لو لم يجدن أية أفكار جديدة، أو كان الجو حارا بما لا يتيح القيام بأي شيء، كن يجلسن في الشرفة يحتسين عصير الليمون، أو عصير الفواكه المسكر، أو جعة الزنجبيل، أو الشاي المثلج، مع التوت الأسود وقطع الثلج المتكسرة من الكتلة الضخمة الموجودة بثلاجتنا. أحيانا كانت أمي تزين الأكواب بتغطيس حوافها في بياض البيض المخفوق، ثم في السكر. وكانت قريباتنا يقلن: إنهن منهكات، وإنهن لا يجدن عمل شيء. ولكن كان لشكاواهن صوت مسموع، كما لو أن حرارة الصيف نفسها قد وجدت لتضيف المزيد من التعاسة إلى حياتهن. •••
كفانا تعاسة.
في العالم الأرحب، وقعت أمور لهن: حوادث، وعروض زواج، ومواجهات مع مخابيل وأعداء. كان يمكن لأيريس أن تصبح ثرية؛ فقد وصلت أرملة مليونير إلى المستشفى في يوم من الأيام، وهي امرأة عجوز اعتراها الجنون وترتدي شعرا مستعارا أشبه بكومة القش، وقد جاءت على كرسي متحرك، متعلقة بحقيبة سفر قماشية. ما الذي سيكون بداخل الحقيبة سوى مجوهرات، مجوهرات حقيقية، زمرد وألماس ولؤلؤ كبير كبيض الدجاج. وما من أحد سوى أيريس استطاع التعامل معها؛ فأيريس هي من أقنعتها بإلقاء الشعر المستعار في القمامة (إذ كان مليئا بالبراغيث)، وإيداع مجوهراتها في خزانة البنك. فتعلقت هذه المرأة العجوز بأيريس كثيرا لدرجة أنها أرادت أن تعيد كتابة وصيتها، وأن تترك لأيريس المجوهرات والأسهم والأموال والمباني السكنية. لكن أيريس رفضت ذلك، من منطلق الأخلاق المهنية. «أنا موضع ثقة. يجب أن تكون الممرضة موضع ثقة.»
ثم حكت عن الممثل الذي عرض عليها الزواج وهو يحتضر نتيجة انغماسه الشديد في الملذات. لقد سمحت له بأن يتجرع زجاجة مطهر للفم لأنها لم تر أن فارقا سيحدث. كان ممثلا مسرحيا؛ وبالتالي لم نكن سنعرف اسمه حتى لو أخبرتنا، وهو ما لم تفعله.
كما أنها رأت شخصيات أخرى مهمة، من مشاهير وعلية القوم في فيلادلفيا، وهم في أسوأ حالاتهم.
قالت وينيفريد: إنها اطلعت على بعض الأمور أيضا. فالحقيقة الفعلية، الحقيقة المفزعة الفعلية حول بعض هؤلاء الأثرياء وعلية القوم تنكشف عندما تلقي نظرة على مالياتهم. •••
كنا نعيش عند نهاية طريق يمتد غربا من داجليش فوق أرض قذرة تعلوها مساكن خشبية صغيرة وأسراب من الدجاج والأطفال. كانت الأرض مرتفعة إلى مستوى مقبول حيث كنا نعيش، ثم تنحدر في الحقول والمروج الواسعة، مزينة بشجر الدردار، نزولا إلى منعطف النهر. وكان منزلنا متواضعا أيضا؛ مجرد بيت قديم مبني من الطوب بحجم مناسب، ولكنه كان في مواجهة الرياح، ومبنيا بطريقة غير مريحة، وزخارفه بحاجة إلى الطلاء. كانت أمي تنوي إصلاحه وتغييره بشكل جذري بمجرد حصولنا على بعض المال.
لم تفكر أمي كثيرا في مدينة داجليش؛ فعادة ما تعود بذاكرتها إلى الوراء، إلى مدينة فورك ميلز، في وادي أوتاوا، حيث ارتادت وقريباتها المدرسة الثانوية، وهي أيضا المدينة التي حط فيها جدهم قادما من إنجلترا. كما كانت تحن إلى إنجلترا، التي بالطبع لم ترها قط. كانت تشيد بفورك ميلز بسبب بيوتها الحجرية، ومبانيها العامة البديعة غير المبهرجة (المختلفة تماما - حسب قولها - عن مقاطعة هورون؛ حيث سادت فكرة تشييد بشاعات حجرية وإلصاق الأبراج بها)، وشوارعها الممهدة، ورقي الخدمات في متاجرها، والجودة العالية التي تتميز بها المعروضات، والطبقة الراقية التي ينتمي إليها السكان. من يعتبر نفسه راقيا في داجليش، فسيكون مثار سخرية العائلات الكبرى في فورك ميلز. ولكن مع هذا، كانت تلك العائلات الكبرى في فورك ميلز هي نفسها التي ستتعامل بتواضع لو احتكت بعائلات معينة في إنجلترا، والتي ترتبط بها أمي.
الرابطة. هذا كل ما يهم. كانت قريباتنا في حد ذاتهن عرضا يستحق المشاهدة، ولكنهن كن يمثلن رابطة تصل بيننا وبين العالم الواقعي والخصب والخطير. كن يعرفن كيفية التعامل معه، وجعله يلاحظ وجودهن. كن يستطعن السيطرة على فصل مدرسي، أو على جناح الولادة في مستشفى، أو على الجمهور بشكل عام. كن يعلمن كيفية التعامل مع سائقي سيارات الأجرة ومحصلي التذاكر في القطارات.
أما الرابطة الأخرى التي وفرنها - ووفرتها أمي أيضا - فكانت الرابطة مع إنجلترا والتاريخ. فمن المعروف أن الكنديين من أصل اسكتلندي - الذين نسميهم في مقاطعة هورون اسكتلنديين - وأحفاد الأيرلنديين سيخبرونك بتحرر تام أن أجدادهم قد جاءوا خلال مجاعة البطاطس بثيابهم المهلهلة، أو أنهم كانوا يعملون في رعي الغنم أو الزراعة، أو كانوا فقراء بلا أراض يتملكونها. ولكن أي شخص جاء أجداده من إنجلترا سيروي لك قصة عن أنه كان منبوذا في عائلته أو أنه كان الابن الأصغر الذي حرم من إرثه، أو عن النكسات المالية، أو المواريث المفقودة، أو الهروب للزواج من أشخاص غير مناسبين. وقد يكون هناك قدر من الحقيقة في هذه الروايات؛ فالأوضاع في اسكتلندا وأيرلندا كانت تدفع دفعا نحو الهجرة الجماعية، في حين قد يكون الإنجليز قد قرروا هجرة وطنهم لأسباب شخصية أقل درامية.
صفحه نامشخص