فقلت باستياء: لا أقبل مليما ملوثا.
ورفضت الاستمرار في المناقشة. حقا إنها امرأة ممتازة، ولكنها عملية فيما يتعلق بالحياة. وكانت في قرارة نفسها تفضل الاستعانة بأبي على الانغماس الكلي في العمل الذي سلبني الوقت والفن والراحة. وقد اعتذرت من عدم الذهاب إلى مكتب فيصل يومين لأتم مسرحية. قدمتها لسرحان الهلالي. نظر إلي باسما، وتساءل: ما زلت مصرا؟
وفي فترة الانتظار، نعمت بأحلام جميلة. أجل، أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معا. وكنت شرعت في كتابة المسرحية قبل أن تنبثق في نفسي فكرة البيت والماخور التي لم تتبلور بعد، فأتممتها وأنا فرح بأخلاقيتها المثالية، غير أن سرحان الهلالي ردها إلي وهو يقول: أمامك مشوار طويل.
فسألته بلهفة: ماذا ينقصها؟
فقال بعجلة لا تشجع على الاسترسال: إنها حكاية، ولكن لا يوجد مسرح!
يا له من عذاب يهون إلى جانبه أي عذاب حتى عذاب البيت القديم؛ الفشل في الفن موت للحياة نفسها. هكذا خلقنا، والفن بالنسبة لي ليس فنا فحسب، ولكنه البديل عن العمل الذي يطمح إليه المثالي العاجز. ماذا فعلت لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضا عن الجهاد في الميدان الوحيد المتاح، وهو المسرح؟! وتمر الأيام، وأنا غارق في العمل كالآلة، أتعامل مع الحب خطفا، وقد انقطع ما بيني وبين حياتي الروحية جميعا، فلا قراءة ولا كتابة، وغاضت من الحياة بهجتها، فلم يبق منها إلا البثور في أديم الأرض، ومياه المجاري الراكدة، والمواصلات البهيمية.
في أويقات الراحة على كثب من تحية، تتمثل لي الحياة جدولا غائضا من السخرة والجفاف، نتبادل كلمات رقيقة في مناخ كئيب تلطفه أحلام اليقظة. الدبيب النابض في بطنها يعزف على أوتار النجاح المرتقب، أحلم أيضا بالنجاح، ولكن تشتعل أحلامي أحيانا بغضب متوحش، أحلم بنار تلتهم البيت القديم ومن يفسقون فيه؛ هكذا يتجسد غضبي على العار والشر، لكنه لا يمر دون خجل ومحاسبة للنفس. حقا لا توجد في قلبي ذرة حب لأبي، ولكني أقف مع أمي موقف المشفق المتردد، وأعرب عن آلامي من تلك الناحية، فتقول لي تحية: نادي قمار سري جريمة في نظر القانون، ولكن الغلاء جريمة أيضا!
فأسألها: هل تقبلين أن يقع ذلك في بيتك. - لا سمح الله، ولكني أود أن أقول إن من الناس من يجدون أنفسهم في محنة، فيتصرفون كالغريق الذي لا يتورع عن فعل في سبيل النجاة.
وقلت لنفسي إنني أتصرف كذلك الغريق، وإن لم أرتكب جريمة في حق القانون؛ لقد ملأت وقتي بالعمل التافه في سبيل اللقمة، حتى جف عود الحياة الأخضر؛ أليس ذلك جريمة أيضا؟
وتمر الأيام، ويشتد العذاب، فتتحرر الأحلام السرية بقوة شيطانية. وأنا جالس إلى الآلة الكاتبة، أشعر بحنين جارف إلى الحرية ... إلى الإنسانية المفقودة ... إلى الفن الضائع؛ كيف يحطم الأسير أغلاله؟ أتخيل دنيا مباركة، بلا إثم، بلا أسر، بلا التزامات اجتماعية، دنيا تنبض بالخلق والإبداع والفكر وحدها، دنيا تحظى بالوحدة المقدسة، فلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ذرية، دنيا يمضي فيها الإنسان خفيفا، غائصا في الفن وحده. آه ... أي أحلام؟ أي شيطان يكمن في القلب الذي نذر نفسه للخير؟ فليتجل الندم في صورة ملاك باك، ولأنزو خجلا أمام المرأة النفاثة للحب والصبر. ليحفظ الله زوجتي، وليتب على والدي. وتسألني: فيم تفكر؟ ... إنك لا تكاد تسمعني.
صفحه نامشخص