134

فقالت: أشكرك يا سيد أفندي، وأرجو أن أراك قبل عودتك إلى القاهرة، نحن هنا وحدنا وأنت مثل ولدي.

فقلت متأثرا: هو مصابنا جميعا وأنا تحت أمرك في كل وقت.

ولما مدت يدها إلي انحنيت عليها لأقبلها، ولكنها سحبتها قائلة: الله يبارك فيك يا ابني.

وعدت إلى أسفل الدار وقد ملأني شعور المواساة والعطف، كما أرضيت كبريائي بأنني قد أصبحت موضع الأمل عند السيدة أم منى، ولما عدت إلى السرادق ذهبت أسير بين صفوف المعزيين لأحييهم شاكرا لهم سعيهم، وأخذت مجلسي على مقربة من الباب لأتلقى العزاء عند خروج المعزيين كأني أحد أفراد الأسرة، ومال علي مصطفى هامسا: لا شك أنك سمعت بكل شيء؛ لأن هذه البلدة مثل القدر تغلي وتفور بما فيها، وأهلها مثل السمك يأكل بعضه بعضا، سمعت حكاية المرأة طبعا والله يرحم الرجل الطيب، الشاهد يا سيد أفندي لو كان أطاعني من أول الأمر لأعطى حمادة الأصفر كل ما أراد، كان لا يريد أكثر من مائة جنيه، ولو أعطاه السيد ذلك المبلغ لما حدث شيء، ولكنه طرده وشتمه فخرج الخبيث يهدد، وأنا أعرف من هو حمادة الأصفر، تصور أن الرجل الطيب يسيء الظن بي عندما نصحته بأن يدفع لحمادة مائة جنيه، واتهمني بأني أريد مشاركته؟ الله يسامحه ويرحمه، هذه الدنيا مثل أحجار الطاحون تطحن من فوق ومن تحت، النهاية يا سيد أفندي! في ليلة واحدة راح الرجل الطيب وترك وراءه الدنيا تخبط تقلب، فماذا يأخذ محمد باشا إذا كانت الست زينب تخرج بأكثر التركة لابنها المحروس؟ يا سلام! فضيحة للسماء وخراب بيوت وربك يستر يا سيد أفندي.

وكانت الساعة عند ذلك قد بلغت العاشرة والنصف، وفرغ المقرئ من القراءة، وقمنا لأخذ العزاء من الخارجين، وانصرفت بعد قليل معتذرا إلى مصطفى عجوة بأني ذاهب إلى موعد هام حتى لا يسير معي، واتجهت نحو شاطئ الترعة لأعيد على نفسي في هدوء الليل ما سمعت من مصطفى.

وكان البدر ساطعا في السماء الصافية والجو دافئا والشاطئ ساكنا، فسرت على مهلي أفكر في هذه المعركة العنيفة التي تدور في طي الخفاء حول جثة رجل لم يمت إلا بالأمس، هذه المرأة تستطيع أن تصبح من أكبر أغنياء المدينة، وهذا الولد الذي لا يدري أحد من أين جاءت به يستطيع أن يصبح من أعظم السادة في البلاد، هذه الحقوق القانونية التي توزع بها المقادير الخطوط وهي مغمضة العينين! من هؤلاء الذين يملكون الألوف من الأفدنة وألوف الألوف من الجنيهات الذهبية؟ أبناء الإماء الذين يكبرون ليصيروا سادة وينسى الناس أنهم أبناء الإماء، وأبناء اللصوص وقطاع الطرق وأبناء تجار الحشيش وتجار الأعراض، وأبناء النساء اللاتي يبعن أجسادهن وأبناء وسطاء الخيانة والدنس ومصاصي الدماء، كل هؤلاء يبسطون سلطانهم على الحياة عندما يرثون الضياع ويملكون الخزائن، ها هم يريدون أن يزيدوا امرأة ساقطة وولدا دعيا!

والتهب قلبي بهذا التفكير حتى بدا لي أن منى أكبر من أن تكون صاحبة آلاف الأفدنة وآلاف آلاف من الجنيهات، لماذا لا تتجرد من هذه الأموال العفنة وتتركها للمرأة وولدها وتعود وهي إنسانة سليمة؟ لماذا لا تخلع هذه الأدهنة اللزجة التي تجعل الذباب يتساقط عليها: محمد خلف وابنه محمود الأبله؟ لماذا لا تعود إلي أنا ونهرب معا من هذا المستنقع العفن.

وضاق صدري وأحسست أن الهواء راكد خانق، وأن رائحته العطنة تكتم أنفاسي، وعرجت إلى أول طريق يتجه إلى داخل المدينة؛ لأذهب إلى بيتي وفكرت في التبكير صباحا؛ لأعود إلى القاهرة تاركا هذه المعركة السخيفة لأصحابها، وكانت الطريق حارة منحدرة قذرة فيها بعض القهاوي والحانات الحقيرة، مصابيح بترول خافتة الضوء على الجانبين معلقة فوق المداخل، وجماعات قليلة مهلهلة الثياب تشرب أكوابا من الشاي الأسود، ولم أدر ما الذي جعلني أنظر إلى الحانة المظلمة التي عرجت إلى الطريق العام من جانبها وكان في وسطها مصباح بترول زجاجي وفي صدرها منضدة طويلة عليها بعض زجاجات وأوان مبعثرة، وكان المصباح يلقي ضوءه الخافت على صاحب الحانة اليوناني وهو واضع يديه في جيبه أمام منضدة صغيرة يجلس عليها حمادة الأصفر.

يا له من فأر قذر يختار الجحر الملائم له، ووجدت نفسي أندفع داخلا كأني كنت أبحث عنه، وكانت الكأس التي أمامه ما تزال نصف مملوءة من خمر قاتمة اللون، وحملق حمادة في وجهي لحظة ثم وثب قائما وهو يترنح، ثم فتح ذراعيه وتقدم نحوي يريد أن يأخذني بينهما، وصاح صيحات مختلة لم أفهم ما يريد بها سوى أنها ترحيب مختلط بالأسف والاعتذار.

ورددته في شيء من التقزز؛ لأني لم أطق رائحته، فتراجع عني وكانت نظرته بلهاء منكسرة بعينين زائغتين وشفتين متدليتين ظهرت من تحتهما أسنانه الصفر «المشرشرة».

صفحه نامشخص