من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
كنافة البحر
موسم الحبش
الحادثة
حافلة باردون
برو
صفحه نامشخص
عشاء عيد العمال
السيدة كروس والسيدة كيد
قصص الحظ العاثر
الزائرون
أقمار المشتري
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
صفحه نامشخص
كنافة البحر
موسم الحبش
الحادثة
حافلة باردون
برو
عشاء عيد العمال
السيدة كروس والسيدة كيد
قصص الحظ العاثر
الزائرون
أقمار المشتري
صفحه نامشخص
أقمار المشتري
أقمار المشتري
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مروة عبد السلام
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
من أفضل ما قيل عن الكتاب
صفحه نامشخص
القصة القصيرة ليست بحاجة إلى الطول، ولكن جعلها أقصر هو ما يستغرق وقتا طويلا.
هنري ديفيد ثورو
ما من بديل عن قراءة هذه القصص والاستمتاع بمهارات واحدة من أعظم مؤلفي القصص القصيرة في عصرنا.
ويليام فرينش، صحيفة «ذا جلوب آند ميل»
في قصصها المحببة إلى النفس، يبرز لحن يفيض حياة ويسلب الألباب.
مجلة «تايم ماجازين»
إلى بوب ويفر
شكر وتقدير
نشرت بعض قصص هذه المجموعة من قبل في عدد من المصادر كما يلي: «آل تشادلي وآل فليمينج: (1) الرابطة»: مجلة «شاتيلين»، نوفمبر 1979. «آل تشادلي وآل فليمينج: (2) حجر في الحقل»: مجلة «ساترداي نايت»، أبريل 1979. «كنافة البحر»: مجلة «ذا نيويوركر»، 21 يوليو 1980. «موسم الحبش»: مجلة «ذا نيويوركر»، 29 ديسمبر 1980. «الحادثة»: مجلة «تورنتو لايف»، نوفمبر 1977. «برو»: مجلة «ذا نيويوركر»، 30 مارس 1981. «عشاء عيد العمال»: مجلة «ذا نيويوركر»، 28 سبتمبر 1981. «السيدة كروس والسيدة كيد»: مجلة «تاماراك ريفيو»، شتاء 1982. «الزائرون»: مجلة «ذي أتلانتك مانثلي»، أبريل 1982. «أقمار المشتري»: مجلة «ذا نيويوركر»، 22 مايو 1978.
مقدمة
صفحه نامشخص
أجد صعوبة بالغة في التحدث عن أي عمل أؤلفه، أو النظر إليه - ناهيك عن قراءته - بعد نشره، وهو أسير الكتاب الذي طبع فيه. لماذا؟ جزء من هذا مجرد هاجس يراودني: ألم يكن من الممكن أن أكتبه بأسلوب أفضل، أو أن أهتدي إلى طريقة تخدمني بها الكلمات بصورة أصلح؟ ليس مجديا التفكير في هذا؛ فها هي ملقاة على سطح صفحات جامدة. ولكن ليس هذا كل شيء؛ فالقصة نوع من الامتداد لشخصيتي، شيء كان جزءا مني، ثم انفصل عني، وابتتر الآن، وأصبح مكشوفا ووحيدا. ليس الخجل أو الندم هو ما أشعر به بالضبط؛ فسأكون منافقة لو زعمت أنني أشعر بهذا، بما أن الانكشاف - أو نشر الكتاب - كان بالتأكيد ما يهمني طيلة الوقت، وإنما هو شعور بالانزعاج، أو عدم الرغبة في النظر فيه أو المراجعة. أحاول أن أجيد التحدث عن قصصي؛ لإحساسي أن هذا شيء بدائي وطفولي. وسأحاول الآن.
بعض من هذه القصص أقرب إلى حياتي الخاصة من بعضها الآخر، ولكن ليس من بينها ما اقترب من حياتي بالشكل الذي يتخيله الناس؛ فالقصة التي تحمل عنوان المجموعة القصصية لها علاقة بموت والدي، وهي ترتبط بزيارة قمت بها - خلال الصيف الذي أعقب وفاته - إلى قبة مكلافلن السماوية. ولكن لو انتويت أن أكتب - ولو حتى لأرضي نفسي - وصفا لموت والدي أو الرحلة التي قمت بها مع أصغر بناتي وأخيها غير الشقيق إلى القبة السماوية، فستكون النتيجة مختلفة تماما، ليس فقط من حيث التفاصيل الواقعية أو الأحداث، وإنما من حيث الإحساس. عندما تشرع في تأليف قصة، تجتمع عدة أشياء من أركان بعيدة في عقلك لتسيطر عليه. لربما ظننت أن بعض الأمور ستكون جزءا من القصة ولكنك تغفلها، في حين أنك تضخم أمورا أخرى. وهكذا فأنت تنسج خيوط القصة بمزيج من الأمل والرهبة والاندهاش المتكرر. ولو كانت القصة من نوع معين - بضمير المتكلم، فتبدو ساذجة ومباشرة - يتصور الناس أن كل ما فعلته هو أنك سجلت كل ما حدث في يوم معين.
وإنه لأمر جيد أن يعتقدوا هذا؛ لأنه يعني أن القصة أقنعتهم.
ألفت جميع القصص الواردة - بكل صدق - بالطريقة نفسها. بعضها مبني على تجربة شخصية - مثل «أقمار المشتري» أو «حجر في الحقل» - في حين بني بعضها الآخر على المشاهدات - مثل «الزائرون» أو «السيدة كروس والسيدة كيد». يضيع هذا الاختلاف خلال عملية التأليف، أو هذا ما يجب أن يحدث؛ فقد ابتعدت تماما بالقصص المأخوذة من تجربة شخصية عن الواقع. أما القصص المعتمدة على مشاهداتي، فتفقد حدودها القصصية؛ نتيجة سيطرة أشكال وأصوات مألوفة عليها.
أو هذا ما آمله على أية حال.
لأوصل فكرتي بوضوح، فإن تأليف قصة «موسم الحبش» قد يلقي بعض الضوء على هذه العملية؛ فقد حاولت بشكل متقطع على مدار سنوات تأليف قصة تدور حول فندق كنت أعمل فيه نادلة، وأنا في التاسعة عشرة من العمر. كان هذا فندقا صيفيا من الدرجة الثانية في مسكوكا. كنت أريد أن أكتب شيئا عن المساعد الأول للطباخ، وهو رجل غامض ومثير للإعجاب، والمساعد الثاني للطباخ مقطب الجبين الذي قد يكون أو لا يكون عشيقه، وشيف الحلويات الذي كان بذيئا بطبعه، وكذلك عن امرأة مبتذلة، والتي وصلت لتطارد المساعد الأول للطباخ، وعن تأثير هذا كله على هذه الفتاة الشابة، العادية، الخرقاء، الفضولية، الخجولة. ولكني لم أبلغ مدى بعيدا في تأليف هذه القصة. ثم عثرت ذات يوم - وسط أوراق أبي - على صورة فوتوغرافية للعمال الموسميين الذين كانوا يعملون في حظيرة ديوك الحبش التي كان يديرها. أعتقد أن الصورة التقطت عشية عيد الميلاد. وثمة مسحة مقترنة بالعصور الوسطى تتسم بها؛ الأثواب الفضفاضة، والعمامات، والمآزر، والوجوه المنهكة، التي تبدو ودودة ومريبة في آن واحد، ساخرة ومطيعة، ماكرة ومستكينة. جعلتني الصورة أفكر في أنواع معينة من العمل الشاق، في جوانب الرضى وروح الألفة والمجهود القاسي. لاحظت أن الشخصيات التي وظفتها في قصة الفندق قد التحمت بهذه القصة؛ فكان المساعد الأول للطباخ هو كبير العمال، بينما اتحد المساعد الثاني للطباخ وشيف الحلويات في هيئة براين، الشاب، العامل المؤقت، غير الكفء. أما المرأة المبتذلة، شديدة التصميم على ملاحقة الطباخ/كبير العمال فجسدتها جلاديس. وقد عرفت عن مارجوري وليلي من القصص التي سمعتها من أقاربي، ولدى مصفف الشعر. وكان مهما للغاية بالنسبة إلي أن أفهم العملية الفعلية لاستخراج أحشاء ديوك الحبش، وقد أسعفني حظي بحصولي على وصف دقيق لها من شقيق زوجي، الذي أهديت له قصة «موسم الحبش». ولكن الآن بعد أن كشفت خيوط تلك القصة، هل زاد فهمنا لما تدور حوله؟ هل هي عن الجنس؟ أم العمل؟ أم ديوك الحبش؟ أم وسائل الراحة والتسلية لامرأة في منتصف العمر؟ أم اكتشافات الفتاة الشابة؟ عندما أفكر في القصة، أفكر في اللحظة التي تخرج فيها مارجوري وليلي والفتاة من حظيرة الحبش، بينما يتساقط الثلج، فيعقدن أذرعهن ويصدحن بالغناء. أعتقد أنه من الأفضل أن تضم كل قصة بين جنباتها لحظة مشرقة غريبة كهذه، وبطريقة أو بأخرى هذا ما تدور حوله القصة.
كانت قصة «الحادثة» أول قصة أؤلفها في هذه المجموعة، وذلك في شتاء عام 1977. كنت أعمل في المقام الأول وقتذاك على كتابة قصص من أجل مجموعة قصصية أخرى. أما «حافلة باردون»، فكانت القصة الأخيرة في هذه المجموعة، وقد كتبتها في خريف عام 1981. وجميعها ألفته في أثناء إقامتي بكلينتون، أونتاريو. خلال تلك السنوات سافرت إلى أستراليا، والصين، ورينو، وسولت ليك سيتي، والعديد من الأماكن، ولكني لم أجد أن السفر قد ترك أثرا كبيرا في ككاتبة. قصة «حافلة باردون» - على سبيل المثال - تدور بعض أحداثها في أستراليا، ولكنها تدور بشكل أخص في بضعة بيوت غريبة وقذرة وصاخبة في شارع كوين بتورونتو، حيث أعيش غالبا خلال شهور الصيف.
سأحاول جاهدة - الآن - أن أتذكر ما تدور حوله هذه القصص. وهذا شيء غريب. فأنا أؤلفها بحماس وتفان وجهد كتوم، ثم بعد ذلك أفارقها وأتركها، لكي تقوى وتستقر في مكانها المحتوم. هذا يشعرني بالحرية. ما أفعله بعد ذلك أنني أشرع في حشد طاقاتي، والاستعداد للقيام بنفس العمل مرة أخرى.
أليس مونرو
كلينتون، أونتاريو، 1985
صفحه نامشخص
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
الرابطة
قريبتي أيريس من فيلادلفيا، وتعمل ممرضة، وقريبتي إيزابيل من دي موين، وتملك متجرا لبيع الزهور، وقريبتي فلورا من وينيبيج، وهي معلمة، وقريبتي وينيفريد من إدمنتون، وهي محاسبة؛ كن يوصفن جميعا بالعوانس. فقد كان لقب آنسات أرق من أن يصفهن أبدا؛ إذ كانت أثداؤهن ضخمة ومرعبة - ككتلة مصفحة واحدة - وبطونهن ومؤخراتهن ممتلئة ومشدودة بالمشد كأية امرأة متزوجة. في تلك الأيام، بدا أنه من المحبذ للنساء أن تمتلئ أجسامهن وتنضج حتى تصل إلى مقاس مناسب يبلغ العشرين، هذا إذا أردن أن يحظين بأي شيء في الحياة على الإطلاق. ثم - بحسب الطبقة الاجتماعية والطموحات الشخصية - إما أن تتهدل أجسادهن وترتخي، وتهتز مثل الكاسترد داخل فساتينهن شاحبة اللون ومآزرهن المبللة، أو تتخذ أشكالا ليس لانحناءاتها المشدودة ولا تضاريسها الباعثة على الفخر أية علاقة بالجنس، وإنما تكون مرتبطة أشد الارتباط بالحقوق والنفوذ.
كانت أمي وقريباتها من ذلك النوع الثاني من النساء؛ فكن يرتدين مشدا يرفع أجنابهن بعشرات الكلابات والعراوي، وجوارب تهسهس وتصر عندما يعقدن أقدامهن، وفساتين حريرية لأوقات بعد الظهر (مع العلم أن أمي حصلت على فستانها من إحدى قريباتها)، ويضعن بودرة للوجه (ريتشيل)، وبودرة للوجنتين، وعطرا، ومشابك شعر صدفية أصلية أو مقلدة لتزيين شعورهن. لا يمكن تخيلهن دون هذا المظهر، ما لم تلفهن بالكامل أرواب ستان مبطنة. وبالنسبة إلى أمي، كان من الصعب الإبقاء على هذا المظهر؛ إذ كان يتطلب براعة وتفانيا ومجهودا رهيبا. ومن كان يقدره؟ هي كانت تقدره.
جئن جميعهن ذات مرة لقضاء الصيف معنا. وقد قدمن إلى بيتنا لأن أمي كانت الوحيدة المتزوجة بينهن، ومنزلها كبير بما يكفي ليسع الجميع، ولأنها كانت فقيرة بما لا يتيح لها زيارتهن. كنا نعيش في داجليش بمقاطعة هورون في ويسترن أونتاريو، وقد سجل تعداد سكانها البالغ 2000 نسمة على لافتة عند حدود المدينة. صاحت قريبتنا أيريس، وهي تلهث جاهدة للخروج من مقعد السائق: «الآن أصبح التعداد 2004 نسمات.» كانت سيارتها أولدز موبيل موديل 1939، وقد قادتها إلى وينيبيج لتقل فلورا، ووينيفريد التي جاءتها من إدمنتون بالقطار. ثم توجه ثلاثتهن بالسيارة إلى تورونتو ليجلبن إيزابيل.
قالت إيزابيل: «ونحن الأربعة نخلق مشاكل أكثر من الألفي شخص مجتمعين. أين حدث هذا - أكان في أورانجفيل؟ - حيث ضحكنا من صميم قلوبنا لدرجة أن أيريس اضطرت إلى إيقاف السيارة؟ كانت تخشى أن تسقط بالسيارة داخل القناة!»
أصدرت السلالم صوت صرير تحت أقدامهن. «استنشقن هذا الهواء! أوه، لا يمكن لشيء أن ينافس هواء الريف النقي. أهذه هي الطلمبة التي تحصلون من خلالها على ماء الشرب؟ ألن يكون هذا ممتعا الآن؟ كوب من مياه الآبار!»
طلبت مني أمي أن أحضر كوبا، ولكنهن أصررن على الشرب من الكوب الصفيح.
بدأن يحكين عن أيريس وكيف أنها دخلت أحد الحقول لتلبي نداء الطبيعة، ثم رفعت رأسها لتجد نفسها محاطة بحلقة من الأبقار الفضولية.
قالت أيريس: «هذا هراء! لقد كانت عجولا مخصية.»
صفحه نامشخص
فقالت وينيفريد وهي تجلس على كرسي من الخيزران، وقد كانت أسمنهن: «لمعلوماتك كانوا ثيرانا.»
فردت أيريس: «ثيران! كنت سأعرف لو كانوا كذلك! أرجو أن يتحمل أثاثهم ثقل وزنك يا وينيفريد. لعلمك لقد كنت أجر مؤخرة سيارتي المسكينة جرا. ثيران! يا لها من صدمة! والعجيب أنني استطعت ارتداء سروالي!»
ثم حكين عن المدينة التي بدت وحشية في نورثرن أونتاريو، حيث رفضت أيريس التوقف بالسيارة ولو لشراء مياه غازية. فقد ألقت نظرة واحدة على الحطابين وصرخت: «سنتعرض جميعا للاغتصاب!»
سألت شقيقتي الصغرى: «ما معنى اغتصاب؟!»
فردت أيريس: «امم ... معناه سرقة محفظتك.»
محفظة: كلمة أمريكية لا تنتمي إلى مجتمعنا. ولم نكن أنا وشقيقتي نعلم معناها هي أيضا، ولكننا لم نستطع أن نطرح سؤالين على التوالي. كما أنني كنت أعلم أن هذا ليس معنى الاغتصاب على أية حال؛ فهو يعني شيئا قذرا.
قالت أمي بنبرة مرحة وتحذيرية في نفس الوقت؛ إذ كان الحديث داخل بيتنا يتسم بالتهذيب: «حقيبة. سرقة حقيبتك.»
الآن حانت لحظة فتح الهدايا. علب من القهوة، وبودنج بالجوز والبلح، ومحار، وزيتون، وسجائر جاهزة من أجل أبي. كن جميعا يدخن أيضا، باستثناء فلورا، المعلمة القادمة من وينيبيج. ورغم أن هذه كانت آنذاك علامة على التحضر، فإنها في داجليش علامة على احتمالية انحلال الأخلاق. وقد جعلنها رفاهية تتسم بالاحترام.
كما كانت الجوارب والأوشحة من بين الهدايا أيضا، وبلوزة من نسيج الفوال هدية لأمي، ومئزرتان بيضاوان متيبستان من نسيج الأورجندي هدية لي ولشقيقتي (وكانتا أحدث صيحة، ربما، في دي موين أو فيلادلفيا، ولكنها كانت سقطة في داجليش؛ حيث لم ينفك الناس يسألوننا عن السبب وراء عدم خلعنا لمئزرتينا). وأخيرا ، علبة شيكولاتة تزن خمسة أرطال. وبعد أن أكلنا الشيكولاتة بوقت طويل، وبعد رحيل قريباتنا، احتفظنا بعلبة الشيكولاتة في درج البياضات في بوفيه غرفة الطعام، في انتظار استخدامها لغرض احتفالي لم يحل علينا قط. كانت لم تزل ممتلئة بأكواب الشيكولاتة الورقية الفارغة السوداء والمحززة. خلال الشتاء أذهب أحيانا إلى غرفة الطعام الباردة وأشم الأكواب، مستنشقة رائحتها الدالة على جودة الصنع والرفاهية، وأقرأ ثانية الأوصاف الموجودة في الصورة المطبوعة على الوجه الداخلي لسطح العلبة: البندق، والنوجا القشدية، والحلوى التركية، والطوفي الذهبي، والقشدة بالنعناع. •••
نامت قريباتنا في غرفة النوم بالطابق السفلي، وعلى الأريكة السريرية المفرودة في غرفة المعيشة. ولو ارتفعت حرارة الجو خلال الليل لم يجدن حرجا في جر الفراش إلى الشرفة، أو حتى إلى الفناء. وكن يجرين القرعة لاختيار من ستنام في الأرجوحة الشبكية، ولكن لم يكن من حق وينيفريد الاشتراك في هذه القرعة. وبعد منتصف الليل كان يمكن سماعهن يقهقهن، ويسكتن بعضهن بعضا، ويصرخن: «ماذا كان ذلك؟» ولأننا كنا بعيدين عن أضواء شوارع داجليش، فقد أعجبهن الظلام، وعدد النجوم الهائل على صفحة السماء.
صفحه نامشخص
وذات مرة قررن الغناء:
جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.
كن يرين داجليش حلما يتخطى الواقع. وقد قدن سيارتهن إلى أعلى المدينة، وحكين عن غرابة أصحاب المتاجر، وكن يكررن أشياء سمعنها مصادفة في الشارع. وفي صباح كل يوم، كانت القهوة التي جلبنها معهن تملأ البيت برائحتها الأمريكية غير المألوفة، ثم يجلسن باسترخاء ويسألن عمن لديها فكرة عن كيفية قضاء يومهن. تمحورت إحدى الأفكار حول قيادة السيارة داخل الريف وجمع التوت. فتعرضن للخدش وارتفاع درجة الحرارة، وفي مرحلة ما علقت وينيفريد تماما - بلا حراك - بسبب الأغصان الشائكة، وجأرت طلبا لمن ينجدها. ومع هذا فقد قلن إنهن استمتعن بوقتهن كثيرا. وتمحورت فكرة أخرى حول استعارة صنارات أبي والذهاب إلى النهر. ثم عدن إلى البيت بصيدة من سمك القاروص، وهو نوع من الأسماك عادة ما نعيده إلى النهر. كما نظمن رحلات ، فكن يلبسن ثيابا عتيقة، وقبعات قديمة من القش، وبدلات العمل الخاصة بأبي، ويلتقطن الصور بعضهن لبعض. هذا غير أنهن صنعن كعكات متعددة الطبقات، وسلاطات مقولبة رائعة تتخذ شكل المعابد، وملونة مثل الحلي.
وذات مساء أقمن حفلا موسيقيا. وقامت أيريس بدور مغنية أوبرا. وأخذت المفرش الذي كان يغطي المنضدة بغرفة الطعام لتكسو نفسها به، وأرسلتني لأجمع لها ريش الدجاج لتضعه في شعرها. غنت «نداء الحب الهندي» و«النساء متقلبات». ثم أدت وينيفريد دور لص بنوك، حاملة معها مسدس ماء اشترته من أحد المتاجر. وكان على كل فرد أن يفعل شيئا؛ فأنشدنا أنا وشقيقتي «زهرة تكساس الصفراء» والتسابيح. أما أمي، فلدهشتنا الكبرى، ارتدت سروال أبي ووقفت على رأسها.
وسواء كانت قريباتنا متفرجات أو مؤديات، فقد كن معا، خلال كل لحظة يقظة. وأحيانا خلال نومهن؛ إذ كانت فلورا تتحدث في أثناء نومها. وبما أنها أيضا كانت أكثرهن تهذيبا وحرصا، كانت الأخريات يبقين مستيقظات ليطرحن عليها أسئلة، ليجبرنها على قول شيء يحرجها. وقد أخبرنها أنها كثيرة اللعن، وقلن: إنها نهضت فجأة وطلبت قائلة: «لماذا لا يوجد إصبع طباشير بحق الجحيم؟»
لقد كانت أقلهن معزة لدي؛ لأنها كانت تحاول شحذ عقلينا - أنا وشقيقتي - بطرحها أسئلة حسابية ذهنية علينا: «لو استغرقت سبع دقائق لأتخطى سبعة أحياء سكنية، وكانت خمسة أحياء بنفس المسافة، ولكن كان الحيان الآخران ضعف المسافة ...»
قالت أيريس، التي كانت أكثرهن وقاحة: «أوه، أنت لا تعرفين شيئا عن هذا يا فلورا!»
صفحه نامشخص
لو لم يجدن أية أفكار جديدة، أو كان الجو حارا بما لا يتيح القيام بأي شيء، كن يجلسن في الشرفة يحتسين عصير الليمون، أو عصير الفواكه المسكر، أو جعة الزنجبيل، أو الشاي المثلج، مع التوت الأسود وقطع الثلج المتكسرة من الكتلة الضخمة الموجودة بثلاجتنا. أحيانا كانت أمي تزين الأكواب بتغطيس حوافها في بياض البيض المخفوق، ثم في السكر. وكانت قريباتنا يقلن: إنهن منهكات، وإنهن لا يجدن عمل شيء. ولكن كان لشكاواهن صوت مسموع، كما لو أن حرارة الصيف نفسها قد وجدت لتضيف المزيد من التعاسة إلى حياتهن. •••
كفانا تعاسة.
في العالم الأرحب، وقعت أمور لهن: حوادث، وعروض زواج، ومواجهات مع مخابيل وأعداء. كان يمكن لأيريس أن تصبح ثرية؛ فقد وصلت أرملة مليونير إلى المستشفى في يوم من الأيام، وهي امرأة عجوز اعتراها الجنون وترتدي شعرا مستعارا أشبه بكومة القش، وقد جاءت على كرسي متحرك، متعلقة بحقيبة سفر قماشية. ما الذي سيكون بداخل الحقيبة سوى مجوهرات، مجوهرات حقيقية، زمرد وألماس ولؤلؤ كبير كبيض الدجاج. وما من أحد سوى أيريس استطاع التعامل معها؛ فأيريس هي من أقنعتها بإلقاء الشعر المستعار في القمامة (إذ كان مليئا بالبراغيث)، وإيداع مجوهراتها في خزانة البنك. فتعلقت هذه المرأة العجوز بأيريس كثيرا لدرجة أنها أرادت أن تعيد كتابة وصيتها، وأن تترك لأيريس المجوهرات والأسهم والأموال والمباني السكنية. لكن أيريس رفضت ذلك، من منطلق الأخلاق المهنية. «أنا موضع ثقة. يجب أن تكون الممرضة موضع ثقة.»
ثم حكت عن الممثل الذي عرض عليها الزواج وهو يحتضر نتيجة انغماسه الشديد في الملذات. لقد سمحت له بأن يتجرع زجاجة مطهر للفم لأنها لم تر أن فارقا سيحدث. كان ممثلا مسرحيا؛ وبالتالي لم نكن سنعرف اسمه حتى لو أخبرتنا، وهو ما لم تفعله.
كما أنها رأت شخصيات أخرى مهمة، من مشاهير وعلية القوم في فيلادلفيا، وهم في أسوأ حالاتهم.
قالت وينيفريد: إنها اطلعت على بعض الأمور أيضا. فالحقيقة الفعلية، الحقيقة المفزعة الفعلية حول بعض هؤلاء الأثرياء وعلية القوم تنكشف عندما تلقي نظرة على مالياتهم. •••
كنا نعيش عند نهاية طريق يمتد غربا من داجليش فوق أرض قذرة تعلوها مساكن خشبية صغيرة وأسراب من الدجاج والأطفال. كانت الأرض مرتفعة إلى مستوى مقبول حيث كنا نعيش، ثم تنحدر في الحقول والمروج الواسعة، مزينة بشجر الدردار، نزولا إلى منعطف النهر. وكان منزلنا متواضعا أيضا؛ مجرد بيت قديم مبني من الطوب بحجم مناسب، ولكنه كان في مواجهة الرياح، ومبنيا بطريقة غير مريحة، وزخارفه بحاجة إلى الطلاء. كانت أمي تنوي إصلاحه وتغييره بشكل جذري بمجرد حصولنا على بعض المال.
لم تفكر أمي كثيرا في مدينة داجليش؛ فعادة ما تعود بذاكرتها إلى الوراء، إلى مدينة فورك ميلز، في وادي أوتاوا، حيث ارتادت وقريباتها المدرسة الثانوية، وهي أيضا المدينة التي حط فيها جدهم قادما من إنجلترا. كما كانت تحن إلى إنجلترا، التي بالطبع لم ترها قط. كانت تشيد بفورك ميلز بسبب بيوتها الحجرية، ومبانيها العامة البديعة غير المبهرجة (المختلفة تماما - حسب قولها - عن مقاطعة هورون؛ حيث سادت فكرة تشييد بشاعات حجرية وإلصاق الأبراج بها)، وشوارعها الممهدة، ورقي الخدمات في متاجرها، والجودة العالية التي تتميز بها المعروضات، والطبقة الراقية التي ينتمي إليها السكان. من يعتبر نفسه راقيا في داجليش، فسيكون مثار سخرية العائلات الكبرى في فورك ميلز. ولكن مع هذا، كانت تلك العائلات الكبرى في فورك ميلز هي نفسها التي ستتعامل بتواضع لو احتكت بعائلات معينة في إنجلترا، والتي ترتبط بها أمي.
الرابطة. هذا كل ما يهم. كانت قريباتنا في حد ذاتهن عرضا يستحق المشاهدة، ولكنهن كن يمثلن رابطة تصل بيننا وبين العالم الواقعي والخصب والخطير. كن يعرفن كيفية التعامل معه، وجعله يلاحظ وجودهن. كن يستطعن السيطرة على فصل مدرسي، أو على جناح الولادة في مستشفى، أو على الجمهور بشكل عام. كن يعلمن كيفية التعامل مع سائقي سيارات الأجرة ومحصلي التذاكر في القطارات.
أما الرابطة الأخرى التي وفرنها - ووفرتها أمي أيضا - فكانت الرابطة مع إنجلترا والتاريخ. فمن المعروف أن الكنديين من أصل اسكتلندي - الذين نسميهم في مقاطعة هورون اسكتلنديين - وأحفاد الأيرلنديين سيخبرونك بتحرر تام أن أجدادهم قد جاءوا خلال مجاعة البطاطس بثيابهم المهلهلة، أو أنهم كانوا يعملون في رعي الغنم أو الزراعة، أو كانوا فقراء بلا أراض يتملكونها. ولكن أي شخص جاء أجداده من إنجلترا سيروي لك قصة عن أنه كان منبوذا في عائلته أو أنه كان الابن الأصغر الذي حرم من إرثه، أو عن النكسات المالية، أو المواريث المفقودة، أو الهروب للزواج من أشخاص غير مناسبين. وقد يكون هناك قدر من الحقيقة في هذه الروايات؛ فالأوضاع في اسكتلندا وأيرلندا كانت تدفع دفعا نحو الهجرة الجماعية، في حين قد يكون الإنجليز قد قرروا هجرة وطنهم لأسباب شخصية أقل درامية.
صفحه نامشخص
كان هذا هو الوضع في حالة آل تشادلي؛ عائلة أمي. لم تكن كل من إيزابيل وأيريس منتميتين بالاسم إلى آل تشادلي، ولكن كانت أمهما كذلك. كما كانت أمي منتمية إلى آل تشادلي، رغم أنها تنتمي الآن إلى آل فليمينج. أما فلورا ووينيفريد فلم تزالا منتميتين إلى آل تشادلي. وجميعهن انحدرن من جد ترك إنجلترا في شبابه لأسباب لم يتفقن عليها إلى حد ما؛ فقد كانت أمي تعتقد أنه كان طالبا في جامعة أكسفورد، ولكنه خسر كل الأموال التي أرسلتها عائلته له، فخجل من العودة لوطنه. لقد خسر أمواله في لعب القمار. كلا - حسب زعم إيزابيل - كانت هذه مجرد شائعة، وما حدث فعلا هو أنه ورط إحدى الخادمات في خطب ما واضطر إلى الزواج منها والذهاب بها إلى كندا. كانت عزب العائلة قريبة من كانتربري، حسب قول أمي. (حيث حجاج كانتربري، وأجراس كانتربري.) ولكن لم تكن الأخريان واثقتين من هذا؛ فقد قالت فلورا: إنهم كانوا يعيشون في غرب إنجلترا، وقيل: إن اسم تشادلي مرتبط بتشولموندلي؛ حيث كان هناك من يسمى باللورد تشولموندلي، وربما يكون آل تشادلي فرعا منتميا إلى هذه العائلة. ولكنها قالت إن هناك أيضا احتمالية بأن يكون الاسم فرنسيا، وكان أصله
Champ de laiche ، والذي يعني حقل البردي. في هذه الحالة، قد تكون العائلة قد قدمت على الأرجح إلى إنجلترا مع دخول ويليام الفاتح.
قالت إيزابيل: إنها ليست مثقفة، وإن الشخصية الوحيدة التي تعرفها في التاريخ الإنجليزي هي ماري ملكة اسكتلندا. وقد أرادت أن يخبرها أحد ما إن كان ويليام الفاتح قد جاء قبل ماري ملكة اسكتلندا، أم بعدها.
فقال أبي بلطف: «حقول البردي، لم يكن هذا ليجعلهم أثرياء.»
فردت أيريس: «حسنا، أنا لم أكن لأفرق بين البردي والشوفان. ولكنهم كانوا أثرياء بما يكفي في إنجلترا، وحسبما قاله جدي، فقد كانوا من الطبقة الأرستقراطية هناك.»
قالت فلورا: «هذا في السابق، كما أن ماري ملكة اسكتلندا لم تكن حتى إنجليزية.»
ردت إيزابيل: «خمنت هذا من الاسم، لقد أضحكتني.»
كانت كل منهن تعتقد - بغض النظر عن التفاصيل - أن العائلة قد تعرضت لانتكاسة كبرى، ونكبة غامضة، وأن في إنجلترا - بعيدا عن متناولهم - توجد أراض وبيوت وراحة وشرف. كيف يفكرن بغير ذلك وهن يتذكرن جدهن؟
لقد عمل موظفا بهيئة البريد - في فورك ميلز - وأنجبت له زوجته - سواء أكانت خادمة مغررا بها أم لا - ثمانية أطفال، ثم ماتت. وبمجرد خروج الأطفال الأكبر سنا إلى العمل والمساهمة في الإنفاق على البيت - إذ لم تكن هناك فائدة من تعليمهم - ترك الأب العمل. وكان شجاره مع مدير مكتب البريد هو السبب المباشر، ولكنه في الحقيقة لم يكن ينوي العمل لفترة أطول، وكان قد اتخذ قرارا بالبقاء في البيت ليعوله أبناؤه. وكان يتسم بروح الرجل النبيل، وكان كثير الاطلاع، وبليغ الخطاب وشديد الاعتداد بنفسه. ولم يتردد أبناؤه في إعالته، فانغمسوا في وظائفهم المتدنية، ولكنهم دفعوا أبناءهم - بعد أن اكتفوا بطفل أو اثنين لكل واحد، وكان معظمهم من البنات - للالتحاق بكليات إدارة الأعمال والمعلمين والتمريض. وكثيرا ما تحدثت أمي وقريباتها - اللاتي كن هؤلاء الأبناء - عن جدهن الذي اتصف بالعناد والأنانية، ونادرا ما تحدثن عن آبائهن المطحونين المحترمين. كن ينتقدن تكبره، وفي نفس الوقت يشدن بوسامته حتى بعد أن تقدمت به السن. كانت إهاناته للناس جاهزة ومطابقة للموقف، وانتقاداته لاذعة. وذات مرة - في تورونتو البعيدة، وفي الطابق الأرضي بإيتون في واقع الأمر - خاطبته زوجة صانع السروج القادمة من فورك ميلز، وهي امرأة بلهاء غير مؤذية، صائحة: «حسنا، أليس من الرائع أن أقابل صديقا قادما من وطني البعيد؟»
فقال الجد تشادلي: «سيدتي، أنت لست صديقتي.»
صفحه نامشخص
قلن: إنه كان يحب وضع الحدود. «سيدتي، أنت لست صديقتي!» يا له من عجوز متكبر! كان يختال في المكان رافعا أنفه في السماء كذكر الإوز المنتصر. وهناك سيدة أخرى من طبقة اجتماعية أدنى - حسب وصفه - كانت من اللطف لتجلب له بعض الحساء عندما أصابته نزلة برد. ورغم جلوسه في مطبخ ابنته - ليس حتى بيته هو - وهو ينقع قدميه في الماء - أثناء مرضه بل احتضاره في حقيقة الأمر - لم يزل بالوقاحة ليدير ظهره لها، ويترك لابنته مهمة شكرها. كان يحتقرها، فقد كانت شنيعة في استخدام القواعد النحوية، وكانت بلا أسنان. «ولكنه أيضا كان بلا أسنان! في هذا الوقت كان قد فقد جميع أسنانه!» «يا له من مغفل عجوز مدع!» «وعالة على أبنائه.» «مجرد كتلة من الغرور والتكبر. هذا كل ما كان عليه.»
ولكنهن في أثناء سرد هذه القصص - وهن يتضاحكن - كن ممتلئات هن أنفسهن بالغرور والتبجح. لقد كن فخورات لانتمائهن إلى مثل هذا الجد. كن يؤمن أن رفض مخاطبة الأشخاص المتدنين شيء مشين وحقير، وأن إظهار التميز على الغير شيء سخيف، خصوصا عندما يفقد المرء أسنانه، ولكنهن ما زلن معجبات به نوعا ما. هذا حقيقي. كن معجبات بإهاناته التي صبها على رئيسه - مدير مكتب البريد الكادح - وبسلوكه المتفاخر الذي صبه على جيرانه، مواطني كندا الديمقراطيين. (يا له من شيء مشين ألا يتعرف علي، هكذا قالت جارته المسكينة العجوز عديمة الأسنان.) ربما يكن حتى معجبات بقراره بترك أبنائه للعمل. كن يصفنه بالرجل النبيل. وكان حديثهن متناقضا، ولكن انتماءهن إلى هذا الجد ظل أمرا يسرهن.
لم أستطع فهم هذا، سواء في ذلك الوقت أو بعده. كانت الدماء الاسكتلندية هي التي تجري في عروقي؛ دماء أبي. فأبي لم يكن ليعترف أبدا بوجود أشخاص أقل شأنا أو أعلى شأنا. كان مؤمنا كثيرا بالمساواة، مشددا على ألا «نشتكي» - حسب قوله - لأي شخص، وألا نخضع لأحد، وألا نتعالى على أحد أيضا، وأن نتصرف كما لو لم يكن هناك فروق بين الناس. لقد سلكت نفس الطريق. كانت هناك أوقات - لاحقة - تساءلت فيها ما إذا كان التعقل المسبب للعجز هو الذي شكل لديه هذا الرأي، بقدر مساهمة أي مشاعر مرهفة أخرى؛ وتساءلت عما إذا كنت أنا وأبي لا نحمل في قلوبنا أفكارا سليمة ومنيعة عن التفوق والأفضلية، الأمر الذي لا يمكن لأمي وقريباتها بغطرستهن البريئة مضاهاتها أبدا. •••
لم يكن استلام خطاب من عائلة تشادلي في إنجلترا - بعد ذلك بسنوات - بهذا القدر من الأهمية بالنسبة إلي. كان الخطاب من امرأة عجوز تبحث في شجرة العائلة. اتضح في النهاية أنه كانت للعائلة فعلا أصول في إنجلترا، وأنهم لم ينبذوا فروعهم التي تعيش في الخارج، بل كانوا يحاولون الوصول إليها. كان جدي الأكبر معروفا لديهم. كان اسمه في شجرة العائلة: جوزيف إلينجتون تشادلي. وقد ذكر سجل الزواج أنه كان يعمل صبيا لدى جزار. كان متزوجا من هيلينا روز أرمور - وهي خادمة - في عام 1859. إذن فقد تزوج فعلا خادمة. ولكن ربما لم يكن أمر ديونه من لعب القمار في أكسفورد حقيقيا. فهل كان النبلاء الذين لم يحققوا النجاح في أكسفورد يذهبون للعمل لدى جزار؟
خطر لي أنه لو كان استمر في مهنة الجزارة، لتمكن أبناؤه من دخول المدرسة. وربما كان يمكن أن يصبح رجلا ثريا في فورك ميلز. لم تذكر كاتبة الخطاب ارتباطه بتشولموندلي، أو حقول البردي، أو ويليام الفاتح. لقد كنا ننتمي إلى عائلة محترمة، من الخدم والحرفيين، الفلاحين أو التجار الموسميين. في وقت من الأوقات ربما كنت سأصاب بالصدمة عند اكتشافي هذا الأمر، وربما لم أكن سأصدقه. ولكن في وقت آخر - لاحق - خلال انهماكي بالتخلص من جميع المفاهيم الخاطئة، وجميع الأوهام، كنت سأشعر بالنصر. وبمجرد انكشاف الأمر، لم أعد أكترث، بأي شكل من الأشكال. كنت قد نسيت تقريبا كانتربري وأكسفورد وتشولموندلي، وتلك الصورة الأولى التي كونتها عن إنجلترا من أمي، تلك الأرض السحيقة التي يسودها الوئام والشهامة، والفرسان الممتطين خيولهم، والأخلاق الحميدة (رغم أن عائلة جدي عانت بالتأكيد تحت وطأة الحياة الخشنة)، وسيمون دي مونتفورت، ولورنا دون، وكلاب الصيد، والقلاع، ونيو فوريست، تلك المعالم النقية الريفية البهيجة والمتحضرة المرغوبة إلى الأبد.
كما كانت عيني قد تفتحت على أمور أخرى بفضل زيارة قريبتنا أيريس.
حدث هذا خلال إقامتي في فانكوفر. كنت متزوجة من ريتشارد آنذاك ولدي طفلان صغيران. وذات مساء يوم سبت رد ريتشارد على الهاتف وجاء ليناديني. «احذري، يبدو أنه أحد من داجليش.»
لطالما تفوه ريتشارد باسم موطني كما لو كان لقمة غير مستساغة في فمه يريد أن يلفظها فورا.
ذهبت إلى الهاتف وتنفست الصعداء عندما وجدت أنه لم يكن أحد من داجليش على الإطلاق. لقد كانت قريبتنا أيريس. فلم يزل شيء من لكنة وادي أوتاوا عالقا بكلامها، شيء ريفي - لم تكن هي نفسها لتشك في هذا ولم تكن لتسر به - وشيء مبهج ومرح جعل ريتشارد يفكر في أصوات داجليش. قالت: إنها في فانكوفر، وإنها تقاعدت الآن وانطلقت في رحلة، وكانت تتلهف لرؤيتي. فطلبت منها المجيء لتناول الغداء معنا في اليوم التالي. «لحظة، تقصدين بالغداء وجبة المساء، أليس كذلك؟» «بلى.» «أردت فقط أن أستوضح الأمر، لأننا حين كنا نزوركم - أتذكرين؟ - كان أهلك يتناولون الغداء في الظهيرة. كنتم تسمون وجبة الظهيرة غداء. لم أكن أحسب أنكم ما زلتم تفعلون هذا، ولكني أردت أن أتأكد.»
أخبرت ريتشارد بأن إحدى قريباتي من طرف أمي ستأتي على الغداء، وأخبرته أنها تعمل - أو كانت تعمل - ممرضة، وأنها تعيش في فيلادلفيا.
صفحه نامشخص
قلت له: «إنها رائعة.» وقصدت من ذلك أنها نالت قدرا من التعليم، وأنها لبقة وحسنة الخلق. وأردفت: «لقد سافرت إلى كل مكان، وهي شخصية لطيفة إلى حد كبير. وبحكم عملها كممرضة قابلت جميع أنواع الشخصيات.» ثم حكيت له عن أرملة المليونير وعن المجوهرات التي كانت تحملها في حقيبتها القماشية. وكلما تحدثت عنها أكثر، أدرك ريتشارد شكوكي وحاجتي إلى الاطمئنان، وزادت مراوغته وإثارته لقلقي. كان يعلم أنه يتمتع بميزة يتفوق بها علي، وكنا قد وصلنا إلى مرحلة في زواجنا لا يمكن فيها التخلي عن أية ميزة بسهولة.
كنت أتمنى أن تسير الزيارة على ما يرام. أردت هذا من أجل نفسي، ولكن لم تكن بواعثي لتشرفني. كنت أريد أن تظهر قريبتي أيريس كأحد أفراد عائلتي الذين لا أخجل منهم، وأردت أن يرفعني ريتشارد وأمواله وبيتنا في نظر قريبتي أيريس إلى الأبد، لينتشلني من تصنيف القريبة الفقيرة. أردت أن يتحقق كل هذا بمهارة ولياقة وضبط نفس، وأن تكون النتيجة اعترافا مرضيا بقيمتي، من الجانبين كليهما.
اعتدت التفكير بأنني لو استطعت أن أقدم لريتشارد واحدا من أقربائي، ثريا وحسن الخلق ومهما، فسيتغير موقفه تجاهي. قاض أو جراح كان ليصلح في هذا الدور. لم أكن متأكدة على الإطلاق مما إذا كانت أيريس ستصلح بديلا. وكنت قلقة من طريقة تفوه ريتشارد بكلمة «داجليش»، وذلك الأثر المتخلف عن العيش في وادي أوتاوا - إذ كان ريتشارد يمقت اللكنات الريفية، بعد معاناته مع لكنتي - وشيء آخر في صوت أيريس لم أستطع استبيانه. هل كانت شديدة التلهف لمقابلتي؟ هل تفترض أن لها حقا عائليا لم أعد أومن أنه مبرر؟
لا يهم. بدأت أذيب الثلج عن فخذ حمل لطبخه، وصنعت فطيرة بمرينج الليمون. وكانت فطيرة مرينج الليمون هي ما تعدها أمي عندما تأتي قريباتنا لزيارتنا. كانت تلمع شوكات الحلويات، وتكوي فوط المائدة. فقد كنا نملك شوكات للحلويات (أردت إخبار ريتشارد بهذا)؛ أجل، وكانت لدينا فوط للمائدة، رغم أن مرحاضنا كان في القبو، ولم تكن لدينا مياه جارية حتى انتهت الحرب. اعتدت حمل الماء الساخن إلى غرفة النوم الأمامية في الصباح كي تغتسل قريباتنا. وكنت أصبه في إبريق يشبه الأباريق التي تعرض اليوم في معارض التحف، أو التي ترص اليوم على مناضد القاعات الكبيرة، وهي ممتلئة بنباتات الزينة.
ولكن ألم يكن يهمني أي من هذا حقا، أي من هذا الهراء عن شوكات الحلويات؟ هل كنت - أو هل أنا الآن - ذلك النوع من الأشخاص الذي يتصور أن امتلاكه هذه الأشياء يعني أن موقفه تجاه الحياة متحضر؟ كلا، على العكس، أو ليس تماما، نعم ولا. نعم ولا. كان ريتشارد يستخدم كلمة الخلفية: «خلفيتك» في نبرة منخفضة تحذيرية. أم كان هذا ما سمعته أنا، ولم يقصده هو؟ عندما يقول داجليش، حتى وهو يناولني دون أن يتفوه بكلمة واحدة خطابا من موطني، أشعر بالخزي، كما لو أن شيئا دنسا يحيط بي، عفن، شيء قذر ومقبض ومحتوم. الفقر - بالنسبة إلى عائلة ريتشارد - كان أشبه برائحة النفس الكريهة أو التقرحات المفتوحة؛ كان بلوى يجب على المبتلين بها تحمل جزء من اللائمة عليها. ولكن لم يكن من حسن الخلق أن أعلق على هذا. ولو قلت يوما أمامهم أي شيء عن طفولتي أو عائلتي، فإنهم ينسحبون بعض الشيء كما لو أنهم قد شاهدوا فحشا. ولكن من المحتمل أنني أصبح حادة وخجولة، مثل الشخصية متدنية التنشئة لدى فيرجينيا وولف والتي تؤكد أنها لم تذهب يوما إلى السيرك. ربما كان هذا ما يحرجهم. لقد كانوا لبقين في التعامل معي، أما ريتشارد فلم يستطع أن يكون بمثل هذه اللباقة، بما أنه وضع نفسه في موقف محفوف بالمخاطر، بزواجه مني. أراد أن يبتر هذا الماضي من حياتي والذي بدا له متاعا رثا. كما كان يقظا لأية إشارات تدل على عدم اكتمال عملية البتر، التي بالطبع لم تكتمل.
لم تزرنا قريبات أمي مجددا، أقصد بعضهن مع بعض؛ فقد ماتت وينيفريد فجأة ذات شتاء، بعد هذه الزيارة الخالدة بثلاث أو أربع سنوات على الأكثر. كاتبت أيريس أمي لتخبرها بأن الشمل قد تفرق الآن، وأنها تشك أن وينيفريد كانت مريضة بالسكر، ولكن وينيفريد لم ترد اكتشاف هذا بسبب حبها للطعام. وأمي نفسها لم تكن بصحة جيدة، فزارها من تبقى من قريباتنا، ولكن كل منهن بشكل مستقل، وبالطبع ليس كثيرا بسبب بعد المسافة. وفي كل خطاب من خطاباتهن تقريبا، كن يشرن إلى الوقت الممتع الذي قضينه جميعا خلال ذلك الصيف. ومع دنو أجل أمي قالت: «يا إلهي، أتعرفن فيم أفكر؟ في مسدس الماء. هل تذكرن ذلك الحفل؟ وينيفريد وهي تمسك مسدس الماء! كل منا كانت تؤدي دورا في الحفل. ما الذي فعلته أنا؟» «وقفت على رأسك.» «أجل، لقد فعلت.» •••
كانت قريبتنا أيريس - عندما زارتني - قد اكتسبت مزيدا من الوزن، وتوردت وجنتاها بسبب بودرة الوجه. كانت تلهث وهي تتقدم بصعوبة عبر الشارع. لم أرغب في أن أطلب من ريتشارد الذهاب لإحضارها من الفندق. لا أقول إنني كنت خائفة من طلب هذا، ولكنني ببساطة لم أرغب في أن تبدأ الأمور بشكل غير صحيح، بأن أجبره على عمل لم يعرض القيام به. وقلت لنفسي: إنها ستستقل سيارة أجرة. ولكنها أتت إلينا بالحافلة.
كذبت عليها قائلة: «كان ريتشارد مشغولا. لكن هذه غلطتي؛ فلم أتعلم القيادة.»
قالت أيريس بثبات جأش: «لا عليكما. لقد انقطع نفسي، ولكني سأكون بخير بعد دقيقة. الشحوم على جسمي هي ما تفعل بي هذا. وهذا ما أستحقه.»
ما إن قالت «انقطع نفسي» و«الشحوم على جسمي» حتى عرفت كيف سيدور اللقاء مع ريتشارد. بل عرفت من قبل أن تقول شيئا. فقد علمت بمجرد رؤيتي لها على باب بيتي، بشعرها الذي أتذكر أنه كان بنيا مائلا للرمادي، وقد أصبح الآن ذهبيا وملفوفا في كتلة واحدة يعلوها الرذاذ الرغوي، وفستانها الغالي الأزرق كلون الطاوس والمزركش عند إحدى الكتفين بحلية ذهبية. الآن وأنا أفكر في الأمر، أرى أنها بدت مذهلة. ليتني قابلتها في مكان آخر. ليتني قدرتها قدر ما تستحق. ليت كل شيء تم بشكل مختلف.
صفحه نامشخص
قالت ببشاشة: «حسنا، انظري إلى نفسك الآن، لقد حققت النجاح بالفعل!» نظرت إلي، وإلى الحديقة الحجرية وأشجار الزينة والنوافذ الواسعة. كان بيتنا يقع في كابيلانو هايتس على أحد جوانب جبل جراوس. فأضافت: «اسمحي لي أن أقول إنه مكان فخم يا عزيزتي.»
استقبلتها وعرفت ريتشارد بها، فقالت له: «إذن أنت زوجها. حسنا، لن أسألك عن أحوال عملك؛ لأنني أستطيع أن أرى أنها ممتازة.»
كان ريتشارد محاميا، وكان الرجال في عائلته يعملون إما محامين أو سماسرة بورصة. ولم يشيروا قط إلى ما يمارسونه في عملهم بأنه نوع من التجارة، بل لم يشيروا إلى ما يفعلونه في عملهم قط. فالحديث عما تفعله في عملك يعتبر تصرفا سوقيا، كما أن الحديث عن أحوالك المادية كان سوقيا بشكل غير مقبول بالمرة. ولو لم أكن حتى الآن سريعة التأثر بنقد ريتشارد فلربما كنت سأستمتع برؤيتها وهي تقابله بهذا الود مباشرة.
قدمت المشروبات فورا، على أمل أن أفصل نفسي عما يحدث قليلا. كنت قد أخرجت زجاجة من الخمر الإسباني، معتقدة أن هذا ما يعرضه المرء على السيدات العجائز اللائي لسن معتادات على الشراب . ولكن أيريس ضحكت وقالت: «أوه، أريد مشروب جين وماء تونيك مثلكما.»
ثم قالت: «أتذكرين تلك المرة التي زرناكم فيها جميعا في داجليش؟ كان الجو حارا للغاية! وكانت أمك لم تزل تتمتع بأخلاق فتيات البلدات الصغيرة، ولم تكن تسمح بدخول المشروبات الكحولية إلى بيتها؛ رغم أنني لطالما اعتقدت أن أباك قد يوافق على شرب الكحوليات، لو أقنعه أحد بتجربتها. ولم تكن فلورا تشرب الكحول اعتقادا منها أنه أمر لا يصح، ولكن وينيفريد كانت مدمنة له. هل تعلمين أنها كانت تحتفظ بزجاجة شراب في حقيبتها؟ كنا نتسلل إلى غرفة نومها ونأخذ رشفة، ثم نتغرغر بماء الكولونيا. كانت تسمي بيتكم بالصحراء الكبرى. وها نحن نعبر الصحراء الكبرى. ليس معنى هذا أنكم لم تقدموا لنا ما يكفي من عصير الليمون والشاي المثلج لإغراق سفينة حربية، أو إغراق أربع سفن حربية، أليس كذلك؟»
ربما تكون قد لاحظت شيئا عندما فتحت لها الباب - بعض المفاجأة أو الفشل في الترحاب. ربما كانت متهيبة، رغم أنها كانت في الوقت نفسه سعيدة كثيرا بالبيت والأثاث، الذي كان أنيقا وكئيبا، ولم يكن كله من اختيار ريتشارد. أيا كان السبب، كانت نبرة صوتها - وهي تتحدث عن داجليش وأبوي - فيها شيء من التعالي. لا أعتقد أنها أرادت أن تذكرني بموطني ومكانتي. أعتقد أنها أرادت أن تثبت نفسها، وأن تبين لي أن هذا مكانها، أكثر من هناك. «أوه، يا لها من متعة أن أجلس هنا وأنظر إلى إطلالتكم الرائعة! هل هذه جزيرة فانكوفر؟»
رد ريتشارد على نحو غير مشجع: «بوينت جراي.» «حسنا، كان يجب أن أعلم. لقد اتجهنا إلى هناك بالحافلة أمس، ورأينا الجامعة؛ فأنا بصحبة فوج سياحي يا عزيزتي، هل أخبرتك؟ تسع عوانس وسبع نساء أرامل وثلاثة رجال أرامل. لا يوجد بيننا زوجان. ولكن كما أقول، لا يمكن للمرء التنبؤ بشيء أبدا، والرحلة لم تنته بعد.»
ابتسمت، بينما قال ريتشارد إن عليه أن ينقل رشاش الماء. «سنتجه إلى جزيرة فانكوفر غدا، ثم سنبحر بالسفينة متوجهين إلى ألاسكا. سألني الجميع في موطني عن سبب ذهابي إلى ألاسكا، وقد قلت لهم: لأنني لم أزرها قط من قبل، أليس هذا بسبب كاف؟ لا يوجد شخص غير متزوج في الفوج، أوتعرفين لماذا؟ لأنهم لا يعيشون حتى يبلغوا هذه السن! هذه حقيقة طبية. أخبري زوجك؛ أخبريه أنه قام بالعمل الصائب. ولكني لا أنوي التحدث عن عملي. كل مرة أذهب فيها في رحلة ويكتشفون أنني ممرضة يظهرون لي عمودهم الفقري ولوزهم وأيما شيء آخر. يريدونني أن أتفحصهم وأجري لهم تشخيصا مجانيا. وأنا أقول لهم: إنني اكتفيت، وإنني متقاعدة الآن، وأريد الاستمتاع بحياتي. هذا أفضل كثيرا من الشاي المثلج، أليس كذلك؟ ولكن المسكينة اعتادت إنهاك نفسها كثيرا. اعتادت تجميل الأكواب ببياض البيض، أتتذكرين؟»
حاولت إقناعها بالحديث عن مرض أمي، وعن طرق علاج جديدة، وعن تجاربها في المستشفى، ليس فقط لأن هذا كان مشوقا بالنسبة إلي، ولكن لأني ارتأيت أن هذا قد يهدئها ويجعلها تبدو أكثر ثقافة. كنت أعلم أن ريتشارد لم يخرج، وأنه كان متواريا في المطبخ.
ولكنها طلبت عدم الحديث عن عملها. «بياض البيض المخفوق، ثم السكر. أوه يا عزيزتي، كان علينا الشرب باستخدام الماصة، ولكنه كان أمرا ممتعا، والمرحاض الموجود في القبو، وكل ذلك؛ لقد استمتعنا بوقتنا حقا.»
صفحه نامشخص
كان أحمر شفاه أيريس، وشعرها الممشط اللامع، وفستانها الملون، ودبوسها المزخرف الضخم، ونبرة صوتها وحديثها؛ كل ذلك كان جزءا من سياسة ليست بالسيئة: كانت تحب التنقل، والضوضاء، والتغيير، والبهرجة، والمرح الصاخب، والشجاعة. أمر ممتع. كانت ترى أن الآخرين يجب أن يحبوا هذه الأشياء أيضا، وحكت لي عن جهودها خلال رحلتها. «أنا من يبدأ المرح. البعض يشعر بالحزن خلال الرحلة، أو يصابون بعسر الهضم، فيتحدثون عن الإمساك. ودائما أحاول إبعاد أذهانهم عن ذلك. يمكنني أن ألقي بدعابة، أو أن أصدح بالغناء. كل صباح أستطيع فعليا أن أسمعهم يقولون: يا ترى، ما الأمر المجنون الذي ستفعله سليلة تشادلي اليوم؟»
قالت إنه ما من شيء ينغص عليها حياتها. وحكت لي عن رحلات أخرى. عن أيرلندا. خافت الأخريات من النزول لتقبيل حجر بلارني ، ولكنها قالت: «لقد قطعت كل هذه المسافة لأقبل هذا الشيء اللعين!» وهذا ما فعلته، بينما أمسك رجل أيرلندي ملحد بكاحليها.
شربنا وأكلنا، ثم جاء الأطفال فأثنت عليهم، وجاء ريتشارد وذهب، ولم ينغص شيء عليها أمسيتها. كانت محقة في هذا؛ لم يوقفها شيء عن سرد حكاياتها عن نفسها، وكان كم الوقت الذي قضته بلا كلام محدودا. حكت لي مجددا عن الحقيبة القماشية وعن أرملة المليونير. وأخبرتني عن الممثل الفاجر. كم حديث انطلقت فيه بهذا الشكل - تضحك وتلح وتنتقل من حكاية إلى أخرى وتعود بذاكرتها إلى الوراء. تساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كانت ستصف هذه الأمسية بالممتعة. بالتأكيد ستصفها؛ البيت والسجاجيد والأطباق وكل ما يوحي بالمال الوفير. قد لا يهمها أن ريتشارد قد تعامل معها بازدراء. ربما سيكون من الأفضل في رأيها أن يزدريها قريب ثري عن أن يرحب بها قريب فقير. ولكن هل كانت دائما على هذه الحال: دائما متهورة وطماعة وخائفة، لطيفة وربما حتى مثيرة للإعجاب، ولكنها تظل مع هذا شخصا تتمنى ألا تضطرك الظروف إلى الجلوس بجواره لمدة طويلة في حافلة أو حفل؟ لم أكن صادقة حين قلت: إنني تمنيت أن أقابلها في مكان آخر، وإنني تمنيت أن أقدرها حق قدرها، حين أشرت إلى أن أحكام ريتشارد هي العائق الوحيد. ربما كان بوسعي أن أقدرها أكثر، ولكني لم أستطع أن أبقى معها وقتا أطول.
كان من الضروري لي أن أتساءل عما إذا كان هذا هو كل ما وصل إليه الأمر، عن الابتهاج الذي أتذكره، الابتهاج والكرم، والانغماس في الشئون الدنيوية. سيكون من الأفضل أن أفكر في أن الزمن قد أفسد شيئا كان جميلا وأفقده قيمته، أو أن الصعاب قد غيرت كلتينا، دون أن يكون هذا التغيير للأفضل. قد تكون الأماكن والأشخاص القاسية هي ما جعلتنا قاسيتين في الأفعال والآراء؛ فقد كنت أحب في الماضي النظر إلى إعلانات المجلات التي تعرض نساء يرتدين الفساتين الشيفون، ومن فوقها الكابات فوق أكتافهن والرداءات الملفوفة حول خصورهن دون تثبيت، وهن يتكئن بمرافقهن على حاجز السفينة، أو يشربن الشاي بجوار نبتة موضوعة في أصيص. وكنت معتادة على فهم حياة الأناقة ورقة الشعور بفضلهن. فكن نافذتي على العالم، بينما كانت قريباتنا نافذة أخرى. في حقيقة الأمر كانت فساتين قريباتنا المكسوة بالأزهار تذكرني بهن، رغم أنهن كن أكثر امتلاء، وغير جميلات. حسنا، الآن وأنا أفكر في الأمر، ما الذي كانت هؤلاء السيدات في المجلات يتحدثن عنه، ويظهر في بالونات الحوار فوق رءوسهن؟ كن يناقشن مزيلات رائحة العرق، أو يشدن بحسن حظهن لأنهن ما عدن يصبن بالحكة لأنهن أصبحن يستخدمن فوط كوتيكس الصحية.
استعادت أيريس السيطرة على نفسها - أخيرا - وسألتني عن موعد آخر حافلة. كان ريتشارد قد اختفى مجددا، ولكني قلت لها إنني سأعيدها إلى فندقها في سيارة أجرة. إلا أنها رفضت وقالت إنها ستستمتع حقا برحلة الحافلة؛ لأنها دائما ما تنخرط في حوار مع أحد الركاب. جلبت جدول الحافلات ثم أوصلتها إلى المحطة. قالت إنها تأمل ألا تكون قد أرهقتني وريتشارد بحديثها، وسألتني عما إذا كان ريتشارد يتسم بالخجل. قالت لي إن بيتي جميل، وأسرتي لطيفة؛ مما جعلها تشعر بالسعادة لنجاحي في حياتي. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تضمني إلى صدرها لتودعني.
قال ريتشارد وهو يدخل إلى غرفة المعيشة بينما كنت أجمع فناجين القهوة: «يا لها من عجوز مثيرة للشفقة!» تبعني إلى المطبخ، مسترجعا أمورا قالتها - أمورا ادعتها - معظمها للتباهي. أشار إلى أخطائها النحوية، وإلى ما كان سيعتبر تنويعا مهذبا. تظاهر بالشك. ربما شعر بهذا حقا، وربما يكون قد ظن أنه سيكون من الأنسب أن يبدأ الهجوم فورا، قبل أن أوبخه على مغادرته الغرفة، وتصرفه بوقاحة، وعدم عرض توصيلها إلى الفندق.
كان لم يزل يتحدث في اللحظة التي ألقيت فيها طبق البيركس تجاه رأسه. كانت به قطعة من فطيرة مرينج الليمون. لم يصبه الطبق، واصطدم بالثلاجة، ولكن الفطيرة طارت وطالت جانب وجهه تماما مثل الأفلام القديمة أو برنامج «أحب لوسي». ظهرت على وجهه نفس أمارات الذهول التي تظهر في الأفلام، بالإضافة إلى البراءة المفاجئة، من جانبه . توقف عن الكلام، فاغرا فاه. أنا أيضا انتابني الذهول؛ لأن ما يعتبره الناس دائما مضحكا في مثل هذه المواقف يصبح حكما صادما للغاية في الحياة الواقعية.
جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
صفحه نامشخص
فما الحياة إلا حلم.
أرقد في الفراش إلى جوار شقيقتي الصغرى، وأستمع إلى غنائهن في الحديقة. تغيرت الحياة، بهذه الأصوات، بهذه الكيانات، بأرواحهن المعنوية المرتفعة، واعتدادهن الشديد بأنفسهن وبعضهن ببعض. والداي - بل جميعنا - في إجازة. مزيج الأصوات والكلمات معقد ومتنوع للغاية لدرجة بدا معها هذا الارتباك - وهذا التنافس المرح - أنه سيستمر إلى الأبد، ثم فجأة ولدهشتي - لأنني أصبت بالدهشة، رغم معرفتي بنمط الأدوار - يخفت صوت الأغنية، وبإمكاني سماع صوتين يناضلان:
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.
ثم صوت وحيد، إحداهن فقط تواصل الغناء - ببسالة - حتى النهاية. صوت واحد به مسحة غير متوقعة من الاستعطاف، من التحذير، وهو يترك الكلمات الأربع منفصلة تتطاير في الهواء. «ما الحياة ...» انتظروا «إلا ...» مهلا «حلم».
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
حجر في الحقل
لم تكن أمي تقضي جل وقتها في تزيين حواف الأكواب وإيهام نفسها بأنها تنحدر من أصول أرستقراطية؛ فقد كانت سيدة أعمال في واقع الأمر؛ تاجرة وبائعة. كان منزلنا مكتظا بأشياء لم تدفع ثمنها بالمال، وإنما أخذتها في نوع معقد من المقايضة، وقد لا نستطيع الاحتفاظ بها. ولبعض الوقت استطعنا أن نعزف على البيانو، وأن نستعين بالموسوعة البريطانية، وأن نأكل طعامنا فوق مائدة من خشب البلوط. ولكن في أحد الأيام كنت أعود إلى البيت من المدرسة لأجد أن كلا من هذه الأشياء قد ذهب لشخص آخر؛ فمرآة حائطية يمكن أن تذهب بسهولة، أو حامل للأباريق الزجاجية، أو مقعد مزدوج كان قد حل سابقا محل أريكة كانت قد حلت محل أريكة سريرية من قبل. باختصار: كنا نعيش في مخزن.
كانت أمي تعمل لصالح - أو مع - رجل يدعى بوبي كالندر، وكان يتاجر في التحف، ولم يكن لديه متجر: هو أيضا كان يملك بيتا مزدحما بالأثاث، وما كان في بيتنا هو مجرد الفائض لديه. كان يملك خزانات أطباق تواجه ظهورها ظهور بعض وحواشي فراش زنبركية مسندة إلى الحائط. كان يشتري الأشياء - أثاثا وأطباقا وملاءات سرير ومقابض أبواب وأذرع للطلمبات ومماخض لبن ومكاوي غير كهربائية وأي شيء - من أشخاص يعيشون في المزارع أو في قرى صغيرة بالريف، ثم يبيع ما اشتراه إلى معارض التحف في تورونتو. لم تكن ذروة موسم التحف قد بدأت بعد، فقد كان ذلك الوقت الذي يغطي فيه الناس الأشغال الخشبية القديمة بالطلاء الأبيض أو عجينة الباستيل بأقصى سرعة يستطيعونها، متخلصين من الأسرة ذات الأعمدة الخشبية، ليحل محلها أثاث غرفة النوم من خشب القيقب الأصفر، ويغطون الألحفة المرقعة بملاءات من قماش الشنيل. لم يكن شراء الأشياء صعبا؛ فقد كان ثمنها بخسا، ولكن كان بيعها تجارة بطيئة، وهو ما يفسر سبب تحولها إلى جزء من حياتنا طيلة موسم كامل. وبالمثل، كان بوبي وأمي على المسار الصحيح. ولو كانا استمرا، ربما كانا سيصبحان أثرياء ويحصلان على تصريح بالعمل. ولكن بطبيعة الحال، كان بوبي يتجنب الخسارة والمغامرة بينما عجزت أمي عن جمع الكثير من المال؛ فاعتقد الجميع أنهما مخبولان.
لم يستمرا في هذا العمل؛ فأمي أصابها المرض، بينما دخل بوبي السجن بتهمة التحرش في أحد القطارات.
صفحه نامشخص
كانت هناك بيوت في المزرعة لم يكن بوبي محل ترحاب فيها. وكان الأطفال يسخرون منه بينما تغلق الزوجات الأبواب في وجهه لدى رؤيته مارا عبر أفنيتهن في ثيابه السوداء المتشحمة، وهو يدير عينيه بطريقة شهوانية أو سخيفة جنونية، مناديا بصوت ناعم ويناشد: «هل من أحد هنا؟» وفوق هذا كان ألثغ ومتلعثما. وكان أبي يقلده بشكل جيد. وكانت هناك بيوت تغلق الأبواب في وجه بوبي، وبيوت أخرى - عادة لأناس ذوي سمعة سيئة - يقابل فيها بالترحاب والتحيات وواجب الضيافة، كما لو كان طائرا غريبا غير مؤذ سقط من السماء ووجد من يقدر أهميته لغرابته الشديدة. وحيثما لا يجد ترحابا لا يعود، وبدلا من ذلك كان يرسل أمي. لا بد وأنه قد كون في رأسه خريطة للمناطق الريفية المحيطة بكل بيت فيها، ومثلما تحتوي كل خريطة على نقاط لتبين مواضع الموارد المعدنية أو الأماكن ذات الأهمية التاريخية، كانت خريطة بوبي تحدد موضع كل ما هو معروف ومحتمل من كراسي هزازة أو بوفيهات من خشب الصنوبر أو أكواب لبن أو أكواب مصممة لحماية الشوارب من الاتساخ بالشراب. كنت أسمعه يقول لأمي وهما مجتمعان في غرفة الطعام وينظران إلى شيء وكأنه علامة تجارية على إناء مخللات قديم: «لماذا لا تذهبين وتلقين نظرة عليه؟» لم يكن يتلعثم وهو يتحدث إليها، وهو يتحدث في أمور العمل. ورغم أن صوته كان ناعما فإنه لم يعكس انكسارا، بل كان يوحي بأنه يعوض خسارته، وربما يحقق انتقامه. ولو جاءت معي صديقة من المدرسة إلى البيت، كانت تسألني متعجبة: «هل هذا بوبي كالندر؟» كانت تندهش وهي تسمعه يتحدث كشخص عادي، وتندهش لرؤيته داخل بيت أحد. كنت أمقت كثيرا ارتباطه بنا لدرجة أنني كنت أود أن أرد بالنفي.
لم يسبب بوبي - حقا - الكثير من المشاكل بميوله الجنسية. وربما يكون الناس قد تصوروا أنه ليست لديه أي منها. فعندما قالوا: إنه غريب الأطوار. لم يقصدوا أكثر من هذا: غريب، ومتقلب، ومزعج؛ فتلعثمه وعيناه العاجزتان عن التركيز ومؤخرته السمينة ومنزله المكتظ بالأشياء التي تخلصت الناس منها؛ كل ذلك اجتمع تحت هذه الصفة. لا أعلم ما إذا كانت شجاعة بالغة منه أن يحاول كسب قوت يومه في مكان مثل داجليش حيث كان كل ما يحصل عليه هو الإهانات العشوائية والشفقة غير المستحقة، أو ما إذا كان مجرد شخص يفتقر كثيرا إلى الواقعية. بالتأكيد لم يكن من الواقعية أن تبدر منه إيحاءات لاثنين من لاعبي البيسبول في قطار ستراتفورد.
لم أعرف أبدا كيف تعاملت أمي مع سوء حظه الأخير، أو ما الذي كانت تعلمه عنه. بعد سنوات قرأت في الجريدة أن معلما في الكلية التي كنت أرتادها قد تم القبض عليه نتيجة شجار في إحدى الحانات من أجل رفيق. سألتني أمي ما إذا كانوا يقصدون أنه كان يدافع عن صديق، ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم يقولوا هذا؟ لماذا قالوا: «رفيق»؟
ثم قالت: «مسكين يا بوبي، هناك دائما من يحاولون النيل منه. لقد كان ذكيا للغاية بطريقته الخاصة. البعض لا يمكنهم العيش في مكان كهذا؛ هذا غير مسموح، لا.» •••
كان مسموحا لأمي استخدام سيارة بوبي، من أجل رحلات العمل، وأحيانا في عطلة نهاية الأسبوع، عندما يذهب إلى تورونتو. وإذا لم يكن ينوي تحميل الكثير من الأشياء، فإنه كان يسافر - لسوء الحظ، كما قلت - بالقطار. كانت سيارتنا معطلة بما لا يسمح بتصليحها مطلقا، لدرجة أننا لم نكن نستطيع الخروج بها من المدينة. فقط كنا نذهب بها إلى داجليش ونعود، وليس أكثر من هذا. كان والداي مثل الكثير من الأشخاص الآخرين الذين شهدوا الأزمة الاقتصادية الكبرى (الكساد الكبير) وهم أصحاب أملاك، مثل سيارة أو فرن، والتي سرعان ما توقفت عن العمل بصورة تدريجية ولم يعد بالإمكان تصليحها أو استبدالها. فعندما نتمكن من السفر بها على الطرق، كنا نذهب إلى جودريتش مرة أو مرتين خلال الصيف، حيث البحيرة. وفي بعض الأحيان كنا نزور عماتي اللاتي كن يعشن خارج المدينة.
لطالما قالت أمي إن أبي ينتمي إلى عائلة غريبة. وقد كانت غريبة لأنها ضمت سبع بنات وولدا واحدا. كانت غريبة لأن ست بنات من هؤلاء الأبناء الثمانية ما زلن يعشن معا، في نفس البيت الذي ولدوا فيه؛ إذ كانت إحدى شقيقات أبي قد ماتت في سن مبكرة بسبب حمى التيفود، بينما رحل أبي من البيت. كانت هؤلاء الشقيقات الست أنفسهن شديدات الغرابة، على الأقل في نظر الكثيرين، في الوقت الذي عشن فيه. كن بقايا زمن بائد، حقا. هذا ما قالته أمي. كن ينتمين إلى جيل آخر.
لا أذكر أنهن جئن لزيارتنا يوما. لم يرغبن في المجيء إلى مدينة بكبر حجم داجليش، أو في المخاطرة بالابتعاد عن موطنهن. كانت المسافة بيننا وبينهن أربعة عشر أو خمسة عشر ميلا بالسيارة، وهن لم يمتلكن واحدة. كن يركبن عربة يجرها حصان، أو مزلجة يقودها حصان في الشتاء، رغم توقف الجميع عن استخدامها منذ سنوات طويلة. وبالتأكيد كانت هناك مواقف تضطرهن للتوجه إلى المدينة، لأني رأيت إحداهن ذات مرة في العربة التي يجرها الحصان بأحد شوارع المدينة. كان للعربة سقف عال بديع، وكأنه قلنسوة سوداء، وأيا كانت العمة التي رأيتها فقد كانت تجلس بانحراف على الكرسي، ونادرا ما كانت تنظر إلى أعلى بقدر ما يلزمها لتوجيه الحصان. ويبدو أن نظرات الناس الفاحصة كانت تسبب لها الكثير من الألم، ولكنها كانت عنيدة. فجلست في مكانها على المقعد، منكمشة وعنيدة، وكان منظرها غريبا بطريقتها الخاصة، مثلما كان بوبي كالندر غريبا بطريقته الخاصة. لم أستطع حقا تخيل أنها عمتي؛ فالرابطة بيننا بدت مستحيلة. ومع هذا كان بإمكاني تذكر وقت سابق ذهبت فيه إلى المزرعة - ربما أكثر من مرة؛ إذ كنت صغيرة جدا بما لا يتيح لي التذكر - ولم أشعر بهذه الاستحالة ولم أفهم سبب غرابة هؤلاء القريبات. كانت تلك المرة حينما كان جدي مريضا وملازما الفراش، يحتضر حسب اعتقادي، وفوقه مروحة ورقية ضخمة بنية اللون تعمل بواسطة نظام من الأحبال كان مسموحا لي بشدها. كانت إحدى عماتي توضح لي طريقة تشغيلها في اللحظة التي نادتني فيها أمي في الطابق السفلي؛ فنظرت أنا وعمتي إحدانا إلى الأخرى تماما كما ينظر طفلان أحدهما إلى الآخر حين يناديهما أحد الكبار. لا بد وأنني قد شعرت بشيء غريب في هذا الأمر، أو بغياب شيء كان متوقعا، بل وحتى ضروريا، في طريقة الاتزان، أو الحدود بيننا، وإلا ما كنت تذكرت الموقف.
كانت هناك واقعة أخرى لي مع إحدى عماتي، وأعتقد أنها كانت نفس العمة، ولكن ربما كانت عمة أخرى، كانت جالسة معي على السلالم الخلفية لبيت المزرعة، بينما توجد على درجة السلم بجوارنا سلة سعتها ستة كوارتات وتحتوي على مشابك الغسيل. كانت تصنع لي عرائس ومانيكانات من المشابك مستديرة الرأس، وكانت تستخدم قلم شمع أسود وآخر أحمر لترسم أفواهها وعيونها، ثم أخرجت بعض الغزل من جيب مئزرها لتلفه حولها وتصنع الشعر والملابس. وكانت تتحدث معي ؛ أنا متأكدة أنها كانت تتحدث. «هذه سيدة. لقد ذهبت إلى الكنيسة مرتدية شعرها المستعار، هل ترينها؟ كانت فخورة بنفسها. ماذا سيحدث لو هبت الريح؟ ستطير شعرها المستعار. أترين؟ انفخي أنت مقلدة الريح.» «هذا جندي. هل ترين أنه يملك ساقا واحدة؟ لقد فقد ساقه الأخرى بسبب قذيفة مدفع في معركة ووترلو. هل تعرفين معنى قذيفة مدفع؟ تلك التي تخرج من المدفع الضخم عندما تكون هناك معركة: بووووم!» •••
والآن سنخرج متجهين إلى المزرعة - في سيارة بوبي - لزيارة عماتي. رفض أبي أن يقود سيارة شخص آخر - قاصدا بذلك أنه لن يقود سيارة بوبي، ولن يجلس مكانه - ولذلك قادت أمي بدلا منه؛ مما جعل الرحلة كلها مشكوكا فيها بسبب سوء توزيع الأدوار. كان ذلك في يوم حار من أيام الآحاد في نهاية الصيف.
لم تكن أمي متأكدة من الطريق، بينما انتظر أبي حتى اللحظة الأخيرة ليطمئنها. كنا نعلم أنه يغيظها، ومع هذا لم يمر الأمر دون تحفظات أو توبيخ: «هل ننعطف هنا؟ أم المنعطف التالي؟ سأعرف حين أرى الجسر.»
صفحه نامشخص
كان الطريق معقدا. في داجليش كانت معظم الطرق مستقيمة، ولكن هنا كانت الطرق تنحرف حول التلال أو تتوارى في المستنقعات، وبعضها يضيق وينقسم إلى طريقين يفصلهما صف من نبات لسان الحمل والهندباء البرية. وفي بعض الأماكن كانت أشجار العليق تلقي فروعها المعترشة على الطريق؛ ذكرتني هذه الأشجار المرتفعة الكثيفة المليئة بالأشواك، ذات الأوراق لامعة الخضرة التي بدت أقرب إلى السواد، بأمواج البحر الذي انشق من أجل موسى.
ثم ظهر الجسر، وبدا كعربتي قطار متحدتين تم تجريدهما من هيكلهما الخارجي، وكان في اتساع حارة واحدة. كما كانت هناك لافتة تقول: إن الطريق غير آمن لعربات النقل. «لن ننجو.» هكذا قال أبي ونحن نتخبط في أرض الجسر. «ها هو ميتلاند العتيق.»
سألت شقيقتي: «أين؟ من؟ أين هو؟»
قالت أمي: «نهر ميتلاند.»
نظرنا إلى الأسفل، حيث الدرابزين المنهار على جانبي الجسر، ورأينا المياه الصافية بنية اللون تتدفق فوق أحجار ضخمة ومظلمة، بين ضفتين نمت عليهما أشجار الأرز، ثم تنكسر في صورة تموجات مبهجة بعد ذلك. كان جسدي يشتاق إليها.
سألت: «هل يذهبن للسباحة؟» كنت أقصد عماتي. فكرت في أنهن لو كن يذهبن للسباحة، فربما يأخذنني معهن.
قالت أمي: «السباحة؟ لا أستطيع تخيلهن. هل يفعلن هذا؟» وجهت السؤال لأبي. «ولا أنا أيضا أستطيع تخيلهن يسبحن.»
كان الطريق يصعد بنا لأعلى التل، بعيدا عن شجيرات الأرز الكئيبة على ضفاف النهر. بدأت أقول أسماء عماتي: «سوزان. كلارا. ليزي. ماجي. جينيت هي من ماتت.»
قال أبي: «وآني، لا تنسي آني.» «آني. ليزي. قلت اسمها قبلا. من فاتني اسمها؟»
ردت أمي وهي تنقل سرعة السيارة بدفعة صغيرة غاضبة: «دوروثي.» وصلنا إلى قمة التل، تاركين وراءنا المنطقة الغائرة التي تضم الشجيرات داكنة اللون. وعلى القمة هنا كانت توجد تلال عشبية مغطاة بحشيشة اللبن المزهرة ذات اللون الأرجواني، وأزهار البازلاء البرية المتفتحة، وأزهار السوزان ذات العيون السوداء. نادرا ما وجدت الأشجار هنا، ولكن ثمة الكثير من شجيرات البلسان التي تنمو بطول الطريق. بدت كما لو أنها رشت بالثلج. وكان هناك تل مكشوف يعلو غيره من التلال.
صفحه نامشخص
قال أبي: «قمة هيبرون. هذه أعلى نقطة فوق الأرض في مقاطعة هورون. أو هكذا كانوا يخبرونني دائما.»
قالت أمي: «الآن أعرف أين أنا. سنراه بعد لحظات، أليس كذلك؟»
ثم ظهر بيت خشبي ضخم لا تدنو منه الأشجار، وتقع خلفه الحظيرة والتلال البنية المزهرة. كان مخزن العربات التي تجرها الخيول هو الحظيرة الأصلية، وكانت مبنية من الخشب. لم يكن طلاء البيت أبيض اللون كما كنت أظن على نحو قاطع، بل كان أصفر، ومعظمه قد تساقط.
وأمام البيت - وسط مساحة ضيقة ظليلة نظرا لانحسار الظل في هذا الوقت من اليوم - جلس عدة أشخاص على كراسي مستقيمة الظهر. وعلى حائط المنزل خلفها علقت سطول اللبن المصقولة وأجزاء من فرازة القشدة.
لم يتوقعن مجيئنا؛ إذ لم يكن لديهن هاتف؛ وبالتالي لم نتمكن من إخبارهن بقدومنا. كن يجلسن فقط هناك في الظل، يتطلعن إلى الطريق الذي نادرا ما تمر عليه سيارة طيلة فترة ما بعد الظهيرة.
نهضت إحداهن وهرولت نحو جانب البيت.
فقال أبي: «هذه سوزان. إنها تخشى الناس.»
قالت أمي: «ستعود عندما تدرك من نحن؛ فهي لا تميز السيارة الغريبة.» «ربما. لا أعتمد على هذا.»
وقفت الأخريات، وعلى نحو رسمي للغاية جهزن أنفسهن، وأيديهن مشبكة أمام مآزرهن. وعندما خرجنا من السيارة وتعرفن علينا، خطت واحدة أو اثنتان منهن بضع خطوات تجاهنا، ثم توقفتا، وانتظرتا اقترابنا منهن.
قال أبي: «هلموا.» ثم قادنا إلى كل واحدة منهن بالدور، قائلا فقط أسماءهن للتعارف، بلا أحضان، ولا مصافحات، ولا قبلات: «ليزي. دوروثي. كلارا.»
صفحه نامشخص
لم يكن الأمر مجديا؛ فلن أستطيع مطلقا التمييز بينهن. لقد بدون جميعا متشابهات. لا بد وأن الفارق في العمر بينهن كان اثني عشر أو خمسة عشر عاما، ولكن بالنسبة إلي بدون جميعا في الخمسين من العمر تقريبا، أكبر من والدي، ولكنهن لسن طاعنات فعلا في السن. كن جميعا نحيلات وممشوقات القوام، وربما كن في وقت من الأوقات طويلات القامة إلى حد ما، ولكنهن الآن محدبات الظهر، بسبب العمل الشاق والإذعان. كان شعر بعضهن مقصوصا فبدت التسريحة طفولية بسيطة، وبعضهن ضفرنه ولففنه فوق رءوسهن. لم يكن شعر إحداهن أسود بالكامل أو رماديا بالكامل. كانت وجوههن شاحبة، وحواجبهن سميكة وكثيفة الشعر، وعيونهن غائرة ولامعة، رمادية زرقاء أو رمادية خضراء أو رمادية فحسب. وكن يشبهن أبي كثيرا وإن كان ظهره غير محدب مثلهن، كما كان وجهه متهللا، بعكسهن، فبدا رجلا وسيما.
كن يشبهنني كثيرا. لم أدرك ذلك وقتها ولم أكن لأرغب في ذلك. ولكن ماذا لو افترضت أنني توقفت عن الاهتمام بشعري، الآن، وأنني توقفت عن وضع مساحيق الزينة وتشذيب حاجبي، وارتديت فستانا دميما مطبوعا عليه إحدى الصور ومئزرا، ووقفت مطأطئة الرأس أحتضن مرفقي؟ أجل. وبالتالي عندما ألقت أمي وقريباتها نظرة علي، ووجهنني بقلق نحو الضوء، يسألن: «هل تنتمي إلى آل تشادلي؟ ما رأيكن؟» لقد كن يتطلعن إلى وجه ينتمي إلى آل فليمينج، ولأكون صادقة، كان وجها أجمل من وجوههن. (ليس الأمر أنهن كن يدعين الجمال، ولكن كان مجرد انتمائهن إلى آل تشادلي كافيا.)
كانت يدا إحدى عماتي حمراوين كلون أرنب مسلوخ. ولاحقا في المطبخ جلست تلك العمة على كرسي يستند إلى صندوق الحطب، شبه متوارية خلف الموقد، ورأيت كيف ظلت تفرك هاتين اليدين وتلويهما في مئزرتها. أذكر أنني رأيت هاتين اليدين قبلا، في واحدة من الزيارات القديمة، منذ أمد بعيد، وقد أخبرتني أمي أن السبب هو أن هذه العمة - هل كانت دائما نفس العمة؟ - كانت تنظف الأرضيات والمناضد والكراسي بغسول القلى لتبقى بيضاء. وهذا ما فعله الغسول بيديها. وبعد هذه الزيارة أيضا، في طريقنا إلى البيت قالت أمي بنبرة اتهام عام، مليئة بالأسى والاشمئزاز: «هل رأيتم هاتين اليدين؟ لا بد وأن العمة حصلت على استثناء كنسي حتى تنظف في أيام الآحاد.»
كانت الأرضية من خشب الصنوبر، وكانت بيضاء، ولامعة، ولكنها كانت في نفس الوقت ناعمة مثل المخمل. وكذلك الكراسي والمناضد. جلسنا جميعا في أرجاء المطبخ، الذي كان أشبه ببيت صغير متصل بالبيت الرئيسي، حيث البابان الأمامي والخلفي مواجهان أحدهما للآخر، والنوافذ موجودة في ثلاثة اتجاهات. كان الموقد الأسود البارد يلمع أيضا بدهان التلميع، وكانت حوافه مثل المرايا. كان مطبخهن أكثر نظافة وخلوا من الأثاث مقارنة بأي مطبخ رأيته من قبل. لم يكن هناك أثر للعبث، ما من إشارة على أن النساء اللاتي يعشن هنا سعين قط إلى الترفيه. فلا يوجد راديو، ولا صحف ولا مجلات، وبالتأكيد ولا كتب أيضا. لا بد وأنه كان هناك إنجيل في البيت، وبالتأكيد هناك نتيجة للتقويم، ولكننا لم نرهما. كان من الصعب الآن حتى أن نصدق بوجود عرائس تم تشكيلها من مشابك الغسيل وأقلام الألوان والغزل. أردت أن أسأل أيهن صنعت لي العرائس، وهل كان هناك فعلا سيدة بشعر مستعار وجندي بساق واحدة؟ ولكن رغم أن الخجل لم يكن في العادة إحدى صفاتي، فقد انتابني شلل غريب في هذه الغرفة، كما لو أنني قد أدركت للمرة الأولى أن أي سؤال سأطرحه قد يكون وقحا، وأن أي رأي سأعرضه قد يكون خطيرا .
العمل هو ما كان يملأ حياتهن، وليس الحوار. العمل هو ما كان يضفي على يومهن معنى. أعلم هذا الآن؛ فحلب الأبقار من ضروعها الخشنة، وجر المكواة للأمام والخلف على لوح الكي الذي تصدر منه رائحة الشياط، وإلقاء ماء المسح المحتوي على مواد التبييض على الأرضية المصنوعة من خشب الصنوبر؛ كل هذا كفيل بتحويلهن إلى بكم، وربما كن راضيات بهذا. لا يتم العمل هنا كما كان يتم في بيتنا، حيث كانت الفكرة السائدة هي سرعة إنجاز العمل. بل العمل هنا يمكن - بل لا بد - أن يستمر إلى الأبد.
ما الذي يمكن أن يقال في هذا السياق؟ عماتي - كمن ينخرطون في دردشة مع أسرة ملكية - لا يبادرن بأي تعليقات من تلقاء أنفسهن على الإطلاق، ولكنهن يكتفين بالإجابة عن الأسئلة. كما لم يعرضن تقديم واجب الضيافة. وكان من الواضح أنهن يبذلن مجهودا كبيرا ليمنعن أنفسهن من الفرار والاختباء، مثل عمتي سوزان، التي لم تعاود الظهور طيلة الوقت الذي قضيناه هناك. ما يمكن الإحساس به في تلك الغرفة هو ألم التواصل الإنساني. كنت مبهورة به. الألم المذهل، والاحتياج المهين.
كان أبي يعلم كيف يبدأ الحديث، فبدأ بالطقس: عن الحاجة إلى المطر، والأمطار التي هطلت في يوليو وأفسدت التبن، والربيع الرطب في العام الماضي، والفيضانات التي كانت تحدث في الماضي السحيق، واحتمالات أو عدم احتمال أن يكون الخريف ممطرا. أعاد إليهم هذا الحديث الهدوء. ثم سأل عن الأبقار، وحصان العربة الذي كان اسمه نيلي، وحصاني العمل: برينس وكوين، والحديقة، هل أصابت الآفات الطماطم؟ «كلا، لم تصبها.» «كم كوارتا جمعتن؟» «سبعة وعشرين.» «هل صنعتن أي صلصة حارة؟ هل أعددتن بعض العصير؟» «أجل، عصير وصلصة حارة.» «إذن لن تتضورن جوعا خلال الشتاء القادم. ستزددن سمنة المرة القادمة.»
صدرت قهقهات من اثنتين منهما وتشجع أبي وواصل إغاظتهن. سألهن ما إذا كن يرقصن كثيرا هذه الأيام. وهز رأسه وهو يتظاهر بأنه يتذكر ما كان معروفا عنهن بملاحقتهن للحفلات الراقصة في أرجاء البلد، والتدخين والمرح. قال: إنهن كن يسئن التصرف ، وإنهن رفضن الزواج لأنهن كن يفضلن المغازلة، وإنه لم يكن يستطيع أن يرفع رأسه لأنهن كن مصدر خزي له.
تدخلت أمي عندئذ. لا بد وأنها كانت تريد إنقاذهن، متصورة أنه من القسوة إغاظتهن بهذه الطريقة، والإسهاب في الحديث عما لم يمتلكنه أو يفعلنه يوما.
قالت: «هذه قطعة أثاث بديعة؛ أقصد هذا البوفيه، لطالما أعجبني!»
صفحه نامشخص