوبة، وأن حياتها لربما تتحول إلى أفضل مما تنبأ به أي شخص، لكن في أوقات كهذه تشعر بأنها معزولة وحائرة، كما لو أنها أضاعت شيئا بدلا من أن تكسب شيئا. كان حالها كما لو أنها نفيت. من أين؟ •••
لوح وين بيده لها في الجهة المقابلة من الحجرة، في إشارة تعني هل تشعرين بالظمأ؟ أحضر لها زجاجة أخرى من الكوكاكولا وانزلق بجانبها على الأرض، قال: «اجلسي قبل أن أسقط على الأرض.»
فهمت من الرشفة الأولى، أو ربما من الرائحة الأولى، أو ربما قبل ذلك، أن ثمة شيئا آخر في شرابها بخلاف الكوكاكولا. فكرت ألا تحتسيه كله، أو حتى نصفه. ستشرب القليل منه فحسب بين الحين والآخر؛ لتثبت لوين أنه لم يتسبب في حيرتها.
قال وين: «هل كل شيء على ما يرام؟ أهذا النوع الذي تحبينه؟»
قالت ريا: «لا بأس، أحب كل أنواع المشروبات.» «كل الأنواع؟ هذا رائع. يبدو أنك الفتاة المناسبة لبيلي دود.»
قالت ريا: «هل يشرب كثيرا؟ بيلي؟»
قال وين: «عليك صياغتها بهذه الطريقة: «هل البابا يهودي؟ كلا. انتظري. هل المسيح كاثوليكي؟» كلا. استمري. لا أرغب في ترك انطباع سيئ لديك، ولا أرغب أيضا أن أكون فاترا تجاه هذا الأمر. هل بيلي يحب الثمل؟ هل هو مدمن على معاقرة الخمر؟ كلا. هل هو أحمق؟ هل هو مدمن على الحمق؟ كلا، لقد أسأت التعبير في هذه أيضا. لقد نسيت مع من أتحدث. معذرة. تجاهلي الأمر. سولي.»
قال كل هذا بصوتين غريبين؛ أحدهما عال على نحو متكلف ورتيب، وآخر أجش وجدي. لم تذكر ريا أنها سمعته يتحدث بهذا القدر من قبل، بأي صوت. عادة ما تولى بيلي الحديث. تفوه وين بكلمة بين الحين والآخر؛ كلمة تافهة بدت مهمة نظرا للنبرة التي يقولها بها، ومع ذلك كانت هذه النبرة فارغة تماما، ومحايدة تماما، وبوجه ما تخلو من أي تعبير. جعل هذا الأمر الناس يشعرون بالتوتر. كان هناك حس بالازدراء مكبوح. رأت ريا بيلي وهو يحاول جاهدا الإطالة في قصته؛ يعدل فيها ويغير وتيرتها؛ كل هذا في سبيل أن يحصل على همهمة التأييد من وين، أو ضحكته التي تعفيه من اللوم.
قال وين: «يجب ألا تستنتجين من كلامي هذا أنني لا أحب بيلي. كلا. كلا. لا أرغب أبدا أن تظني هكذا.»
قالت ريا في رضا: «لكنك لا تحبه، لا تحبه على الإطلاق.» نبع شعورها بالرضا من حقيقة أنها تتجاذب أطراف الحديث مع وين. كانت تنظر إليه في عينيه، لا شيء آخر؛ فقد جعلها تشعر بالتوتر أيضا. كان من أولئك الأشخاص الذين يتركون انطباعا أكثر مما يوحي به حجمهم أو مظهرهم، أو أي شيء آخر يتعلق بهم. لم يكن طويل القامة للغاية، جسده مكتنز؛ ربما كان قصيرا وبدينا في طفولته، ومن الممكن أن يصير قصيرا وبدينا مرة أخرى. كان له وجه مربع شاحب إلى حد ما، فيما عدا الآثار المائلة إلى الزرقة للحيته التي آلمت لوسيل. كان شعره الأسود مستويا وجميلا للغاية، وكثيرا ما كان يرسو فوق جبهته.
قال في دهشة: «لا أحبه؟ لا أحبه؟ كيف ذلك؟ كيف ذلك وبيلي شخص لطيف للغاية؟ انظري إليه هناك يحتسي الخمر ويلعب الورق مع أشخاص عاديين. ألا ترينه لطيفا؟ أم هل تعتقدين أنه من الغريب بعض الشيء أن يكون الشخص لطيفا طوال الوقت؟ طوال الوقت. ثمة مرة واحدة فقط رأيته فيها يقترف خطأ؛ وهذا عندما تضطرينه إلى الحديث عن إحدى حبيباته السابقات. لا تخبريني أنك لم تلحظي ذلك.»
وضع يده فوق ساق الكرسي الذي تجلس عليه ريا. أخذ يهزها.
ضحكت ريا وهي تشعر بالدوار من جراء الاهتزاز، أو ربما لأنه أصاب الحقيقة. وفقا لما قاله بيلي، كانت الفتاة التي ترتدي قبعة بغطاء على الوجه والقفاز الأرجواني تفوح من فمها رائحة يشوبها دخان السجائر، والفتاة الأخرى تتحدث بلغة وضيعة عندما تثمل، وثمة فتاة ثالثة مصابة بمرض جلدي - فطريات - تحت ذراعيها. أخبر بيلي ريا كل هذه الأشياء وهو يشعر بالأسف، لكن عندما أخبرها بأمر الفطريات أخذ يضحك. ضحك على مضض، وفي رضا يشوبه الشعور بالذنب.
قال وين: «إنه ينتقد حقا أولئك الفتيات المسكينات بشدة.» «ساقها مكسوة بالشعر، رائحة فمها كريهة؛ ألا يشعرك هذا أبدا بالانزعاج؟ من جانب آخر، أنت جميلة ونظيفة للغاية. من المؤكد أنك تزيلين الشعر عن ساقيك كل ليلة.» ثم مرر يده فوق ساقها، التي كانت - لحسن الحظ - قد أزالت منها الشعر قبل الذهاب إلى الحفل الراقص. «أم تضعين ذلك الشيء على ساقك، الذي يزيل الشعر؟ ماذا يدعى ذلك الشيء؟»
قالت ريا: «نيت.» «نيت! أهذا اسمه؟ أليست له رائحة سيئة نوعا ما؟ رائحة عفنة قليلا أو كالخميرة، أو شيء من هذا القبيل؟ الخميرة. أليس هناك شيء آخر تضعه الفتيات؟ هل أسبب لك الحرج؟ يجب أن أتحلى بالتهذيب وأحضر لك مشروبا آخر. إذا استطعت الوقوف والسير، فسأحضر لك مشروبا آخر.»
قال عن مشروب الكوكاكولا الآخر الذي أحضره لها: «هذا لا يوجد به أي ويسكي على الإطلاق. لن يؤذيك هذا.» ظنت أن الجملة الأولى كانت كذبة على الأرجح، لكن الثانية صادقة بالتأكيد. لا شيء يمكن أن يؤذيها، ولا شيء يمكن أن يؤثر فيها. لم تكن تعتقد أن وين كانت لديه أي نوايا حسنة، ومع ذلك كانت تمضي وقتا طيبا؛ كل ما كان ينتابها من شعور بالحيرة والارتباك عندما تكون برفقة بيلي انطمس. شعرت برغبة في الضحك على كل شيء يقوله وين، أو تقوله هي؛ شعرت بالطمأنينة.
قالت: «هذا منزل مسل.»
قال وين: «ما الغريب به؟ فقط ما الغريب بهذا المنزل؟ أنت الشخص الغريب.»
نظرت ريا إلى رأسه الأسود المتأرجح وضحكت؛ لأنه ذكرها بكلب رأته قبل ذلك. كان شخصا ذكيا لكنه اتسم بشيء من العناد الأقرب إلى الحماقة. ظهر عناد مشابه لعناد ذلك الكلب، وكذلك شيء من الأسى في الطريقة التي أخذ يصدم بها وين رأسه بركبتها الآن ، ثم في هزها إلى الخلف ليزيح الشعر الأسود بعيدا عن عينيه.
شرحت له - مع كثير من المقاطعات ضحكت خلالها من إمكانية الشرح نفسها - أن الغريب بهذا المنزل هو الستار المعدني في زاوية الحجرة. قالت إنها تظن أن هناك مصعدا خلفه يصعد من القبو وإليه.
قال وين: «بمقدورنا الجثوم فوق الحافة. أترغبين في تجربة ذلك؟ بإمكاننا أن نطلب من بيلي إرخاء الحبل.»
نظرت مرة أخرى إلى قميص بيلي الأبيض. بحسب اعتقادها، لم يستدر بيلي للنظر إليها منذ أن جلس. جلس وين أمامها مباشرة الآن، بحيث إذا استدار بيلي لا يتمكن من رؤية حذائها وقد خلعته ليتدلى من أحد أصابعها، بينما ينقر وين بأصابعه فوق باطن قدمها. قالت إنها تحتاج إلى الذهاب إلى المرحاض أولا.
قال وين: «سأرافقك.»
أمسك بساقيها كي يساعد نفسه على الوقوف، قالت ريا: «أنت ثمل.» «لست أنا الثمل وحدي.»
كان الحمام بمنزل مانك يقع في نهاية الردهة الخلفية. امتلأ حوض الاستحمام بصناديق الجعة؛ لا لتبريدها، بل لتخزينها فقط. كان صندوق الطرد يعمل على نحو جيد، خشيت ريا أن يكون معطلا؛ فقد بدا أنه كان كذلك مع الشخص الأخير الذي كان بالحمام.
نظرت إلى وجهها بالمرآة التي تعلو الحوض وتحدثت إلى نفسها في تهور واستحسان، قالت: «دعيه يفعل. دعيه يفعل.» أطفأت نور الحمام وخطت نحو الردهة المظلمة. أمسكت بها أيد على الفور، ووجهتها ودفعتها خارج الباب الخلفي، وعند جدار المنزل، أخذت هي ووين يتدافعان، ويمسك أحدهما الآخر، ويقبل أحدهما الآخر. أحست نفسها في ذلك الوقت أنها تبسط وتطوى، وتبسط وتطوى كآلة الأكورديون. شعرت أنها تتلقى تحذيرا ما أيضا؛ شيئا بعيدا لا علاقة له بما تفعله هي ووين، شيئا يندفع وينخر، داخلها أو خارجها، محاولا لفت الانتباه إليه.
كان كلب آل مانك قد حضر وأخذ يحك أنفه بينهما. عرف وين اسمه.
صاح به: «انزل يا روري! انزل يا روري!» بينما كان يجتذب بطانة ثوب ريا.
جاء التحذير من معدتها، التي ضغطت بقوة بالجدار. فتح الباب الخلفي، وتفوه وين بشيء ما بوضوح في أذنيها - لم تعرف قط أي من هذا حدث أولا - وفجأة تحررت من قبضته وبدأت في التقيؤ. لم تكن تنوي التقيؤ حتى شرعت في ذلك، ثم جثمت على يديها وركبتيها وتقيأت حتى شعرت بمعدتها تعتصر كقطعة قماش عفنة مهترئة. عندما انتهت، أخذت ترتعد كما لو أنها أصيبت بحمى، وابتل ثوبها والبطانة حيث تناثر القيء.
جذبها شخص آخر - ليس وين - لأعلى ومسح وجهها بحافة الثوب.
قالت السيدة مانك: «اغلقي فمك وتنفسي من أنفك.» ثم قالت لوين أو لروري: «اخرجا من هنا.» أعطتهما جميعا الأوامر بنبرة الصوت نفسها؛ نبرة تخلو من تعاطف أو لوم. جذبت السيدة مانك ريا من المنزل إلى شاحنة زوجها، ورفعتها جزئيا داخلها.
قالت ريا: «بيلي.»
فأجابتها السيدة مانك: «سأخبر صديقك بيلي، سأخبره بأنك شعرت بالتعب. لا تحاولي التحدث.»
قالت ريا: «لقد انتهيت من التقيؤ.»
قالت السيدة مانك: «لا يمكن التأكد من ذلك.» ورجعت بالشاحنة إلى الطريق. قادت الشاحنة بريا إلى أعلى التل، ثم إلى فناء منزلها دون أن تنطق بكلمة أخرى. عندما استدارت بالشاحنة وتوقفت، قالت: «انتبهي عند الخروج؛ فالشاحنة أعلى من السيارة.»
دفعت ريا بنفسها إلى داخل المنزل، ودخلت إلى الحمام دون أن تغلق الباب، وخلعت حذاءها في المطبخ، ثم صعدت الدرج. خلعت ثوبها والبطانة، ودفعت بهما بعيدا أسفل السرير. •••
استيقظ والد ريا مبكرا لجمع البيض والاستعداد للذهاب إلى هاميلتون، كما يفعل يوم الأحد كل أسبوعين. ذهب الأولاد معه؛ استطاعوا أن يركبوا على ظهر الشاحنة. لم تذهب ريا؛ لأنه لم يكن يوجد لها متسع في المقعد الأمامي. أقل أبوها معه السيدة كوري، التي كان زوجها يرقد بالمستشفى نفسه الذي ترقد به والدة ريا. عندما كان يصطحب السيدة كوري معه، دائما ما كان يرتدي قميصا ورابطة عنق؛ لأنه من الممكن أن يمروا بمطعم في طريق عودتهم إلى المنزل.
اتجه إلى غرفة ريا وطرق الباب كي يخبرها بخروجهم قائلا: «إن شعرت بالملل، يمكنك تنظيف البيض الموجود فوق الطاولة.»
سار إلى مقدمة الدرج ثم عاد. صاح عند بابها: «احتسي المزيد والمزيد من الماء.»
أرادت ريا أن تصرخ في وجههم جميعا كي يخرجوا من المنزل. كانت لديها أشياء تود تدبرها؛ أشياء داخل رأسها لا تستطيع إطلاق العنان لها نظرا لما تمثله حقيقة وجود أشخاص بالمنزل من ضغط عليها. وهذا ما كان يسبب لها الشعور بمثل هذا الصداع. بعد أن سمعت صوت الشاحنة يخبو على امتداد الطريق، نهضت من فراشها بحذر، ونزلت الدرج بحرص، وابتلعت ثلاثة أقراص من الأسبرين، واحتست أكبر قدر مستطاع من الماء، ثم عايرت القهوة داخل الإبريق دون أن تنظر إلى الأسفل.
كان البيض فوق الطاولة في سلال سعتها ستة أرباع جالون. كان البيض ملطخا بفضلات الدجاج وثمة أجزاء من القش عالقة به، في انتظار أن ينظف بألياف سلكية.
أي أشياء؟ الكلمات في المقام الأول؛ الكلمات التي أخبرها وين بها في اللحظة التي خرجت بها السيدة مانك من الباب الخلفي. «كنت لأود ممارسة الجنس معك لو لم تكوني دميمة هكذا.»
ارتدت ثيابها، وعندما أضحت القهوة جاهزة، سكبت فنجانا وخرجت من المنزل إلى الشرفة الجانبية، التي كانت غارقة في ظل الصباح العميق. بدأ مفعول الأقراص يعمل، وبدلا من شعورها بالصداع شعرت بمساحة في رأسها؛ مساحة واضحة غير مستقرة محاطة بأصوات خافتة.
لم تكن دميمة. عرفت أنها لم تكن دميمة. كيف للمرء أن يثق في أنه ليس دميما؟
لكن إن كانت دميمة، فهل كان سيواعدها بيلي دود في المقام الأول؟ تباهى بيلي دود بدماثة خلقه، لكن وين كان ثملا للغاية حين قال ذلك، والمخمورون يقولون الصدق.
من حسن الحظ أنها لم تذهب لزيارة أمها ذلك اليوم؛ فإذا نجحت أمها في استدراج ريا لمعرفة ما بها - ولم تكن ريا لتتأكد أبدا من أنها لن تستدرج - فسترغب والدتها إذن في إنزال العقاب بوين. من الممكن أن تتصل بوالد وين؛ القس. كانت ستزعجها عبارة «ممارسة الجنس» أكثر من إزعاج كلمة «دميمة». لن تفهم بيت القصيد.
ستكون ردة فعل والد ريا أكثر تعقيدا؛ فسيلوم بيلي على اصطحاب ابنته إلى مكان مثل منزل آل مانك ، الذين هم أصدقاء بيلي بدرجة ما أو بأخرى. ستغضبه عبارة «ممارسة الجنس»، لكنه سيشعر بالخزي من ريا حقا؛ سيشعر بالخزي منها إلى الأبد؛ لأن رجلا دعاها بالدميمة.
يجب ألا يسمح المرء لوالديه بالاقتراب من مواقف الإذلال الحقيقية له مطلقا.
علمت أنها ليست دميمة. كيف يتسنى لها التأكد من أنها ليست دميمة؟
لم تفكر في بيلي أو وين، أو ما قد يعنيه هذا بينهما. لم تكن معنية بالتفكير في الآخرين حتى هذه اللحظة، بل فكرت بالفعل في أن وين عندما تفوه بتلك الكلمات استخدم نبرة صوته الحقيقية.
لم ترغب في العودة إلى داخل المنزل حتى لا تضطر إلى النظر إلى سلال ممتلئة ببيض قذر. بدأت في السير في ممر المنزل، تجفل في ضوء الشمس، تنكس رأسها بين بقعة ظل وأخرى. كانت كل شجرة مختلفة هناك، وكل واحدة منها كانت معلما بارزا عندما اعتادت سؤال أمها عن المسافة التي ستقطعها لملاقاة أبيها، عند مجيئه إلى المنزل عائدا من البلدة، حتى شجرة الزعرور البري، فكانت أمها تخبرها بأنها ستقطع المسافة إلى شجرة الزان أو شجرة القيقب. كان أبوها يتوقف ويسمح لها بالصعود فوق المرقاة.
سمعت ريا صوت بوق سيارة على الطريق؛ أهو شخص يعرفها، أم فقط رجل يمر بسيارته؟ أرادت التواري عن الأنظار؛ لذا عبرت الحقل الذي التقط منه الدجاج ما به من حبوب وأصبح زلقا من جراء فضلاتها. عند إحدى الأشجار بالجانب البعيد من الحقل، بنى أشقاؤها بيتا على الشجرة؛ كان عبارة عن منصة ليس إلا، بألواح خشبية مثبتة بمسامير بجذع الشجرة لتسلقها. صعدت ريا فوق الألواح الخشبية حيث تسلقت إلى أعلى الشجرة وجلست فوق المنصة الخشبية. وجدت أن أشقاءها صنعوا نوافذ في الأغصان المورقة، بغرض التجسس. تمكنت من رؤية الطريق بالأسفل، ورأت في الحال بضع سيارات تقل أطفال الريف إلى البلدة لحضور مدرسة الأحد باكرا بالكنيسة المعمدانية. لم يتمكن الأشخاص بالسيارات من رؤيتها. لن يتمكن بيلي أو وين من رؤيتها، إذا حضرا دون موعد للبحث عنها بتفسيرات أو اتهامات أو اعتذارات .
في اتجاه آخر، استطاعت رؤية وميض النهر وجزء من أرض المعارض القديمة. كذلك كان من اليسير تبين مسار مضمار السباق، بين الحشائش الطويلة، من هنا.
رأت شخصا يسير على قدميه، يتتبع مضمار السباق. كانت يوني مورجان، وكانت ترتدي منامة. سارت بمحاذاة مضمار السباق، مرتدية منامة فاتحة اللون، ربما لونها وردي فاتح، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحا. تتبعت المضمار حتى انحرافه، وذهبت إلى حيث كان مسار ضفة النهر، وتوارت بين الأدغال.
يوني مورجان بشعرها الأبيض الأشعث، شعرها ومنامتها تنعكس عليهما أشعة الشمس، كملاك له ريش، لكنها كانت تسير بطريقتها المعتادة الخرقاء والواثقة؛ إذ كان رأسها مندفعا إلى الأمام، وذراعاها يتأرجحان بحرية. لم تدر ريا ما يمكن أن تفعله يوني هناك، لم تدر أي شيء حول اختفاء يوني. بدت رؤية يوني غريبة وطبيعية لها على حد سواء.
تذكرت كيف أنها في أيام الصيف الحارة اعتادت النظر إلى شعر يوني على أنه يشبه كرة ثلج، أو كخيوط ثلج مدخرة من فصل الشتاء، وكانت تود أن تغرس وجهها به؛ كي يبرد جسدها.
تذكرت الثوم والحشائش الساخنة وإحساس الفزع، عندما كانتا تتحولان إلى توم وتوم. •••
عادت إلى المنزل واتصلت بوين؛ ركنت إلى أنه في المنزل وبقية أفراد عائلته في الكنيسة.
قالت: «أود سؤالك في أمر ما وليس على الهاتف. ذهب أبي وأشقائي إلى هاميلتون.»
عندما وصل وين إلى هناك، كانت بالشرفة تنظف البيض، قالت: «أود أن أعرف ما كنت تقصده؟»
قال وين: «بماذا؟»
نظرت ريا إليه واستمرت في التحديق وهي تحمل بيضة في يد، وقطعة من السلك المعدني في اليد الأخرى. وضع وين قدما واحدة فوق الدرجة الأولى من السلم، ويده فوق الحاجز. أراد الصعود للهروب من أشعة الشمس، لكنها أعاقت طريقه.
قال وين: «كنت ثملا، لست دميمة.»
قالت ريا: «أعلم أنني لست دميمة.» «أشعر بالاستياء الشديد.» «ليس من أجل ذلك.» «كنت مخمورا، وكانت مزحة.»
قالت ريا: «أنت لا ترغب في الزواج منها؛ أعني لوسيل.»
اتكأ فوق حاجز السلم. ظنت ريا أنه ربما يشعر بالإعياء، لكنه تجلد وتصنع رفع حاجبيه وابتسامته المحبطة. «حقا؟ بربك؟ إذن بماذا تنصحينني؟»
ردت ريا كما لو أنه سألها بجدية تامة: «اكتب رسالة، استقل سيارتك واتجه إلى كالجاري.» «ببساطة هكذا.» «إن شئت، فسأركب معك إلى تورونتو. بإمكانك توصيلي، وسأمكث في جمعية الشبان المسيحيين حتى أعثر على وظيفة.»
هذا ما عزمت على فعله، لطالما أقسمت أن هذا ما عزمت على فعله. شعرت برغبة أكبر في الحرية الآن، وشعرت بدهشة من نفسها أكثر مما شعرت به في الليلة الماضية عندما كانت ثملة. ذكرت هذه الاقتراحات كما لو أنها أيسر الأشياء في هذا العالم. سيستغرق الأمر أياما - ربما أسابيع - حتى تدرك الأمر برمته؛ كل ما قالته وفعلته.
قال وين: «هل نظرت إلى خريطة من قبل؟ نحن لا نمر بتورونتو في طريقنا إلى كالجاري. علينا عبور الحدود عند سارنيا، ثم الاتجاه شمالا عبر الولايات إلى وينيبيج، ثم إلى كالجاري.» «إذن سأنزل في وينيبيج. هذا أفضل.»
قال وين: «سؤال واحد؛ هل خضعت مؤخرا لاختبار السلامة العقلية؟»
لم تهتز ريا أو تبتسم، قالت: «كلا.» •••
كانت يوني في طريقها إلى المنزل عندما رأتها ريا. اندهشت يوني عندما وجدت مسار ضفة النهر ليس خاليا، كما كانت تتوقع، بل نما به نبات العليق. عندما اندفعت نحو فناء منزلها، كان على ذراعيها وجبهتها خدوش وآثار دماء، وكان فتات أوراق الشجر بشعرها. كان جانبا من وجهها متسخا؛ نتيجة لدفعه بالأرض.
وجدت بالمطبخ أمها وأباها وعمتها موريل مارتن، ونورمان كومز؛ قائد الشرطة، وبيلي دود. بعد أن اتصلت أمها بالعمة موريل، تحرك أبوها وقال إنه سيتصل بالسيد دود؛ فقد عمل في مصنع آل دود في صغره، ويذكر كيف أن السيد دود؛ والد بيلي، كان يستدعى دوما في حالات الطوارئ.
قالت والدة يوني: «لقد مات. ماذا إذا ردت هي على الهاتف؟» (كانت تقصد السيدة دود، التي كانت سريعة الغضب.) لكن والد يوني اتصل على أية حال وأجابه بيلي دود. لم يكن بيلي قد أوى إلى فراشه بعد.
اتصلت العمة موريل مارتن، عندما وصلت إلى هناك، بقائد الشرطة. قال إنه سيأتي إليهم بمجرد أن يرتدي ملابسه ويتناول إفطاره؛ استغرق ذلك منه وقتا طويلا. مقت أي شيء يثير الحيرة أو الإزعاج؛ أي شيء ربما يجبره على اتخاذ قرارات قد تنتقد فيما بعد، أو ينتج عنها أن يبدو كالحمقى. من بين جميع الأشخاص المنتظرين في المطبخ، ربما كان قائد الشرطة الأسعد بينهم لدى رؤية يوني عائدة إلى المنزل سالمة، والأسعد بسماع قصتها. كان الأمر خارج نطاق اختصاصه تماما؛ فليس ثمة شيء لتتبعه، أو شخص لإدانته.
قالت يوني إن ثلاثة أطفال جاءوا إليها، في فناء منزلها، في منتصف الليل؛ قالوا إن ثمة شيئا يرغبون في عرضه عليها. سألتهم عما يكون وماذا يفعلون هناك في ساعة متأخرة من الليل. لا تذكر ما أجابوها به.
وجدت نفسها مصحوبة إلى هناك، دون أن تقول حتى إنها ستذهب معهم. أخرجوها من المنزل من الفجوة الموجودة بالسياج في زاوية الفناء ومضوا بمحاذاة مسار ضفة النهر. غلبتها الدهشة لدى رؤية المسار خاليا على نحو رائع؛ إذ لم تسلك ذلك المسار منذ أعوام.
اصطحبها صبيان وفتاة، بدت أعمارهم تتراوح بين العاشرة والحادية عشرة، وارتدوا جميعا الزي نفسه؛ زيا واقيا من الشمس مصنوعا من قماش قطني مخطط، وسترة عند الصدر، وأحزمة حول الكتف. كانت الثياب جميعها جديدة ونظيفة كما لو أنها كويت توا، وكان شعرهم بنيا فاتحا ومستقيما ولامعا. كان ثلاثتهم أكثر الأطفال نظافة وتهذيبا وجمالا للغاية. لكن كيف تسنى لها معرفة لون شعرهم، وأن ثيابهم كانت مصنوعة من القماش القطني المخطط؟ فعندما خرجت من المنزل، لم تأخذ معها المصباح؛ لا بد أنهم جلبوا معهم شيئا من قبيل الضوء. هذا ما ترسخ لديها من انطباع، لكنها لم تستطع تحديد مصدر ذلك.
أخذوها على امتداد مسار النهر، ومنه إلى أرض المعارض القديمة، ثم أخذوها إلى خيمتهم، لكن بدا لها أنها لم تر قط تلك الخيمة من الخارج؛ فقد أصبحت فجأة داخلها، ورأت أنها خيمة بيضاء، مرتفعة للغاية، وتهتز كشراع سفينة، وكذلك كانت مضاءة. ومجددا لم تعرف من أين أتى ذلك الضوء. بدا جزء معين من هذه الخيمة أو البناية، أو أيا كانت، مصنوعا من الزجاج. فعلا! زجاج أخضر فاتح للغاية، كما لو أن ألواحا منه انزلقت بين الشراع. ربما كانت الأرض زجاجية أيضا؛ لأنها سارت بقدم عارية فوق شيء بارد وأملس، ليس عشبيا على الإطلاق، وبالتأكيد غير مفروش بالحصى.
فيما بعد، ظهر بالصحف رسم، أو فكرة فنان، عن شيء يشبه سفينة شراعية داخل صحن طائر، لكن لم تدعوه يوني بالصحن الطائر، أو على الأقل عندما تحدثت عن الأمر بعدما حدث مباشرة. كذلك لم تذكر أي شيء حول ما نشر فيما بعد، في كتاب عن مثل هذه القصص، فيما يتعلق بأسر جسدها وفحصه، وأخذ عينة من دمائها والسوائل بجسدها، واحتمال أن بويضة سرية أخذت منها وأرسلت بعيدا، وقد تم تلقيحها في مكان خارج الأرض، وأنه حدث تزاوج دقيق أو مفاجئ، يتعذر وصفه على أية حال، أدى إلى وضع جينات يوني داخل مجرى الحياة الخاص بالغزاة.
أجلسوها فوق مقعد لم تتبينه؛ لم تستطع تحديد ما إذا كان كرسيا عاديا أم عرشا ملكيا، وبدأ أولئك الأطفال في نسج غطاء حولها. كان يشبه الناموسية أو شيئا من هذا القبيل؛ رقيقا لكن قويا. استمر ثلاثتهم في الحركة، يلفون ذلك الشيء أو ينسجونه حولها دون أن يصطدم بعضهم ببعض قط. في ذلك الوقت كانت قد تجاوزت مرحلة طرح الأسئلة؛ أسئلة من قبيل: «ماذا تخالون أنكم فاعلون؟» و«كيف وصلتم إلى هنا؟» و«أين الكبار؟» تسللت بعيدا إلى مكان لا تستطيع وصفه. ربما أخذت تغني أو تدندن، في رأسها، بشيء يهدئ من روعها ويبعث على السرور، ولا بد أن كل شيء بدا طبيعيا تماما بحيث لا ترغب في الاستفسار عن أي شيء؛ كأن تقول: «ماذا يفعل إبريق الشاي هذا هنا؟» في مطبخ عادي.
عندما استيقظت لم تجد شيئا حولها، ولا شيء فوقها. كانت ترقد في أشعة الشمس الحارة، في ساعة مبكرة من الصباح، فوق أرض المعارض الصلبة. •••
قال بيلي دود عدة مرات: «رائع.» فيما كان يراقب يوني ويستمع إليها. لم يعلم أحد ماذا يقصد تحديدا بذلك. انبعثت منه رائحة الجعة، لكنه بدا واعيا ومنتبها للغاية، بل أكثر من منتبه، ربما كان مفتونا. على ما يبدو أن رؤى يوني الرائعة، ووجها المتسخ المتورد، ونبرة صوتها المتعجرفة قليلا، منحت بيلي دود منتهى البهجة. ربما كان يردد في نفسه: يا لها من راحة! يا له من فضل أن يجد في العالم وبالقرب منه هذا المخلوق الهادئ والغريب! «رائع!»
من الممكن أن ينبثق الحب - أو قل نمط الحب الذي يفضله بيلي - لتلبية احتياج لا تدري يوني أنه لديها.
قالت العمة موريل إنه حان وقت الاتصال بالصحف.
قالت والدة يوني: «ألن يكون بيل بروكتور في الكنيسة؟»
قالت العمة موريل: «يمكن أن ينتظر بيل بروكتور. أنا أتصل بصحيفة «فري بريس» اللندنية!»
اتصلت العمة موريل بالصحيفة، لكنها لم تتمكن من التحدث إلى الشخص المناسب، بل تحدثت إلى الحارس؛ ربما لأنه كان يوم الأحد. قالت: «سيندمون! سأتجاوزهم وأتحدث مع صحيفة تورونتو «ستار» مباشرة!»
تولت العمة موريل أمر القصة؛ سمحت لها يوني بذلك. بدت يوني راضية. عندما انتهت من إخبارهم بالقصة، جلست يعلو وجهها تعبير رضا غير مبال. لم يتبادر إلى ذهنها أن تطلب من أي أحد أن يتولى أمرها، ويحاول حمايتها، ويوليها الاحترام والحنان خلال ما ينتظرها أيا كان، لكن بيلي دود كان قد قرر بالفعل أن يفعل ذلك. •••
حظيت يوني ببعض الشهرة لبرهة من الوقت. حضر الصحفيون، وحضر كذلك كاتب، والتقط مصور فوتوغرافي صورا لأرض المعارض، ولا سيما مضمار السباق، الذي كان من المفترض أنه الأثر الذي خلفته السفينة الفضائية. كذلك التقطت صورة للمدرج المسقوف، وقيل إنه هدم أثناء هبوط السفينة الفضائية.
وصل الاهتمام بهذا النمط من القصص ذروته منذ سنوات مضت، ثم تضاءل شيئا فشيئا.
قال والد ريا، في خطاب أرسله إلى كالجاري: «من يدري ما حدث بالفعل؟ لكن الشيء الأكيد هو أن يوني مورجان لم تجن سنتا واحدا من هذه القصة.»
كان يكتب خطابا إلى ريا. ما لبث أن وصل وين وريا إلى كالجاري حتى تزوجا. كان يتعين عليهما أن يكونا متزوجين حينئذ حتى يحصلا على شقة معا - في كالجاري على الأقل - وقد اكتشفا أنهما لا يرغبان في العيش بعيدا أحدهما عن الآخر. ساد هذا الشعور بينهما معظم الوقت، على الرغم من أنهما تناقشا في هذا الأمر - العيش منفصلين - أحيانا، وهدد به أحدهما الآخر وحاولا تطبيقه بضع مرات وجيزة.
ترك وين العمل بالصحيفة واتجه إلى العمل في التليفزيون. ربما ظهر على مدى سنوات في نشرة الأخبار المسائية، وأحيانا تحت الأمطار أو الثلوج في بارليامنت هيل يذيع شائعة أو معلومة ما. سافر فيما بعد إلى مدن أجنبية وفعل الأمر نفسه هناك، وبعد ذلك أضحى من الأشخاص الذين يجلسون بالمنزل ويناقشون ما تحمله الأخبار من دلالات، ومن لا يسردون سوى الأكاذيب. (أضحت يوني مولعة بالتليفزيون، لكنها لم تر وين قط؛ وذلك لأنها كرهت أن يتكلم الناس لمجرد الكلام فحسب، ودائما كانت تنتقل على الفور إلى قناة بها حدث جار.) •••
لدى عودة ريا إلى كارستيرز في زيارة وجيزة، وأثناء تجولها في المقابر لتعرف الأشخاص الذين انتقلوا إلى هناك منذ معاينتها الأخيرة، تبينت اسم لوسيل فلاج فوق شاهد قبر، لكن لا بأس، لم تمت لوسيل؛ كان قبر زوجها، وحفرت لوسيل اسمها وتاريخ ميلادها فوق الشاهد بجانب اسمه، مقدما. يفعل الكثير من الناس الأمر نفسه؛ وذلك لأن تكلفة النحت على الأحجار في ازدياد مستمر.
تذكرت ريا قصة القبعات وأكاليل الزهور، وشعرت بحنان تجاه لوسيل لا يمكن أن تبادلها إياه أبدا.
في ذلك الوقت، كانت ريا ووين قد عاشا معا لما يزيد كثيرا على نصف عمرهما. أنجبا ثلاثة من الأبناء، وخلال هذه الفترة دخل كل منهما في علاقات عاطفية كثيرة. الآن، وعلى نحو مفاجئ ومباغت، تقلصت جميع تلك الاضطرابات والنجاحات والتطلع المرتاب النابض بالحياة، وأدركت ريا أنهما بدآ يتقدمان في العمر. وقفت بين المقابر هناك وقالت بصوت عال: «لا أستطيع الاعتياد على الأمر.»
ذهبا في زيارة إلى آل دود، وهم أصدقاء لهما، بطريقة أو بأخرى ، واتجه الزوجان إلى المكان الذي أقيمت فيه المعارض بالماضي.
رددت ريا الشيء نفسه هناك.
اختفت جميع المنازل التي كانت عند النهر؛ منزل آل مورجان، ومنزل آل مانك، اختفت جميع معالم تلك المستعمرة الأولى التي أسيئ التخطيط لها؛ فقد أضحت الأرض الآن سهلا تغمره مياه الفيضان ويتبع هيئة بيرجراين للملاحة النهرية. لم يعد من الممكن بناء شيء هناك. متنزه فسيح، ضفة نهر مشذبة وحضارية، لم يعد ثمة شيء سوى بضع أشجار عتيقة تقف في المكان، لا تزال أوراقها خضراء، لكنها مثقلة بنداوة ذهبية اللون متناثرة يحملها الهواء، في عصر ذلك اليوم من شهر سبتمبر في عام على فترة غير بعيدة عن نهاية القرن.
قالت ريا: «لا أستطيع الاعتياد على الأمر.»
اشتعلت رءوسهم بالشيب الآن؛ الأصدقاء الأربعة جميعهم. كانت ريا امرأة نحيفة مندفعة، أفادتها أساليبها المفعمة بالحياة والمتملقة في تدريس الإنجليزية كلغة ثانية. أما وين، فكان نحيفا أيضا، وله لحية بيضاء جميلة، ودمث الخلق. عندما لا يظهر بالتليفزيون، ربما يذكرك براهب من التبت، وأمام الكاميرا يتحول إلى شخص ساخر، وقاس أيضا.
أما بيلي دود وزوجته فكانا ضخمي البنية، يتمتعان بمظهر وقور وشبابي، وتكسو جسدهما طبقة من شحم صحي.
ابتسم بيلي دود لدى رؤية حماسة ريا، وتطلع حوله في نظرة استحسان شاردة.
قال: «الزمن يمضي.»
ربت على ظهر زوجته العريض، في استجابة لهمهمة خافتة لم يسمعها الآخرون. أخبرها أنهما سيعودان إلى المنزل على الفور؛ فهي لن تفوت مشاهدة البرنامج الذي تتابعه ظهيرة كل يوم. •••
كان والد ريا محقا فيما يتعلق بعدم كسب يوني أي مال من تجاربها، وكان محقا أيضا فيما تنبأ به بشأن بيلي دود؛ فبعد وفاة والدة بيلي، تضاعفت المشكلات وباع بيلي دود كل ما يملك، وأفلس الأشخاص الذين اشتروا المصنع منه بدورهم وأغلق المصنع أبوابه. لم تعد تصنع آلات بيانو في كارستيرز. ذهب بيلي إلى تورونتو وحصل على وظيفة، قال والد ريا إنها ذات صلة بمصابي الفصام أو مدمني المخدرات أو المسيحية.
في واقع الأمر، عمل بيلي في دور إعادة التأهيل ودور السكن الجماعي، وعلم وين وريا بذلك. حافظ بيلي على صداقته بهما، وكذلك حافظ على علاقة صداقة خاصة بيوني؛ فقد وظفها لديه للاعتناء بشقيقته التي تدعى «بي» عندما بدأت في معاقرة الخمر كثيرا؛ مما جعلها غير قادرة على الاعتناء بنفسها (لم يعد بيلي يحتسي الخمر على الإطلاق).
عندما ماتت بي، ورث بيلي المنزل وحوله إلى دار لرعاية كبار السن وذوي الإعاقة ممن لم يبلغوا من العمر أرذله، أو ممن يعانون من إعاقة بالغة تضطرهم إلى ملازمة الفراش. كان غرضه أن يحوله إلى مكان يستطيعون التزود فيه بالراحة والحنان، والقليل من المتعة والترفيه. عاد إلى كارستيرز واستقر هناك لإدارة المكان.
عرض بيلي الزواج على يوني مورجان.
قالت: «أتمنى ألا يعطل زواجنا شيء؛ أي شيء.»
قال بيلي: «أوه، عزيزتي! أوه، عزيزتي! عزيزتي يوني!»
مخربون
1 «عزيزتي ليزا، لم أكتب إليك قط حتى الآن كي أشكرك على الذهاب إلى منزلنا («الموحش» العتيق. أعتقد أنه يستحق لقبه الآن حقا) في خضم العاصفة، أو في أعقابها، في شهر فبراير الماضي، ولإخباري بما وجدت هناك. أشكر زوجك أيضا؛ لأنه اصطحبك إلى هناك فوق عربة الجليد خاصته، كما أشكره أيضا إن كان هو - كما أظن - من سد النافذة المكسورة لمنع دخول الحيوانات الضارية وغيرها إلى المنزل. لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، «ناهيك عن المراهقين». سمعت أنك صرت مسيحية الآن يا ليزا. يا له من خبر سار! هل ولدت من جديد؟ لطالما أحببت الأمر!
عزيزتي ليزا، أعلم أنني أثير ضجرك بهذا، لكنني ما زلت أراك أنت وكيني الصغير المسكين كطفلين جميلين مسفوعين بأشعة الشمس، يتسللان من خلف الشجر لإفزاعي، ويثبان في بركة الماء ويغوصان بها.
لم يتوقع لادنر مطلقا أنه سيموت في الليلة التي سبقت إجراء العملية الجراحية، أو ربما كانت الليلة التي سبقتها، عندما تحدثت إليك عبر الهاتف. لم يكن من الشائع كثيرا هذه الأيام أن يموت الإنسان إبان إجرائه عملية جراحية بسيطة لتحويل مجرى الشريان، وكذلك لم يفكر حقا في كونه عرضة للموت. ساوره القلق فقط حيال أشياء مثل إن كان قد أغلق صنبور المياه أم لا. كان يزداد هوسه بهذا النوع من التفاصيل، وهو الجانب الوحيد الذي أظهر تقدمه في العمر. على الرغم من ذلك، لا أظن أن الاهتمام بمسألة انفجار أنابيب المياه هو اهتمام بالتفاصيل التافهة؛ سيكون ذلك كارثة، لكن الكارثة وقعت على أية حال. توجهت إلى الخارج ذات مرة لأتفقد أنابيب المياه، لكن الغريب أنها بدت عادية تماما لي؛ ففضلا عن وفاة لادنر، بدا إلى حد بعيد أن هذه هي الطريقة الصحيحة التي يجب أن تكون عليها الأمور؛ ما يمكن أن يبدو غير طبيعي بالنسبة إلي هو أن أشرع في العمل وأنظف تلك الفوضى، على الرغم من أنني أظن أنني سأضطر إلى فعل ذلك، أو الاستعانة بشخص ما لذلك. أشعر برغبة في إشعال عود ثقاب وإضرام النيران في كل شيء، لكنني أتصور أنني إذا فعلت ذلك فسأجد نفسي خلف القضبان.
أتمنى إلى حد ما لو أنني أقدمت على إحراق جثة لادنر، لكن هذا الأمر لم يتبادر إلى ذهني. لقد دفن فحسب في قبر آل دود وهو ما تفاجأ به أبي وزوجة أبي، لكن يتعين علي إخبارك الآن أنه منذ بضع ليال راودني حلم! رأيت أنني كنت أقف خلف متجر «كاناديان تاير»، وكانوا قد وضعوا خيمة بلاستيكية ضخمة كما يفعلون عندما يبيعون نباتات تزيين الحدائق في الربيع. ذهبت وفتحت حقيبة سيارتي، كما لو أنني سأحصل على حمولتي السنوية من نبات المريمية والبلسم. وقف أناس آخرون ينتظرون أيضا، في حين كان رجال يرتدون سترات خضراء يتحركون جيئة وذهابا من الخيمة وإليها. تحدثت إلي امرأة: «لا بد أن سبع سنوات مضت سريعا!» بدا أنها تعرفني، لكنني لا أعرفها وفكرت لماذا يحدث هذا دائما؟ أهذا يعود إلى أنني اشتغلت بالتدريس لفترة قصيرة؟ أهذا نتيجة لما يمكن أن تطلقي عليه تأدبا أسلوب حياتي؟
بعد ذلك، اندهشت من دلالة السنوات السبع، وأدركت ما أفعله هناك وما كان الأشخاص الآخرون يفعلون. لقد حضروا لأخذ عظام الموتى، وقد حضرت لأخذ عظام لادنر. في الحلم كانت قد مرت سبع سنوات على دفنه، لكن دار بخلدي السؤال: أليس هذا ما يفعلونه في اليونان أو في بلد آخر؟ لماذا نفعله هنا؟ قلت لبعض الناس: هل غدت المقابر مكتظة؟ لم نتبع هذه العادة؟ أهي عادة وثنية أم مسيحية أم ماذا؟ بدا على الأشخاص الذين تحدثت إليهم التجهم والاستياء إلى حد ما، وفكرت ما الذي قد فعلته لتوي. لقد عشت في هذا المكان طوال حياتي وما زلت أتلقى هذه النظرة! أهذا بسبب كلمة «وثنية»؟! أعطاني رجل كيسا بلاستيكيا أخذته منه بامتنان وحملته، وظني أن بداخله عظام ساق لادنر القوية، وعظام كتفيه العريضتين، وجمجمته الذكية، بعد أن نظفت ولمعت بأداة تنظيف تخفيها الخيمة البلاستيكية دون شك. على ما يبدو أن ذلك كانت له صلة بمسألة أن مشاعري نحوه ومشاعره نحوي قد نقيت، لكن الفكرة كانت أكثر تشويقا وتعقيدا من ذلك. لكنني كنت سعيدة للغاية بأخذ أشيائي، وكان ثمة أناس آخرون يشعرون بالسعادة أيضا. في واقع الأمر، أصبح بعضهم غاية في البهجة حتى إنهم أخذوا يقذفون الأكياس البلاستيكية الخاصة بهم في الهواء. بعض الأكياس كانت زرقاء لامعة، لكن معظمها كان أخضر اللون، والكيس الخاص بي كان من بين الأكياس الخضراء العادية.
قال أحدهم لي: «آه، هل أخذت الفتاة الصغيرة؟»
أدركت ما يعنيه هذا؛ عظام الفتاة الصغيرة. تبينت أن الكيس أصغر وأخف من أن يحوي عظام لادنر حقا. فكرت متسائلة أي فتاة صغيرة؟ لكن الحيرة بدأت تزداد داخلي حيال كل شيء، وتملكني ظن بأنني أحلم. طرأ إلى ذهني سؤال: هل يقصدون الصبي الصغير؟ وفي اللحظة التي استيقظت فيها فكرت في كيني، وتساءلت: هل مرت سبع سنوات على الحادث؟ (أتمنى ألا أتسبب في إيلامك يا ليزا، بأن أذكر هذا. أدري أيضا أن كيني لم يكن صغيرا عندما وقعت الحادثة.) استيقظت وفكرت أنني لا بد أن أسأل لادنر عن هذا الأمر. أدركت دائما حتى قبل استيقاظي أن جسد لادنر ليس بجانبي، وأن إحساسي به، بثقله وحرارة جسده ورائحته، ليست سوى ذكريات. لكن لا يزال يتملكني شعور - عندما أستيقظ - أنه في الغرفة المجاورة، وبإمكاني مناداته وإخباره بالحلم الذي راودني أو بأي شيء، ثم يتعين علي إدراك أن الأمر ليس كذلك، في كل صباح، فتنتابني قشعريرة. أشعر أنني أنكمش، أشعر كما لو أن فوق صدري عدة ألواح خشبية، وهو ما لا يجعلني أميل إلى النهوض؛ هو شيء أمر به، لكن في اللحظة الحالية لا أشعر به، أصفه فحسب، بل في حقيقة الأمر أشعر بالسعادة لأنني أجلس هنا ومعي زجاجة النبيذ الأحمر.»
كان ذلك خطابا لم ترسله بي دود، وفي الواقع لم تنهه قط؛ فقد دخلت في منزلها الضخم المهمل بكارستيرز في فترة من التأمل ومعاقرة الخمر، وهو ما بدا للآخرين جميعا أنه تدهور بطيء، لكن بدا لها، مع ذلك، شيئا ممتعا على نحو محزن، كفترة النقاهة.
التقت بي دود بلادنر عندما كانت خارج المنزل في جولة بالسيارة في الريف يوم الأحد برفقة بيتر بار. كان بيتر بار مدرس علوم، ومدير مدرسة كارستيرز الثانوية أيضا؛ حيث عملت بي لفترة قصيرة كمعلمة بديلة. لم تكن حاصلة على شهادة في التدريس، لكنها كانت تحمل درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية، وكانت الأمور أكثر مرونة في تلك الأيام. كذلك، كانت تستدعى للمساهمة في الرحلات المدرسية؛ كأن تقود صفا مدرسيا إلى متحف أونتاريو الملكي، أو إلى ستراتفورد لحضور مهرجان شكسبير السنوي، وبمجرد أن أضحت معجبة ببيتر بار حاولت الابتعاد عن مثل هذه الارتباطات. تمنت أن تكون الأمور في نصابها الصحيح؛ لصالحه هو. كانت زوجة بيتر ترقد في دار رعاية؛ إذ كانت تعاني من تصلب الأنسجة المتعدد، وكان يزورها بوفاء. رأى الجميع أنه رجل جذاب، وفطن الجميع إلى حاجته لوجود رفيقة دائمة له (الوصف الذي اعتبرته بي مروعا)، لكن ربما ظن البعض أن اختياره كان مثيرا للشفقة. كان لدى بي مسار مهني متقلب للغاية، على حد وصفها، لكنها استقرت مع بيتر؛ فقد وفرت لها لياقته وإخلاصه وخفة ظله حياة مستقرة ومرتبة، ورأت أنها تستمتع بها .
عندما كانت بي تتحدث عن مسارها المهني المتقلب، كانت تتحدث بنبرة ساخرة أو ازدرائية لا تعكس شعورها الحقيقي تجاه مسيرتها في العلاقات الغرامية. بدأت علاقاتها الغرامية عندما كانت متزوجة؛ كان زوجها طيارا بريطانيا متمركزا بالقرب من مدينة والي إبان الحرب العالمية الثانية، وفي أعقاب الحرب ذهبت إلى إنجلترا برفقته، لكن سرعان ما انفصلا بالطلاق. عادت إلى موطنها وفعلت أشياء متنوعة، من قبيل توليها أمور التدبير المنزلي لزوجة أبيها، والحصول على درجة الماجستير، لكن العلاقات الغرامية كانت شغل حياتها الشاغل، وأدركت أنها لن تكون صادقة إن حقرت من شأن تلك العلاقات. كانت علاقات جميلة ومريرة، ذاقت السعادة فيها، وكذلك الشقاء. أدركت مرارة أن تجلس امرأة في حانة في انتظار رجل لن يأتي أبدا، أن تنتظر خطابات، أن تبكي أمام الناس، وعلى الجانب الآخر أن يزعجها رجل لم تعد ترغب فيه (اضطرت إلى الاستقالة من جمعية الأوبرا الخفيفة بسبب أحمق أخطأ في أدائه). مع ذلك، شعرت أن الإشارة الأولى للعلاقة الغرامية تشبه دفء الشمس على بشرتها، أو الموسيقى عندما تعزف في مكان ما، أو تلك اللحظة - كما اعتادت أن تقول - التي يتحول فيها إعلان تليفزيوني تجاري مصمم باللونين الأبيض والأسود إلى إعلان ملون. لم تعتبرها إهدارا للوقت؛ لم تر أنها أهدرت وقتها هباء.
لكنها رأت، وأقرت بالفعل، أنها كانت مغرورة؛ أحبت المديح والاهتمام بها، انزعجت - على سبيل المثال - عندما اصطحبها بيتر في جولة بالسيارة في الريف، ولم يفعل ذلك من أجل أن يكون برفقتها وحدهما. كان بيتر رجلا محبوبا للغاية، وكان يحب الكثير من الأشخاص، حتى الأشخاص الذين التقى بهم توا. دائما ما ينتهي بهما الحال إلى زيارة أحد الأشخاص، أو التحدث لمدة ساعة مع طالب سابق يعمل الآن في محطة وقود، أو الانضمام إلى بعض الأشخاص الذين التقيا بهم عندما توقفا عند متجر ريفي لشراء الآيس كريم. وقعت بي في غرامه بسبب وضعه الحزين، وروح الشهامة التي يتسم بها، ووحشته، والابتسامة الخجولة التي تعلو شفتيه الرقيقتين، لكن في واقع الأمر، كان بيتر اجتماعيا على نحو متسلط، وكان من نوع الأشخاص الذين لا يمكنهم المرور بجانب أسرة تلعب الكرة الطائرة في الفناء الأمامي لأحدهم، دون أن تساورهم رغبة في القفز من السيارة ومشاركتهم اللعب.
في عصر يوم أحد من شهر مايو - كان يوما لطيفا وهواؤه طلقا - أخبرها أنه يرغب في زيارة رجل يدعى لادنر لبضع دقائق (دائما ما كانت بضع دقائق في نظر بيتر بار). ظنت بي أنه قد التقى بذلك الرجل بالفعل من قبل في مكان ما؛ حيث ذكره باسمه الأول، وبدا أنه يعرف عنه الكثير. قال إن لادنر حضر إلى هنا من إنجلترا بعد انتهاء الحرب مباشرة، وإنه خدم في القوات الجوية الملكية (أجل، كزوجها السابق)، وإن طائرته أسقطت وأصيب بحروق في جانب جسده بالكامل؛ لذا قرر أن يعيش ناسكا؛ فقد أدار ظهره للمجتمع الفاسد المتناحر والمتنافس، وقد ابتاع أرضا قاحلة تبلغ مساحتها أربعمائة فدان، معظمها من الأدغال والمستنقعات، في الجزء الشمالي من المقاطعة، في بلدة ستراتون، وصنع هناك شيئا من قبيل محمية طبيعية خلابة، بها جسور وجادات وجداول مائية مقامة حولها السدود لصنع أحواض مياه، ومعروضات على امتداد الجادات لحيوانات، وطيور تبدو حية. كان يكسب قوت يومه كمحنط حيوانات وطيور، يعمل في الأغلب لحساب المتاحف. لم يطلب من الناس أي رسوم نظير السير في الجادات التي صنعها وتفقد ما يعرضه من حيوانات وطيور. كان رجلا لحق به الأذى والإحباط على أسوأ نحو واعتزل العالم، غير أنه قدم إليه كل ما بوسعه في اهتمامه بالطبيعة.
كثير من هذا كان غير صحيح، أو صحيحا في جزء منه فحسب، كما اكتشفت بي. لم يكن لادنر من دعاة السلم بتاتا؛ فقد أيد حرب فيتنام واعتقد أن الأسلحة النووية هي أداة ردع، وكذلك حبذ المجتمع التنافسي، وأصيب بحروق فقط في جانب وجهه ورقبته، وكان ذلك نتيجة لانفجار قذيفة أثناء المعارك البرية (كان ضمن قوات الجيش) بالقرب من مدينة كاين. لم يغادر إنجلترا على الفور بل عمل هناك لسنوات، في متحف ما، حتى حدث شيء - لم تعلمه بي قط - أغضبه من الوظيفة والبلاد.
أما الجانب الصحيح فإنه يخص الأرض التي ابتاعها وما فعله بها، وأنه كان محنط حيوانات.
واجهت بي وبيتر بعض الصعوبات في العثور على منزل لادنر. كان من طراز المنازل البسيطة الهرمية الشكل في تلك الأيام، وكانت تخفيه الأشجار. عثرا على الممر الخاص بالمنزل في النهاية، وأوقفا السيارة هناك، وترجلا منها. توقعت بي أن تتعرف بالرجل ثم يأخذها في جولة، وأن يتملكها الضجر الشديد لمدة ساعة أو ساعتين، وربما تضطر إلى الجلوس واحتساء الجعة أو الشاي بينما يوطد بيتر بار صداقته.
حضر لادنر أمام المنزل ووقف في مواجهتهما. تولد لدى بي انطباع أنه اصطحب معه كلبا شرسا، لكن لم يكن الأمر كذلك، لم يكن لادنر يملك كلبا، بل كان هو نفسه كلبا شرسا في حد ذاته.
كانت الكلمات الأولى التي وجهها إليهما: «ماذا تريدان؟»
قال بيتر بار إنه سيتحدث في صلب الموضوع؛ قال: «لقد سمعت الكثير عن هذا المكان الرائع الذي صنعته هنا، وسأخبرك في الحال. أنا معلم، أدرس لطلاب المدرسة الثانوية، أو هكذا أسعى. أسعى إلى تزويدهم ببضعة أفكار تجنبهم إفساد العالم أو تدميره كلية عندما يكبرون. ما الذي يرون من حولهم سوى النماذج المريعة؟ قليلا ما يجدون شيئا إيجابيا. وهنا تملكتني شجاعة كبيرة كي أتحدث معك يا سيدي. هذا ما جئت من أجله إلى هنا كي أطلب منك التفكير فيه.»
رحلات ميدانية، طلاب مختارون، مشاهدة الفارق الذي يمكن أن يصنعه فرد واحد، احترام الطبيعة، التعاون مع البيئة، فرصة لمشاهدة الأمر كما هو دون وسيط.
قال لادنر: «حسنا، أنا لست بمعلم، ولا آبه بتاتا بطلابك المراهقين، وآخر ما أود رؤيته هو أن يتسكع حفنة من المغفلين في أرضي يدخنون السجائر ويتطلعون بنظرات خبيثة كالحمقى. لا أدري من أين أتيت بهذا الانطباع بأن ما صنعته هنا كان خدمة عامة؛ لأن هذا الأمر لا يهمني على الإطلاق. صحيح أنني أسمح للناس بالمرور من هنا، لكنهم أناس أحددهم بنفسي.»
قال بيتر بار: «حسنا، ماذا عنا اليوم؟ هل ستسمح لنا بإلقاء نظرة؟»
قال لادنر: «غير مسموح بالدخول اليوم؛ أنا أعمل على تصليح الجادة.»
قال بيتر بار محدثا بي في السيارة أثناء مرورهما فوق الطريق المفروش بالحصى: «حسنا، أظن أن هذا قد مهد السبيل للموضوع. ألا تعتقدين ذلك؟»
لم تكن هذه دعابة، لم يكن يطلق هذا النوع من الدعابات. ردت بي بشيء مشجع على نحو مبهم، لكنها أدركت - أو أدركت قبل بضع دقائق، أثناء مرورهما فوق الممر الخاص بمنزل لادنر - أن علاقتها ببيتر لا تسير على الدرب الصحيح؛ لم تعد ترغب في مزيد من رقته، ونواياه الحسنة، وحيرته وسعيه. كل الأشياء التي راقت لها وجعلتها تشعر بالراحة حياله استحالت إلى رماد، بعد أن رأته مع لادنر الآن.
كان من الممكن أن تقنع نفسها بغير ذلك بالطبع، لكن لم تكن هذه طبيعتها. حتى بعد سنوات من حسن السلوك، لم تكن هذه طبيعتها.
كان لديها بضعة أصدقاء حينئذ، تكتب إليهم، وبعثت إليهم بالفعل خطابات حاولت فيها فحص هذا المنعطف بحياتها وتفسيره. كتبت أنها تمقت الاعتقاد في أنها انجذبت إلى لادنر؛ لأنه كان فظا وحاد المزاج وهمجيا على نحو طفيف، بتلك البقعة بجانب وجهه التي تلألأت كقطعة معدنية في ضوء الشمس الذي تخلل الأشجار، وأنها ستمقت التفكير هكذا. أليس هذا هو النمط المعتاد في جميع القصص الغرامية الحزينة؛ شخص همجي يحرك مشاعر المرأة فتترك حبيبها الرقيق المهذب؟
كتبت في الخطاب أن الأمر ليس كذلك؛ ما رأته بالفعل وعلمت أن هذا أسلوب رجعي وسيئ، هو أن بعض النساء، نساء مثلها، ربما يكن في بحث دائم عن جنون يستوعبهن. لماذا الحياة إذن مع رجل إن لم تكن حياة داخل جنونه؟ يمكن أن يكون لدى الرجل جنون عادي للغاية، غير مميز للغاية، على غرار ولائه لفريق كرة، لكن هذا قد لا يكون كافيا، غير كبير بما يكفي، والجنون الذي لا يكون كبيرا بدرجة كافية يجعل المرأة ببساطة وضيعة وساخطة؛ على سبيل المثال: أظهر بيتر بار الطيبة والتفاؤل بدرجة متطرفة بعض الشيء. لكن في نهاية المطاف، كتبت بي، لم يكن ذلك جنونا مناسبا بالنسبة إلي.
ما الذي قدمه إليها لادنر إذن كي تستطيع العيش داخله؟ لم تقصد فحسب أنها ستستطيع تقبل أهمية تعلم عادات حيوان الشيهم وكتابة خطابات قاسية حول الموضوع في صحف، لم تسمع بها بي من قبل؛ بل قصدت أيضا أنها ستكون قادرة على العيش وسط شيء من العناد، بجرعات جاهزة من اللامبالاة التي قد تبدو أحيانا احتقارا لها.
لذا شرحت حالتها خلال الأشهر الستة الأولى.
فكرت عدة نساء أخريات أنهن قادرات على فعل الشيء نفسه. وجدت آثارا لهن؛ حزاما - مقاس 26 - وبرطمان زبدة الكاكاو، وأمشاط شعر مزخرفة. لم يسمح لأي منهن بالمكوث. سألته بي: «لماذا هن وليس أنا؟»
قال لادنر: «لم تملك أي منهن المال.» «كانت دعابة. كانت تزعجني الدعابات.» (الآن أضحت تكتب خطاباتها في رأسها فقط.) •••
لكن ماذا كانت حالتها عند قيادة السيارة إلى منزل لادنر أثناء الأسبوع الدراسي، بعد بضعة أيام من لقائها الأول به؟ رغبة وفزع. كانت تشعر بالأسى على حالها، بثوبها الداخلي الحريري. اصطكت أسنانها. أشفقت على نفسها لكونها ضحية لمثل هذه الرغبات، وهو ما شعرت به من قبل. لا يمكنها ادعاء ما هو خلاف ذلك، لكن لم يكن هذا يختلف كثيرا عما شعرت به من قبل.
وجدت المكان بسهولة؛ لا بد أنها حفظت الطريق جيدا. دبرت حكاية في ذهنها؛ إنها ضلت الطريق. إنها كانت تبحث عن مكان هنا يبيع شجيرات للمشتل؛ سيتناسب ذلك مع هذا الوقت من العام. كان لادنر يقف بالخارج أمام أشجاره ويعمل على إصلاح مجرى الصرف بالطريق، وألقى عليها التحية بنبرة جادة، تخلو من الاندهاش أو الاستياء، لم تستدع منها تقديم حجتها.
قال: «انتظري فقط حتى أنتهي من هذا العمل. سيستغرق الأمر عشر دقائق تقريبا.»
لم تشهد بي شيئا كهذا من قبل؛ شيئا يضاهي مراقبة رجل ينجز عملا شاقا، وهو غافل عنها ويعمل بكد، على نحو منظم ورتيب. لا شيء يضاهي ذلك في إثارة حماستها. لم يكن ثمة عيب لدى لادنر؛ ليس ثمة وزن زائد، ولا طاقة غير ضرورية، وبالطبع لا أحاديث منمقة. كان شعره الرمادي قصيرا للغاية، مصففا مثلما كان في شبابه، وكانت قمة رأسه تتألق بلون فضي.
أخبرته بي أنها توافقه الرأي فيما يتعلق بالطلاب؛ قالت: «لقد عملت كمعلمة بديلة لفترة ما، واصطحبت الطلاب في رحلات طويلة شاقة. مررت بأوقات شعرت فيها برغبة في إطلاق كلاب الدوبرمان للانقضاض عليهم ودفعهم بالسيارة داخل بالوعة.»
قالت: «أتمنى ألا تظن أنني جئت إلى هنا لإقناعك بأي شيء. لا يدري أحد أنني هنا.»
تمهل في الرد عليها، ثم أخبرها عندما أصبح مستعدا: «أتوقع أنك تودين الذهاب في جولة، أليس كذلك؟ أتحبين التجول في المكان بنفسك؟»
كان هذا ما قاله وما قصده. جولة. ارتدت بي حذاء غير مناسب؛ في ذلك الوقت من حياتها لم تكن تملك أي أحذية يمكن أن تكون مناسبة. لم يبطئ في السير من أجلها أو يساعدها بأية طريقة في عبور جدول مائي أو تسلق منحدر. لم يبسط يده إليها قط أو يقترح أنه يمكن لهما الجلوس والاستراحة فوق أي لوح خشبي أو صخرة أو منحدر مناسب.
قادها في البداية فوق ممشى خشبي يمر فوق مستنقع إلى بركة مياه؛ حيث يوجد بعض الإوز الكندي وزوج من البجع يلف أحدهما حول الآخر، جسداهما ساكنان، لكن رقبتيهما نابضتان بالحياة، وتخرج من بين منقاريهما صرخات عنيفة. قالت بي: «هل هما زوجان؟»
فأجابها لادنر: «على ما يبدو.»
على مسافة غير بعيدة من هذه الحيوانات الحية وقف صندوق ذو واجهة زجاجية يحوي نسرا ذهبيا باسطا جناحيه، وبومة رمادية، وبومة ثلجية محنطة. كان الصندوق عبارة عن مجمد عتيق مفرغ، وتوجد نافذة في جانبه، ودوائر من طلاء تمويهي رمادي وأخضر.
قالت بي: «مبدع.»
قال لادنر: «أستخدم ما أستطيع الحصول عليه.»
أخذها لادنر لمشاهدة مرج القندس، والجذول المدببة للأشجار التي مضغتها القنادس، وبيوتها الركامية غير المنظمة، وحيواني القندس بفرويهما الكثيفين داخل صندوقهما. بعد ذلك نظرت تباعا إلى ثعلب أحمر، ومنك ذهبي، ونمس أبيض، ومجموعة جميلة من حيوان الظربان، وشيهم، وحيوان الدلق، الذي أخبرها لادنر أنه كان شجاعا بما يكفي لأن يقتل حيوانات الشيهم. تعلقت حيوانات الراكون المحنطة التي كانت تبدو حية بجذع شجرة، بينما وقف ذئب بتوازن في وضع العواء، ودب أسود تمكن توا من رفع رأسه الناعم الضخم ووجهه الحزين. قال لادنر إنه كان دبا صغيرا. لم يسعه الاحتفاظ بالدببة الكبيرة؛ فقد كانت تجلب أسعارا ضخمة للغاية، حسبما قال.
ضم المكان الكثير من الطيور أيضا؛ ديوك الرومي البرية، زوج من طائر الطهيوج المنفوش، وطائر التدرج بحلقة حمراء لامعة حول عينيه. أشارت اللافتات إلى موطنها، وأسمائها اللاتينية، وطعامها المفضل، وأنماط سلوكها. كما وضعت لافتات تعريفية فوق بعض الأشجار أيضا؛ معلومات موجزة ودقيقة ومعقدة. ولافتات أخرى عرضت اقتباسات:
الطبيعة لا تفعل أي شيء عبثا.
أرسطو
الطبيعة لا تخدعنا أبدا، إنما نحن من نخدع أنفسنا.
روسو
عندما توقفت بي لقراءة هذه اللافتات، شعرت أن لادنر كان قليل الصبر، وتجهم قليلا. لم تعد تعلق على أي شيء تراه بعد ذلك.
لم تستطع تذكر المسار الذي سلكاه أو تستوعب تصميم المكان على الإطلاق. هل عبرا مجاري مائية مختلفة، أم عبرا الجدول المائي نفسه عدة مرات؟ ربما تمتد الغابة لأميال، أو تمتد حتى قمة تل قريب فحسب. كانت أوراق الشجر حديثة ولم تنجح في حجب الشمس. عج المكان بأزهار التريليوم. رفع لادنر فرعا من نبات التفاح الهندي ليريها الزهرة المستترة. مرت بأوراق نباتات سميكة، وسراخس تتفتح، وملفوف الظربان الأصفر ينبثق بين المستنقعات، ونسغ النباتات وأشعة الشمس تحيط بها، وعشب جاف تحت أقدامهما. وصلا بعد ذلك إلى بستان تفاح عتيق تطوقه الغابة، ثم أمرها بالبحث عن نبات عيش الغراب. عثر على خمسة منها بنفسه، ولم يعرض عليها تناولها معه. اختلط عليها الفطر بالتفاح المتعفن من العام الماضي.
برزت تلة منحدرة أمامهما، مكتظة بأشجار الزعرور البري الشائكة المزهرة. قال: «يطلق عليها الأطفال «تل الثعلب». ثمة عرين له بالأعلى.»
تجمدت بي في مكانها: «لديك أطفال؟»
ضحك وقال: «كلا على حد علمي. أقصد الأطفال القاطنين على الجانب الآخر من الطريق. انتبهي من الأغصان؛ إنها شائكة.»
بحلول ذلك الوقت كانت شهوتها قد تلاشت تماما، على الرغم من أن رائحة زهور الزعرور البري بدت لها رائحة حميمية، عفنة أو خميرية الرائحة. كانت قد توقفت منذ وقت عن التحديق في جزء بين عظام كتفيه متلهفة أن يستدير ويعانقها. تبادر إلى ذهنها أن هذه الجولة، المرهقة بدنيا وذهنيا للغاية، ربما تكون سخرية منها؛ عقابا لكونها - في النهاية - امرأة محتالة تغوي الرجال وتراوغهم؛ لذا أيقظت كبرياءها وتظاهرت بأن هذا ما حضرت من أجله تماما. أخذت تطرح الأسئلة، وتبدي اهتمامها، ولا تظهر أي تعب. فيما بعد - لكن ليس في هذا اليوم - ستتعلم أن تقابل غلظة قلبه وجموحه الجنسي بنفس هذا القدر من الكبرياء.
لم تنتظر أن يطلب منها الدخول إلى المنزل، لكنه قال: «أتودين احتساء كوب من الشاي؟ أستطيع إعداد كوب من الشاي لك.» ودخلا إلى المنزل. وجدت في استقبالها رائحة الجلود، وصابون البوراكس، ورقائق خشبية، وزيت التربنتين. أكوام من الجلود مطوية إلى الخارج، ورءوس حيوانات بمحاجر عيون وأفواه فارغة كانت موضوعة فوق حوامل. ما ظنته في البداية أنه جسد أيل مسلوخ تبين أنه هيكل من الأسلاك به حزم مما بدا أنها قصبات بها مادة لاصقة مثبتة به. أخبرها أن الجسد سيصنعه من الورق العجيني.
رأت كتبا في المنزل؛ قسم صغير منها كان عن التحنيط، وأخرى كانت في مجموعات في الأغلب؛ «تاريخ الحرب العالمية الثانية»، «تاريخ العلوم»، «تاريخ الفلسفة»، «تاريخ الحضارة»، «حرب شبه الجزيرة الأيبيرية»، «حرب الاستقلال الإسبانية»، «الحروب الفرنسية والهندية». فكرت بي في أمسياته الطويلة في الشتاء، عزلته المنظمة وقراءته المنهجية وقناعته العقيمة.
بدا متوترا بعض الشيء أثناء إعداد الشاي. فحص الأكواب ليتأكد من خلوها من الغبار، نسي أنه سبق وأخرج اللبن من الثلاجة، ونسي أنها قالت قبلا إنها لا تحب وضع السكر. عندما تذوقت الشاي، راقبها وسألها إن كان على ما يرام. هل هو مركز أكثر من اللازم؟ هل تودين القليل من الماء الساخن؟ طمأنته بي وشكرته على الجولة، وذكرت أمورا عن هذه الجولة قد حظيت بتقديرها على نحو خاص. دار بخلدها: ها هو ذا الرجل! ليس غريبا للغاية في النهاية، وليس به شيء غامض للغاية، وربما لا يوجد به شيء مثير للاهتمام مع ذلك. معلومات متراكمة. الحروب الفرنسية والهندية.
طلبت منه القليل من اللبن في كوبها. أرادت احتساء الكوب كله سريعا والانصراف.
أخبرها أنه يتعين عليها الحضور إلى هنا مرة أخرى إذا جاءت إلى هذه الناحية من البلاد دون أن يكون لديها شيء بعينه لفعله؛ قال: «وإذا شعرت بحاجة إلى قليل من التريض، فهناك دائما شيء مشوق لمشاهدته، في أي وقت من العام.» تحدث عن طيور الشتاء والمسارات بين الجليد وسألها إن كانت تملك زلاجات. رأت أنه لا يرغب في أن تنصرف. وقفا في مدخل المنزل المفتوح وأخبرها عن التزلج في النرويج، وعن عربات الترام المزودة بحاملات للزلاجات أعلاها، والجبال عند أطراف المدينة.
قالت إنها لم تذهب إلى النرويج من قبل، لكنها واثقة أنها ستروق لها.
تأملت هذه اللحظة باعتبارها البداية الحقيقية لهما. بدوا كلاهما قلقين ومكبوتين، وليسا مترددين بقدر ما كانا مضطربين، بل ليس حتى آسفين أحدهما على الآخر. سألته فيما بعد هل شعر بأي شيء ذي أهمية في ذلك الوقت، فقال أجل. أدرك أنها إنسانة يستطيع العيش معها. سألته إن كان يستطيع أن يقول إنه يريد العيش معها، فقال أجل، بإمكانه قول ذلك، بإمكانه قول ذلك، لكنه لم يقل.
كان أمامها الكثير من الأمور التي يمكن أن تتعلمها، أمور ذات صلة بصيانة هذا المكان، وأمور ذات صلة أيضا بفن التحنيط ومهارته. ستتعلم، على سبيل المثال، كيفية تلوين الشفاه وجفن العين وأطراف الأنف بمزيج بارع من الطلاء الزيتي وبذر الكتان وزيت التربنتين. ثمة أشياء أخرى تعلمتها متعلقة بما يقوله وبما لا يقوله. بدا أنها اضطرت إلى التداوي مما اتسمت به من خيلاء وغرور، وأفكارها القديمة كافة عن الحب.
ذات ليلة أويت إلى فراشه ولم يصرف ناظره عن كتابه أو يتحرك أو يتحدث إلي بكلمة، حتى عندما تسللت إلى الخارج وعدت إلى فراشي حيث غلبني النعاس على الفور؛ لأنني أعتقد أنني لم أتحمل هوان الاستيقاظ.
في الصباح جاء إلى فراشي وسار كل شيء كالمعتاد.
غدوت في مواجهة مع عراقيل وسدود حالكة الظلمة.
تعلمت. تغيرت. ساعدها الزمن في ذلك، والخمر أيضا.
وعندما اعتاد عليها، أو شعر بالأمان منها، تغيرت مشاعره نحو الأفضل. تحدث إليها بسلاسة عما يلقى اهتمامه، واستشعر راحة أكثر رقة في جسدها.
في الليلة التي سبقت العملية الجراحية استلقى أحدهما بجانب الآخر فوق الفراش الغريب، وتلامست كل الأجزاء العارية من جسديهما؛ سيقانهما، أذرعهما، أفخاذهما.
2
أخبرت ليزا وارن أن امرأة تدعى بي دود اتصلت بها من تورونتو، وسألت إن كان بمقدورهما - أي ليزا ووارن - الذهاب وتفقد المنزل في الريف؛ حيث عاشت بي وزوجها؛ أرادا التأكد من أن المياه مغلقة. كانت بي ولادنر (التي لم يكن لادنر زوجها في الواقع، حسبما قالت ليزا) في تورونتو بانتظار أن يجري لادنر عملية جراحية؛ تحويل مجرى الشريان. قالت ليزا: «ربما تنفجر الأنابيب.» كان ذلك في ليلة الأحد من شهر فبراير إبان أعنف العواصف الشتوية.
قالت ليزا: «أنت تعرفهما، أجل تعرفهما، أتذكر الزوجين اللذين قدمتهما إليك؟ في أحد أيام الخريف الماضي بالميدان أمام متجر راديو شاك؟ كانت لديه ندبة بإحدى وجنتيه، وكان لها شعر طويل؛ نصفه أسود ونصفه رمادي. أخبرتك أنه محنط، وأنت قلت: «ماذا يعني ذلك»؟»
تذكر وارن الآن. زوجان عجوزان - ليسا عجوزين للغاية - يرتديان قمصانا صوفية وسراويل فضفاضة. تذكر ندبته ولكنته الإنجليزية، وشعرها الغريب، ومشاعر الود الجياشة. المحنط هو من يحنط الحيوانات النافقة؛ أي جلود الحيوانات، وكذلك الطيور والأسماك النافقة.
كان قد سأل ليزا: «ماذا حدث لوجه ذلك الرجل؟» وأجابته ليزا قائلة: «إصابة في الحرب العالمية الثانية.»
قالت ليزا: «أعلم أين مفتاح المنزل. هذا هو سبب اتصالها بي. هذا في بلدة ستراتون؛ حيث عشت في الماضي.»
قال وارن: «هل ترددا على نفس الكنيسة التي كنت تذهبين إليها أو شيء من هذا القبيل؟»
فعاجلته ليزا بقولها: «بي ولادنر؟ دعنا من المزاح. لقد عاشا فقط على الجانب الآخر من الطريق.»
أردفت ليزا، كما لو أن ثمة شيئا يجب أن يعرفه: «كانت هي من أعطتني بعض النقود للالتحاق بالكلية. لم أطلب منها البتة. هاتفتني فحسب على حين غرة وقالت إنها تود ذلك؛ لذا فكرت أن لا بأس؛ فهي تملك الكثير من المال.» •••
عندما كانت ليزا طفلة صغيرة، كانت تعيش في بلدة ستراتون مع أبيها وشقيقها كيني، في مزرعة. لم يكن أبوها مزارعا، بل استأجر المنزل ليس إلا. كان يعمل في مجال بناء الأسقف. كانت والدتها متوفاة بالفعل. عندما تأهلت ليزا للذهاب إلى المدرسة الثانوية - كان كيني يصغرها بعام ويتأخر عنها عامين دراسيين - انتقل والدها إلى كارستيرز، التقى بامرأة هناك تملك بيتا متنقلا، وتزوجها فيما بعد، وفي وقت لاحق انتقل معها إلى تشاتام. لم تكن ليزا على دراية أكيدة بمكانهما الآن؛ تشاتام، أو والاسبرج، أو سارنيا. عندما انتقلا، كان كيني قد مات؛ لقي حتفه وهو في الخامسة عشرة من عمره، في إحدى حوادث سير المراهقين الضخمة، التي بدت أنها تحدث كل ربيع، وتتضمن سائقين ثملين، غالبا لا يحملون رخصة قيادة، كما تتضمن سيارات مسروقة بصفة مؤقتة، وحصى حديثا على الطرقات، وسرعات جنونية. أنهت ليزا دراستها الثانوية والتحقت بكلية في جامعة جويلف لمدة عام واحد. لم تحب الكلية، ولم تحب الناس هناك، وبحلول ذلك الوقت كانت قد اعتنقت المسيحية.
هكذا التقى بها وارن؛ فقد انتمت عائلته إلى رابطة كنيسة سافيور الإنجيلية، بمدينة والي. كان يتردد على الكنيسة الإنجيلية طوال حياته. بدأت ليزا في الذهاب إلى هناك بعد أن انتقلت إلى مدينة والي وحصلت على وظيفة في متجر حكومي للمشروبات الكحولية. لا تزال تعمل هناك، على الرغم من شعورها بالضيق حيال تلك الوظيفة، وأحيانا ما فكرت في ضرورة تركها. لم تعد تحتسي المشروبات الكحولية الآن، ولم تتناول السكر قط، ولم ترغب أن يتناول وارن فطائر الدانيش في فترة راحته؛ لذا جهزت له فطائر الشوفان التي أعدتها بالمنزل. كانت تغسل الثياب كل أربعاء ليلا، وتحسب عدد حركات يدها أثناء تنظيف أسنانها بالفرشاة، وتستيقظ في ساعة مبكرة من الصباح لممارسة التمارين الرياضية وقراءة آيات الإنجيل.
فكرت أنه ينبغي لها ترك وظيفتها، لكنهما كانا بحاجة إلى المال؛ فقد أغلق متجر المحركات الصغيرة الذي اعتاد وارن العمل به، وكان يخضع لفترة إعادة تدريب بحيث يتسنى له بيع أجهزة الكمبيوتر. كان قد مر عام على زواجهما. •••
في الصباح، كان الجو صافيا، وانطلقا فوق عربة الجليد قبل الظهيرة بفترة وجيزة. كان يوم الإثنين هو يوم عطلة ليزا. عملت الجرافات بالطريق السريع، أما الطرق الخلفية فكانت لا تزال مطمورة بين الثلوج. مرت عربات الجليد بين شوارع البلدة قبل طلوع الفجر وخلفت أثرها فوق الحقول الداخلية وفوق النهر المتجمد.
أخبرت ليزا وارن أن يتتبع مسار النهر حتى طريق هاي واي 86، ثم يتجه نحو الشمال الشرقي عبر الحقول بحيث يلف نصف دائرة حول المستنقع. غطى النهر آثار أقدام حيوانات في خطوط مستقيمة وحلقات ودوائر. كانت الآثار الوحيدة التي ميزها وارن على نحو مؤكد آثار أقدام الكلاب. النهر المكسو بالثلوج لمسافة ثلاثة أقدام والغطاء الجليدي المستوي صنعا طريقا رائعا. هبت العاصفة من الغرب، مثلما تهب في العادة في هذه المنطقة، وكست الثلوج جميع الأشجار الممتدة بمحاذاة الضفة الشرقية، وتكتلت فوقها. انبسطت أغصان الأشجار كسلال خيزران ثلجية، وعند الضفة الغربية تموج الركام الثلجي كأمواج متوقفة، كطبقات ضخمة من القشدة. كان من الممتع الخروج في مثل هذه الأجواء بكل عربات الجليد الأخرى التي تحفر آثارها، وتخترق هدأة اليوم بضجيجها وحركتها الدوامية.
ظهر المستنقع بلون أسود من مسافة بعيدة، كبقعة ممتدة في الأفق الشمالي، لكن عندما دنا منه كان ممتلئا بالثلوج أيضا. مرت جذوع الأشجار السوداء بين الثلوج بسرعة خاطفة من جانبهما وعلى نحو متكرر يصيب بالدوار بعض الشيء. وجهت ليزا وارن بضربات خفيفة من يدها على ساقه إلى طريق خلفي ممتلئ بالثلوج عن آخره، وفي النهاية أوقفته بضربة قوية. كان التحول من الضجيج إلى الصمت، ومن السرعة إلى السكون، يجعل الأمر يبدو كما لو أنهما سقطا من سحب متدفقة فوق شيء صلب. تعثرا تماما وسط ثلوج هذا اليوم الشتوي.
ظهرت عند أحد جانبي الطريق حظيرة متهدمة ينبثق خارجها قش رمادي عتيق. قالت ليزا: «عشنا هنا في الماضي. كلا، أنا أمزح معك، في حقيقة الأمر كان يوجد منزل. لقد اختفى الآن.»
وعلى الجانب الآخر من الطريق ظهرت لافتة مكتوب عليها «الموحش الأصغر» وخلفها أشجار، ومنزل هرمي الشكل مطلي بلون رمادي فاتح. قالت ليزا إنه كان يوجد مستنقع في مكان ما بالولايات المتحدة يدعى «المستنقع الموحش الأكبر»، وهذا ما أشار إليه اسم المنزل؛ على سبيل الدعابة.
قال وارن: «لم أسمع به من قبل.»
ظهرت لافتات أخرى تقول: «ممنوع التعدي»، «ممنوع الصيد»، «ممنوع دخول عربات الجليد»، «ممنوع الاقتراب».
كان مفتاح الباب الخلفي في مكان غريب؛ في كيس بلاستيكي داخل فتحة بإحدى الأشجار. وجد العديد من الأشجار العتيقة المنحنية - أشجار فاكهة على الأرجح - بالقرب من السلم الخلفي. وضع قطران حول فتحة بالشجرة؛ قالت ليزا إن الغرض منه إبعاد السناجب. كذلك وضع قطران حول فتحات بأشجار أخرى، بحيث لا تكون الفتحة التي بها المفتاح مميزة بأية حال. سألها وارن: «كيف عثرت على الشجرة الصحيحة إذن؟» أشارت ليزا إلى صورة جانبية لوجه - يسهل تبينها عند النظر إليها عن كثب - تم إبرازها بسكين يتتبع الشقوق في اللحاء؛ أنف طويل، عين مائلة إلى الأسفل، وفم، وقطرة كبيرة - كانت الفتحة المحاطة بالقطران - عند نهاية الأنف بالضبط.
قالت ليزا وهي تحشر الكيس البلاستيكي في جيبها وتلف المفتاح في الباب الخلفي: «أمر غريب للغاية؟ لا تقف هناك، تعال إلى الداخل. يا للهول! كم الجو بارد هنا كالقبور!» كانت منتبهة دائما إلى تغيير صيغ التعجب من «يا إلهي!» إلى «يا للهول!»، ومن «يا للجحيم!» إلى «يا للغوث!» كما كان يفترض بهما فعله في الرابطة.
تنقلت ليزا في المكان بين ضوابط الحرارة لتشغيل التدفئة بأزرار الحائط.
قال وارن: «نحن لن نتجول في أرجاء هذا المكان، أليس كذلك؟»
قالت ليزا: «سنتجول حتى تدفأ أجسامنا.»
فتح وارن صنابير المياه بالمطبخ، لكن لم تتدفق المياه. قال: «المياه مغلقة، الأمور على ما يرام.»
كانت ليزا قد ذهبت إلى الحجرة الأمامية. صاحت: «ما الأمر؟ ما الذي بخير؟» «المياه. إنها مغلقة.» «أهي كذلك؟ حسنا.»
توقف وارن في مدخل الحجرة الأمامية: «ألا ينبغي لنا خلع أحذيتنا كما لو أننا سنتجول في المكان؟»
قالت ليزا وهي تضرب بقدميها فوق السجادة: «لماذا؟ ما الخطورة بثلج نظيف جميل؟»
لم يكن وارن من الأشخاص الذين يلحظون الكثير بشأن الحجرات وما يوجد بها، لكنه تبين بالفعل في هذه الحجرة بعض الأشياء العادية وبعض الأشياء غير العادية؛ كان بها سجاد وكراسي وتليفزيون وأريكة وكتب ومكتب كبير، لكنها حوت أيضا أرففا عليها طيور مثبتة ومحنطة؛ بعضها ضئيل الحجم للغاية وبراق، وبعضها كبير الحجم ومناسب للصيد، وكذلك حيوان بني أملس - ابن عرس؟ - وقندس، عرفه من ذيله المفلطح.
كانت ليزا تفتح أدراج المكتب وتفتش بين الأوراق التي عثرت عليها هناك. ظن أنها تبحث عن شيء ما طلبت منها المرأة إحضاره. بعد ذلك، شرعت ليزا في جذب الأدراج إلى الخارج والإلقاء بها وبمحتوياتها على الأرض. أصدرت صوتا مضحكا؛ فرقعة بلسانها في استحسان، كما لو أنها صادرة من الأدراج نفسها.
قال وارن: «يا إلهي!» (بما أنه كان في الرابطة طوال حياته، لم يكن حريصا للغاية، مثلما كانت ليزا، حيال كلماته.) «ليزا؟ ماذا تخالين نفسك فاعلة؟»
قالت ليزا: «لا شيء يعنيك على الإطلاق.» لكنها تحدثت بنبرة فرحة، بل حنونة أيضا: «لماذا لا تستريح وتشاهد التليفزيون أو شيئا من هذا القبيل؟»
كانت تلتقط الطيور والحيوانات المثبتة وتقذفها واحدا تلو الآخر، فتزيد الفوضى التي تصنعها فوق الأرض. قالت: «إنه يستخدم خشب البلسا. جميل وخفيف.»
ذهب وارن بالفعل وشغل التليفزيون، كان تلفزيونا أبيض وأسود، ولا تظهر معظم قنواته سوى تشويش أو صورة مموجة؛ الشيء الوحيد الذي استطاع مشاهدته بوضوح كان مشهدا من مسلسل قديم به فتاة شقراء ترتدي زيا شرقيا - كانت ساحرة - والممثل جيه آر إيونج عندما كان صغيرا للغاية، ولم يكن قد أطلق عليه بعد جيه آر.
قال: «انظري إلى هذا! كما لو أن الزمن يعود إلى الوراء.»
لم تلتفت ليزا. جلس وارن فوق مسند للقدم وأدار ظهره إليها؛ كان يحاول أن يكون كالراشد الذي لا يراقب أفعال الصغار. تجاهلها وهي ستكف. مع ذلك، استطاع سماع تمزيق الكتب والأوراق من ورائه؛ كانت تنتزع الكتب من فوق الرفوف وتمزقها وتلقي بها على الأرض. سمعها وهي تتوجه إلى المطبخ وتخلع الأدراج، وتصفق أبواب الخزانات، وتحطم الصحون. عادت إلى الحجرة الأمامية بعد برهة، وبدأ الهواء يمتلئ بغبار أبيض؛ لا بد أنها سكبت الطحين. كانت تسعل.
اضطر وارن إلى السعال أيضا، لكن دون أن يلتفت حوله، وسرعان ما سمع صوت أشياء تسكب من زجاجات؛ سائل خفيف ومتناثر وبقبقة ثقيلة. استطاع شم رائحة الخل وشراب القيقب والويسكي؛ كان ذلك ما سكبته ليزا فوق الطحين والكتب والسجاد وريش الطيور وفراء الحيوانات. سمع صوت شيء يحطم فوق الموقد ظن أنه زجاجة ويسكي.
قالت ليزا: «أصابت الهدف!»
لم يلتفت وارن. شعر بجسده كله يضطرب، مع سعيه إلى أن يجلس في سكون، وأن يتجاوز هذا الأمر.
ذات مرة، ذهب هو وليزا إلى حفل راقص للروك المسيحي بسانت توماس. دار الكثير من الجدل حول الروك المسيحي داخل الرابطة؛ حول إمكانية وجود شيء كهذا من الأساس. كان هذا التساؤل يتسبب في حيرة ليزا، على عكس وارن. ذهب وارن بضع مرات إلى حفلات رقص وموسيقى للروك لم يطلق حتى عليها مسيحية، لكن عندما شرعا في الرقص، كانت ليزا هي من تحركت بخفة، على الفور. كانت ليزا من استوقفت أنظار القائد الشبابي - بعينه اليقظة الحزينة - الذي كان يبتسم ويصفق في ارتياب بين المتفرجين. لم ير وارن ليزا ترقص قط، وأدهشته الروح الجنونية المتمايلة التي تستحوذ عليها. كان شعوره أقرب إلى الفخر منه إلى القلق، لكنه أدرك أن أيا كان ما يشعر به فلن يحدث أي فارق. كانت ليزا ترقص، والشيء الوحيد الذي بوسعه فعله هو انتظارها وهي تتفاعل مع الموسيقى، تتضرع وتلتف على أنغامها، متحررة، تغمض عينيها عن كل ما يحيط بها.
هذا ما تشعر به داخلها، هكذا أراد أن يخبر الجميع . ظن أنه يدري ما تشعر به؛ فقد أدرك شيئا في المرة الأولى التي شاهدها فيها بالرابطة. كان ذلك في فصل الصيف وكانت ترتدي قبعة صغيرة من القش وثوبا بأكمام تعين على جميع فتيات الرابطة ارتداؤه، لكن بشرتها كانت ذهبية للغاية، وجسدها ممشوقا للغاية بالنسبة إلى فتاة في رابطة دينية؛ هذا لا يعني أنها كانت تشبه فتيات المجلات؛ عارضات الأزياء أو فتيات الاستعراض. لم تكن ليزا هكذا، بجبهتها العالية المستديرة وعينيها البنيتين الغائرتين، والتعبير الذي يعلو وجهها الطفولي والقاسي على حد سواء. بدت فريدة، وكانت كذلك بالفعل. لم تكن فتاة تقول: «يا إلهي!» لكنها - في لحظات الرضا التام والتبلد التأملي - تقول: «حسنا، سحقا!»
قالت إنها كانت جامحة قبل أن تعتنق المسيحية؛ «حتى وأنا طفلة صغيرة.»
سألها: «جامحة بأي معنى؟ أتقصدين في العلاقات الغرامية؟» فرمقته بتلك النظرة كما لو أنها أرادت أن تقول له: «لا تكن أحمق.»
شعر وارن بشيء يتقطر فوق جانب من فروة رأسه؛ فقد تسللت ليزا خلفه. وضع يده فوق رأسه، وعندما أنزلها وجدها خضراء ولزجة، وتفوح منها رائحة النعناع.
قالت: «خذ رشفة.» وأعطته زجاجة. تجرع منها، وكاد أن يختنق بمذاق شراب النعناع المركز. أخذت ليزا الزجاجة مرة أخرى وقذفت بها تجاه النافذة الأمامية الضخمة. لم تمر الزجاجة عبر النافذة إلى الخارج، لكنها هشمت زجاجها. لم تنكسر الزجاجة؛ سقطت على الأرض، وتدفقت منها بحيرة صغيرة من سائل جميل كدم أخضر داكن. عج زجاج النافذة بآلاف الشقوق المشعة، واستحال إلى اللون الأبيض كهالة القمر. وقف وارن يلهث من أثر الشراب؛ شعر بموجات من الحرارة تجتاح جسده. خطت ليزا برفق بين الكتب الممزقة الندية والزجاج المهشم، والطيور الملطخة المسحوقة بالأقدام، وبحيرات الويسكي، وشراب القيقب، وأعواد الحطب المتفحمة التي جلبتها من الموقد لتترك آثارا سوداء فوق السجاد، والرماد والطحين الثخين والريش. خطت برفق، بحذائها الذي ارتدته فوق عربة الجليد، معجبة بما فعلته؛ بما تمكنت من فعله حتى الآن.
التقط وارن مسند القدم الذي كان يجلس فوقه وقذفه باتجاه الأريكة. سقط فوقها؛ لم يحدث أي ضرر، لكن الفعل نفسه جعله مشاركا في الحدث. لم تكن هذه المرة الأولى التي يتورط فيها وارن في إشاعة الفوضى بمنزل؛ فمنذ فترة طويلة، عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره، دخل مع صديقه إلى منزل في طريق عودتهما من المدرسة، كان منزل خالة صديقه. لم تكن موجودة في المنزل؛ كانت تعمل في متجر للحلي، وتعيش بمفردها. اقتحم وارن وصديقه المنزل لأنهما كانا يشعران بالجوع. أعدا لنفسيهما شطائر من بسكوت الصودا والمربى، وشربا بعضا من جعة الزنجبيل، لكن بعد ذلك فعلا شيئا آخر؛ سكبا زجاجة كاتشب فوق مفرش المائدة وغمسا أصابعهما به، وكتبا فوق ورق الجدران: «احذري! دماء!» كسرا الصحون وألقيا ببعض الطعام في أرجاء المكان.
كانا محظوظين على غير العادة. لم يرهما أحد أثناء دخولهما وأثناء مغادرتهما، حتى الخالة نفسها ألقت باللوم على بعض المراهقين الذين أمرتهم بمغادرة المتجر مؤخرا.
عندما تذكر وارن ذلك ذهب إلى المطبخ بحثا عن زجاجة كاتشب. لم يبد أنه ثمة أي زجاجات كاتشب، لكنه عثر على علبة مفتوحة لصلصة الطماطم، كان قوامها أخف من الكاتشب ولم تعط النتيجة نفسها، لكنه حاول أن يكتب بها فوق جدار المطبخ الخشبي: «احذر! هذا دمك!»
امتص الجدار الخشبي الصلصة أو سالت فوقه. اقتربت ليزا كي تقرأ الكلمات قبل أن تنمحي. ضحكت. وجدت في مكان ما بين الركام قلم تلوين. تسلقت فوق كرسي وكتبت أعلى الدم المزيف: «عاقبة الخطيئة الموت.»
قالت: «ينبغي أن أخرج المزيد من الأشياء. كان عمله يعج بالطلاء والغراء وكل هذه الأشياء، في تلك الحجرة الجانبية.»
قال وارن: «أتريدين أن أحضر بعضا منها؟»
قالت: «كلا حقيقة.» واستلقت فوق الأريكة؛ أحد الأماكن القليلة التي لا تزال صالحة للجلوس فوقها في الحجرة الأمامية. قالت في سكينة: «ليزا مينللي، اغرسيه في بطنك يا ليزا مينللي.»
هل كان هذا شيئا ردده الطلاب بالمدرسة أمامها، أم كلمات ألفتها لنفسها؟
جلس وارن بجانبها وقال: «ما الذي فعلاه؟ ما الذي فعلاه ليجعلك تشعرين بالغضب إلى هذه الدرجة؟»
قالت ليزا: «من يشعر بالغضب؟» نهضت في ثقل واتجهت إلى المطبخ. تبعها وارن، ورأى أنها تضغط على أزرار الهاتف. انتظرت قليلا ثم قالت: «بي؟» بصوت خافت جريح ومتردد: «آه يا بي!» ولوحت بيدها لوارن كي يطفئ التليفزيون.
سمعها تقول: «النافذة الموجودة بجانب باب المطبخ ... أعتقد هذا. حتى شراب القيقب، لن تصدقي هذا ... أوه، والنافذة الأمامية الكبيرة الجميلة، قذفوا شيئا بها، وأتوا بأعواد الحطب من الموقد والرماد والطيور الموجودة في أرجاء المكان والقندس الكبير. لا أستطيع إخبارك كيف يبدو الأمر ...»
عاد وارن إلى المطبخ، فعبست بوجهها، ورفعت حاجبيها وأخذت تصدر أصوات نحيب وهي تستمع إلى الصوت على الجانب الآخر من الهاتف. واستمرت في وصف الأوضاع في بؤس وسخط، بصوت تشوبه شفقة ورجفة مصطنعة. لم يرق لوارن مشاهدتها، وذهب في البحث عن خوذتيهما.
عندما أغلقت الخط ذهبت إليه، وقالت: «هذا بسببها. سبق وأخبرتك بما فعلته معي؛ ساعدتني في الالتحاق بالكلية!» وانفجر كلاهما في الضحك.
لكن وارن كان ينظر إلى طائر وسط الفوضى التي عمت أرضية المكان؛ ريشه المبتل، ورأسه المتدلي، وتظهر منه عين واحدة حمراء قاسية. قال: «من الغريب فعل هذا لكسب الرزق. دائما ما توجد أشياء نافقة بالمكان.»
قالت ليزا: «أجل، أمر غريب.»
قال وارن: «أستشعرين بالخوف إن صاح؟»
أصدرت ليزا أصوات صياح لتقطع عليه تأمله، ثم لامست رقبته بأسنانها ولسانها المستدق الطرف.
3
طرحت بي على ليزا وكيني الكثير من الأسئلة؛ سألتهما عما يفضلانه من برامج التليفزيون والألوان ونكهات الآيس كريم، والحيوانات التي يمكن أن يصيرا إليها إذا تحولا إلى حيوانات، وأول شيء يذكرانه. قال كيني: «التهام المخاط.» لم يقصد بذلك المزاح.
ضحك لادنر وليزا وبي جميعهم، كان صوت ليزا الأعلى بينهم. بعد ذلك، قالت بي: «أتدري، هذا من بين أول الأمور التي يمكنني تذكرها!»
ظنت ليزا أنها تكذب؛ تكذب من أجل كيني، دون أن يدري هذا من الأساس.
أخبرهما لادنر: «هذه الآنسة دود. تعاملا معها بلطف.»
قالت بي، كما لو أنها أدركت شيئا مباغتا: «الآنسة دود، بي. اسمي بي.»
قال كيني لليزا، عندما مضى لادنر وبي أمامهما: «من هذه؟ هل ستعيش معه؟»
قالت ليزا: «إنها عشيقته. على الأرجح، إنهما سيتزوجان.» عندما مضى أسبوع على وجود بي بمنزل لادنر، لم تحتمل ليزا فكرة رحيلها قط. •••
في المرة الأولى التي ذهبت فيها ليزا وكيني إلى الأرض المملوكة للادنر، كانا قد تسللا إلى هناك من أسفل السياج، على الرغم من أن أباهما أخبرهما ألا يفعلا ذلك، وكذلك أخبرتهما اللافتات التحذيرية هناك. عندما تغلغلا بين الأشجار حتى إن ليزا لم تعد تدري الطريق، سمعا صافرة حادة.
نادى عليهما لادنر: «أنتما!» خرج عليهما من خلف شجرة، كسفاح في الأفلام، يحمل بيده فأسا صغيرة، قائلا: «هل تستطيعان القراءة؟»
كانا في السابعة والسادسة من عمرهما تقريبا في ذلك الوقت. قالت ليزا: «أجل.»
قال كيني بصوت خافت: «لقد ركض ثعلب إلى هنا.» عندما كانا مع أبيهما، ذات مرة، شاهدا ثعلبا أحمر يركض عبر الطريق واختفى بين الأشجار هنا، وقال أبوهما: «هذا الماكر يعيش في أدغال لادنر.»
أخبرهما لادنر أن الثعالب لا تعيش في الأدغال. أخذهما لرؤية المكان الذي يعيش فيه الثعلب؛ عرينه، كما أطلق عليه. كانت هناك كومة من الرمال بجانب حفرة فوق جانب التل مغطاة بأعشاب جافة قاسية وزهور بيضاء صغيرة. قال لادنر: «عما قريب ستصير هذه ثمار فراولة.»
قالت ليزا: «ستصير ماذا؟»
قال لادنر: «يا لكما من طفلين أحمقين! ماذا تفعلان طوال اليوم؛ تشاهدان التليفزيون؟»
كانت هذه بداية قضائهما أيام السبت مع لادنر - وفي الصيف، يقضيان الأيام كلها تقريبا معه. قال أبوهما لا يرى بأسا في ذلك، ما دام لادنر أحمق لدرجة تجعله يحتملهما، وقال: «لكن لا يجدر بكما إغضابه وإلا فسيسلخكما أحياء، كما يفعل مع حيواناته. أتعلمان هذا؟»
كانا على علم بما يفعله لادنر؛ فقد سمح لهما بمشاهدته. شاهداه وهو ينظف جمجمة سنجاب ويثبت ريش طائر على أفضل نحو بسلك رقيق ودبابيس. بمجرد أن تأكد أنهما سيتوخيان الحذر جيدا، سمح لهما بتثبيت العيون الزجاجية في مكانها. كذلك راقباه وهو يسلخ الحيوانات، ويفرك الجلود لتنظيفها، وينثر عليها الملح ويتركها لتجف بالمقلوب قبل أن يرسلها إلى الدباغ. يضع الدباغ سما بها كي لا تتشقق أبدا، ولا يتساقط الفراء عنها أبدا.
كان لادنر يضع الجلود حول جسد غير حقيقي؛ ربما يكون جسد الطائر مكونا من قطعة واحدة، منحوتة من الخشب، وأما جسد الحيوان فيكون مكونا من مزيج رائع من الأسلاك والخيش والغراء والورق المعجون والصلصال.
أمسكت ليزا وكيني أجسادا مسلوخة قاسية كالحبال، ولمسا أمعاء حيوانات بدت كأنابيب بلاستيكية، كما سحقا مقل عين حتى أصبحت كالهلام. أخبرا والدهما عن هذه الأمور؛ قالت ليزا: «لكننا لن نصاب بأية أمراض؛ فنحن نغسل أيدينا بصابون البوراكس.»
لم تكن كل المعلومات التي عرفاها عن الحيوانات النافقة فقط؛ بماذا يصيح طائر الشحرور الأسود أحمر الجناح؟ إن لسان حاله يقول: «رفاق!» بماذا يصيح طائر النمنمة البني؟ إن لسان حاله يقول: «رجاء! رجاء! رجاء! أعطني قطعة جبن.»
قال أبوهما: «أوه، حقا!»
سرعان ما عرفا الكثير من الأمور. على الأقل، عرفت ليزا الطيور والأشجار وعش الغراب والحفريات والمجموعة الشمسية، وعرفت منشأ صخور بعينها، وعرفت أن الجزء المنتفخ بساق زهرة العود الذهبي يحوي دودة بيضاء صغيرة لا تستطيع أن تحيا في أي مكان آخر بالعالم.
تعلمت ألا تتحدث كثيرا عن كل ما عرفته. •••
وقفت بي عند ضفة بركة المياه ترتدي الكيمون الياباني. كانت ليزا تسبح بالفعل، نادت على بي: «هيا انزلي، هيا!» كان لادنر يعمل على الجانب البعيد من البركة؛ يقطع نبات القصب ويزيل الحشائش التي تسد المياه. من المفترض أن كيني كان يساعده. دار بخلد ليزا: «كأننا أسرة واحدة.»
خلعت بي الكيمون ووقفت بثوب السباحة الحريري الأصفر. كانت امرأة ضئيلة الحجم بشعر أسود، به بعض الشيب، ينسدل في غزارة حول كتفيها. كان حاجباها سميكين داكنين مقوسين، كالشكل العابس الجميل لفمها، المستجدي للعطف والمواساة. كست الشمس جسدها بنمش داكن، كانت امرأة غيداء للغاية في جميع أجزاء جسدها. عندما كانت تدني ذقنها، ينتفخ الجزء الذي يلي فكها وكذلك عيناها. كانت عرضة لانتفاخ جلدها أو لحمها، وارتخائه وانبعاجه وتجعده، وكذلك لظهور الشرايين الأرجوانية وتغير لون تجاويف أسفل العين. في واقع الأمر، كانت هذه العيوب، هذا الضرر الغامض، هو ما أحبته ليزا على وجه الخصوص. كذلك أحبت العبرة المترقرقة التي كثيرا ما انعكست في عين بي، والمناشدة المرتجفة والمازحة في صوتها، وخشونة صوتها وتكلفه. لم تكن ليزا تحكم على بي أو تقيمها بالطريقة التي يفعلها الآخرون، لكن هذا لا يعني أن حب ليزا لبي كان سهلا أو مطمئنا، كان حبها لها يملؤه الرجاء، لكنها لم تدر ما كانت ترجوه.
نزلت بي إلى بركة المياه. فعلت هذا على عدة مراحل؛ اتخذت القرار، وتريضت قليلا، وتوقفت، ثم نزلت إلى البركة حتى وصلت المياه إلى ركبتيها، وطوقت ذراعيها، وأطلقت صرخة.
قالت ليزا: «المياه ليست باردة.»
قالت بي: «كلا، كلا، إنني أحبها!» وواصلت السباحة، وهي تطلق صيحات الإعجاب، إلى بقعة ترتفع فيها المياه حتى خصرها، ثم استدارت لمواجهة ليزا، التي سبحت من خلفها بنية نثر المياه في وجهها.
صاحت بي: «أوه، كلا، لا تفعلي!» وبدأت في القفز في مكانها، تمرر يديها في المياه، بأصابع ممتدة، وتجمع المياه في يدها كما لو أنها بتلات زهور، وتنثرها باتجاه ليزا بلا تأثير.
دارت ليزا وطفت على ظهرها وأخذت تركل القليل من المياه برفق تجاه وجه بي. أخذت بي تقفز وتهبط وتتحاشى المياه التي تركلها ليزا، وبينما تفعل ذلك ألفت شيئا من قبيل نغم سعيد وسخيف: «أوه-وو! أوه-وو! أوه-وو!» شيء من هذا القبيل.
على الرغم من أنها كانت تسبح على ظهرها، طافية فوق المياه، استطاعت ليزا أن ترى لادنر وقد توقف عن العمل. وقف في بقعة من المياه تصل إلى خصره على الجهة الأخرى من البركة، وراء بي. كان يراقبها، وبعد ذلك، شرع هو الآخر في الوثب لأعلى وأسفل في المياه. كان جسده متيبسا، لكنه حرك رأسه بقوة من جانب إلى آخر، ممررا يديه الخفاقتين بخفة أو مربتا فوق المياه؛ يختال وينتفض كما لو أن مشاعر الإعجاب بنفسه جرفته.
كان يحاكي بي، يفعل ما تفعله، لكن بطريقة قبيحة وأكثر سخافة. كان يستهزئ بها في تعمد وإصرار إلى أبعد حد. كان تراقصه الفظ يقول أترين كم هي مغترة؟ أترين كم هي مخادعة؟ تتظاهر بأنها لا تخشى المياه العميقة، تتظاهر بأنها سعيدة، تتظاهر بأنها لا تدري كم تمقتها.
كان هذا مشوقا وصادما. ارتجف وجه ليزا برغبة في الضحك؛ أراد جزء منها أن يتوقف لادنر، أن يتوقف في الحال، قبل أن يقع الضرر، وتلهف جزء آخر إلى ذلك الضرر بعينه؛ الضرر الذي يمكن أن يحدثه لادنر؛ أن ينفضح أمره؛ أن ترى اللذة النهائية لذلك.
صاح كيني بصوت عال. لم يتفهم الأمر.
لاحظت بي بالفعل تغير تعبير وجه ليزا، وسمعت كيني الآن. استدارت لترى ما يحدث وراء ظهرها، لكن لادنر نزل في المياه مرة أخرى، وكان يقتلع الحشائش.
في الحال ركلت ليزا الكثير من المياه لإلهائها. عندما لم تستجب بي لذلك، سبحت ليزا إلى الجزء العميق من البركة وغاصت فيه نحو الأعماق السحيقة؛ حيث يعم الظلام، ويعيش سمك الشبوط، في الطين. مكثت بالأسفل لأطول فترة ممكنة. سبحت بعيدا حتى إنها علقت بين الحشائش بالقرب من الضفة الأخرى، وصعدت إلى السطح وهي تلهث، وتبعد ياردة تقريبا عن لادنر.
قالت: «لقد علقت بين القصب، كان من الممكن أن أغرق.»
قال لادنر: «لسوء الحظ لم يحدث ذلك.» جذبها جذبة كمن يريد أن يطأها، وفي الوقت نفسه رسم على وجهه نظرة ورعة ذاهلة، كما لو أن الشخص الذي برأسه يستشيط غضبا مما يمكن أن تفعله يده.
تظاهرت ليزا بأن الأمر لم يسترع انتباهها، وقالت: «أين بي؟»
نظر لادنر إلى الضفة الأخرى وقال: «ربما ذهبت إلى المنزل. لم أرها أثناء خروجها.» انشغل في أعماله العادية مرة أخرى، كعامل مجد، يشعر بالسأم قليلا من كل حماقاتهم. يستطيع لادنر فعل ذلك؛ يستطيع التحول من شخص إلى آخر، وأن يشعرك بالذنب إن تذكرت.
سبحت ليزا في خط مستقيم بكل ما أوتيت من قوة عبر البركة. تناثرت المياه من حولها أثناء سباحتها، وتسلقت الضفة في تثاقل. مرت من جانب البومات والنسر المحدقين من خلف الزجاج. كانت هناك لافتة تقول: «الطبيعة لا تفعل أي شيء عبثا.»
لم تجد بي في أي مكان؛ لم تجدها عند الممشى الخشبي فوق المستنقع، ولا عند المكان الفسيح أسفل أشجار الصنوبر. سلكت ليزا الممر حتى الباب الخلفي للمنزل، وفي منتصف الممر وقفت شجرة الزان التي تعين عليها الالتفاف حولها، وحفرت فوق لحائها الأملس الأحرف الأولى: «ل» في إشارة إلى لادنر، و«ل» في إشارة إلى ليزا، و«ك» في إشارة إلى كيني، وأسفلها بقدم تقريبا كتبت الأحرف: «ا. ب. أ.» عندما جعلت ليزا بي ترى هذه الأحرف للمرة الأولى، ضرب كيني بقبضته عند «ا. ب. أ.» وصاح: «اجذب بنطالك إلى أسفل!» وهو يثب صعودا وهبوطا، فوجه إليه لادنر ضربة قوية مازحة على رأسه وقال إنها تعني: «امض بالممر أمامك.» وأشار إلى السهم المحفور باللحاء دائرا حول الجذع، وقال لبي: «لا تلقي بالا للصغار بأفكارهم البذيئة.»
لم تستطع ليزا حمل نفسها على طرق الباب؛ فقد كانت تملؤها الهواجس والشعور بالذنب. بدا لها أن بي ستضطر إلى الرحيل؛ فكيف لها أن تمكث بعد مثل هذه الإهانة؟! كيف ستتحمل أيا منهم؟ لم تستطع بي فهم لادنر، وكيف لها أن تفهمه؟! لم تستطع ليزا نفسها أن تصف لادنر لأي شخص. في الحياة السرية التي جمعتها به، كانت الأمور المريعة دائما مضحكة، وكان الشر مختلطا بالسخف، ودوما ما تضطر إلى المشاركة بوجوه وأصوات بليدة، والادعاء بأنه وحش كارتوني. لا يمكنك التخلص من هذا، أو حتى أن تساورك رغبة في ذلك، بقدر ما لا يسعك منع شعور بالألم الطفيف بعد تنميل أحد أطرافك.
سارت ليزا حول المنزل وبعيدا عن ظل الأشجار، وعبرت بقدم عارية الطريق المفروش بالحصى الساخن. وقف هناك منزلها في منتصف حقل ذرة عند نهاية ممر قصير. كان منزلا خشبيا بقمة مطلية بطلاء أبيض، والجزء الأدنى منه مطليا باللون الوردي المتوهج كأحمر الشفاه. كانت هذه فكرة والد ليزا؛ ربما ظن أن هذا الطلاء سيضفي على المنزل مظهرا جديدا أجمل، وربما ظن أن اللون الوردي سيجعله يبدو كما لو أن امرأة تعيش بداخله.
يا لها من فوضى بالمطبخ؛ حبوب الإفطار مسكوبة فوق الأرض، بقع من اللبن الفاسد فوق الطاولة، كومة من الملابس القادمة من مغسلة الملابس العامة تتدلى من فوق الكرسي بالزاوية، ومنشفة الصحون - علمت ليزا هذا دون أن تنظر - متكدسة مع القمامة في حوض المطبخ! كانت وظيفتها تنظيف كل هذا، ويجدر بها إنهاؤه قبل أن يعود أبوها إلى المنزل.
لم تنزعج بشأن التنظيف الآن. اتجهت إلى الطابق العلوي، حيث الحر القائظ تحت السقف المائل، وأخرجت حقيبتها الصغيرة التي تحوي أشياء ثمينة. احتفظت بهذه الحقيبة داخل حذاء مطاطي قديم أصبح أصغر من أن يناسبها. لا يعلم أحد بشأن هذا، وبالأخص كيني.
يوجد بالحقيبة ثوب سهرة لدمية باربي، سرقته من فتاة اعتادت اللعب معها (لم تعد ليزا تحب هذا الثوب كثيرا، لكنه يحمل أهمية لأنه مسروق)، وعلبة زرقاء محكمة الغلق بداخلها نظارة أمها، وبيضة خشبية ملونة حصلت عليها كجائزة في مسابقة عيد الفصح للرسم بالصف الثاني (بداخلها بيضة أصغر، وداخلها بيضة أكثر صغرا)، وقرط من حجر الراين عثرت عليه بالطريق. كان تصميم القرط دقيقا وجميلا، به قطع من حجر الراين متدلية من حلقات ونتوءات مستديرة من أحجار أصغر، وكان عندما يتدلى من أذن ليزا يكاد يلامس كتفيها.
وحيث إنها كانت لا ترتدي سوى ثوب السباحة، تعين عليها حمل القرط مطويا في راحتها، كأنشوطة ملتهبة. شعرت بأن رأسها متورم من شدة الحرارة، مع جثومها فوق حقيبتها السرية، واتخاذها القرار. تفكر باشتياق في الظل أدنى أشجار لادنر، كما لو كانت بركة سوداء.
لا توجد شجرة واحدة بالقرب من هذا المنزل من أي جهة، والشجيرة الوحيدة كانت شجيرة ليلك بأوراق متموجة أطرافها بنية، بالقرب من السلم الخلفي، ولا يوجد حول المنزل سوى الذرة، وعلى مسافة بعيدة تقف الحظيرة العتيقة المائلة التي يحظر على ليزا وكيني دخولها؛ لأنها من الممكن أن تنهار في أي وقت. لا توجد تقسيمات هنا أو أماكن سرية؛ كل شيء عار وبسيط.
لكن عند عبور الطريق - كما تفعل ليزا الآن؛ إذ تهرول فوق الحصى - أو قل عند العبور إلى أرض لادنر، تبدو كأنك دخلت إلى عالم يضم بلدانا مختلفة ومتمايزة؛ فهذه منطقة المستنقعات، وهي عميقة تمتلئ بالأدغال وذباب النبر وأزهار البلسم وملفوف الظربان. ثمة شعور يسود المكان بأخطار المناطق الاستوائية وصعوباتها. ثم منطقة أشجار الصنوبر المهيبة كالكنيسة، بأغصانها العالية، وبساطها الإبري، تحث على التهامس، والحجرات المظلمة أسفل الأغصان المنحنية لأشجار الأرز؛ حجرات سرية مظللة تماما بأرض جرداء. تنساب أشعة الشمس في الأماكن المختلفة بطرق شتى، وفي أماكن أخرى لا تنساب على الإطلاق. في بعض الأماكن يكون الجو خانقا ومنعزلا، وفي أماكن أخرى تشعر بنسيم مفعم بالحياة، والروائح إما مزعجة وإما جذابة، وكذلك بعض الممرات تفرض عليك اتباع سلوك لائق، وأخرى تكون بعض أحجارها متباعدة تتطلب الوثب بينها فتستدعي بعض الجنون. وهنا توجد مشاهد التعليمات الجادة حيث علمهما لادنر كيفية التفريق بين شجرة الجوزية والجوز الأرمد، والتفريق بين النجم والكوكب، فضلا عن الأماكن التي ركضا فيها وصاحا وتدليا من أغصانها وقاما بكل الألعاب البهلوانية الطائشة، وأماكن أخرى فكرت ليزا أنها تحمل جرحا فوق أرضها، وخزا وخزيا فوق حشائشها.
عندما أمسك لادنر ليزا بقوة والتصق بجسدها، تملكها شعور بخطر متأصل داخله، وبدا لها كما لو أنه سيهلك في صعقة برق، ولا يتبقى منه شيء سوى دخان أسود، ورائحة حريق، وأسلاك مهترئة، لكنه كان يسقط على الأرض في ثقل كجلد حيوان انسلخ من اللحم والعظم. يرقد ثقيلا وعديم الجدوى للغاية حتى إن ليزا وكيني يشعران للحظة أن النظر إليه خطيئة. يضطر إلى انتزاع صوته المتأوه من داخله ليخبرهما أنهما كانا سيئين.
يطقطق بلسانه في وهن وتلمع عيناه في تربص. كانت عيناه قاسيتين ومستديرتين كالعيون الزجاجية للحيوانات.
سيئان! سيئان! سيئان.
قالت بي: «إنه أروع شيء، ليزا، أخبريني؛ هل كان هذا لوالدتك؟»
أجابت ليزا بالإيجاب. تفهمت الآن أن هدية قرط ربما تعتبر سخيفة ومثيرة للشفقة؛ ربما مثيرة للشفقة عمدا؛ حتى إن الاحتفاظ بها كشيء ثمين ربما يبدو حماقة، لكن إذا كانت تخص أمها، فسيكون الأمر مفهوما، ومن الممكن أن تكون هدية ذات قيمة. قالت ليزا: «بإمكانك وضعها في سلسلة، إذا وضعتها في سلسلة فسيتسنى لك ارتداؤها حول رقبتك.»
قالت بي: «كنت أفكر في هذا توا! كنت أفكر أنها ستبدو جميلة إن وضعت في سلسلة؛ سلسلة فضية. ما رأيك؟ آه يا ليزا! أشعر بالفخر الشديد لأنك أعطيتني هذا!»
قال لادنر: «يمكنك وضعه في أنفك.» لكنه قال هذا دون أي حدة. كان مسالما آنذاك، ومنهكا ومسالما. تحدث عن أنف بي كما لو أنه شيء جميل يتأمله.
جلس لادنر وبي أدنى أشجار البرقوق خلف المنزل مباشرة. جلسا فوق كراسي من الصفصاف أحضرتها بي من البلدة. لم تحضر بي الكثير من الأشياء؛ أشياء كافية وضعتها هنا وهناك بين جلود لادنر ومعداته؛ هذه الكراسي، وبعض الأكواب، ووسادة، وأقداح النبيذ التي يشربان منها الآن.
كانت بي قد بدلت ثوب السباحة وارتدت ثوبا أزرق داكنا من قماش رقيق وناعم للغاية، تدلى من حول كتفيها. داعبت أحجار الراين بأصابعها، ثم أسقطت القرط فتلألأ بين ثنايا ثوبها الأزرق. كانت قد سامحت لادنر في النهاية، أو ساومت على ألا تتذكر.
كان بوسع بي بث الأمان، إن أرادت ذلك. كان بوسعها بالطبع؛ كل ما تطلبه الأمر منها هو أن تغير نفسها إلى نمط مختلف من النساء؛ نمط صارم، وعادل، وحاسم، ومفعم بالنشاط، وغير متسامح. «لا شيء من هذا. هذا غير مسموح به. أحسني التصرف.» المرأة التي كان بمقدورها إنقاذهم، والتي كان بوسعها أن تجعلهم جميعا في حال طيبة، وتصونهم جميعا.
الشيء الذي أرسلت بي من أجله، لا تراه.
تراه ليزا فقط.
4
أغلقت ليزا الباب كما تعين عليها، من الخارج. وضعت المفتاح بالكيس البلاستيكي ثم وضعت الكيس في تلك الفتحة الموجودة بالشجرة. توجهت نحو عربة الجليد، وعندما لم يفعل وارن الأمر نفسه، قالت: «ما الأمر؟»
قال وارن: «ماذا عن النافذة بجانب الباب الخلفي؟»
تنفست ليزا بصوت عال وقالت: «رباه! كم أنا حمقاء! أنا أكبر حمقاء!»
عاد وارن إلى النافذة وركل زجاج النافذة السفلي، ثم أحضر عودا من حطب الوقود من الكومة بجانب المخزن الصفيحي واستطاع تحطيم الزجاج وقال: «أصبحت كبيرة بما يكفي كي تسمح بعبور فتى منها.»
قالت ليزا: «كيف لي أن أكون بهذه الحماقة؟ لقد أنقذت حياتي.»
قال وارن: «حياتنا.»
لم يكن المخزن الصفيحي مغلقا، عثر بداخله على بعض الصناديق الكرتونية، وقطع خشبية، وأدوات بسيطة. مزق صندوقا كرتونيا بحجم مناسب، وشعر برضا كبير في تثبيت الكرتون فوق لوح النافذة التي حطمها توا. قال لليزا: «ستدخل الحيوانات إلى المنزل إن لم نفعل ذلك.»
عندما انتهى من هذا الأمر تماما، وجد أن ليزا كانت تسير وسط الثلوج بين الأشجار. ذهب ليلحق بها.
قالت: «كنت أتساءل هل لا يزال الدب هناك؟»
كان سيقول إنه لا يعتقد أن الدببة تأتي إلى هذا المكان البعيد من الجنوب، لكنها لم تفسح له المجال، قالت: «هل تستطيع التعرف على الأشجار من لحائها؟»
قال وارن إنه لا يستطيع التعرف عليها حتى من أوراقها، وقال: «حسنا هذه أشجار قيقب، قيقب وصنوبر.»
قالت ليزا: «إنها أشجار الأرز. يتعين عليك معرفة أشجار الأرز. هذه شجرة أرز، وهذه شجرة كرز بري، وهناك شجرة القضبان، والأشجار البيضاء، وتلك الشجرة ذات اللحاء الذي يبدو كقشرة رمادية، هذه شجرة الزان. أترى، كان محفورا عليها حروف، لكن تلك الحروف تمددت فأصبحت تبدو كلطخة قديمة الآن.»
لم يبد وارن اهتمامه؛ أراد العودة إلى المنزل فحسب. لم تكن الساعة تجاوزت الثالثة بكثير، لكن يمكنك أن تشعر بالظلام يستجمع خيوطه ويرتفع بين الأشجار كدخان بارد ينبعث من الثلوج.
صفحه نامشخص