كانت هناك بيوت في المزرعة لم يكن بوبي محل ترحاب فيها. وكان الأطفال يسخرون منه بينما تغلق الزوجات الأبواب في وجهه لدى رؤيته مارا عبر أفنيتهن في ثيابه السوداء المتشحمة، وهو يدير عينيه بطريقة شهوانية أو سخيفة جنونية، مناديا بصوت ناعم ويناشد: «هل من أحد هنا؟» وفوق هذا كان ألثغ ومتلعثما. وكان أبي يقلده بشكل جيد. وكانت هناك بيوت تغلق الأبواب في وجه بوبي، وبيوت أخرى - عادة لأناس ذوي سمعة سيئة - يقابل فيها بالترحاب والتحيات وواجب الضيافة، كما لو كان طائرا غريبا غير مؤذ سقط من السماء ووجد من يقدر أهميته لغرابته الشديدة. وحيثما لا يجد ترحابا لا يعود، وبدلا من ذلك كان يرسل أمي. لا بد وأنه قد كون في رأسه خريطة للمناطق الريفية المحيطة بكل بيت فيها، ومثلما تحتوي كل خريطة على نقاط لتبين مواضع الموارد المعدنية أو الأماكن ذات الأهمية التاريخية، كانت خريطة بوبي تحدد موضع كل ما هو معروف ومحتمل من كراسي هزازة أو بوفيهات من خشب الصنوبر أو أكواب لبن أو أكواب مصممة لحماية الشوارب من الاتساخ بالشراب. كنت أسمعه يقول لأمي وهما مجتمعان في غرفة الطعام وينظران إلى شيء وكأنه علامة تجارية على إناء مخللات قديم: «لماذا لا تذهبين وتلقين نظرة عليه؟» لم يكن يتلعثم وهو يتحدث إليها، وهو يتحدث في أمور العمل. ورغم أن صوته كان ناعما فإنه لم يعكس انكسارا، بل كان يوحي بأنه يعوض خسارته، وربما يحقق انتقامه. ولو جاءت معي صديقة من المدرسة إلى البيت، كانت تسألني متعجبة: «هل هذا بوبي كالندر؟» كانت تندهش وهي تسمعه يتحدث كشخص عادي، وتندهش لرؤيته داخل بيت أحد. كنت أمقت كثيرا ارتباطه بنا لدرجة أنني كنت أود أن أرد بالنفي.
لم يسبب بوبي - حقا - الكثير من المشاكل بميوله الجنسية. وربما يكون الناس قد تصوروا أنه ليست لديه أي منها. فعندما قالوا: إنه غريب الأطوار. لم يقصدوا أكثر من هذا: غريب، ومتقلب، ومزعج؛ فتلعثمه وعيناه العاجزتان عن التركيز ومؤخرته السمينة ومنزله المكتظ بالأشياء التي تخلصت الناس منها؛ كل ذلك اجتمع تحت هذه الصفة. لا أعلم ما إذا كانت شجاعة بالغة منه أن يحاول كسب قوت يومه في مكان مثل داجليش حيث كان كل ما يحصل عليه هو الإهانات العشوائية والشفقة غير المستحقة، أو ما إذا كان مجرد شخص يفتقر كثيرا إلى الواقعية. بالتأكيد لم يكن من الواقعية أن تبدر منه إيحاءات لاثنين من لاعبي البيسبول في قطار ستراتفورد.
لم أعرف أبدا كيف تعاملت أمي مع سوء حظه الأخير، أو ما الذي كانت تعلمه عنه. بعد سنوات قرأت في الجريدة أن معلما في الكلية التي كنت أرتادها قد تم القبض عليه نتيجة شجار في إحدى الحانات من أجل رفيق. سألتني أمي ما إذا كانوا يقصدون أنه كان يدافع عن صديق، ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم يقولوا هذا؟ لماذا قالوا: «رفيق»؟
ثم قالت: «مسكين يا بوبي، هناك دائما من يحاولون النيل منه. لقد كان ذكيا للغاية بطريقته الخاصة. البعض لا يمكنهم العيش في مكان كهذا؛ هذا غير مسموح، لا.» •••
كان مسموحا لأمي استخدام سيارة بوبي، من أجل رحلات العمل، وأحيانا في عطلة نهاية الأسبوع، عندما يذهب إلى تورونتو. وإذا لم يكن ينوي تحميل الكثير من الأشياء، فإنه كان يسافر - لسوء الحظ، كما قلت - بالقطار. كانت سيارتنا معطلة بما لا يسمح بتصليحها مطلقا، لدرجة أننا لم نكن نستطيع الخروج بها من المدينة. فقط كنا نذهب بها إلى داجليش ونعود، وليس أكثر من هذا. كان والداي مثل الكثير من الأشخاص الآخرين الذين شهدوا الأزمة الاقتصادية الكبرى (الكساد الكبير) وهم أصحاب أملاك، مثل سيارة أو فرن، والتي سرعان ما توقفت عن العمل بصورة تدريجية ولم يعد بالإمكان تصليحها أو استبدالها. فعندما نتمكن من السفر بها على الطرق، كنا نذهب إلى جودريتش مرة أو مرتين خلال الصيف، حيث البحيرة. وفي بعض الأحيان كنا نزور عماتي اللاتي كن يعشن خارج المدينة.
لطالما قالت أمي إن أبي ينتمي إلى عائلة غريبة. وقد كانت غريبة لأنها ضمت سبع بنات وولدا واحدا. كانت غريبة لأن ست بنات من هؤلاء الأبناء الثمانية ما زلن يعشن معا، في نفس البيت الذي ولدوا فيه؛ إذ كانت إحدى شقيقات أبي قد ماتت في سن مبكرة بسبب حمى التيفود، بينما رحل أبي من البيت. كانت هؤلاء الشقيقات الست أنفسهن شديدات الغرابة، على الأقل في نظر الكثيرين، في الوقت الذي عشن فيه. كن بقايا زمن بائد، حقا. هذا ما قالته أمي. كن ينتمين إلى جيل آخر.
لا أذكر أنهن جئن لزيارتنا يوما. لم يرغبن في المجيء إلى مدينة بكبر حجم داجليش، أو في المخاطرة بالابتعاد عن موطنهن. كانت المسافة بيننا وبينهن أربعة عشر أو خمسة عشر ميلا بالسيارة، وهن لم يمتلكن واحدة. كن يركبن عربة يجرها حصان، أو مزلجة يقودها حصان في الشتاء، رغم توقف الجميع عن استخدامها منذ سنوات طويلة. وبالتأكيد كانت هناك مواقف تضطرهن للتوجه إلى المدينة، لأني رأيت إحداهن ذات مرة في العربة التي يجرها الحصان بأحد شوارع المدينة. كان للعربة سقف عال بديع، وكأنه قلنسوة سوداء، وأيا كانت العمة التي رأيتها فقد كانت تجلس بانحراف على الكرسي، ونادرا ما كانت تنظر إلى أعلى بقدر ما يلزمها لتوجيه الحصان. ويبدو أن نظرات الناس الفاحصة كانت تسبب لها الكثير من الألم، ولكنها كانت عنيدة. فجلست في مكانها على المقعد، منكمشة وعنيدة، وكان منظرها غريبا بطريقتها الخاصة، مثلما كان بوبي كالندر غريبا بطريقته الخاصة. لم أستطع حقا تخيل أنها عمتي؛ فالرابطة بيننا بدت مستحيلة. ومع هذا كان بإمكاني تذكر وقت سابق ذهبت فيه إلى المزرعة - ربما أكثر من مرة؛ إذ كنت صغيرة جدا بما لا يتيح لي التذكر - ولم أشعر بهذه الاستحالة ولم أفهم سبب غرابة هؤلاء القريبات. كانت تلك المرة حينما كان جدي مريضا وملازما الفراش، يحتضر حسب اعتقادي، وفوقه مروحة ورقية ضخمة بنية اللون تعمل بواسطة نظام من الأحبال كان مسموحا لي بشدها. كانت إحدى عماتي توضح لي طريقة تشغيلها في اللحظة التي نادتني فيها أمي في الطابق السفلي؛ فنظرت أنا وعمتي إحدانا إلى الأخرى تماما كما ينظر طفلان أحدهما إلى الآخر حين يناديهما أحد الكبار. لا بد وأنني قد شعرت بشيء غريب في هذا الأمر، أو بغياب شيء كان متوقعا، بل وحتى ضروريا، في طريقة الاتزان، أو الحدود بيننا، وإلا ما كنت تذكرت الموقف.
كانت هناك واقعة أخرى لي مع إحدى عماتي، وأعتقد أنها كانت نفس العمة، ولكن ربما كانت عمة أخرى، كانت جالسة معي على السلالم الخلفية لبيت المزرعة، بينما توجد على درجة السلم بجوارنا سلة سعتها ستة كوارتات وتحتوي على مشابك الغسيل. كانت تصنع لي عرائس ومانيكانات من المشابك مستديرة الرأس، وكانت تستخدم قلم شمع أسود وآخر أحمر لترسم أفواهها وعيونها، ثم أخرجت بعض الغزل من جيب مئزرها لتلفه حولها وتصنع الشعر والملابس. وكانت تتحدث معي ؛ أنا متأكدة أنها كانت تتحدث. «هذه سيدة. لقد ذهبت إلى الكنيسة مرتدية شعرها المستعار، هل ترينها؟ كانت فخورة بنفسها. ماذا سيحدث لو هبت الريح؟ ستطير شعرها المستعار. أترين؟ انفخي أنت مقلدة الريح.» «هذا جندي. هل ترين أنه يملك ساقا واحدة؟ لقد فقد ساقه الأخرى بسبب قذيفة مدفع في معركة ووترلو. هل تعرفين معنى قذيفة مدفع؟ تلك التي تخرج من المدفع الضخم عندما تكون هناك معركة: بووووم!» •••
والآن سنخرج متجهين إلى المزرعة - في سيارة بوبي - لزيارة عماتي. رفض أبي أن يقود سيارة شخص آخر - قاصدا بذلك أنه لن يقود سيارة بوبي، ولن يجلس مكانه - ولذلك قادت أمي بدلا منه؛ مما جعل الرحلة كلها مشكوكا فيها بسبب سوء توزيع الأدوار. كان ذلك في يوم حار من أيام الآحاد في نهاية الصيف.
لم تكن أمي متأكدة من الطريق، بينما انتظر أبي حتى اللحظة الأخيرة ليطمئنها. كنا نعلم أنه يغيظها، ومع هذا لم يمر الأمر دون تحفظات أو توبيخ: «هل ننعطف هنا؟ أم المنعطف التالي؟ سأعرف حين أرى الجسر.»
صفحه نامشخص