أفضل ما قيل عن الكتاب
جموح
حياة حقيقية
العذراء الألبانية
أسرار معلنة
فندق جاك راندا
مكان في البرية
وهبطت سفن الفضاء
مخربون
أفضل ما قيل عن الكتاب
صفحه نامشخص
جموح
حياة حقيقية
العذراء الألبانية
أسرار معلنة
فندق جاك راندا
مكان في البرية
وهبطت سفن الفضاء
مخربون
أسرار معلنة
أسرار معلنة
صفحه نامشخص
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
هاني فتحي سليمان
أفضل ما قيل عن الكتاب
أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.
سينثيا أوزيك
صفحه نامشخص
قصص رائعة، سريعة الإيقاع، تتطور أحداثها على نحو رائع لتصير استعراضا مكثفا شبيها بالرواية لجميع مناحي الحياة ... أجادت مونرو فنها بموهبة فذة.
صحيفة «نيويورك تايمز»
إحساس كبير بالثقة، ذكاء وبصيرة، أسلوب بليغ وجذاب، مليء بالأحداث غير المتوقعة.
جريدة «وول ستريت»
وحدها أليس مونرو من استطاع تجسيد الغابات الشمالية الكندية في قصص قصيرة رائعة لا تنسى ... يضفي أسلوبها الساخر بمسحته اللاذعة بهجة مدهشة على أشد حكاياتها حزنا وكآبة. كما أن إحساسها بالوقت، وقدرتها على قلب حياة الشخصيات رأسا على عقب، يضفيان عمقا رثائيا على قصصها.
مجلة «إنترتينمنت ويكلي»
تظل شخصيات أليس مونرو عالقة في الأذهان، حتى بعد انتهاء أدوارها الروائية، مثل أقارب من عهد الطفولة يتسمون بحدة الطباع وثقل الظل. وكالحال دائما، تصور مونرو أدق التفاصيل في عالم بالغ الصغر.
مقال نقدي في جريدة «لوس أنجلوس تايمز»
إنه لأمر رائع ... عندما تكتب مونرو في أفضل حالاتها، فإنها تصور ملامح الحياة العادية ... وتحولها إلى شيء مدهش ومثير للمشاعر.
مجلة «نيو ريببلك»
صفحه نامشخص
أهدي هذا الكتاب إلى صديقاتي المخلصات للأبد: دافني، وديردري، وأودري، وسالي، وجولي، وميلدرد، وآن، وجينجر، وماري.
جموح
خطابات
في غرفة الطعام الملحقة بالفندق التجاري، فتحت لويزا الخطاب الذي وصلها ذاك اليوم من الخارج. تناولت وجبتها المعتادة المكونة من شرائح اللحم والبطاطس، واحتست كأسا من الخمر. كان هناك القليل من المسافرين في الغرفة، وطبيب الأسنان الذي درج على تناول عشائه هناك كل ليلة لأنه أرمل. كان الطبيب قد أبدى اهتمامه بها في البداية ، لكنه أخبرها أنه لم يسبق له أن رأى امرأة من قبل تحتسي الخمر أو المشروبات الكحولية.
قالت لويزا بوقار: «أحتسيها حفاظا على صحتي.»
كانت مفارش الطاولات البيضاء تبدل كل أسبوع، وحتى ذلك الحين كان يوضع عليها مشمع لحمايتها. في الشتاء، كانت رائحة المشمع الذي كانوا ينظفونه بفوطة المطبخ تفوح من غرفة الطعام، وتختلط برائحة أبخرة الفحم المنبعثة من الفرن، ومرق اللحم، والبطاطس المجففة، والبصل - وهي ليست بالرائحة المنفرة لكل من يدلف إلى غرفة الطعام جائعا من فرط البرد بالخارج. على كل طاولة، كان ثمة حامل صغير يحوي زجاجة من الصوص البني، وزجاجة من صلصة الطماطم، وطبقا من الفجل الحار.
كان الخطاب موجها إلى «أمينة مكتبة كارستيرز العامة، في مدينة كارستيرز، بمقاطعة أونتاريو»، ومكتوبا بتاريخ 4 يناير 1917؛ أي منذ ستة أسابيع:
لعلك ستندهشين من تلقي رسالة من شخص مجهول، لا يذكر اسمك!
آمل أنك لا تزالين تشغلين منصب أمين المكتبة، مع أني أظن أنه قد مر وقت طويل، ومن الوارد أن تكوني قد انتقلت إلى مكان آخر.
المرض الذي ألم بي وأودعت بسببه المستشفى ليس خطيرا.
صفحه نامشخص
أرى حالات أسوأ بكثير من حولي، وأصرف انتباهي عن ذلك كله بتخيل أشياء والتساؤل مثلا عما إن كنت تعملين بالمكتبة نفسها حتى الآن. وللتأكد من أنك الشخص الذي أقصده، فأنت متوسطة الحجم تقريبا، أو ربما لست كذلك بالضبط، ولك شعر بني فاتح. جئت منذ أشهر قلائل قبل أن يحين موعد التحاقي بالجيش، وحللت محل الآنسة تامبلين التي كانت هنا منذ أن بدأت أتردد على المكتبة في التاسعة أو العاشرة من عمري. خلال الفترة التي أمضتها، كانت الكتب مبعثرة في كل مكان، وكان طلب أدنى قدر من العون منها مسألة انتحارية؛ لأنها كانت صارمة وعنيفة. ما أبهى التغيير الذي كسا أرجاء المكان عندما حللت! كل شيء صار مرتبا في أقسام خاصة بكل من الكتب الروائية والواقعية والتاريخية وكتب الرحلات، كما كنت ترتبين المجلات وتعرضينها في مكان ظاهر فور وصولها، دون أن تتركيها إلى أن تبلى وتصبح عديمة القيمة. شعرت بالامتنان لك، لكنني لم أدر كيف أعبر لك عن مكنون نفسي. تساءلت أيضا ماذا أتى بك إلى هنا! فأنت امرأة متعلمة ومثقفة.
اسمي جاك أجنيو، وبطاقتي في الدرج. الكتاب الأخير الذي استعرته كان شائقا جدا، كان بعنوان «خلق البشر» لمؤلفه إتش جي ويلز. تلقيت تعليمي حتى السنة الثانية من التعليم الثانوي، ثم انتقلت إلى مصنع آل دود شأني شأن الكثيرين غيري. لم ألتحق بالجيش مباشرة إذ كنت في الثامنة عشرة من عمري؛ ولذلك لن تعتبريني رجلا مقداما. أنا شخص له أفكاره الخاصة. قريبي الوحيد في مدينة كارستيرز، أو في العالم كله، هو أبي باتريك أجنيو، وهو يعمل لدى آل دود، ليس في المصنع، بل بالبيت، حيث يتولى أعمال البستنة. أبي إنسان ميال للعزلة أكثر مني شخصيا، يطيب له الخروج إلى الريف لممارسة هواية الصيد كلما سنحت له الفرصة. أكتب له خطابا بين الحين والآخر، لكنني أشك أنه يطالع ما أرسله إليه.
بعد العشاء، صعدت لويزا إلى ردهة السيدات بالطابق الثاني، وجلست إلى المكتب لتكتب ردها:
يسعدني جدا أنك تقدر الجهود التي كنت أبذلها في المكتبة، مع أنها لم تتجاوز مهارات التنظيم العادية.
أنا على يقين أنك تود أن تعرف أخبار الوطن، لكنني لست بالشخص المؤهل لذلك لأنني غريبة هنا. إنني أتبادل أطراف الحديث مع الناس في المكتبة وفي الفندق. المسافرون المقيمون بالفندق غالبا ما يتكلمون عن النشاط التجاري (الذي عادة ما يتسم بالرواج إن أمكن الحصول على السلع)، وقلما يتحدثون عن المرض، لكنهم كثيرا ما يتناولون الحرب في حديثهم. ثمة شائعات كثيرة، وآراء وافرة، يقيني أنها ستجعلك تضحك إن لم تثر ثائرتك، لن أكلف نفسي عناء تدوينها لأنني متأكدة أن ثمة رقيبا سيطالع رسالتي هذه وسيمزقها إربا.
تتساءل كيف انتهى بي الحال إلى هنا؟ إنها ليست بالقصة المثيرة؛ لقد توفي والداي. كان أبي يعمل بشركة إيتون في تورنتو، وتحديدا في قسم الأثاث، وبعد وفاته، اشتغلت أمي هناك أيضا في قسم المفروشات، وأنا أيضا عملت هناك لفترة في قسم الكتب؛ يمكنك أن تقول إن شركة إيتون كانت بمنزلة آل دود بالنسبة إليكم. تخرجت في جارفيس كوليجيت. ولقد أصبت بمرض أودعت بسببه المستشفى لفترة طويلة، لكنني بخير الآن.
كان أمامي متسع كبير من الوقت للقراءة والاطلاع؛ كاتباي المفضلان هما توماس هاردي المتهم بالكآبة والذي أراه مخلصا جدا للواقع، وويلا كاثر. تصادف أن كنت في هذه البلدة إذ علمت أن أمينة المكتبة توفيت، وحدثت نفسي أن هذه المهنة ربما تكون مناسبة لي.
من الجيد أن رسالتك وصلتني اليوم؛ إذ إنني على وشك الخروج من هنا، ولا أعرف إن كانوا سيرسلونها إلي حيثما حللت. يسعدني أنك لم تجدي خطابي سخيفا أكثر من اللازم.
إذا قابلت أبي أو أي أحد مصادفة، فلا داعي لأن تفصحي عن حقيقة أننا نتبادل الرسائل؛ فالأمر لا يعني أحدا في شيء، ويقيني أن الكثيرين سيسخرون مني لأنني أراسل أمينة المكتبة، مثلما سخروا مني من قبل لمجرد أنني كنت أتردد على المكتبة. لم إذن أدعهم يشمتون بي؟
أنا سعيد لأنني سأخرج من هنا، فأنا أوفر حظا من بعض الذين رأيتهم وقد فقدوا قدرتهم على المشي أو الإبصار، وسيتوارون عن العالم. سألت عن مكان إقامتي في كارستيرز، حسن، لم يكن مكانا يدعو للفخر على أية حال. إذا كنت تعرفين بلدة فينيجر هيل، وانعطفت نحو طريق فلاورز، فهو آخر بيت جهة اليمين. كان مطليا باللون الأصفر في يوم من الأيام. يزرع أبي البطاطس، أو ربما كان ذلك في الماضي. اعتدت وضع المحصول على عربتي والتوجه به إلى المدينة. كنت أحتفظ بخمسة سنتات لقاء كل حمل أبيعه.
صفحه نامشخص
على ذكر الكتاب المفضلين، في فترة من الفترات كنت أهيم عشقا بزين جراي، لكنني أهملت قراءة الأعمال الروائية تدريجيا، وجنحت إلى مطالعة كتب التاريخ أو أدب الرحلات. أعلم أنني أحيانا أطالع كتبا تتجاوز قدرتي على الفهم، لكنني أنتهي منها بشكل أو بآخر. إتش جي ويلز الذي ذكرته أحد كتابي المفضلين، وكذا روبرت إنجرسول الذي يتناول قضايا دينية في مؤلفاته. لقد منحاني كثيرا من الأفكار التي تستحق التدبر والتفكر. إذا كنت شديدة التدين، فآمل أنني لم أسئ إليك.
ذهبت إلى المكتبة ذات يوم، كان ذلك في ظهيرة أحد أيام السبت، وكنت قد فتحت الباب لتوك، وكنت تضيئين الأنوار حيث كانت الظلمة تعم أرجاء المكان بالداخل والأمطار على أشدها بالخارج. كنت في موقف صعب بالخارج إذ لم تكن لديك قبعة أو مظلة تحتمين بها من المطر، فابتل شعرك. نزعت عنه الدبابيس وتركته ينسدل. هل أكون متطفلا لو سألتك أما زال شعرك طويلا أم أنك قصصته؟ اتجهت صوب المدفأة، ووقفت إلى جوارها، وهززت شعرك، فتناثرت منه قطرات الماء كالزيت في المقلاة. لم أكن قد برحت مكاني حيث كنت أطالع أخبار الحرب في مجلة «إلستراتيد لندن نيوز». تبادلنا ابتسامة عابرة. (لم أقصد أن أقول إن شعرك دهني عندما كتبت ذلك.)
لم أقصص شعري، وإن كانت الفكرة تجول بخاطري كثيرا. لا أعرف إن كان الكسل أم الخيلاء هو الذي يمنعني! إنني لست شديدة التدين.
لقد ذهبت إلى فينيجر هيل، وعثرت على بيتك. تبدو ثمار البطاطس طازجة وصحية. ثمة كلب بوليسي اعترض طريقي، أهو كلبك؟
الجو يميل إلى الدفء نوعا ما. شهدنا فيضان النهر، وظني أنه حدث ربيعي تمر به البلاد كل عام. تسرب الماء إلى الدور السفلي من الفندق، وأفسد على نحو أو آخر مخزوننا من الشراب؛ لذا حصلنا على جعة مجانية أو مشروب زنجبيل مجاني، لكن ذلك كان قاصرا على نزلاء الفندق والمقيمين فيه. يمكنك أن تتخيل كم النكات التي كانت تتداولها الألسن آنذاك.
هل تريد مني إرسال أي شيء إليك؟
لست بحاجة إلى شيء محدد، فأنا أحصل على التبغ وغيره من الأغراض التي تغلفها السيدات في كارستيرز تغليفا جميلا لأجلنا. أود أن أطالع بعض الكتب للمؤلفين اللذين أتيت على ذكرهما، لكنني أشك أن الفرصة ستسنح لي هنا.
منذ بضعة أيام، توفي رجل إثر سكتة قلبية، وصارت الواقعة حديث المدينة. هل سمعت عن الرجل الذي مات إثر سكتة قلبية؟ كانت هذه هي الأنباء المتداولة هنا ليل نهار، وبعدها أمسى الجميع يضحكون، على نحو ينم عن قسوة قلوبهم، لكن الأمر بدا غريبا جدا. لم تكن ثمة معركة حامية الوطيس حتى نفترض أنه أصيب بالذعر! (حقيقة الأمر أنه كان جالسا يكتب رسالة حين وافته المنية، فحري بي أن أتحرى الحيطة إذن!) كثيرون هم من لقوا حتفهم رميا بالرصاص أو قتلوا في تفجيرات، لكنه الوحيد الذي اكتسب شهرة واسعة لأنه مات إثر سكتة قلبية. الجميع يقولون: يا له من درب طويل قطعه ليموت هنا! ويا لها من تكلفة باهظة أنفقها الجيش عليه ليموت في النهاية هكذا!
كان الصيف جافا جدا حتى إن سيارات خزانات المياه كانت تجوب الشوارع يوميا في محاولة لتهدئة الغبار. وكان الأطفال يتراقصون وراءها. كان ثمة شيء جديد أيضا في البلدة؛ عربة ذات جرس صغير تجوب المكان محملة بالآيس كريم، واستحوذت على انتباه الأطفال أيضا. كان يدفعها الرجل الذي أصيب في حادث المصنع - أنت تعرف عمن أتحدث، ولو أنني لا أستطيع أن أذكر اسمه ... لقد فقد ذراعه حتى المرفق. ولما كانت غرفتي بالفندق في الطابق الثالث، شعرت وكأنها موقد، فاعتدت أن أجوب الشوارع إلى ما بعد منتصف الليل، وهكذا كان يفعل الكثيرون الذين كانوا أحيانا يخرجون في ثياب النوم. كان المشهد أشبه بحلم بالنسبة إلي. لم يزل النهر يحتفظ بالقليل من المياه التي تكفي لركوب قارب تجديف، وكان القس الميثودي يخرج للتجديف أيام الآحاد في شهر أغسطس؛ كان يصلي صلاة الاستسقاء في قداس عام، لكن حدث تسريب طفيف في القارب، فتسلل الماء وبلل قدميه، وفي نهاية المطاف غرق القارب وتركه واقفا في الماء الذي لم يصل تقريبا إلى خصره. أكانت هذه حادثة أم خدعة خبيثة؟ ذاع الخبر بأن الرب استجاب لدعائه، لكن الماء تدفق من الاتجاه الخطأ.
كثيرا ما أمر ببيت دود خلال جولاتي. أبوك يحافظ على جمال الحشائش والأسيجة. يروقني البيت، ففيه عبق الأصالة وسيماء البهجة، لكن ربما لم يكن المكان باردا هناك؛ لأني سمعت صوت الأم والرضيعة في وقت متأخر من الليل وكأنهما في الحديقة.
صفحه نامشخص
مع أنني قلت إنني لست بحاجة إلى شيء محدد، فثمة شيء أريده؛ صورة لك. آمل ألا يخطر ببالك أنني أتجاوز حدودي بطلبي هذا! لعلك مخطوبة لأحدهم، أو ربما لديك حبيب هنا تراسلينه كما تراسلينني! فأنت فتاة غير تقليدية، ولن يدهشني إذا سبق وخطب ودك أحد المسئولين. لكن الآن بعد أن تجرأت وسألت، لا يسعني أن أتراجع عن طلبي، وسأترك الأمر لك فلتظني بي ما تشائين.
كانت لويزا في الخامسة والعشرين من عمرها، ووقعت مرة واحدة في غرام طبيب تعرفت إليه في المستشفى، وبادلها الطبيب حبا بحب؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى أن خسر وظيفته. كان يحدوها شك شديد حول إن كان أجبر على الرحيل عن المستشفى، أم أنه رحل من تلقاء نفسه بعد أن أصابه السأم من تعقيد علاقته بها، فقد كان متزوجا ولديه أبناء. كان للخطابات دور فعال آنذاك أيضا. بعد أن رحل، لم تنقطع بينهما الخطابات، وراسلته مرة أو مرتين بعد أن سمح لها بالخروج من المستشفى، وبعدها طلبت منه ألا يراسلها ولبى طلبها، لكن انقطاع رسائله دفعها إلى مغادرة تورونتو وقبول وظيفة في مجال السفريات؛ ومن ثم بات الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لا يعتريها سوى مرة واحدة في الأسبوع كلما رجعت ليلة الجمعة أو السبت. كان خطابها الأخير حازما ومتحفظا، ولازمها شعور بأنها بطلة من أبطال القصص التراجيدية حيثما حلت في المدينة وهي تجرجر حقائبها صعودا وهبوطا على سلالم الفنادق الصغيرة، وتحدثت عن الأزياء الباريسية وقالت إن عينات قبعاتها كانت ساحرة، واحتست كأسها بمعزل عن الآخرين. لو كان لديها من تخبره، لسخرت من هذه الفكرة تحديدا؛ لو كان لديها من تخبره، لقالت إن الحب هراء، لقالت إن الحب خدعة، وإنها لمؤمنة بذلك. ولكن استشرافا للأحداث، ما زالت تشعر بهدأة تكتنفها، وقشعريرة تسري في أوصالها، ونكوص للحس، وإعياء شديد.
التقطت صورة لها ... كانت تعرف كيف تريد أن تظهر في صورتها. كم كانت تود أن ترتدي ثوبا فضفاضا، أبيض اللون، بسيطا في تصميمه. لم يكن لديها ثوب بهذا الوصف، بل إنها لم تر مثيلا له إلا في الصور. وكم كانت تحب أن تترك شعرها منسدلا، أو لو كان له ألا ينسدل، لكان يطيب لها أن ترفعه من غير إحكام بالمرة وتعقصه بحبات من اللؤلؤ.
بدلا من ذلك، ارتدت بلوزتها الحريرية الزرقاء، وعقصت شعرها كالمعتاد. رأت أن الصورة جعلتها تبدو شاحبة بعض الشيء وغائرة العينين، وكان تعبير وجهها أكثر حزما وتوجسا مما كانت تريد. أرسلتها إليه على أية حال.
إنني لست مخطوبة، وليس لدي حبيب. وقعت في الحب مرة واحدة، وكان علي إنهاء العلاقة. كنت مستاءة آنذاك لكنني كنت أعرف أنني يجب أن أتحمل الألم، والآن أعتقد أن قراري كان صائبا.
بالطبع حاولت جاهدة أن تتذكره. لم تكن تتذكر أنها نفضت الماء عن شعرها كما قال، أو ابتسمت لشاب بينما تناثرت قطرات الماء من شعرها على المدفأة. يجوز أنه رأى هذا المشهد في أحلامه، ولعل هذا ما حدث.
طفقت تتبع أخبار الحرب بطريقة أكثر تفصيلا مما سبق، لم تحاول أن تتجاهلها بعد ذلك. جابت الشارع وهي تشعر أن رأسها يعج بالمعلومات المثيرة والمزعجة التي تجول بخاطر الجميع؛ معركة سان كونتا، وآراس، ومونت ديدييه، وأميان، ومن بعدها ثمة معركة كانت تدور رحاها عند نهر السوم حيث وقعت بالتأكيد أحداث معركة أخرى من قبل. فردت على مكتبها خرائط الحرب التي كان محتوى الواحدة منها معروضا على صفحتين متقابلتين كما في المجلات. رأت تقدم الألمان إلى إقليم المارن الفرنسي مميزا بخطوط ملونة، وأول دفعة من الجنود الأمريكيين في شاتو-تيري. تطلعت إلى صور بنية اللون لأحد الفنانين، مرسوم عليها فرس يصهل خلال غارة جوية، وبعض الجنود في شرق أفريقيا يحتسون جوز الهند، وصف من الجنود الألمان الأسرى ورءوسهم أو أطرافهم ملفوفة بضمادات، وتعبيرات وجوههم تشي بالكآبة والتجهم. الآن شعرت بما يشعر به الآخرون جميعا؛ مخاوف وهواجس مستمرة، وفي الوقت نفسه شعرت بتلك الإثارة الشديدة. يمكن للمرء أن يرفع بصره لأعلى ويحس بالعالم وهو يتحطم من وراء الجدران.
يسعدني أن أعرف أنه ليس لديك حبيب ، ولو أنني أعرف أن هذا يعد أنانية من جانبي. لا أعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى! لا أقول ذلك لأن حلما راودني عما سيحدث في المستقبل، أو لأنني شخص متشائم يستشرف دائما السوء. جل ما في الأمر أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق في رأيي، ولو أنني لا أطيل التفكير فيه، وأبذل قصارى جهدي كل يوم كي أبقى على قيد الحياة. لا أحاول أن أصيبك بالقلق، ولا أحاول أن أستدر عطفك أيضا، كل ما هنالك أنني أشرح كيف أن فكرة أنني لن أرى كارستيرز مرة أخرى تجعلني أعتقد أن بإمكاني أن أقول ما أشاء. أعتقد أن حالتي هذه أشبه بالإصابة بالحمى؛ ولذلك سأقول إنني أحبك. أفكر فيك واقفة على كرسي بالمكتبة تضعين كتابا في مكانه، وأتخيل نفسي وأنا أتقدم نحوك، وأضع يدي على خصرك لأساعدك في النزول، فتلتفتين نحوي وأنا أطوقك بذراعي كما لو أننا اتفقنا على كل شيء.
ظهر أيام الثلاثاء، يلتقي نساء وفتيات الصليب الأحمر في غرفة الاجتماعات التي تفصلها الردهة عن المكتبة. وعندما كانت المكتبة تخلو لبضع لحظات، كانت لويزا تقطع الردهة وتدلف إلى الغرفة التي تعج بالنساء. كانت قد قررت أن تحيك وشاحا؛ تعلمت في المستشفى كيف تحيك غرزة عادية، لكنها لم تتعلم قط - أو لعلها نسيت - كيف تحيك السطر الأول أو الأخير من الغرز.
كانت السيدات الأكبر سنا منشغلات تماما بتعبئة الصناديق أو بقص ضمادات وطيها من أقمشة من القطن الثقيل المبسوط على الطاولات؛ لكن كثيرا من الفتيات على مقربة من الباب كن يأكلن الكعك المحلى ويحتسين الشاي، وكانت إحداهن تمسك بشلة من الصوف على ذراعيها كي تلفها أخرى.
صفحه نامشخص
أخبرتهن لويزا بما كانت بحاجة إلى معرفته.
سألتها إحدى الفتيات والكعك لا يزال في فمها: «ماذا تريدين أن تحيكي إذن؟»
قالت لويزا إنها تعتزم حياكة وشاح لجندي.
قالت أخرى بأسلوب أكثر تهذيبا وهي تقفز من أمام الطاولة: «ستحتاجين إذن إلى الصوف الذي يستخدمونه في الجيش.» عادت وبحوزتها شلات من الصوف البني اللون، وبحثت عن زوج إضافي من إبر الحياكة في حقيبتها، وأعطته إلى لويزا.
قالت لها: «سأساعدك كي تبدئي فحسب. يجب أن يكون العرض متماشيا مع معايير الجيش أيضا.»
تكالبت الفتيات الأخريات وطفقن يغظن تلك الفتاة التي كانت تدعى كوري؛ قلن لها إنها لا تحيك الصوف على نحو سليم.
قالت كوري: «أأنا لا أحيكه على نحو سليم؟ ماذا لو وضعت هذه الإبرة في أعينكن؟» ثم سألت لويزا باهتمام: «أهو لصديق لك؟ صديق بالخارج؟»
أجابتها لويزا: «نعم.» بالطبع سيحسبنها عانسا، وسيسخرن منها أو يرثين لحالها، وفقا لأي نوع من التكلف يظهر في تصرفاتهن، إما لكونها طيبة القلب وإما لكونها ماجنة.
قالت الفتاة التي انتهت من تناول كعكتها: «احرصي إذن أن تكون الحياكة جيدة ومحكمة. أحكمي الغرز كي يشعر بالدفء!» •••
كانت ثمة فتاة تدعى جريس هورن بين هذا الجمع من الفتيات؛ كانت فتاة خجولة، لكن مظهرها ينم عن قوة إرادة. وكانت في التاسعة عشرة من عمرها؛ عريضة المحيا، رفيعة الشفتين مضمومتهما عادة، ذات شعر بني ينسدل على جبينها، وجسد يافع على نحو جذاب. كان جاك أجنيو قد خطبها قبل أن يرحل، لكنهما اتفقا على ألا يخبرا أحدا بخطبتهما.
صفحه نامشخص
وباء الإنفلونزا
أقامت لويزا علاقات صداقة مع بعض المسافرين الذين درجوا على الإقامة في الفندق، وكان من بينهم شاب يدعى جيم فراري، يبيع الآلات الكاتبة وتجهيزات المكاتب والكتب وكل أنواع الأدوات المكتبية. كان أشقر الشعر، مقوس المنكبين، مفتول القوام، في أواسط الأربعينيات من عمره؛ يحسب المرء من مظهره أنه يبيع أغراضا أثقل وزنا، وأكثر أهمية بالنسبة إلى الرجال، كالمعدات الزراعية. لم يكف جيم فراري عن السفر طوال فترة وباء الإنفلونزا، مع أنه لم يكن لأحد أن يعرف إن كانت المحلات مفتوحة آنذاك أم لا. بين الحين والآخر، كانت الفنادق تغلق أبوابها أيضا، شأنها شأن المدارس ودور السينما، وحتى الكنائس، وهو الأمر الذي عده جيم فضيحة.
قال للويزا: «يجب أن يخجلوا من أنفسهم، هؤلاء الجبناء! بم ينفعهم مكوثهم في بيوتهم وانتظارهم الوباء حتى يصيبهم في عقر دارهم؟ إنك لم تغلقي المكتبة قط، أليس كذلك؟»
أجابت لويزا أنها أغلقتها فقط عندما أصيبت بوعكة صحية؛ تعب خفيف لازمها أسبوعا على أقصى تقدير، لكن بالطبع تعين عليها الذهاب إلى المستشفى، لم يكونوا ليسمحوا لها بالإقامة في الفندق.
قال لها: «جبناء! إذا كان الموت مقدرا لك، فلا مناص منه، أليس كذلك؟»
ناقشا اكتظاظ المستشفى، ووفاة الأطباء والممرضين، والمشهد البشع الذي لا يهدأ للجنائز. كان جيم فراري يعيش في شارع به جمعية لدفن الموتى في تورونتو؛ قال إن الجمعية لا تزال تخرج الأحصنة السوداء والعربة السوداء، وكل شيء يستعان به في دفن الشخصيات المرموقة التي يستدعي دفنها إحداث جلبة.
قال: «كانوا لا يكفون عن الضجيج ليل نهار.» وأردف وهو يرفع كأسه: «إليك نخب الصحة إذن. تبدين بخير حال.»
كان يرى أن لويزا بدت في الواقع أفضل مما كانت عليه عادة؛ لعلها بدأت تستعمل أحمر شفاه. كانت بشرتها بلون الزيتون الشاحب، وبدا له أن وجنتيها خاليتان من الحياة. كانت أكثر أناقة أيضا، وبذلت جهدا أكبر كي تبدو ودودة. كانت متقلبة المزاج، تتصرف كيفما تشاء. صارت تحتسي الخمر الآن أيضا، ولو أنها لم تكن تقدم على ذلك دون أن تضيف إليه الماء. كانت تحتسي كأسا واحدة فحسب. تساءل هل هذا الاختلاف يرجع إلى وجود عشيق في حياتها؟ لكن العشيق ربما يضفي مزيدا من البهجة على مظهرها دون أن يزيد اهتمامها بكل من حولها، وهو الأمر الذي كان على يقين من أنه قد حدث. الأرجح أن الوقت كان يمر بسرعة البرق، واحتمالات العثور على زوج كانت تتبدد بشدة على خلفية الحرب، وذلك كفيل بإثارة أي امرأة. كانت أذكى وأطيب رفقة، وأبهى جمالا من ذي قبل أيضا، لو قارناها بمعظم الزوجات. ماذا حل بامرأة مثلها؟ أحيانا يكون الحظ العاثر هو السبب فحسب، أو غياب الحكم السديد على الأمور في الوقت الذي كان وجوده فيه مهما. هل الذكاء والثقة بالنفس بعض الشيء في الأيام الخوالي، كانا يشعران الرجال بعدم الارتياح؟
قال: «يستحيل تعطيل الحياة بالرغم من كل شيء. أحسنت صنعا إذ أبقيت المكتبة مفتوحة.»
كان ذلك بداية شتاء عام 1919 حيث تفشى وباء الإنفلونزا مجددا، بعد أن أصبح من المفترض أن تكون قد انتهت مرحلة الخطر. بدوا وكأنهما وحيدان في الفندق بأسره. كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة تقريبا، لكن صاحب الفندق كان قد خلد إلى النوم. كانت زوجته في المستشفى بعد أن أصيبت بالإنفلونزا. كان جيم فراري قد جلب زجاجة الخمر من المشرب الذي أغلق خشية العدوى، وجلسا إلى الطاولة بجوار النافذة في غرفة الطعام. تجمع الضباب الشتوي بالخارج، والتصق بالنافذة حتى شقت على الناظر رؤية أعمدة الإنارة أو السيارات القليلة التي تتهادى بحذر على الجسر.
صفحه نامشخص
قالت لويزا: «أوه، لم يكن إبقاء المكتبة مفتوحة مسألة مبدأ، بل كان لسبب شخصي أكثر مما يخيل إليك.»
بعدها تعالت ضحكاتها، ووعدته بقصة عجيبة. قالت: «لا بد أن الخمر أطلق للساني العنان.»
قال جيم فراري: «لست ثرثارا من هواة القيل والقال.»
رمقته بنظرة ساخرة حادة، وقالت إن من يزعم ذلك يتضح على الأغلب أنه على العكس تماما، بالضبط كأن يعد المرء بأنه لن يخبر أحدا أبدا.
قالت: «لك أن تفشي ما سأقول أيان وأنى شئت، بشرط ألا تفصح عن الأسماء الحقيقية، وألا تقصها على أحد في الجوار. آمل أن تكون ثقتي في محلها وألا تفعل ذلك! ولو أنني لا أشعر بأنني أعبأ البتة الآن، ربما سيتبدل شعوري هذا فور أن تتبدد آثار الشراب. ثمة درس مستفاد في هذه القصة، درس للنساء اللائي يجعلن من أنفسهن أضحوكة. ستتساءل وما الجديد في ذلك، من الممكن أن نتعلم هذا الدرس كل يوم!»
بدأت تقص عليه قصة جندي شرع في مراسلتها من خارج البلاد، وأنه يذكرها منذ أن كان يتردد على المكتبة، لكنها لم تتذكره؛ ومع ذلك، فقد ردت على رسالته الأولى بمنتهى الود، وبدأت المراسلات تتوالى بينهما. أخبرها عن المكان الذي كان يقيم فيه بالبلدة، فعرجت على البيت كي تصف له ما حل بالمكان. وأخبرها عن الكتب التي قرأها، وأفصحت هي عن معلومات شبيهة تخصها. خلاصة القول أن كلا منهما أفصح عن بعض ما يعتمل بداخله، وأحس بدفء مشاعره تجاه الآخر. كان هو الذي أعلن عن مشاعره أولا. لم تكن لتتسرع كأي امرأة ساذجة. في البداية، ظنت أنها تتعامل بلطف معه فحسب، وحتى وقت تال لذلك، لم تكن تريد أن تنبذه وتحرجه. طلب منها صورة، فالتقطت لنفسها واحدة، ولم ترق لها، لكنها أرسلتها إليه على أية حال. سألها إن كان لها عشيق، فأجابت صدقا أن ليس لها عشيق. لم يرسل أي صورة له، ولم تطلب هي منه واحدة، ولو أن الفضول كان ينال منها بالطبع للتعرف على شكله. لم يكن من السهل أن يلتقط لنفسه صورة في حرب تدور رحاها؛ علاوة على ذلك، هي لم تود أن تظهر بمظهر المرأة التي تتراجع عن لطفها وكياستها لو اتضح لها أن مظهره لا يرقى لتوقعاتها.
قال لها في رسائله إنه لا يتوقع أن يعود إلى أرض الوطن. قال إنه لا يخشى الموت بقدر خشيته أن ينتهي به الحال كما انتهى ببعض الرجال الذين رآهم وقت إقامته بالمستشفى متأثرين بجراحهم. لم يسهب في تفسيره، لكنها افترضت أنه كان يعني الحالات التي لم يعرفوا عنها شيئا إلا الآن - ذوي الأعضاء المبتورة، والمصابين بالعمى، والمصابين بالحروق الذين أمست هيئتهم أقرب إلى الوحوش. لم يكن يعترض على قدره، وهي لم تقصد أن تلمح إلى ذلك؛ جل ما في الأمر أنه كان يتوقع الموت، واختاره من بين خيارات أخرى، وفكر فيها وراسلها شأنه شأن الرجال الذين يراسلون حبيباتهم في موقف كهذا.
عندما وضعت الحرب أوزارها، مرت فترة قبل أن تصلها أنباؤه. كانت تستشرف رسالته كل يوم، لكن هيهات! لم تصلها أي رسائل. كانت تخشى من أنه ربما كان من الجنود الأسوأ حظا في الحرب كلها؛ هؤلاء الذين قتلوا في الأسبوع الأخير، أو حتى في اليوم الأخير، أو حتى في الساعة الأخيرة. أخذت تنقب في الصحيفة المحلية كل أسبوع، حيث ظلت قوائم الإصابات الجديدة تطبع إلى ما بعد ليلة عيد الميلاد، لكن اسمه لم يكن ضمن تلك القوائم. والآن، بدأت الصحيفة تسرد أيضا قائمة بأسماء العائدين إلى أرض الوطن، وعادة ما كانت تطبع صورة إلى جوار الاسم، وتعليقا مفرحا، وعندما زادت أعداد الجنود العائدين إلى أرض الوطن بكثرة وبسرعة، لم يكن ثمة مجال لتلك الإضافات. وبعدها رأت اسمه، شأنه شأن غيره من الأسماء في القائمة. لم يكن قد قتل، ولم يصب بأذى؛ إنه في طريق العودة إلى كارستيرز، بل لعله حتى قد بلغها بالفعل.
حينئذ، قررت أن تترك أبواب المكتبة مفتوحة على مصراعيها على الرغم من تفشي وباء الإنفلونزا. كل يوم كانت على يقين من أنه سيحضر، كل يوم كانت متأهبة للقائه. كانت أيام الآحاد عذابا بالنسبة إليها. عندما دخلت مجلس المدينة، كانت تحس دائما بأنه ربما سبقها إليه، ولعله كان متكئا على الجدار بانتظار وصولها. أحيانا كان هذا الشعور يكتنفها بطريقة غريبة جدا لدرجة أنها رأت ظلا حسبته رجلا؛ الآن استوعبت كيف يظن الناس أنهم رأوا أشباحا. كلما فتح الباب، كانت تتوقع أن تطالع وجهه. أحيانا كانت تبرم اتفاقا بينها وبين نفسها ألا تنظر إلى الباب إلى أن تعد حتى العشرة. قليل من الناس توافدوا على المكتبة بسبب وباء الإنفلونزا؛ فأوكلت لنفسها مهام جديدة كإعادة ترتيب الأشياء خشية أن يجن جنونها. ولم تكن تغلق المكتبة إلا بعد موعدها بخمس أو عشر دقائق. وبعدها تخيلت أنه ربما على الجانب الآخر من الشارع على درجات سلم مكتب البريد، يراقبها ويمنعه الخجل من أن يقدم على أي خطوة. كانت تخشى أن يكون مريضا، فكانت تتحسس أخبار الحالات الأخيرة، لكن أحدا لم يذكر اسمه.
في ذاك الوقت تحديدا، انقطعت عن القراءة تماما؛ بدت لها أغلفة الكتب وكأنها أكفان، إما بالية وإما مزينة، ولعل ما بينها ثرى.
صفحه نامشخص
كان يجب أن يلتمس لها العذر، أليس كذلك؟ كان يجب أن يلتمس لها العذر لظنها بعد كل هذه المراسلات أن الشيء الوحيد الذي يستحيل أن يحدث هو ألا يتودد إليها، وألا يتواصل معها مطلقا، وألا يطأ عتبتها بعد كل هذه الوعود. كانت الجنازات تمر من أمام نافذتها دون أن تلقي لها بالا ما دام أنه ليس في تابوت من التوابيت. حتى عندما كانت مريضة في المستشفى، كانت الفكرة المسيطرة عليها هي أنها لا بد أن ترجع، لا بد أن تغادر الفراش، لا بد ألا يظل الباب موصدا في وجهه. تحاملت على نفسها ووقفت وهي تترنح، وعادت للعمل. ذات نهار قائظ، وبينما كانت ترتب الصحف الجديدة على الأرفف، برز اسمه أمام عينيها كحلم من أحلامها التي راودتها وهي محمومة.
قرأت إشعارا عاجلا عن زواجه من الآنسة جريس هورن! لم تكن فتاة تعرفها، لم تكن من مرتادي المكتبات.
كانت العروس ترتدي فستانا من الحرير الرقيق البني المائل إلى الصفرة، يزدان بشريط يمزج بين اللونين البني والأصفر الباهت، وتضع على رأسها قبعة من القش لونها بني فاتح وتزدان بخطوط طولية مخملية بنية اللون.
لم تكن توجد صورة، لم يكن يوجد سوى شريط يمزج بين اللونين البني والأصفر الباهت. هذه هي نهاية قصتها الرومانسية، هذه هي النهاية التي لا مفر منها.
لكن وهي جالسة إلى مكتبها في المكتبة، منذ بضعة أسابيع، في ليلة سبت بعد أن رحل الجميع، وأغلقت هي باب المكتبة، ولما همت بإطفاء الأنوار، اكتشفت قصاصة من الورق، خطت عليها كلمات قليلة: «كنت خاطبا قبل أن أسافر.» بلا اسم؛ لا اسمها ولا اسمه. وكانت صورتها موجودة مطمورة جزئيا تحت النشافة.
كان بالمكتبة تلك الليلة، وكانت تلك الفترة حافلة برواد المكتبة، وكثيرا ما كانت تترك مكتبها بحثا عن كتاب ما، أو لترتيب الأوراق، أو لوضع بعض الكتب على الأرفف. كان في الغرفة نفسها معها وراقبها، وسنحت له الفرصة كي يكتب لها هذا، لكنه لم يدعها تتعرف عليه. «كنت خاطبا قبل أن أسافر.»
سألت لويزا: «هل تعتقد أن الأمر برمته كان مزحة؟ هل تظن أن رجلا يمكن أن يكون شريرا إلى هذه الدرجة؟» «بحسب خبرتي، مثل هذه الخدع تمارسها النساء أكثر من الرجال. لا لا، لا تفكري بهذه الطريقة أبدا، الأرجح أنه كان مخلصا، ولعله انجرف بعض الشيء. هكذا يبدو لك ظاهر الأمور فحسب. كان خاطبا قبل أن يسافر، ولم يتوقع أن يرجع سالما، لكنه عاد سالما، ولما عاد كانت خطيبته بانتظاره؛ ماذا كان بوسعه أن يفعل غير ذلك؟»
سألت لويزا: «ماذا كان بوسعه أن يفعل حقا؟» «لقد حمل نفسه أكثر مما تطيق.»
قالت لويزا: «آه، هذا ما حدث، هذا ما حدث! وماذا عساه أوقعني في هذه الحالة سوى غروري الذي يجب أن يكبح جماحه!» بدت عيناها تبرقان، وبدا تعبير وجهها لئيما، وهي تقول: «ألا تظن أنه أمعن النظر في صورتي، وحدث نفسه أن الأصل ربما يكون حتى أسوأ من تلك الصورة البائسة، فتراجع وانسحب؟»
أجابها جيم فراري: «لا أظن، ولا تحقري من شأنك!»
صفحه نامشخص
قالت: «لا أريدك أن تحسبني غبية. أنا لست غبية وعديمة الخبرة كما تصورني هذه القصة.» «حقا لا أحسبك غبية أبدا.» «ولكن، ربما تراني عديمة الخبرة؟»
حدث نفسه أن هذا هو النمط المعتاد، فبمجرد أن تفرغ امرأة من قص قصة عن نفسها، تنتقل إلى قصة أخرى. يشوش الخمر على عقولهن فيغيب عنهن تماما التعقل في الأمور.
سبق أن وضعت ثقتها فيه إذ أسرت إليه بأنها كانت مريضة بمستشفى، وأخبرته أنها وقعت في حب طبيب في ذلك المستشفى الذي كان مقاما في بقعة جميلة أعلى جبل هاميلتون، وجرت عادتهما على اللقاء هناك إلى جوار أروقة الممشى المحاطة بأسيجة. طبقات من الصخور الجيرية شكلت درجا، وفي البقاع المحتجبة كانت ثمة نباتات من غير المعتاد أن يراها المرء في أونتاريو؛ كنبات الأزالية، ونبات الوردية، ونبات الماغنوليا. كان الطبيب ملما ببعض المعلومات عن النباتات، وأخبرها أن هذا هو الكساء النباتي الكاروليني؛ نباتات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الموجودة هنا، وأكثر كثافة من حيث الإزهار. وثمة بعض البقاع التي تمثل غابات صغيرة أيضا وتحفل بأشجار بديعة المنظر، ومسارات تحتمي بالأشجار؛ أشجار الزنبق.
قال جيم فراري متعجبا: «زنبق؟! زنبق على الأشجار!» «لا، لا. هذا وصف لشكل أوراقها!»
سخرت منه بتحد، ثم عضت شفتها. رأى من المناسب أن يستمر في الحوار فقال: «زنبق على الأشجار!» بينما أكدت هي بالنفي، وقالت إن الأوراق هي التي تتخذ شكل الزنبق، وأخبرته أنها لم تقل ذلك قط، وأن عليه أن يكف عن ذلك! وطغت عليهما حالة من التقييم الحذر جدا - كان يعرفها تمام المعرفة ويتمنى فقط أن تدركها هي - حالة حافلة بمفاجآت سارة، وإيماءات شبه ساخرة، وآمال جريئة، ونوع قدري من الحنان.
قال جيم فراري: «كل هذا لنا وحدنا. لم يحدث ذلك من قبل، أليس كذلك؟ وربما لن يحدث مجددا.»
سمحت له بأن يمسك يديها، ويساعدها على النهوض من كرسيها، وأطفأ مصابيح غرفة الطعام بينما كانا يخرجان منها. صعدا الدرج الذي كثيرا ما صعده كل منهما منفردا، وتجاوزا صورة الكلب الواقف عند قبر سيده، وصورة هايلاند ماري وهي تنشد في الحقل، وصورة الملك العجوز بعينيه الجاحظتين، وبهيئته التي تنم عن الانغماس في الملذات والشبع حتى التخمة.
أخذ جيم فراري ينشد أو يهمهم وهما يرتقيان الدرج: «الليلة يخيم الضباب، وقلبي في حالة رهاب.» وضع يده بثقة على ظهر لويزا، وقال وهو يوجهها عند منعطف الدرج: «كل شيء بخير، كل شيء بخير!» وعندما صعدا الجزء الضيق من الدرج وصولا إلى الطابق الثالث، قال: «لم يسبق لي أن صعدت بهذا القرب من السماء في هذا المكان!»
لكن، في فترة متأخرة من الليل، أصدر جيم فراري أنينا ختاميا واستيقظ ليوبخ لويزا، وكان النعاس لا يزال يغالبه: «لويزا، لويزا، لماذا لم تخبريني أن الوضع كان هكذا؟»
قالت لويزا بصوت خافت متردد: «أخبرتك بكل شيء.»
صفحه نامشخص
قال: «وصلني انطباع غير صحيح إذن. لم أعتزم قط أن يحدث ذلك فارقا بالنسبة إليك.»
قالت إنه لم يحدث أي فارق. الآن، ودون أن يمارس عليها أي ضغوط، شعرت وكأنها تدور في دوامة على نحو لا يقاوم، وكأن الفراش تحول إلى نحلة دوارة يلهو بها طفل صغير وكادت تطيح بها. حاولت أن تفسر أن آثار الدم على الملاءة ربما تعزى إلى حيضها، لكن كلماتها خرجت من فمها بعدم اكتراث، فكان من العسير الربط بينها.
حوادث
عندما عاد آرثر إلى البيت قبل الظهر بفترة وجيزة، قادما من المصنع، صاح قائلا: «ابتعدي عن طريقي حتى أغتسل! وقع حادث في المصنع.» لم يرد أحد، كانت السيدة فير، مدبرة المنزل، في المطبخ تتكلم عبر الهاتف بصوت عال جدا لدرجة أنها لم تستطع أن تسمعه، وبالطبع كانت ابنته بالمدرسة. اغتسل وألقى بكل شيء يرتديه في سلة كبيرة، ومسح الحمام جيدا كما لو كان قاتلا. خرج في هيئة بهية حتى شعره كان لامعا ومصففا، وقاد سيارته إلى بيت الرجل. كان عليه أن يستفسر عن مكان البيت، كان يعتقد أنه يقع في بلدة فينيجر هيل، لكنهم نفوا ذلك وقالوا إن الأب هو الذي يعيش هناك، أما الشاب وزوجته فيسكنان على الجانب الآخر من البلدة وراء الموقع الذي أقيم فيه جهاز تبخير التفاح قبل الحرب.
عثر على الكوخين المبنيين بالطوب، وكانا متجاورين، واختار الكوخ الأيسر حسبما قيل له. لم يكن من الصعب التعرف على البيت على أية حال. سبقته الأنباء. كان باب البيت مفتوحا، ولم يكن الأطفال قد بلغوا سن دخول المدرسة، كانوا يمرحون في فناء البيت. ثمة فتاة صغيرة كانت تجلس على عربة للصغار، ولم تكن تتحرك، بل تعترض طريقه. دار من حولها، وبينما هو يفعل، خاطبته فتاة أكبر سنا بطريقة رسمية - وتحذيرية. «مات أبوها، أبوها هي!»
خرجت امرأة من الغرفة الأمامية، تحمل ستائر على ذراعيها، أعطتها لامرأة أخرى تقف في الردهة. كانت التي استلمت الستائر امرأة عجوز، ملامح وجهها مستكينة، وقد فقدت أسنانها العليا؛ من المرجح أنها كانت تأخذ طعامها معها إلى البيت لتتناوله بأريحية. أما المرأة التي أعطتها الستائر فكانت بدينة، ولكنها شابة نضرة البشرة.
قالت المرأة العجوز لآرثر: «أخبرها بألا ترتقي هذا السلم؛ ستكسر رقبتها وهي تخلع الستائر. هي تحسب أننا بحاجة إلى أن نغسل كل شيء. هل أنت الحانوتي؟ أوه، أرجو المعذرة! أنت السيد دود؟ جريس، تعالي هنا! جريس، إنه السيد دود.»
قال آرثر: «لا تزعجيها.» «تعتقد أنها ستزيل جميع الستائر وتغسلها وتعلقها مرة أخرى بحلول الغد؛ لأنه سيتعين عليه الدخول إلى الغرفة الأمامية. إنها ابنتي، ولا يمكنني أن أقول لها شيئا.»
جاء رجل مريح الطلعة، يرتدي حلة ذات طابع ديني، قادما من خلف البيت وقال بصوت حزين: «سوف تهدأ الآن.» كان القس الخاص بهم، لكنه لم يكن ينتمي لأي من الكنائس التي يعرفها آرثر، هل هو من الكنيسة المعمدانية؟ أم الخمسينية؟ أم من كنيسة الإخوة بليموث؟ كان يحتسي الشاي.
جاءت امرأة أخرى، وأزالت الستائر بسلاسة وخفة، وقالت: «ملأنا المغسلة وشغلناها. في يوم كهذا اليوم، ستجف بسرعة البرق. أبعدي الأطفال عن هنا فحسب.»
صفحه نامشخص
كان على القس أن يفسح الطريق، ويرفع كوب الشاي عاليا كي يتفاداها هي وحزمة الستائر التي بين يديها، قال: «ألن تقدم أي منكن كوبا من الشاي للسيد دود؟»
قال آرثر: «لا، لا عليك.» ثم قال للمرأة العجوز: «تكاليف الجنازة، إذا أمكنك أن تخبريها!»
قالت طفلة بنبرة منتصرة على الباب: «بالت ليليان في ملابسها! سيدة أجنيو، بالت ليليان في ملابسها!»
قال القس: «نعم نعم، سيكونون ممتنين جدا.»
قال آرثر: «المدفن وشاهد القبر، كل شيء. تأكد أنهن يفهمن ذلك، أيا كان ما يردن أن يكتب على شاهد القبر.»
كانت المرأة العجوز قد غادرت فناء البيت، وعادت وبين ذراعيها طفل يصرخ. قالت: «المسكينة! لقد أخبروها أنها لا يفترض أن تدخل البيت، أين بوسعها الذهاب إذن؟ ماذا بوسعها أن تفعل سوى أن تبول في ملابسها؟!»
خرجت الشابة من الغرفة الأمامية وهي تجرجر سجادة.
قالت: «أريد أن توضع هذه السجادة على الحبل وتنفض.»
قال القس: «جريس، ها هو السيد دود جاء ليقدم لك واجب العزاء.»
أردف آرثر: «ولأسأل إن كان ثمة شيء يمكن أن أفعله!»
صفحه نامشخص
صعدت المرأة العجوز الدرج حاملة الطفلة بين ذراعيها، وتبعها طفلان آخران.
وقعت عينا جريس عليهم. «أوه، لا تفعلوا! عودوا إلى الخارج!» «أمي هنا بالداخل.» «نعم، وأمك في خير حال ومنشغلة، ولا تريد إزعاجا، إنها تساعدني هنا بالخارج. ألا تعرفين أن والد ليليان توفي؟»
قال آرثر معربا عن رغبته في الانصراف: «هل من خدمة أسديها لك؟»
حدقت جريس فيه فاغرة فاهها. صوت المغسلة كان يملأ أرجاء المكان.
قالت: «نعم، انتظر هنا!»
قال القس: «إنها شاردة الذهن، ولا تقصد أن تتصرف بوقاحة.»
عادت جريس وهي تحمل مجموعة من الكتب.
قالت: «هذه الكتب كان قد استعارها من المكتبة، لا أريد أن أدفع غرامة عليها. كان يتردد على المكتبة ليلة كل سبت؛ ومن ثم أعتقد أن موعد استحقاقها يحين غدا. لا أريد التورط في مشكلة مع المكتبة.»
قال آرثر: «سأهتم بالأمر، يسعدني ذلك.» «كل ما في الأمر أنني لا أريد التورط مع المكتبة.»
قال القس معاتبا لها برفق: «كان السيد دود يتكلم عن تحمل أعباء الجنازة بالكامل، بما في ذلك شاهد القبر، أيا كان ما تريدينه على الشاهد.»
صفحه نامشخص
قالت جريس: «أوه، لا أريد شيئا مبالغا فيه.»
صباح الجمعة الماضية، وقع حادث أليم وبشع في مصنع نشر الخشب الخاص بآل دود. شاء القدر أن يعلق كم السيد جاك أجنيو بمسمار تثبيت لولبي في شفقة توصيل، وهو يحاول أن يمد يده تحت العمود الرئيسي، فانسحب ذراعه وكتفه تحت العمود؛ ونتيجة لذلك، احتكت رأسه بالمنشار الدائري الذي يبلغ قطره نحو قدم، وفي لمح البصر انفصل رأس الشاب المسكين عن جسده بزاوية من تحت أذنه اليسرى مرورا بعنقه. ويعتقد أنه لقي حتفه على الفور، لم يمهله القدر أن يتكلم أو أن يصرخ، لكن تدفق شلال الدم هو الذي لفت انتباه زملائه للكارثة.
هذه هي الرواية التي أعيدت طباعتها في الصحف بعد مرور أسبوع على الحادث، كي يطلع عليها من فاتته مطالعة الخبر، أو ليحصل عليها من أراد أن يحتفظ بنسخة إضافية ليرسلها إلى أصدقائه أو أقاربه خارج البلدة (ولا سيما الذين اعتادوا العيش في كارستيرز ورحلوا عنها). صحح هجاء كلمة «شفقة» إلى «شقفة»، ونشر اعتذار عن الخطأ. كان هناك أيضا وصف لجنازة مهيبة جدا حضرها حتى أناس من بلدات مجاورة، وأخرى بعيدة جدا مثل مدينة والي؛ منهم من جاء بالسيارة، ومنهم من وفد بالقطار، ومنهم من جاء على متن عربة تجرها الأحصنة. لم يعرفوا جاك أجنيو عندما كان على قيد الحياة، لكنهم أرادوا - حسبما جاء في الصحف - أن يكونوا مشاركين في تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير لما هالهم من بشاعة الحادث الذي أودى بحياته. أغلقت المحال جميعها في كارستيرز أبوابها لساعتين ظهر ذاك اليوم، ولم يغلق الفندق أبوابه، لا لشيء سوى أن المشيعين كانوا بحاجة إلى مكان يتناولون فيه الطعام والشراب.
ترك الفقيد من ورائه زوجته جريس وابنته ليليان ابنة السنوات الأربع. شارك الفقيد بجسارة في الحرب العالمية الأولى، وأصيب مرة واحدة فقط، ولم تكن إصابته حينها بالإصابة الخطيرة، وعلق كثيرون على هذه المفارقة.
لم يكن إغفال الصحيفة مسألة نجاة الأب من الموت في الحرب متعمدا، فمحرر الصحيفة لم يكن من أبناء مدينة كارستيرز، ونسي الناس إخباره بقصة الأب الناجي حتى فات الأوان.
لم يتذمر الأب نفسه من إغفال الصحيفة تلك القصة. في اليوم الذي أقيمت فيه الجنازة، حيث كان الطقس جميلا، خرج من البلدة مثلما اعتاد أن يفعل عندما يستقر رأيه على تمضية يومه بعيدا عن آل دود. كان يرتدي قبعة من اللباد، ومعطفا طويلا يمكن الاستفادة منه كبساط إن أخذته سنة من النوم. كان الحذاء الواقي الذي يرتديه مشدودا بأناقة على قدميه بأشرطة مطاطية. خرج قاصدا البحث عن أسماك الشبوط، لم يكن الموسم قد آن بعد، لكنه كان بارعا دوما في استباق الموسم. كان يصطاد خلال فصل الربيع وأوائل الصيف، ويطهو ما يصيده ويأكله. كان لديه مقلاة وإناء يخفيهما على ضفة النهر، أما الإناء فكان لغلي الذرة التي ينتزعها من الحقول في فترة لاحقة من العام، حينما يتناول أيضا ثمار أشجار التفاح البرية وأشجار العنب. كان في كامل قواه العقلية، بيد أنه كان يمقت الحوار، ولم يستطع أن يتفادى الحوار بالمرة خلال الأسابيع التالية لوفاة ابنه، لكنه كان ماهرا في اختصاره. «كان عليه أن يتحرى الحيطة أثناء عمله.»
ولما كان يمشي في البلدة ذاك اليوم، التقى شخصا آخر لم يحضر الجنازة؛ التقى امرأة. لم تحاول أن تبدأ معه أي حوار. الواقع أنها بدت حادة في عزلتها مثله تماما إذ كانت تشق طريقها بخطوات واسعة وسريعة. •••
امتد مصنع البيانو الذي بدأ في تصنيع الأرغن المزماري على طول الجانب الغربي من البلدة كجدار مدينة من العصور الوسطى. كانت هناك بنايتان شاهقتان كالمتاريس الداخلية والخارجية، يصل بينهما جسر توجد به المكاتب الرئيسية. إذا توغلت في المدينة وشوارع بيوت العمال، فستعثر على أفران تجفيف الأخشاب ومصنع نشر الأخشاب ومخازنها. كان نفير المصنع بمنزلة تنبيه لاستيقاظ الكثيرين؛ حيث كان ينطلق في السادسة صباحا، وكان ينطلق مرة أخرى إيذانا ببدء العمل في السابعة، وكذا في الثانية عشرة ظهرا إيذانا بساعة الغداء، وفي الواحدة ظهرا لاستئناف العمل، وأخيرا في الخامسة والنصف إيذانا بانتهاء العمل وعودة العمال إلى بيوتهم.
كانت اللوائح معلقة بجوار ساعة تسجيل الحضور والانصراف تحت الزجاج، وكانت اللائحتان الأوليان تنصان على ما يلي: «يخصم لمن يتأخر دقيقة واحدة ما يوازي 15 دقيقة من أجره. كن منضبطا.» «لا تستخف بعاملي الأمان والسلامة. انتبه لنفسك وللعامل الذي يعمل إلى جوارك.»
سبق أن وقعت حوادث في المصنع، والواقع أن ثمة رجلا لقي مصرعه عندما وقع فوقه حمل من الأخشاب؛ وقع ذلك الحادث قبل انضمام آرثر للعمل في المصنع. وذات مرة أثناء الحرب، فقد رجل ذراعه أو جزءا من ذراعه، ويوم أن وقع ذلك الحادث، كان آرثر في تورونتو؛ لذا، فهو لم يشهد حادثا واحدا، لم يشهد حادثا خطيرا على أية حال، لكن كثيرا ما أصبحت تراوده الآن فكرة أن شيئا ما قد يحدث.
صفحه نامشخص
لعله لم يكن لديه شعور جازم بأن المتاعب لن تعترض طريقه مثلما كان يشعر قبل وفاة زوجته. توفيت زوجته عام 1919 في الموجة الأخيرة لوباء الإنفلونزا، بعد أن تجاوز كل الناس خوفهم من الوباء؛ حتى هي لم تكن خائفة. كان ذلك منذ خمس سنوات تقريبا، وما زال الحادث بمنزلة الستار الذي أسدل على جزء من حياته كان يخلو من الهموم. لكن لبعض الناس، بدا آرثر دوما إنسانا مسئولا وجادا جدا؛ لم يلحظ أحد فارقا كبيرا في شخصيته.
في الأحلام التي راودته عن الحوادث، خيم الصمت، وكان كل شيء معطلا، كل آلة في المكان توقفت عن إصدار الضجيج المعتاد منها، وتلاشت أصوات الجميع، وعندما تطلع آرثر من نافذة المكتب، أدرك أن يوم الدينونة قد حان. لم يستطع أن يذكر قط أنه رأى أي أمارة على ذلك، كل ما رآه هو الخواء وغبار منتشر في ساحة المصنع ينبئه بأن الساعة قد حان موعدها «الآن». •••
ظلت الكتب داخل سيارته لأسبوع أو ما شابه. قالت ابنته بي: «ماذا تفعل هذه الكتب هنا؟» وحينئذ استعاد الذكريات.
قرأت بي عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها: «السير جون فرانكلين وقصة حب المعبر الشمالي الغربي» بقلم جي بي سميث، و«ماذا أصاب العالم؟» بقلم جي كي تشيسترتون، و«الاستيلاء على كيبيك» بقلم أرشيبولد هيندري، و«البلشفية: النظرية والتطبيق» بقلم اللورد برتراند راسل.
قالت بي: «البلجفية»، وصحح لها آرثر الكلمة. سألته عن مغزاها، فقال: «إنه مذهب شائع في روسيا لا أستوعبه - عن نفسي - استيعابا وافيا، لكنه مخز بحسب ما سمعته عنه.»
كانت بي في الثالثة عشرة من عمرها آنذاك، وكانت قد سمعت عن الباليه الروسي والدراويش، وعلى مدار العامين التاليين، كانت تعتقد أن البلشفية ضربا من الرقص الشيطاني أو ربما الإباحي! على الأقل كانت هذه هي القصة التي قصتها على الآخرين عندما شبت عن الطوق.
لم تذكر أن الكتب كانت مرتبطة بالرجل الذي تعرض للحادث، كان ذلك سيجعل القصة أقل إمتاعا. ولعلها نسيت فعلا. •••
كانت أمينة المكتبة مرتبكة، فالكتب ما زالت تحتفظ ببطاقات التعريف بداخلها؛ مما يعني أن أحدا لم يتصفحها، كل ما هنالك أنها أزيحت عن الأرفف، وأخذت من المكتبة. «الكتاب الذي ألفه اللورد راسل مفقود منذ فترة طويلة.»
لم يكن آرثر معتادا على هذا النوع من التأنيب، لكنه قال برفق: «إنني أعيدهم بالنيابة عن شخص آخر؛ ذلك الشاب الذي قضى نحبه في حادث المصنع.»
فتحت أمينة المكتبة كتاب فرانكلين، كانت تتطلع في صورة القارب المحاصر بالثلج.
صفحه نامشخص
قال آرثر: «زوجته طلبت مني إعادتها.»
التقطت كل كتاب على حدة، وهزته وكأنها تتوقع أن ثمة شيئا سيسقط منه، ومررت أصابعها بين الصفحات. كان الجزء السفلي من وجهها يتحرك بطريقة غير مستحسنة، وكأنها كانت تمضغ وجنتيها من الداخل.
قال آرثر: «تخميني أنه أخذها معه إلى البيت لما أحس برغبة في ذلك.»
بعدها بدقيقة قالت: «عذرا، ماذا قلت؟ أستميحك عذرا!»
كان يعتقد أن الحادث هو الذي أربكها. فكرة أن الرجل الذي مات تلك الميتة كان آخر من فتح هذه الكتب، وقلب هذه الصفحات، فكرة أنه ربما خلف جزءا من حياته في هذه الكتب؛ قصاصة من الورق أو شريطا لتنظيف الغليون وضعه لتمييز الصفحات، أو حتى بعض شذرات التبغ. كان هذا ما أربكها.
قال: «على أية حال، أتيت إلى المكتبة لإعادة هذه الكتب.»
انصرف عن مكتبها لكنه لم يغادر المكتبة في الحال، فهو لم يدخل المكتبة منذ سنين. ها هي صورة أبيه معلقة بين النافذتين الأماميتين حيث كانت دوما.
إيه في دود، مؤسس مصنع دود للأرغن، وراعي هذه المكتبة المؤمن بالتقدم والثقافة والتعليم، صديق مخلص لمدينة كارستيرز والعمال.
كان مكتب أمينة المكتبة في الممر الواصل بين الغرفتين الأمامية والخلفية، وكانت الكتب موضوعة على الأرفف المقسمة إلى صفوف في الغرفة الخلفية. كانت ثمة مصابيح مظللة باللون الأخضر لها حبال تشغيل طويلة تتدلى في الممرات التي بين الأرفف. تذكر آرثر أن ثمة مسألة أثيرت منذ عدة سنوات باجتماع مجلس الإدارة بشأن شراء لمبات بجهد 60 واط بدلا من 40 واط. أمينة المكتبة هذه هي التي تقدمت بهذا الطلب، وأجيب طلبها.
في الغرفة الأمامية، كانت الصحف والمجلات على أرفف خشبية، وبعض الطاولات الدائرية الثقيلة تحيط بها مقاعد بحيث يستطيع الناس الجلوس إلى الطاولات والقراءة، علاوة على صفوف من الكتب الداكنة الكبيرة وراء الزجاج، ربما كانت قواميس وأطالس وموسوعات. نافذتان عاليتان جميلتان تطلان على الشارع الرئيسي، وصورة والد آرثر معلقة بينهما. ثمة صور أخرى مبعثرة في أنحاء الغرفة ومعلقة على ارتفاع أعلى من اللازم، ومعتمة جدا، وتعج بعدد هائل من الشخصيات لدرجة تجعل من الصعب على الناظر إليها استبيانهم بسهولة . (لاحقا، عندما أمضى آرثر ساعات عديدة في المكتبة، وناقش محتوى هذه الصور مع أمينة المكتبة، علم أن واحدة منها كانت تمثل معركة فلودن حيث كان ملك اسكتلندا ينطلق نزولا من تل عال نحو حجاب كثيف من الدخان، وأخرى لجنازة للفتى ملك روما، وثالثة للشجار الذي نشب بين أوبيرون وتيتانيا من مسرحية «حلم ليلة صيف».)
صفحه نامشخص
جلس إلى إحدى طاولات القراءة حيث يمكنه أن يتطلع بناظريه عبر النافذة، وأمسك بنسخة قديمة من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» كانت موضوعة على تلك الطاولة. انصرف عن أمينة المكتبة، كان يرى أن هذا هو التصرف السليم ما دام أنها بدت منفعلة بعض الشيء. وفد زوار آخرون على المكتبة، وسمعها تتكلم معهم، بدا صوتها طبيعيا بالقدر الكافي الآن. ظلت فكرة مغادرة المكتبة تراوده، لكنه لم يفعل.
أعجبته النافذة العالية المكشوفة التي انعكس عليها ضوء الليل الربيعي، وراقت له روعة هاتين الغرفتين وطريقة ترتيبهما. أبهرته فكرة تردد الكبار على المكتبة، ومطالعتهم للكتب بانتظام، أسبوعا تلو الآخر، كتابا بعد كتاب، حياة كاملة. هو نفسه كان يطالع الكتب بين الفينة والأخرى كلما رشح له أحدهم كتابا، وعادة كان يستمتع بالكتب التي يطالعها، وبعدها ينتقل إلى قراءة المجلات كي يتابع مستجدات الأمور، ولم يكن يفكر قط في قراءة الكتب حتى يعترض طريقه كتاب جديد بالمصادفة.
كانت ثمة فترات عابرة خلت فيها المكتبة من روادها، ولم يبق إلا هو وأمينة المكتبة.
خلال واحدة من تلك الفترات، دنت منه ووقفت إلى جواره حيث انشغلت بإعادة بعض الصحف إلى مكانها على الرف، وعندما انتهت تحدثت إليه بإلحاح مكبوت. «أظن أن الرواية التي نشرت في الصحيفة عن الحادث كانت دقيقة نوعا ما، أليس كذلك؟»
قال آرثر إنها ربما كانت دقيقة أكثر من اللازم. «لماذا؟ لماذا تقول ذلك؟»
فشرح لها نهم العامة الذي لا ينتهي للتفاصيل المرعبة. هل على الصحيفة أن تشبع نهم قرائها؟
قالت أمينة المكتبة: «أعتقد أن هذا أمر طبيعي، أعتقد أنه من الطبيعي أن يرغب الناس في معرفة الأسوأ. الناس يريدون تصورها، وهذه رغبتي شخصيا. لا أعرف شيئا عن الآلات، ومن الصعب بالنسبة إلي أن أتخيل ما حدث حتى بمساعدة الصحيفة. هل انحرفت الآلة عن مهمتها المعتادة؟»
أجابها آرثر: «لا، لم تمسك الآلة بتلابيبه وتسحبه نحوها كما لو كان ذبيحة؛ جل ما في الأمر أنه ارتكب خطأ ما، أو تصرف بغير حرص على أية حال، فهلك على الفور.»
لم تنبس ببنت شفة، لكنها لم تبرح مكانها.
قال آرثر: «على المرء أن يحتفظ برباطة جأشه أثناء العمل، وألا يسرح بذهنه ولو لثانية واحدة. الآلة خادمك الأمين، وهي خادم ممتاز، لكن لا عقل له.»
صفحه نامشخص