وقد عرفت لغير هؤلاء الفلاسفة آراء تستحق الإلمام بها لأنها تعبر عن وجهات نظر لم تذكر كلها فيما أسلفناه.
وأحقها بالذكر هنا رأي نيوتن الإنجليزي وكونت الفرنسي، وأولهما مؤمن وثانيهما لا يثبت الله ولا ينفيه.
أما رأي نيوتن فهو أننا لا نصف العالم بالإحكام والإتقان لنستدل بإحكامه وإتقانه على وجود صانعه وهو الله، فإن هذا الدليل ينطوي على تناقض في رأي الفيلسوف؛ لأن العالم المحكم المتقن يستغني بقوانينه ونواميسه عن العناية الإلهية بعد خلقه، والإيمان بالله قائم على الإيمان بالعناية التي تحيط بالخلق في كل حين، فوجود النقص في العالم لا ينفي وجود الصانع الحكيم، بل وجود هذا الصانع الحكيم يقتضي أن يكون العالم مخلوقا لا يبلغ الكمال كله، ويفتقر إلى موجده على الدوام.
ويسخر ليبنتز بعالم نيوتن؛ لأن ليبنتز كما تقدم يرى «أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان»، ويقول: إن عالم نيوتن كالساعة التي تحتاج إلى إدارة اللوالب وإصلاحها من حين إلى حين، وجلت صنعة الله عن مثل هذا الصنيع.
وخير ما يستفاد من هذه المقابلة بين العقلين الكبيرين أن المسألة أكبر من أن يحاط بها في تفكير واحد، وأنها قابلة للرأيين معا بعد التدبر والإنعام.
فمذهب ليبنتز لا ينفي أن العالم ناقص كما تكون جميع «الممكنات»، فكون العالم «أحسن عالم ممكن» لا يخرجه من عداد الممكنات التي لا تبلغ في الكمال مبلغ واجب الوجود.
وكون العالم محكما متقنا على أي معنى من معاني الإحكام والإتقان لا يسوغ الاعتراض من جانب نيوتن، بل يحتاج إلى تكملة من رأي الفلاسفة الآخرين الذين يقولون إن الخلق عمل مستمر وليس بعمل منقطع في وقت ينتهي إليه ، فلا يزال الوجود قائما بقدرة الله لأنه لا يستقل بكيانه أبدا ولا ينحصر كيانه في وقت من الأوقات. •••
وأوجست كونت إمام الفلسفة الوضعية يقول: إن البشر يتقدمون من طور الدين إلى طور الفلسفة إلى طور العلم الوضعي، ثم يعتمدون على هذا العلم وحده في كل معرفة يدركونها، ولا وسيلة إلى الإدراك غير التجربة والمقابلة والاستقراء.
ومهما يجهد العقل فلن يصل إلى حقيقة بغير هذه الوسيلة، فإدراك المسائل الغيبية من وراء أمد العقول، وقد تستغني العقول عن إدراكها لأنها لا تغير حياتها على هذه الأرض، وهي حياة قائمة على التجارب في حدود المعلوم من القوانين والنواميس.
وليس أمامنا غاية مثالية نتجه إليها بالإيمان ونثبتها بوسائل المعرفة الميسورة غير «سعادة الإنسانية» وتقديس أمثلتها العليا في الخير والحق والجمال.
صفحه نامشخص