ولسنا ندعي أننا أتينا على ذكر جميع أهل العلم في هذه العصور الطويلة، ولكننا حاولنا إعطاء القارئ صورة واضحة عن رجال العلم ممن حملوا مشعل النور، فبددوا ظلمات الجهل بما كتبوا وألفوا ودرسوا أو تولوا القضاء وكان لهم في البلاد أثر علمي. ولم نذكر رجال العلم الفلسطينيين الذين درسوا في دمشق أو بغداد أو الآستانة، إذ لا علاقة لهؤلاء ببحثنا هذا، وسنفرد لهؤلاء بحثا خاصا.
ويرى القارئ أن كثيرين منهم ألفوا الكتب والرسائل في الحديث والفقه والأصول، وكتب بعضهم في اللغة والرياضيات والتاريخ والرحلات، والبعض الآخر لم يقتصر نشاطه على مجال العلم والفتاوى، بل تعداه إلى العمران والإنشاء، ونشير بالأخص إلى شيخ الإسلام خير الدين الرملي (جد عائلة الخيري) بالرملة، فقد زرع ألوف الأشجار وغرس الكروم، ولا يزال المسافر بين الرملة ويافا يشاهد تلك البساتين الغناء.
واشتهر بعضهم بالتصوف وألفوا فيه وبلغوا المرتبة العليا، وكان له مريدون في سائر الجهات، ولا تزال مقاماتهم يشار إليها في المقابر العامة أو في المدن والقرى، وكان لبعضهم ميل لقرض الشعر، ولفئة منهم دواوين ما يزال أكثرها مخطوطا.
وقد كان مصدرنا الرئيسي الأنس الجليل الذي ألفه مجير الدين الحنبلي المقدسي (901ه)، واعتمدنا كذلك على شذرات الذهب للعماد الحنبلي، والمحبي، والمرادي للقرنين الحادي عشر والثاني عشر، وعلى مخطوط نفيس عن أعيان القرن الثاني عشر لحسن بن عبد اللطيف الحسيني وغير ذلك.
ويرى من هذا كله أن الصلة العلمية بين مصر وفلسطين لم تنقطع منذ القرن الأول الهجري حتى يومنا هذا.
هذا أبو شعيب القرشي العدوي الصحابي فإنه من أهل فلسطين، وكان أميرا على مصر ليزيد بن معاوية، وقد روى عنه أهل مصر. الإصابة (3 / 103).
والليث بن سعد عبد الرحمن الفهمي مولاهم، عالم أهل مصر، كان نظير مالك في العلم، قيل: إن دخله كان في كل سنة ثمانين ألف دينار، فما وجبت عليه زكاة! وفي رواية: لا ينقضي عليه عام إلا وعليه دين من كثرة جوده وبره. وقدم بيت المقدس. قال الليث: لما ودعت أبا جعفر المنصور - يعني الخليفة - ببيت المقدس قال: «أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، فالحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك». ويقال: إنه كان حنفي المذهب، وإنه ولي القضاء بمصر. ولد سنة 92ه، وتوفي سنة 175ه، ودفن بالقرافة الصغرى، وقبره أحد المزارات، وترجمه الشافعي وكان يأتي إلى قبره كل عشية جمعة ويستمر حتى يقرأ على قبره ختما كاملا، ولأهل مصر اعتقاد عظيم به. الأنس الجليل (1 / 259).
ومن مفاخر فلسطين الإمام الأعظم والحبر الأكرم محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، أحد الأئمة المجتهدين الأعلام وإمام أهل السنة ركن الإسلام. ولد بغزة على الأصح سنة (150ه)، وهي التي توفي فيها الإمام الأعظم أبو حنيفة. خرج كتاب الأم وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين، قدم بيت المقدس وصلى فيه. توفي بمصر سنة 204ه ودفن بالقرافة الصغرى. الأنس الجليل (1 / 260).
وهذا ذو النون المصري، أبو الفيض ثوبان بن إبراهبم الصالح المشهور، أحد رجال الطريقة، قدم بيت المقدس وقال: «وجدت على صخرة بيت المقدس: كل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل قانع غني، وكل محب ذليل» قال: فرأيت هذه الكلمات أصول ما استعبد الله به الخلق. توفي سنة (245ه).
وقد جاء في الوفيات أنه كان أوحد وقته علما وورعا وحالا وأدبا، سعوا به إلى المتوكل العباسي فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل ورده مكرما. دفن بمصر بالقرافة الصغرى. ابن خلكان (1 / 101).
صفحه نامشخص