وهذه الفقرة تدلنا على أمرين؛ الأول: أن المذاهب الفلسفية كانت كثيرة الانتشار لذلك العهد، وأن أصحابها كانوا يجتهدون في الدفاع عنها، ويجدون في إذاعتها بين الناس، والثاني: أن الغزالي لم يكن من أولئك الطلبة الأغبياء الذين لا يعرفون غير رأي واحد: يعيشون عليه، ويموتون عليه! بل كان طالب علم بمعنى الكلمة، يعرف أن واجبه يقضي عليه بأن يعلم حقيقة كل نحلة، وكنه كل مذهب، ومقصد كل فرقة، ومرمى كل عقيدة.
وكان أول ما أثار فيه هذه الرغبة ما رآه من أن صبيان النصارى ينشئون على التنصر، وصبيان اليهود على التهود، وأطفال المسلمين على الإسلام. وكانت هذه الملاحظة الوجيهة باعثا له على أن يشك في دينه حتى يتبين حقيقته - وإن لم يحدثنا عن ذلك - لأنه ما الدليل على أن النصرانية خير من اليهودية، أو أن الإسلام خير من النصرانية، أو أن اليهودية خير من الإسلام، كما يتحدث النصارى والمسلمون واليهود: كل على ما هو بسبيله من تفضيل دينه على غيره من الديانات.
وهنا يصرح الغزالي بأنه انتهى إلى أنه لا قيمة للتقليد، لأنه موجود في كل أمة وفي كل ملة، وإنما القيمة كلها لليقين الذي لو تحدى لإظهار بطلانه من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم يورث ذلك فيه شكا، كما أنك لو علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، وقال قائل لا، بل الثلاثة أكبر، بدليل أني أقلب العصا ثعبانا، ثم قلبها وشاهدت ذلك منه، لم تشك بسببه في معرفة أن العشرة أكثر من الثلاثة.
الفصل الثالث
حياته الروحية
ولكن الغزالي لم يستمر على تلك النزعة الجريئة التي أقنعته بأن لا قيمة لغير اليقين، بل اندفع يحدثنا عن شكوك نرجح أنه لم يكن فيها غير صادق، وأخذ يبين أنه اقتنع أولا بأن اليقين ينحصر في الحسيات والضروريات، ثم رأى أن الحس ليس أهلا للثقة به، لأنك تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة، ثم تعرف بعد ساعة بالتجربة والمشاهدة أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة، بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم تكن حالة وقوف، ثم يذكر الغزالي أنه بعد أن بطلت ثقته بالمحسوسات ولى وجهه شطر العقليات التي هي من جنس الأوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا. ثم يزعم أن المحسوسات قالت له: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا أن جاء حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك حاكم العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته؟
وهنا يدخل الغزالي في مضايق من شعاب الحدس والتخمين فيتوهم أنه لا يبعد أن يكون هناك حالة فوق اليقظة التي هي بلا شك أثبت من حالة النوم، وتكون نسبة اليقظة إليها كنسبة النوم إلى اليقظة، ثم يتردد في تعيين هذه الحالة فلا يدري أهي الموت الذي تنكشف به حقائق الأشياء لقوله تعالى:
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
1
أم هي حالة الصوفية: إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي هي لهم أنهم إذا غاصوا في أنفسهم، وغابوا عن أحوالهم وحواسهم، رأوا أحوالا لا توافق المعقولات؟
صفحه نامشخص