ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن الغزالي نبه في عدة مواطن من كتبه إلى أنه يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وحض المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. ومعنى هذا أن الشك وإن كان سبيل اليقين، إلا أنه لا يستعمل إلا بمقدار. وهذا المنهج يبين لنا أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. فللعلماء أن يشكوا وأن يختلفوا، ولكن عليهم أن يجنبوا العامة مواطن الشك والخلاف، ومن هنا نفهم كيف يرى أن الإجابة على بعض الأسئلة حرام. وسنعود إلى هذا البحث عند الموازنة بينه وبين الفلاسفة المحدثين .
علم الفقه
ولقد بلغ من إغراب الغزالي في التصوف أن جعل الفقه من علوم الدنيا وألحق الفقهاء بعلماء الدنيا. وأنت تعلم قيمة الدنيا عنده!
ولكن أليس الفقه هو معرفة القوانين التي يساس بها الناس؟ ليكن كذلك! إذ ما قيمة هؤلاء الناس؟ أليس الله أخرج آدم من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين، ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة أو النار؟ وإذا كان هذا مبدأهم، وهذه غايتهم، وكانت الدنيا زادهم، فما قيمة الفقه، وما هي أقدار الفقهاء؟ أليسوا يفصلون في خصومات لو عدلنا ما احتجنا إلى أن يفصلوا فيها، ولما كان لهم قيمة في هذا الوجود؟
هذا هو منطق الغزالي.
والحمد لله الذي رحم الشرق وأهله من علم الفقه، ومن عليهم بالقوانين الأجنبية التي يقدم إليها أصحابها آيات التقديس، عند الشروق وعند الغروب!
الفقه لا قيمة له في نظر الغزالي، لأنه يتعلق بسياسة هؤلاء الناس المناكيد الذين اضطرونا بشرهم إلى الفقه والفقهاء، والذين لو عدلوا لما حتجنا إلى قاض ولا إلى فقيه!
صدقت يا مولانا الأستاذ! ولكن اسمح لنا بأن نذكرك بأن النبي كان فقيها، وكانت شريعته فقها، وهل الفقه شيء آخر غير قواعد الفصل في الخصومات؟
وهل بلغ من هوان الدنيا عندك أن تحتقر لأجلها الفقه والتشريع؟
اتركوا الدنيا لأصحابها يا جماعة الصوفية! اتركوا الدنيا للمسلمين فإن الله لم يبعث محمدا إلا ليمكن للمؤمنين في الأرض، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين.
صفحه نامشخص