إذا صحبت الملوك فالبس
من التوقي أعز ملبس
وادخل إذا ما دخلت أعمى
واخرج إذا ما خرجت أخرس
وكان أساتذتنا في الأزهر يقصون علينا أحسن القصص في تأثير هذا الرجل على أخيه، ويضربون لنا بورعه الأمثال، وقد حاولت أن أجد سندا لما يتحدثون به فلم أجد، فعرفت أن أكثر ما عرف عنه إنما هو من صنع الخيال.
ولو أننا أضفنا إلى ما سلف أن الغزالي كان صغيرا حين مات أبوه، وأن الذي كفله مع أخيه هو رجل متصوف من أهل الخير بوصية والده، لعرفنا كيف تعاونت الظروف على أن تصبغ روحه بصبغة صوفية، وكيف أثرت هذه الصبغة على آرائه في الأخلاق.
الفصل الثاني
مولده ونشأته
ولد الغزالي في طوس سنة 450ه وفيها تلقى ما تفقه به في صباه على أحمد بن محمد الراذكاني، ثم سافر إلى جرجان حيث تلقى طرفا من العلم على الإمام أبي نصر الإسماعيلي وعلق عنه التعليقة - كما كانوا يقولون - ثم رجع إلى طوس وأقام بها ثلاث سنين يراجع ما تلقاه في جرجان، ثم قدم نيسابور حيث يدرس إمام الحرمين في المدرسة النظامية علوم الفقه والمنطق والأصول، فلازمه إلى أن توفي سنة 478ه. ثم خرج إلى المعسكر وهي محلة بالقرب من نيسابور يقيم فيها نظام الملك - وكان إذ ذاك في الثامنة والعشرين من عمره - وكان نظام الملك قد سمع الثناء على عقله وعلمه وأدبه. فأحضره مجلسه، وكانت منتدى العلماء، فوجدت الفرصة لينشر الغزالي أثمن ما في خزانته من نفائس العلم، وكان من نتيجة ذلك أن برع من كانوا يغشون مجلس نظام الملك وظهر عليهم، فولاه ذلك الوزير رتبة التدريس في مدرسة بغداد سنة 484ه.
ولننظر ماذا يقول عن طلبه للعلم من أوائل حياته العلمية إلى أن نيف على الخمسين: «ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين. أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمراته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل طهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. وقد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله تعالى وضعها في جبلتي، لا باختياري وحيلتي. حتى انحلت عني رابطة التقليد. وانحسرت عني العقائد الموروثة على قرب عهد بسن الصبا.»
صفحه نامشخص