يا نهار أسود من الحبر الكوبيا! هذا الرجل يريدني أن أقول إن أبو سريع قتل متولي أبو منصور، وأحرق غيط حسن ابن عبد الحميد أبو ديدة، وهدد سليمان النواوي، والسؤال التالي من الذي استفاد من هذه الجرائم، وأروح أنا في ستين مصيبة! أنا غلطان من الأول أن جئت لهذا الداهية. تنبه سباعي إلى ما يحيط به، فوجد نفسه على شفا أن يكون متهما، وهو الذي جاء ممتلئا بالكبر ليعلم الداخلية واجباتها. قال للمأمور: وهل تظن سعادتك أنني أعرف شيئا وأخفيه؟ - من جهة أظن، نعم أظن، ولكن للأسف لا دليل عندي على الإطلاق. - ومن أين هذا الظن؟ - هذا علمنا يا سيد سباعي، أن نبدأ بالظن.
مصيبة سوداء! الرجل يهددني تهديدا صريحا، لا، القيام أحسن حاجة أعملها الآن. - الحمد لله يا سعادة المأمور أنك تظن فقط، وستعرف مع الأيام أنك لست محقا في ظنك. - هذا ما أرجوه يا سيد سباعي؛ لأن الظن في أعضاء مجلس الأمة الذين رشحتهم الحكومة وعملت على نجاحهم أمر لا نحبه نحن العاملين في نفس الحكومة. - ربنا يديم المودة يا سعادة البك. - هي دائمة طالما أنت مع القانون ولست ضده يا سباعي. - أستأذن أنا. - مع ألف سلامة.
لا أمل له إذن أن يعرف قاتل أبو سريع من الجهات الرسمية، لم يبق أمامه إلا تحرياته الخاصة وقد بدأها فور عودته. - سلام، أليس بينك وبين أبو سريع عيش وملح؟ - وعيش ودم وحياتك يا سعادة البك. - فكيف تترك قاتله بغير عقاب؟ - أعرفه ويموت قبل أن تطرف عينه. - أليس من واجبنا نحن أن نعرفه؟ - وما له! نبحث. - في البلد هنا أولا، شف لي أين كان حسن ابن عبد الحميد أبو ديدة، وأين كان شاكر وعبد التواب أولاد متولي أبو منصور، وأين كان سليمان النواوي. طبعا هو لن يقتل بيده، وإنما اعرف لي من زاره أو هو زار من. - يا سعادة البك، سليمان لا يخرج من الدار مطلقا. - اعرف لي من زاره. - أمرك.
أما حسن أبو ديدة فهو منذ اغتصب منه سباعي الأرض لا يبرح دكانه يحاول أن يعوض بالعمل ما ضاع من ريع الأفدنة. وقد اشترى بثمن الأرض حجرة بجانبه وفتحها على الدكان فاتسع المكان، وما إن بلغ ابنه الأكبر عبد الحميد السن التي يستطيع فيها أن يتعلم الصنعة حتى أجلسه معه وراح يعلمه الخياطة بكل ما يملك من مهارة. كان الطفل ذكيا واستطاع أن يكون تلميذا موفقا لأبيه، وفي نفس الوقت أرسل ناصح ابنه الأصغر مع ابنتيه إلى الكتاب. وحين أتم ناصح حفظ القرآن أرسل به إلى الأزهر الشريف حتى يستطيع أن يفي بنفقاته إلى نهاية التعليم.
وكان عبد الحميد الابن الأكبر جالسا في الدكان حين جاء مرسي الشحات أحد رجال سلام ومعه قطعة قماش: أين أبوك يا ولد؟ - ما ولد هذه؟ أكنت خادم أبيك؟ - يا سيدي ولا مؤاخذة. أين أبوك يا سي عبد الحميد؟ - ومن غير سي. عبد الحميد كفاية. - نهارك أسود! أين أبوك يا عبد الحميد؟ - في البيت. لماذا تريده؟ - أما عجيبة! هو ترزي وأنت شايف في يدي قطعة قماش، فيم سأريده؟ ويقولون عنك ناصح! - ناصح أخي. - طيب يا سيدي. يقولون عنك فالح. - أنا اسمي عبد الحميد. - اسمع يا بني، لو قابلت كل الزبائن بهذه الصورة فالمؤكد أنك أنت وأبوك وإخوتك لن تجدوا قوت يومكم. يا أخي قل لي: أين أبوك؟
وخرج عبد الحميد من باب البيت المفتوح على الدكان. - حاسب على الوليد يا مرسي، وهل هو قدك؟ - أنت سامع الحديث؟ - من أوله. - ولماذا تأخرت؟ - لم أتأخر، وإنما كانت في يدي قطعة قماش أنقعها، تحت أمرك. - القطعة هذه اشتريتها من البندر. - وما له! ألف مبروك. - أريدها جلبابا على ذوقك. - أول مرة تأتي إلي. طول عمرك تفصل عند عطية. - أتلف لي الجلباب الأخير فأقسمت ألا أذهب إليه. - أمرك يا سيدي، نفصلها لك. خذ مقاسه يا عبد الحميد. - خذه أنت. - وأنت لماذا لا تأخذه؟ - يدي مشغولة. - أمرك يا سيدي. أصل الزمن انقلب. تفضل يا سي مرسي.
وبدأ مرسي الحديث الذي جاء من أجله: المديرية مقلوبة على رجل. - لماذا، كفى الله الشر؟ - من أجل مقتل أبو سريع. - هل عرفوا القاتل؟ - أبدا. - عجيبة! - والأعجب أن كل حادثة مثل هذه نسمع كلاما، ربما يكون إشاعات كاذبة إنما نسمع. أما هذه المرة ولا حتى سمعنا شيئا. - الناس ملهية في مشاغلها. - طول عمرهم مشغولون، ومع ذلك يحبون الكلام أكثر من عيونهم. في هذه المرة لا حس ولا خبر. - عجيبة! - وأنت كيف عرفت بقتله؟ - مع الناس. - أين كنت؟ - أنت تعرف أنني لا أترك الدكان مطلقا. - يعني لم تسمع شيئا؟ - نهائيا. - طيب يا سيدي. شكرا. متى أستلم الجلباب؟ - أعطني يومين فقط. - وهو كذلك. السلام عليكم. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وانصرف مرسي، والتفت عبد الحميد إلى أبيه في غيظ: تفصل له أيضا؟ - يا ولد اعقل، وأفصل لأبيه أيضا. وأفصل لسلام إذا طلب مني ذلك. - ليس هذا غريبا عليك، ما دمت ضعفت أمام تهديدهم. - يا عبد الحميد، يا ابني، تمزقني بسكين بارد كلما قلت ذلك. يا ابني، أنا ليس لي أمل في الدنيا إلا أن أكون أمامك وأمام إخوتك رجلا قويا. - وهل يقبل القوي التهديد؟ - غصبا عنه إذا هدده من هو أقوى منه. ماذا كنت تريدني أن أفعل؟ - اترك البلد. - وهل لو كنت تركتها كنت سأحمل فداديني على كتفي؟ - لا أعرف ماذا كان يجب أن تفعل. إنما المهم ألا تقبل التهديد. - أنت تعرف أنني حاولت فأحرقوا المحصول، وسرقوا البهائم، وكانت الخطوة التالية أن يقتلوني. - ولا عار الذل. - ومن كان سيربيك أنت وإخوتك؟ أكنت أترككم تمدون أيديكم للحسنة؟ - كلما سمعت اسم سباعي زفت أو شفت أحدا من رجاله تركبني عفاريت الدنيا. - مصيرك تتغلب على العفاريت. إنما يا ابني خف الوطأة عني؛ فلا شيء يقتل الأب مثل شعوره أن ابنه لا يحترمه. - أنا فقط أشفق عليك. - وهذه يا ابني أدهى وأمر! حسبي الله ونعم الوكيل. •••
حين ذهب مرسي إلى سليمان النواوي قال له: كيف الصحة يا عم سليمان؟ - أهلا مرسي، عجيبة! - ما العجيبة؟ - الزيارة. - قلت أطمئن على صحتك. - أي صحة التي تريد أن تطمئن عليها؟ أنا أنتظر عزرائيل من سنوات، ولم تحاول أن تطمئن على صحتي وعزرائيل هو الآخر تأخر في الوصول، تأخر جدا يا مرسي يا بني. - وفيم العجلة؟ - حتى يعفيني من رؤيتك ورؤية أمثالك يا سي مرسي. اسمع يا بني أنا عجزت نعم، ولكن عقلي كما هو رغم كل ما شفته في الحياة. أنت تريد أن تعرف مني معلومات عن قتل المجحوم أبو سريع. وطبعا لا أنت تتصور ولا سيدك ولا سيد سيدك أنني سأقتله. لم يبق إلا أن أسلط عليه، ولو كنت أفكر هذا التفكير لفعلتها منذ استوليتم على أرضي. قم يا مرسي مع السلامة، ولا تضيع وقتك، وابحث عن غيري. - كذا؟! - وهل هناك غير كذا؟ - أمرك، سلام عليكم. •••
كان شاكر وعبد التواب معا في الغيط، وقدم إليهما مرسي، ورآه شاكر مقبلا عليهما من بعيد فالتفت إلى أخيه: يعني أخبطه بالفأس وأخلص؟
صفحه نامشخص